الفصل الحادي عشر:
العهد المتجدد، إر 31: 31-34
موضوعنا في هذا المقال الدراسة الأدبيّة. ونبدأ فنقول إنّ دراسة كتاب إرميا وتاريخِه الأدبيّ، يجب أن تستند إلى »النصّ القصير«، الذي يتمثّل في اليونانيّة السبعينيّة، لا في النصّ الماسوريّ أو التقليديّ، كما رتّبه العلماء في نهاية القرن التاسع المسيحيّ. ذاك ما وصلت إليه الدراسات العديدة(1) حول الشكلين اللذين ظهر فيهما سفر إرميا. وقد تبيّن بشكل خاصّ أنّ هذا المبدأ يتحقّق في إر 31: 31-37، وفي السبعينيّة في 38: 31-37، وذلك في إطار الاختلافات البسيطة، كما التحوّلات الهامّة في انتقال مقطع من موضع إلى آخر، وفي إضافات على النصّ القصير(2). وكانت ملاحظة في النصّ القصير لهذه القطعة، أنّ لا كلام عن انقطاع حقيقيّ للعهد، بل إشارة إلى ابتعاد بين الربّ وشعبه، كما نقرأ في آ32 (LXX): »هم ما لبثوا في عهدي، وأنا تخلّيتُ عنهم«. وهكذا تمّ تجاوز هذا الابتعاد في مبادرة جديدة من قبل الله.
في هذا الإطار، يبدو من الصعب أن نتكلّم عن »عهد جديد« بمعنى أنّ القديم زال من أجل اتّفاق مختلف. إذًا، من الأفضل أن نتحدّث عن »عهد متجدّد«، حين بدا الانقطاع أكثر وضوحًا في النصّ الماسوريّ، بحيث تصبح ترجمة »العهد الجديد« شرعيّة على هذا المستوى.
هذا من جهة. ومن جهة ثانية، قدّمت آ33 اختلافين في السبعينيّة بالنسبة إلى النصّ الماسوريّ. نقرأ: »أعطي شرائعي لفهمهم«(3). وفي الماسوريّ: »أعطي شريعتي في وسطهم« (ب ق ر ب م: في حضنهم). تحدّث النصّ عن الدكالوغ، الوصايا العشر، أمّا الماسوريّ فعن الشريعة (ت و ر ه) ككلّ. والاختلافة الثانية قليلة الأهميّة. وفي أيّ حال لا تفترض نصٌّا عبريٌّا يختلف عن النصّ الماسوريّ.
ننطلق من النصّ القصير، ونستعيد مسألة مثيرة للجدل: أصل هذا المقطع. في الماضي تَواجهَ طرحان: اعتبر بعضُهم أنّ هذه القطعة جاءت متأخّرة جدٌّا. والآخرون اعتبروا جوهرها عائدًا في الأصل إلى إرميا. وجاء كتّاب آخرون(4) فاقترحوا قراءة إر 31: 31-34 في إطار التدوين الاشتراعيّ للكتاب. وآخرون أيضًا اقترحوا أنّ هذا القول النبويّ يعود إلى إرميا. أمّا التعبير الحاليّ ففي صيغة اشتراعيّة(5). وقبل أن ندخل في الجدال، نطرح سؤالاً حول وحدة القطعة: هل دوّنها كاتبٌ واحد، أو هل نكتشف فيها أكثر من يد؟ تلك هي النقطة الأولى التي ندرسها.
1- نصّ متماسك؟
ينطلق أكثرُ الشرّاح من النصّ الماسوريّ ليروا مبدئيٌّا في هذه القطعة عملاً متماسكًا. ولكن إن بدت الاختلافات المدروسة ذات أهميّة صغيرة، فيبدو أنّه من الأفضل أن نستند إلى النصّ العبريّ كما تفترضه السبعينيّة. ونرى بشكل خاصّ الثغرات في تماسك هذا النصّ.
أ- بيت إسرائيل وبيت يهوذا
تشير الصعوبة البارزة إلى هويّة الفريق البشريّ في العهد. ففي آ31، قُطع العهد مع »بيت إسرائيل وبيت يهوذا«. أمّا في آ33، فهو يعني فقط بيت إسرائيل. إذًا يرتدي لفظ »إسرائيل« معنيين مختلفين. في المعنى الأوّل، يدلّ على قبائل الشمال. وفي المعنى الثاني، يدلّ على مجمل الشعب الخارج من يعقوب، بمن فيه يهوذا. لهذا يعتبرون مرارًا عبارة »وبيت يهوذا« (آ31) على أنّها إضافة(6). فالتحوّل لافت للنظر. فنحن نلاحظ ظاهرة مشابهة في مقاطع أخرى من إرميا ومن هوشع. وها نحن نعطي بعض الأمثلة.
* نبدأ في إر 30: 3، لأنّ السياق سياقُ وعدٍ يبدأ بالعبارة عينها: »ها تأتي أيّام، يقول الربّ«. ويرد لفظ »يهوذا« كإضافة بعد عبارة »شعبي إسرائيل«(7). في هذه الفرضيّة، جاء لفظ »يهوذا« فيما بعد، في آ4: »وقال الربّ على إسرائيل ويهوذا«.
* وندّد إر 5: 11 بخيانة »بيت إسرائيل وبيت يهوذا«. ولكن حين أُعلن الشرّ الذي يقابل هذا التنديد، لا نعود نقرأ إلاّ »بيت إسرائيل« (آ15). هنا، جاءت المسألة مختلفة بعض الشيء عن الحالة السابقة. فإنّ آ15-17 التي تتحدّث عن الاجتياح البابليّ، تنتمي، على ما يبدو، إلى أساس قديم في كرازة إرميا، ويمكن أن تكون آ11-14 جاءت بعد ذلك الوقت. فيبقى أنّنا أيضًا أمام إعادة قراءة تميّز بيتيْ يهوذا وإسرائيل، خلافًا للنصّ الأقدم.
* والخطبة النثريّة في 11: 1-14 تشير إلى »أهل يهوذا« و»سكّان أورشليم« (آ1، 9 ثمّ آ6، 12، 13). هم أخطأوا لأنّهم لم يلتفتوا إلى كلمة العهد، ولأنّهم عبدوا الأصنام مثل آبائهم. ووسّعت آ10ب اتّهامَ »بيت إسرائيل وبيت يهوذا« بأنهم نقضوا العهد. ونظنّ أنّ الجملة التي تمدّ إلى الشمال ما كان يعني الجنوب فقط، قد أضيفت فيما بعد. ونقول الشيء عينه عن آ17، حيث نجد العبارة عينها: »بيت إسرائيل وبيت يهوذا«، فتوصل الاتّهام إلى آ15-16.
* وهناك ظاهرة مشابهة في 12: 14. تحدّث النصّ الأوّلانيّ عن عقاب الشعوب المجاورة الذين مسّوا ميراث شعب إسرائيل. ويبدو أنّ مدوِّنًا لاحقًا أضاف، ليميّز بين إسرائيل ويهوذا: »ولكنّ بيتَ يهوذا أَنتزعُه من وسطهم«.
في 13:11، تلاصقُ »كل بيت اسرائيل« مع »كل بيت يهوذا« يدهشنا، لأن فعلة الحزام المخبّأ في شقّ الصخر تصيب فقط »كبرياء يهوذا« (آ 9).
في ف 32، في الخطبة التي تفسِّر شراء حقل بيد ارميا (آ 26-44) نسبَ النبي شقاء أورشليم إلى أصناميّة سكانها (آ 29، 32ب، 35)، وهم أناس يُسمَّون باسم »يهوذا« في آ 35. في هذا السياق نندهش حين نقرأ في آ 30أ و32أ أن الأحداث عينها سبّبها »بنو اسرائيل« و»بنو يهوذا«. ونلاحظ أن آ 30ب حيث »بنو اسرائيل« هم وحدهم المتَّهمون، لا تُقرأ في النص القصير الذي تمثّله السبعينية.
في 50: 4، 33 »(هم) وبنو يهوذا معًا (ي ح د و)«. جاء الإيضاح، مرة أخرى، ليكمّل نصًا تكلّم في البدء فقط عن »بني اسرائيل«
* إنّ 50: 20 حيث يُعتبر إسرائيل ويهوذا متوازيين، يبدو عنصرًا مضافًا. تتحدّث آ18-19 عن عودة »إسرائيل« الذي يرجع إلى مرعاه. ويرتبط هذا الحدث بالزيارة التي يقوم بها الربّ إلى ملك بابل. وفي عبارة أخرى، يبدو المنظار جامعًا كلَّ بني إسرائيل، وإن كانت الأماكن المذكورة في آ19، تنتمي كلّها إلى الشمال. وتشرح آ20 لماذا نَعِم إسرائيل بالعفو: الربّ يغفر للشعب الخاطئ. وأخيرًا، تبدو هذه الآية إضافة، لأنّها تميّز إسرائيل ويهوذا. فالمقدّمة الجديدة (في تلك الأيّام، وفي ذلك الزمن، يقول الربّ) تنتمي إلى نهج المدوِّنين الذين يُدخلون توسّعات جديدة إلى النصّ.
* ونخرج من سفر إرميا، لنقرأ هو 2: 1ي. فالوعد في آ1، الذي يقلب الإنباءات بالشقاء في الفصل الأوّل، يتحدّث عن تكاثر عجيب »لبني إسرائيل« في معنى يضمّ جميع بني إسرائيل. وتأتي آ2-3 امتدادًا للوعد عينه، فتميّزان بين »بني يهوذا« و»بني إسرائيل«. وهاتان المجموعتان تنضمّان »معًا« (ي ح د و. تصيران واحدًا) تحت سلطة رئيس واحد، وهذا ما يتيح لهم بأن »يصعدوا خارج الأرض«.
كلّ هذا يجعلنا نفكّر بأنّ التمييز بين إسرائيل ويهوذا يرتبط بإعادة نظر منظّمة في سفر إرميا. ويتيح لنا هو 2: 1-3 بأن نستشفّ أفق المدوّن: مصالحة بين المجموعتين والاعتراف برئيس واحد. والوجهة الأولى من هذا البرنامج عبَّر عنها أش 11: 13: »فيزول حسدُ إسرائيل، وتضمحلّ عداوة يهوذا. فلا إسرائيل تحسد يهوذا، ولا يهوذا تعادي إسرائيل«. ثمّ إر 31: 5-6: »تَغرسين (يا عذراء إسرائيل) بعدُ كرومًا في جبال السامرة، والذين يغرسون يأكلون ثمر ما يغرسون. فيأتي يوم ينادي النواطير في جبل أفرائيم: قوموا نصعد إلى صهيون، إلى الربّ إلهنا«. رج إر 3: 18؛ حز 37: 15-19، 22.
نلاحظ أنّ هذه المصالحة ترتبط بعودة إسرائيل/أفرائيم إلى الربّ (إر 31: 6، 18-22؛ 50: 4-5؛ حز 37: 23-24؛ هو 3: 4-5). والاعتراف برئيس واحد يتماهى مع داود، نقرأه في إر 30: 8-9 (والملك الذي أقيمه عليهم من بيت داود). إنّ التقاطع بين هذه النصوص المختلفة عديدة لكي نقدر أن نجد فيها أثر عمل أدبيّ ولاهوتيّ يكون أثّر على عدد من الكتب النبويّة في منظار واحد له ميزته: نهاية العداوة بين أفرائيم (= مقاطعة السامرة) ويهوذا/أورشليم، عودة قبائل الشمال إلى هيكل أورشليم وإلى سلطة تعود إلى داود الذي سيكون الكاهن الأعظم.
لا علاقة لمثل هذا الرجاء مع الفكر الاشتراعيّ، ساعة الكتّاب الملهمون لا يتردّدون في استعادة عناصر من اللاهوت الاشتراعيّ، بل عددًا من الجمل. مثلاً، يعود حز 37: 23-27 إلى العهد بين متعاهدين. وفي إر 3: 23 نقرأ عبارة تتردّد في سفر التثنية: »الأرض التي أعطيتُها ميراثًا لآبائكم«. نحن هنا بعيدون عن فكر سفر عزرا الذي رفض التعاون مع أهل السامرة المدعوّين »أعداء يهوذا وبنيامين« (عز 4: 1-5). وعن فكر نحميا الذي يتحدّث عن أعداء أورشليم الذين يقودهم سنبلط، حاكم السامرة. هذا يعني أنّنا أمام قراءة جديدة للأدب النبويّ لدى جماعة عاشت في الحقبة الفارسيّة وربّما الهلنستيّة (بعد مجيء الإسكندر إلى الشرق سنة 333 ق.م). ويتسجّل في هذا السياق، التحويلُ الذي تمّ لما فيه إر 31: 31.
ب- سأغفر ذنوبهم (آ34ب)
تعلن الآية الأخيرة في هذا المقطع أنّ بني إسرائيل سيكونون طوعًا أمناء للشريعة التي تسجّلت منذ الآن في قلوبهم. فما عادوا يحتاجون بعد لأن يشجّع الواحد الآخر فيقول له: »إعرف الربّ« (آ34أ). نرى لهذه الجملة شرحين يتلاقيان، وكلّ شرح يبدأ بالأداة »ك ي«، أي »لأن«. الأوّل: »لأنّ جميعهم من صغيرهم إلى كبيرهم يعرفونني«. الثاني: »لأنّي أغفر ذنوبهم ولا أذكر خطاياهم من بعد«.
يقعُ الشرح الأوّل في امتداد ما سبق، بحيث نكون أمام جملة موازية، أمام إسهاب. أمّا الثاني، فيُدخل حقٌّا فكرة جديدة: مبادرة الله من أجل الغفران. فجديد هذا التوسّع واضحٌ جدٌّا في النصّ القصير: اختلفت السبعينيّة عن الماسوريّة التي اتّهمت إسرائيل بأنّه نقضَ العهد، فما تحدّثت عن ابتعاد إسرائيل عن العهد، ولا شدّدت على خطيئته. غير أنّ إعلان غفران الربّ لا يمكن أن يُفهَم إلاّ في إطار خطيئة حقيقيّة. ونلاحظ أيضًا أنّ الجملة جاءت بعد العبارة الختاميّة »ن أ م. ي هـ و ه«، يقول الربّ بصوت خافت (نأمة في العربيّة)(8). كلّ هذا نفهمه بدون صعوبة إذا اعتبرنا الجزء الثاني من آ34ب (سأغفر) على أنّه إضافة.
وإن كانت الجملة مضافة، فيجب أن ننسبها إلى الذي »صحّح« آ31، فهذا ما يدعونا إليه التقارب مع إر 50:20(9). ففي هذه الجملة عدد من النقاط المشتركة مع 31: 34ب. نجد فيها الوعد ذاته بالغفران الإلهيّ، والفكرة ذاتها عن النسيان، واللفظ الواحد »ح ط ا ت« (خطيئة). وخصوصًا الاستعمال الآخر الوحيد (في البيبليا العبريّة كلّها) لعبارة »ك ي. ا س ل ح«، »لأنّي أغفر«. وإنّ 50: 20 ينتمي إلى عناصر من الكتاب أدخلها الكاتب الذي ميَّز بين إسرائيل ويهوذا(10).
ج- الخاتمة
إنّ التنويه ببيت يهوذا في آ31 و34ب، دخل في القطعة بيد مدوِّن واحد، لا نستطيع حتّى الآن أن نحدّد موقعه بدقّة. ما نستطيع أن نقول عنه حتّى الآن، هو أنّ هذين الرمزين ليسا منعزلين، بل يتسجّلان في قراءة جديدة لمجمل سفر إرميا، بل لمجمل الأسفار النبويّة. فالكاتب العائش في حقبة الهيكل الثاني، ماهى »إسرائيل« مع أهل السامرة، وأملَ في انضمام هذه الجماعة إلى صهيون. ثمّ هو شدّد على غفران الربّ لإسرائيل ويهوذا، وإثناهما خاطئان. فإذا جعلنا جانبًا آ31 و34ب، يبدو إر 31: 31-34 نصٌّا متماسكًا.
2- القطعة في حالها الأولى
بداية نقدّم ترجمة حرفيّة للنصّ الذي اعتبر »أوّليٌّا« للقطعة، أي النصّ العبريّ الذي يُفترض وجودُه في يد المترجم اليونانيّ. وذلك دون الإضافتين. أما هذه القطعة فتتميّز بشكلها المتداور.
أ (أ31) ها تأتي أيّام، نأمة يهوه، أقطع مع بيت إسرائيل عهدًا جديدًا
ب لا كالعهد الذي قطعتُ مع آبائهم، يوم أخذتُ بيدهم لأُخرجَهم من أرض مصر، لأنّهم لم يلبثوا في عهدي وأنا تخلّيتُ عنهم
ج نأمة يهوه
(آ33) أجل، ذاك هو العهد الذي أقطع مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيّام، نأمة يهوه. أجعل شرائعي في وسطهم وأكتبها على قلوبهم، فأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا.
ب ب (آ34) ولا يعلّم بعد الواحدُ صديقه، والواحد أخاه قائلاً: »إعرف الربّ«
أ أ فكلّهم يعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، نأمة يهوه.
يبدو هذا النصّ متماسكًا في ظاهره، وعناصره تتجاوب حول الوعد المركزيّ في آ33. ونطرح السؤال: من كتب هذه السطور؟ وما كان هدفه؟ وها نحن نقدّم البراهين التي تُسند عددًا من الفرضيّات المقترحة.
أ- الطابع النثريّ لهذه القطعة
هذا الطابع قريب من نمط »الأخبار السيرويّة« و»الأقوال النثريّة« التي تُنسب أغلب المرّات، إلى مدوّن قريب من المدرسة الاشتراعيّة. ولكنّ هذه الميزة وحدها، لا تتيح لنا أن نردّ على السؤال، إلاّ بشكل سلبيّ: فبالرغم من رأي القائلين »بنثر إيقاعي« يميّز حقبة إرميا(11)، لا تساعد هذه المعطيةُ على نسبة المقطوعة إلى النبيّ نفسه. مقابل هذا، هي لا تبرهن في شكل من الأشكال عن الأصل الاشتراعيّ، لأنّ النثر ليس مُلك مدرسة خاصّة ولا محيطٍ فارق.
ب- تقارب الجمل مع الأدب الاشتراعيّ
لا شكّ في هذه التقاربات، التي يقرّ بها حتّى الذين يرفضون نسبة القطعة إلى الاشتراعيّ(12). وها نحن نقدّم مثلين عن عبارة تميّز الأسلوب الاشتراعيّ.
* »العهد الذي قطعتُ مع آبائهم« (آ32). هو قريب من تث 5: 3؛ 1مل 8: 21؛ 2مل 17: 15 (من التاريخ الاشتراعيّ). ونقرأ أيضًا العبارة عينها في إر 11: 10ب. اعتُبر النصّ الأخير اشتراعيٌّا، ولكن سبق وقلنا إنّه ينتمي إلى إضافات تميّز بين »إسرائيل« و»يهوذا«. نشير إلى أنّ المدوّن يُبرز نقض العهد، وهذا ما يوافق الوجهة المقترحة في 31: 34ب مع الفعل »هـ ف ر و« المستعمل في 31: 32 الماسوريّ، ساعة يكون للنصّ القصير مضمون آخر.
* »أخرج من أرض مصر«. هي عبارة اشتراعيّة. رج خر 32: 11؛ تث 1: 27؛ 6: 12؛ قض 2: 12؛ 1مل 8: 21؛ 9: 9. ولكنّ نظرة سريعة إلى الفهرس الذي يورد الألفاظ البيبليّة وموقعها بحسب الحروف الأبجديّة، تدلّ على أنّ هذه العبارة مستعملة أيضًا في نصوص متأخّرة.
فعبارة العهد (أكون لهم إلهًا، ويكونون لي شعبًا، آ33ب) تُقرَأ في نصوصِ إرميا الاشتراعيّة (7: 23؛ 11: 4). ولكن يجب أن نلاحظ أنّنا نجدها أيضًا في نصوص متقدّمة في هذا الكتاب (24: 7؛ 30: 22؛ 32: 38). ثمّ إنّ هذه العبارة في 31: 33 قريبة من هذه النصوص الأخيرة، لأنّنا لا نجد فيها البُعد الإرشاديّ الذي يميّز النصّين الاشتراعيّين اللذين ذكرنا.
وهكذا يجب الاعتراف بالنكهة الاشتراعيّة لما في إر 31: 31-34. أو أقلّه كان الكاتب أليف الأدب الاشتراعيّ. ومع ذلك، فتفحّصُ هذه الجمل لا يعطينا الخاتمة المقنعة. فهذه العبارات ليست خاصّة بالاشتراعيّ. واللافت أنّ الذين جمعوا العبارات الاشتراعيّة المميّزة(13)، وعددها مئات، توقّفوا فقط في 31: 31-34 عند عبارة العهد، التي عُرفت معرفة واسعة في أدب الحقبة الفارسيّة. في هذا المجال قال توما رومر: »من السهل جدٌّا محاكاة الأسلوب الاشتراعيّ، وهذا ما حصل حتّى زمن العهد الجديد« (زك 1: 1ي؛ دا 9: 1ي؛ أع 7: 1ي)(14). فالتعامل مع المعيار الأسلوبيّ يكون بالحكمة والفطنة. والعبارات الاشتراعيّة لا تكفي وحدها لكي تبرهن عن أصلها. كما أنّ أدريان شنكر(15) لفت انتباهنا إلى عدد من التعابير في إر 31: 31-34 غابت من التثنية والأدب الاشتراعيّ، أو هي أخذت معنى مختلفًا. مثلاً: »ب ق ر ب«: في حضن. لا نقرأها إلاّ في إر 31: 33 وتث 21: 8. في تث كلام عن »سفك الدم« في وسط إسرائيل. ففي الأدب الاشتراعيّ، لا يأخذ لفظ »ق ر ب« المعنى الاستعاريّ الذي نجده في إر 31، ولا يكون أبدًا مع لفظ »ل ب« (القلب). ومجمل الكلام، نرى أنّ الرنّة الاشتراعيّة في هذه القطعة تبرهن عن شيء واحد فقط: عرف المدوِّنُ الأدبَ الاشتراعيّ واستلهمه بعض الشيء.
ج- لاهوت العهد
ما يعرفه الجميع هو أنّ مفهوم العهد (ب ر ي ت) بين الربّ وشعبه، موجود في قلب اللاهوت الاشتراعيّ. ونظنّ أنّ المدرسة الاشتراعيّة صاغته في زمن المنفى. انطلقت من لاهوت الأنبياء أشعيا وإرميا وحزقيال، ومن نصوص المعاهدات بين ملوك كبار وملوك صغار، فردّت على اتّهامات ضدّ الربّ على أثر ما حدث لأورشليم سنة 598 وسنة 587 ق.م. فهل هذا يبرهن على الأصل الاشتراعيّ لما في إر 31: 31-34 الذي يتحدّث عن العهد؟ والجواب يكون كلاّ. لأنّ الأدب اللاحق سوف يستعيد لاهوت العهد ويتوسّع فيه توسّعًا كبيرًا.
وحاول بعض الكتّاب أن يبيّنوا أنّ مفهوم العهد كما في إر 31: 31-34، يبتعد ابتعادًا حاسمًا عن الفكر الاشتراعيّ. وشدّدوا على نقطتين من نقاط الاختلاف.
تحدّثت النصوص الاشتراعيّة عن لاأمانة إسرائيل الذي خان العهد، وتطلّعت إلى إمكانيّة شفاء، وبالتالي استعادة العلاقة مع الربّ. وتبقى التوراة مقدَّمة للشعب فتثمر اهتداءه، وهكذا تفتح له طريق العودة إلى بركة العهد (تث 30: 1-14).
أمّا في إر 31، فالتوراة هي واقع خارج الإنسان ما لم يكتبها الربّ في القلوب، وبالتالي لا تقدر أن تثمر اهتداء إسرائيل.
والنصوص الاشتراعيّة تشير إلى اهتداء إسرائيل الذي يَخضع لشريعة العهد. وهكذا يحرّك الاهتداءُ قبولاً لدى الربّ، الذي يردّ إلى شعبه كلّ خيراته (الأرض، الازدهار...)، ويؤمّن ثبات العلاقة بختانة القلب (تث 30: 6). وإر 31: 31-34 أعلن أيضًا وضعًا مستمرًا من الأمانة للعهد. ولكنّ ذلك سيكون بمبادرة إلهيّة تُذيب التوراة مع القلب البشريّ.
لا شكّ في أنّنا لا نضخِّم التعارضات عند هاتين النقطتين، لا سيّما وأنّ اللاهوت الاشتراعيّ تطوَّر وتطوَّر. ثمّ إنّ السمات المميّزة لما في إر 31 هي أقلّ وضوحًا في النصّ الأوّلانيّ للقطعة (لا قطعة حقيقيّة في آ32. لا إشارة صريحة إلى غفران الله، آ34ب)، منه في وضعها النهائيّ. إذًا لا نستطيع أن نتكلّم عن تناقض حقيقيّ. ومنظارُ تجديد العهد حاضرٌ كلَّ الحضور في الأدب الاشتراعيّ (تث 26: 16؛ يش 24)(16).
أمّا الصمت عن هذه الأمور في 31: 31-34، فيبدو ذا دلالة واضحة: فالقطعة لا تُبرز خطيئة إسرائيل التي أُشير إليها بشكل غامض. ولا تقول شيئًا عن السبي ولا عن حرمان الأرض، ولا عن المصير اللاحق للشعب. فلو انتمى الكاتب إلى الحركة الاشتراعيّة، لكنّا دهشنا من هذا الصمت، لأنّ الاشتراعيّ يحاول أن يردّ على الشكّ المتأتّي من سنة 598 وسنة587(17)، ويُبرز خيانة إسرائيل قبل أن يبرّر يهوه(18). من أجل هذا، يتوسّع في لاهوت العهد.
في النصوص الاشتراعيّة العائدة إلى زمن المنفى، وحين حلّت محلّ مسألة مسؤوليّة الشقاء، مسألةُ شروط التجديد، أشرق الإرشاد الأخلاقيّ على الخطبة. أي توجّه إلى ضمير إسرائيل وإرادته، بحيث يخضع للشريعة. غير أنّ إر 31: 34 رأى أنّ لا فائدة بعدُ من هذه الخطبة الإرشاديّة. فإن لم يكن من تناقض واضح بين اللاهوت الاشتراعيّ المعروف للعهد، ولاهوت إر 31، فالاختلاف في الرنَّة يدلّ، على ما يبدو، على اختلاف في السياق التاريخيّ والحسّ اللاهوتيّ.
تعود عبارة العهد (أنا أكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا، آ33) إلى المدرسة الاشتراعيّة (إر 7: 23؛ 11: 4). ولكنّنا نجدها أيضًا في نصوص أخرى متأخّرة من إرميا (24: 7؛ 32: 38) ومن سفر اللاويّين (26: 12) ومن حزقيال (37: 27). واستعمال العبارة في إر 31: 33 قريب من هذه النصوص الأخيرة، لأنّنا لا نجد فيها البُعد الإرشاديّ الذي يميّز نصَّيْ سفر التثنية.
وعبارة »ب ر ي ت. ح د ش ه« (آ31، العهد الجديد) لا تعرف استعمالاً آخر في البيبليا العبريّة. إذًا، هي لا تقدّم أيّة إشارة إلى أصل القطعة. فالعهد »القديم« الذي تتحدّث عنه آ32، يعود إلى زمن موسى (خر 19-24)، وقد أعطاه يهوه بنعمة مجّانيّة، فافترض أنّ إسرائيل يبقى أمينًا للشريعة وخصوصًا الوصايا العشر. واستعاد العهدُ الجديد منه العناصرَ الجوهريّة: ربط المتعاهدين الاثنين، إسرائيل ويهوه. وبدت مبادرة الله أيضًا. ولا تنقّل ولا تحوّل في متطلّبات الله، بل إنّ التشريع الذي أُعطيَ لموسى يبقى هو هو (شرائعيّ، آ33). وجديد العهد كما في إر 31: 31-34، يكمن في ميزة واحدة: في هذه المرّة، يبقى إسرائيل أمينًا لربّه، لأنّ الشريعة التي تسجّلت في القلوب تُصبح باطنيّة، والابتعاد الذي تتحدّث عنه آ32 لن يحدث بعد. وإن اختلف التعبير، فالمنظار المشابه تُعبّرُ عنه عبارةُ »عهد أبديّ« (ب ر ي ت. ع و ل م)، التي نقرأها في سلسلة من النصوص تعود إلى الحقبة الفارسيّة: تك 9: 6؛ 17: 7؛ أش 55: 3؛ 61: 8؛ إر 32: 40؛ حز 16: 60؛ 37: 26.
كلّ هذا يجعلنا نفكّر أنّ لاهوت العهد الذي عرفه إر 31: 31-34، لا يعود إلى النبيّ إرميا، ولا إلى المدرسة الاشتراعيّة في زمن المنفى، بل بالأحرى إلى مدوِّن نجهل اسمه وعاش في الحقبة الفارسيّة: استعاد من أجل زمنه الفكرَ الاشتراعيّ وفسّره بطريقته الخاصّة.
د- عبارة »ها تأتي أيّام«
إنّ عبارة »ها تأتي أيّام« (آ31أ) تُستعمَل في سلسلة من مقاطع إرميا (9: 24؛ 30: 13؛ 31: 27، 28) لا تعود إلى الاشتراعيّ. فكما في القطعة التي ندرس، نحن أمام مواعيد مباشرة ولا مباشرة إلى إسرائيل، دون أن يُوضَع شرطٌ واحد، وهذا ما يعارض اللاهوت الاشتراعيّ الثابت (تث 29: 18-19؛ 1مل 8: 35-36)(19). وتكرار العبارة لا يعني أنّ جميع هذه المقاطع تعود إلى يد واحدة. من الواضح مثلاً أنّ 33: 14-16 (الغائب من السبعينيّة) يستعيد 23: 5-6. ويبقى أنّ إر 31: 33-34 يندرج في سلسلة من النصوص يتقارب معها تقاربًا لا يقبل الشكّ.
ثلاثة مقاطع من سفر إرميا، تبدأ بالعبارة عينها، وتُعلن شقاء أمم مجاورة لإسرائيل: موآب (48: 12-13)، عمون (49: 2)، بابل (51: 52). هذه المقاطع لا تقدر أن تضيء على 31: 31-34، لبُعدها عنها. ولكن نلاحظ في 49: 2 وعدًا بحسبه »يرث إسرائيل وارثيه«، وهذا ما يشير إلى عطيّة النسل (آ2). إذًا دَوّن الكاتبُ ما دوَّن في إطار من الاهتمام بالمستقبل الديموغرافيّ في إسرائيل. وفي شكل خاصّ، في الجماعة المؤمنة الملتئمة حول الهيكل الثاني.
ويجب أيضًا أن نجعل 9: 24-25، في سلسلة النصوص التي تعلن عقاب الأمم الوثنيّة. في هذا النصّ الصعب، يقع يهوذا (آ25أ) في لائحة الشعوب التي لم تُختَن إلاّ في اللحم. ثمّ إنّ آ25ب تؤكّد أنّ »جميع الأمم لا مختونة« (ك ل. هـ ج و ي م. ع ر ل ي م: مع الغرلة)، ووُبّخ »بيت إسرائيل« لأنّ قلبه لامختون. إنّ آ25ب تعارض آ24-25أ. فبدلاً من أن نصحّح النصّ(20) نعتبر الجملة ثانويّة (في تدوين ثانٍ)(21). في هذه الفرضيّة قد تأتي الإضافة من كاتب بعدمنفاويّ يميّز بين إسرائيل ويهوذا (31: 31) ويُبرز خطيئة إسرائيل (50: 20). هذا ما يشرح بسهولة لماذا ذَكرت الجملةُ »بيت إسرائيل«، ساعة تحدّثت آ25أ عن »يهوذا«.
وتبقى آ24-25أ التي تُنسَب مرارًا إلى النبيّ نفسه. فهولهلم رودلف مثلاً رأى في لائحة الشعوب التي تضمّ يهوذا، عودة إلى حِلف معادٍ لبابل (لا نعرف شيئًا عنه) في زمن إرميا(22). غير أنّ عددًا من الكتّاب(23) اعتبروا وبحقّ، أنّ القطعة أقرب عهدًا. ويشهد على ذلك الشكلُ النثريّ. ثمّ إنّ هاتين الآيتين لا تتقاربان تقاربًا خاصٌّا من الأدب الاشتراعيّ، بل نحن أمام نصّ من الحقبة الفارسيّة، توخّى أن يكون امتدادًا لما في آ22-23. وزيارة (وافتقاد) يهوه العقابيّة التي تضرب البشر المختونين فقط في اللحم، هي الطريقة الملموسة التي بها تتحقّق عدالة (ص د ق ه) الله على الأرض تجاه الذين يفتخرون بغناهم وعظمتهم، ولا يريدون أن يعرفوا (ي د ع، 31: 34) يهوه. وانتقاد يهوذا التي جُعلت بين الأمم الوثنيّة، واضحٌ هو. ومع ذلك، يبقى سؤال من دون جواب: إن كانت آ24-25أ جاءت حقٌّا من كاتب في مجموعة العائدين من السبي البابليّ، فهل »يهوذا« تشير إلى جماعته الملتئمة في أورشليم، أو إلى اليهوذاويّين الذين لم يمضوا إلى المنفى؟ يمكن لهذه الفرضيّة الثانية أن تكون مقبولة لو أنّ هاتين الآيتين أُوِّنتا في حقبة الرجوع الأوّل من المنفى.
ويبدأ الوعد »بنبتٍ بارٍّ« (23: 5-6) بالعبارة عينها. فنرى فيها أيضًا مقطعًا مركّبًا من عناصر مختلفة. افتُتحت آ6أ بمقدّمة جديدة (في أيّامه) فميّزت بين إسرائيل ويهوذا. وإن قُدِّم المَلكُ المثالي على أنّه »نبت داود«، فنحن ندهش حين نراه يحكم أمّتين مختلفتين. فالجملة تُوافقُ منظارًا توسّع فيه حز 37: 15-28: يجتمع أفرائيم ويهوذا (آ15-19، 22) ويكون داود عليهما ملكًا (آ24). والوعدُ عينه نقرأه في هو 2: 2-3. وهكذا يبدو أنّ آ6أ تعود إلى تدوين بعدمنفاويّ مثل 9: 25ب وسائر المقاطع التي تُميّز بين إسرائيل ويهوذا. ولكن ماذا نقول عن آ5، وآ6ب؟
نستطيع أن نرى فيهما شرحًا لما في آ1-4 الاشتراعيّة: فالفعل »وأقيم« (و هـ ق م ت ي) في آ5أ، هو صدى للّفظ الذي قرأناه في آ4أ. غير أنّ المنظار اختلف، لأنّ الرعاة (في صيغة الجمع) في آ4، صاروا الملك (في صيغة المفرد) في آ5. فهذا الملك الذي اسمه يشير إلى صدقيّا (آ6ب) هو »نبت بارّ« (ص م ح. ص د ي ق)، نبت داود. وتدلّ العبارة بلا شكّ على »النسل الشرعيّ«(24). ونقرأ الاستعمال السياسيّ عينه للفظ »ص م ح« في زك 3: 8 و6: 12، حيث يدلّ على زربّابل. وإن كان إر 23: 5، 6ب لا يشير بالضرورة إلى الشخص نفسه، إلاّ أنّ هذا يعود بنا إلى سياق المرحلة الأولى في الحقبة الفارسيّة، ساعة النظرة إلى عودة السلالة الداوديّة لا تكون من عالم الخيال. ونلاحظ (بخلاف تث 17: 4-30) أنّ الكاتب تطلّع بوضوح إلى استمرار المُلك في أمانة الملك للشريعة. ولكنّه اعتبر أنّ هذه الأمانة ثابتة بيد يهوه ذاته، وهذا ما يلتقي مع تدوين الشريعة في القلوب (إر 31: 31).
في 30: 3، تبدو الإشارة إلى يهوذا، ثانويّة. ففي مضمونها الأصليّ، أعلن يهوه أنّه يُعيد إلى الأرض مسبيّي شعبه إسرائيل. قد تجد العبارة معنى ما في الحقبة المنفاويّة، كما تجد أيضًا معنى في الحقبة الفارسيّة، لأنّ الأمل بعودة مجموعات جديدة من المنفيّين، بقيَ حيٌّا. ونلاحظ أنّ الوعد لا يُشير فقط إلى العودة، بل ينتهي في امتلاك الأرض، وهذا يعني تجريد الممتلكين السابقين.
وكان 31: 27-28 نصٌّا آخر عن الوعد، ينتهي بعبارة »نأمة يهوه«. نجد في آ27 إشارتين إلى بيت إسرائيل وبيت يهوذا. والمقابلة مع آ31 (ومع مقاطع أخرى أيضًا، تبدأ: ها تأتي أيّام)، تُتيح لنا أن نفكّر بأنّ النصّ تكلّم فقط عن بيت إسرائيل في معنًى يجمع الشعب كلّه. هي فرضيّة مقبولة وإن لم تُسندها إشارة واحدة. فالقطعة تتوسّع في فكرتين مختلفتين. في آ27، وعد الربّ (كما يبدو) بخصب كبير للبشر وللمواشي. ونجد المنظار عينه الذي وجدناه في زك 2: 8 مع اللفظين عينهما: آدم (البشر) ب هـ م ه (الحيوان)، والفعل »أزرع« (ز ر ع ت ي) نقرأه أيضًا في هو 2: 25. فالموضوع هو أيضًا وعد إلهيّ بعدمنفاويّ يلمّح إلى اسم يزرعيل (آ24). ونلاحظ أنّ ما يلي من الآية هو صدى لتعبير عهد كما نقرأ في إر 31: 31.
أمّا آ28، فتتوسّع في وعد آخر يدلّ عليه فعل »بنى« (ب ن ه)، »غرس« (ن ط ع). أمّا الموازاة الأقرب فنجدها في 24: 9 حيث »بنى« و»غرس« ارتبطا بعودة المنفيّين. إذًا، نستطيع أن نرى نفوسنا أيضًا في سياق إعادة بناء أورشليم بيد العائدين، في بداية الحقبة الفارسيّة. ونلاحظ في آ7 عبارةَ عهدٍ ونظرةً إلى اهتداء إسرائيل.
والنصّ الأخير في إرميا الذي يبدأ بعبارة: »ها تأتي أيّام«، نقرأه في 31: 38-40. تُنوّه القطعة بإعادة بناء أورشليم بحسب رسمة الأسوار. فهل تلمّح إلى إصلاح الأٍسوار نفسها، وذاك كان عمل نحميا؟ هذا ليس بأكيد، لأنّ الأسوار لا تُذكَر. فموضوع فعل »ب ن ه« هو المدينة. ثمّ إنّ آ38 قريبة من زك 2: 5-6 مع موضوع حبل القياس. فموضوع تكريس المدينة للربّ (آ40أ) يدلّ بلا شكّ، على تفسير جديد لما هو »جديد« (31: 22). هل نستطيع أن نرى هنا إشارة إلى الطابع المتأخّر للقطعة، يرتبط ارتباطًا أدبيٌّا بما في آ31-34؟ هذا ما لا يفرض نفسه، لأنّ الوعد بتكريس المدينة قد يكوّن عنصرًا ثانويٌّا أخذ جزءًا من مادّته من 2مل 23: 4-6.
ونقرأ العبارة عينها في عا 9: 1 كمقدّمة لوعد ينبئ بالغلال الوفيرة، ورجوع المنفيّين، وإعادة بناء مدن »إسرائيل« (آ13-15). فالأفق يشبه أفق إر 31: 27-28 مع فعل »ب ن ه« وفعل »ن ط ع« (غرس) و»ن ت ش« (اقتلع). واستعاد الكاتب في آ14 صورًا من عا 5: 11 وقلبَها قلبًا: يسكن بنو إسرائيل مدنًا أعادوا بناءها، يشربون خمر كرومهم التي زرعوها، يأكلون ثمار بساتين فلحوها (أش 66: 21). هذا يعني أنّ عودة المنفيّين ظاهرة ثابتة، كما تقول آ15. مثلُ هذه المواعيد تجد موقعها الطبيعيّ في حقبة عودة المنفيّين، وفي بداية الحكم الفارسيّ، ساعةَ لم يكن العائدون أكيدين بأنّهم سيُغرَسون حقٌّا في أرض يهوذا. ثمّ نلاحظ عبارة »شعبي إسرائيل« (آ14، ع م ي. ي ش ر ا ل) التي هي صدى لعبارة العهد، كما نقرأها في إر 31: 31.
ويبقى نصّان بيبليّان يستعملان عبارة »ها تأتي أيّام« مع صيغة المتكلّم (أنا) الإلهيّ، وإن كانا لا ينفعاننا كثيرًا. ففي 1صم 2: 31، لا نجد »نأمة يهوه« التي نقرأها مرّتين في آ3، والقطعة بمجملها (آ27-36) تتوجّه إلى بيت عالي، والموضوع خاصّ ببيت من البيوت فلا يصل إلى إسرائيل. أمّا عا 8: 11 فيشكّل مع آ12 كلمة مُلغزة تعلن انتهاء الكلمة النبويّة. آيتان لا نعرف جذورهما، كما لا نعرف إلى من يتوجّهان. وفي أيّ حال، لا علاقة لهما بما في إر 31: 31-34.
التفحّص السريع لهذه المقاطع التي تبدأ مع »ها تأتي أيّام، نأمة يهوه«، يدلّ (ما عدا 1صم 2: 31 وعا 8: 11) على أنّها دُوِّنت قبل النسخة التي تميِّز يهوذا عن إسرائيل، بحيث يمكن أن تتسجّل كلّها في السياق التاريخيّ عينه: أورشليم في بداية الحقبة الفارسيّة، في نظرة إلى آنٍ مباشر لا إلى مستقبل بعيد. فالمواعيد المختلفة التي عُرضت في هذه النصوص أشارت إلى عودة المنفيّين (إر 30: 3)، وإقامتهم الدائمة في أرضهم (إر 31: 28؛ عا 9: 14-15)، وإعادة بناء أورشليم (إر 31: 38) وسائر المدن المدمَّرة (عا 9: 14)، وإلى المستقبل الديموغرافيّ لإسرائيل وازدهاره (إر 31: 27؛ عا 9: 1-14). وأخيرًا إلى عودة الملكيّة الداوديّة (إر 23: 5، 6أ). كلّ هذه اهتمامات اليهوداويّين العائدين من بابلونية في الثلث الأخير من القرن السادس ق.م. وتجذّرُها في هذا السياق التاريخيّ، ثبّتته نقاط تماس عديدة لها مدلولها في زك 1-8.
هـ - رباطات أدبيّة أخرى مع إر 31: 31-34
إذا تركنا جانبًا المقاطع البادئة مع »ها تأتي أيّام«، فإنّ إر 31: 31-34 يقدّم مدلولات قريبة مع نصوص أخرى. وهنا أيضًا نستطيع أن نكتشف بعض الإشارات حول أصل هذه القطعة الإرميائيّة.
أوّلاً: إر 24
إنّ رؤية سلّتَيْ التين (ف 24) يشرحهما قولٌ نبويّ (آ4-10) نرى فيه عبارة العهد (آ7: فيكونون لي شعبًا) ترتبط باهتداء المنفيّين العائدين إلى الأرض، مع موضوعات القلب (ل ب. يعود اللفظ مرّتين في آ7) ومعرفة (ي د ع) يهوه(25). ثمّ إنّ آ6 تقدّم تقاربًا واضحًا مع 31: 28. فالرؤية تقابل بين مجموعتين: منفيّو سنة 598 من جهة، ومن جهة ثانية »صدقيّا ملك يهوذا ورؤساء يهوذا وبقيّة سكّان أورشليم الذين بقوا في هذه الأرض والساكنون في أرض مصر« (آ8). سيكون مصير الأوّلين خيِّرًا فيعودون إلى الأرض وينغرسون ويعيدون البناء (آ6). سوف يعطيهم الربّ قلبًا ليعرفوه، فتكون علاقة العهد حقيقيّة (آ7). أمّا المجموعة الثانية فتواجه الشقاوات المريعة (آ9-10).
لا يعود هذا النصّ إلى إرميا ولا إلى المدرسة الاشتراعيّة، بل دُوِّن ولا شكّ في بداية الحقبة الفارسيّة. في ذلك الوقت عاد منفيّو بابل فعلاً من أجل إعادة بناء الأرض والإقامة فيها. في هذا السياق نفهم أن تكون المواجهة، بين العائدين من جهة، واليهوذاويّين الذين لبثوا في الأرض ووضعوا يدهم على أملاك الذاهبين، من جهة ثانية.
ثانيًا: حز 11: 14-21
عادت هذه القطعة أيضًا إلى هذا الصراع عينه. فأهلُ أورشليم الذين لبثوا في الأرض قالوا للعائدين: »بما أنّكم ابتعدتم عن الربّ، فلنا أعطيَت هذه الأرض ميراثًا« (آ15). أجاب الربّ على هذا الادّعاء فأعلن أنّ المشتّتين يُجمَعون ويُعطَون أرضَ إسرائيل (آ16-17). هو اتّجاه يشبه ما في إر 24، والوضعُ التاريخيّ المعقول لهذا النصّ هو عودة المنفيّين. ويقدّم ولْيُ خطبة الله عدّة نقاط مشتركة مع إر 31: 31-34: بادرَ يهوه ذاته، فثبّت أمانة إسرائيل، عاملاً في القلوب (ل ب). نكتشف في آ20ب عبارة العهد، وبعض الألفاظ مثل »جديد« (ح د ش ه) و»بيت إسرائيل« في آ15.
ثالثًا: إر 32: 36-41
بدا هذا النصّ قريبًا من 31: 31-34. ففيه نجد أيضًا عبارة العهد (ب ر ي ت) مع نظرة إلى الأمانة للربّ مع لفظ »ل ب« (القلب، آ39). يبدو أنّ ذاك الذي كَتب ف 24 هو الذي كتب هذه القطعة: المضمون متشابه: عودة المنفيّين. عبارة العهد. إعلان أمانة دائمة. وكذلك الألفاظ. والمسألة تدور حول عودة المنفيّين من بابلونية ومن أماكن أخرى، وانغراسهم (ن ط ع) في الأرض.
رابعًا: حز 16: 59-63
يروي حز 16 خبر أورشليم. فالمدينة التي تمثّلها امرأة شابّة، أحيطت منذ ولادتها باهتمام من قبل الربّ وانتباه (آ3-14). ولكنّها استسلمت بعد ذلك للزنى، وما عرفت أن تتوقّف (آ15-34). وبعد هذا الاتّهام، أصدر النبيّ الحكم: يكون مصير أورشليم مصير الزناة والبغايا (آ35-43). وأُكمل قولُ حزقيال هذا فيما بعد مع آ44-58 (مقابلة مع سدوم والسامرة)، ثمّ مع آ59-63 وإرميا 31: 31-34، ففسَّرت هاتان الإضافتان القولَ النبويّ على ضوء خبرة اسرائيل اللاحقة وإر 31:31-34. وأورد برنار رينو سلسلة من النقاط المشتركة(26).
* تقدّم القطعتان »شميلة صغيرة من التاريخ المقدّس في أربع محطّات تتوزّع حول موضوع العهد«. يذكر عهدُ (ب ر ي ت) الربّ الأوّل (إر آ32؛ حز آ6). نقض العهد (هـ ف ر. ب ر ي ت، آ32؛ آ59). دينونة الله (آ32؛ آ59). الوعد بعهد (آ33-34؛ آ60-63).
* تنبئ القطعتان بغفران الخطايا المجّانيّ، وكلَّ مرّة في نهاية التوسّع (آ34ب؛ آ63: أغفر لك).
* تنظر القطعتان إلى العهد الآتي من وجهة الله (آ34؛ آ62: أنا الربّ)
ثمّ أورد رينو الاختلاف بين القطعتين في نقطة محدّدة. تحدّث إر 31: 31 عن عهد (ب ر ي ت) جديد (ح د ش ه). وحز 16: 60 استعمل عبارة: عهد (ب ر ي ت) أبديّ (ع و ل م). ثمّ قال: خفّفَ حز 16: 59-63 القطيعة التي دلّ عليها التعارض بين قديم وجديد. لا شكّ في أنّ إسرائيل نقض العهد، ولكنّ الله لم يبدّل مشروعه. فأضاف أمرًا حاسمًا: هذا العهد يكون أبديٌّا، أي لا يُنقَض بعد اليوم. عرف حز 16 إر 31 واستلهمه، غير أنّه مال إلى تقديم العهد »في خطّ نظرته اللاهوتيّة المطبوعة بالتقليد الكهنوتيّ«.
ما رأيُنا بهذا القول؟ إذا قرأنا إر 31: 31-34 في فحواه الأصليّ (كما نجده في خلفيّة اليونانيّ)، نعتبر أنّ حز 16: 59-63 لم يخفّف من القطيعة، بل يبرزها مستعملاً عبارة »هـ ف ر. ب ر ي ت« (آ59، نقض العهد) التي ستعود في إر 31: 32 كما في النصّ الماسوريّ. وشدّد حزقيال في الخطّ عينه على سلوك رديء مارسه إسرائيل فخجلَ من ذنوبه وشعرَ بالخزي (آ61، 63). مقابل هذا، بدا حزقيال كأنّه يقدّم لاهوتًا قريبًا جدٌّا ممّا نقرأ في إر 31: 31-34 في تدوينه الثاني (إضافة بيت يهوذا في آ34ب). فالعهد الجديد (ح د ش ه) يجد نفسه في امتداد دقيق للقديم. وكما في حز 16، فالاختلاف الوحيد بين العهدين يكمن في أنّ الأمانة للعهد ستكون بعد الآن عملَ الله نفسه، بحيث تصبح الخيانةُ مستحيلة. وهكذا لا نجد اختلافًا لافتًا بين نصّي حز وإر: أعاد يهوه الرباط مع العهد الأوّل، وثبّته الآن كعهد أبديّ. وإن كان التعبير مختلفًا، إلاّ أنّنا نجد أنّ موضوع الغفران الإلهيّ (حز آ63ب) قد أضافه المدوِّن الثاني في آ34ب.
وتقابُلُ حز 16 مع التدوين الثاني لما في إر 31: 31-34، نتحقّق منه في موضوع الأختين اللتين صارتا »ابنتَي أورشليم« (آ61). تماهت الابنتان، بحسب السياق، مع السامرة وسدوم (آ44-58) اللتين صارتا »ابنتي أورشليم«. فإذا اعتبرنا أنّ »بنت صهيون« هي الشعب، نستطيع أن نفهم معنى الوعد: صارت أورشليم »بقيّة« تعيسة مهدَّدة بالزوال. وها هي تجد شعبًا جديدًا خرج من السامرة (ومن سدوم). وفكرةُ النموّ الديموغرافيّ الظاهر، تعبِّر عنها نصوصٌ عديدة من الحقبة الفارسيّة مثل أش 54: 1-10 (مع إعلان»عهد سلام«، آ10)؛ 66: 7-9. هذا ما يقابل إعادة الناس للإقامة في أورشليم في زمن نحميا (نح 7: 4-72؛ 11: 4-19). أمّا مجيء الناس من السامرة، فيفترض انضمام السامرة إلى صهيون. وهكذا يلتقي هذا النصّ مع نظرات قرأناها في أش 11: 13؛ إر 3: ..18. فرأيناها تتماشى مع إر 31: 31-34 في التدوين الثاني.
وموضوع ابنتي أورشليم (آ61) يجد موضعه في منتصف القرن الخامس ق.م.، في مرحلة تحمل انتظارين: جمعُ السكّان العديدين. التصالحُ مع السامرة. ونفهم أنّ حز 16 يرتبط بسبعينيّة إر 31: 31-34، ويفسّره بروح قريبة من روح المدوِّن الثاني لهذه القطعة. كلّ هذا يميل بنا لأن نجعل نصّ إر 31: 31-34 الأوّل في بداية الإمبراطوريّة الفارسيّة.
و- فرضيّة مقدَّمة
إنّ اللهجة الاشتراعيّة لهذه القطعة (التعابير، لاهوت العهد)، والمسافة بينها وبين الأدب الاشتراعيّ، وعدد من الرباطات الأدبيّة، كلّ هذا يُتيح لنا أن نقدّم فرضيّة. يبدو أنّ إر 31: 31-34 كُتب في إطار تدوين إجماليّ لسفر إرميا، في بداية الحقبة الفارسيّة، ربّما في زمن زربّابل وبناء الهيكل الثاني. وإنّ زك 8: 7-8 يقدّم وعدًا إلهيٌّا يقابل المشروع الذي تشير إليه أقوالٌ نبويّة تبدأ مع »ها تأتي أيّام«، فتحيط بما في إر 30-31: العودة من المنفى (30: 3، زك آ7). الأقامة في أورشليم (31: 27-28؛ زك آ8أ). العهد والأمانة (إر 31: 31-34 كما في السبعينيّة، زك آ8ب).
يخبرنا سفرُ حجّاي وزك 1-8 أنّ بداية الحقبة الفارسيّة كانت مسرح صراعات هامّة في أورشليم. وإن لبثت المراجع ناقصة، إلاّ أنّنا نستطيع أن نتخيّل تواجهًا بين مجموعتين.
عاد المنفيّون من بابل بقيادة الكهنة، وكان المرمى المباشر إعادة بناء الهيكل. ما حملوا معهم الوثيقة الكهنوتيّة، ولكنّ اللاهوت الذي يحرّكهم يرتبط بالكهنة. ما اهتمّوا كثيرًا بالمسؤوليّة الفرديّة، وما مالوا إلى أن يروا في مأساة المنفى عقاب الخطيئة. بل تطلّعوا إلى نظام العالم مع توالي النهار (زمن السعادة) والليل (زمن التعاسة، وإلى اختيار أورشليم المجّانيّ.
حين وصل هؤلاء العائدون إلى أورشليم، وجدوا أرضًا احتلّها السكّان الذين لم يمضوا إلى الغربة، فكان الصراع لاحتلال الأراضي والبيوت أمرًا محتّمًا (حز 11: 14-21) فانطلق التيّار الاشتراعيّ من الباقين في الأرض(27). توسّعوا في لاهوت مختلف جدٌّا. ورِثوا الأنبياء، فأعادوا قراءة تاريخ شعبهم على ضوء لاهوت العهد بين الله وشعبه، وفسّروا تعاسة إسرائيل بخيانة هذا العهد. وحين ابتعدت مأساة سنة 598 وسنة 587، تطلّعوا إلى عودة سعادة ضاعت، ولكنّهم شدّدوا على واجب الأمانة للشريعة: فإن سلكوا مثل آبائهم، كان مصيرهم كمصير آبائهم. وبرنامج إعادة البناء كما في تث 12-26 لا يترك مكانة للمنفيّين، بل يتطلّع بالأحرى إلى مُلكيّة جديدة (دون العودة إلى داود)، وإلى كهنوت جديد (يرتبط بلاوي، لا بهرون)، ونبوءات جديدة (كرازة العهد بشكل يختلف عن الأنبياء الرسميّين في الهيكل). فهناك نصوص اشتراعيّة متأخّرة تبدو معارضة لهرون (خر 32: 25-29) والملكيّة (1صم 8: 8-11؛ 10: 17-19).
كيف يتحدّد موقع كتاب إرميا (مع 31: 31-34، حسب السبعينيّة) بالنسبة إلى هذين الخطّين؟ ورث الكاتب »الثاني« مؤلَّفًا انطبع باللاهوت الاشتراعيّ وبالتعابير. وإذ نشرَه، دلّ على موقف اتّخذه. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، انتمى الكاتب إلى مجموعة العائدين، هذا إذا كان هو الذي دوّن إر 24 (ق حز 11: 14-21). استعادَ اللاهوتَ الاشتراعيّ عن العهد بين الله وشعبه، ودعاهم إلى الأمانة. ولكنّه في الوقت عينه مال بالنظرة الأولى، فخفّف ذنب إسرائيل وما عاد يدعو إلى مجهود إراديّ وطوعيّ في الطاعة للشريعة. فهل نستطيع أن نتكلّم عن مسعى مصالحة، أو خطٍّ بين اتّجاهين متناقضين؟ ليس الأمر بأكيد.
فالكاتب تقبّل الإرث الاشتراعيّ بألفاظه ولاهوته، ولكنّه فسَّره في معنى قريب من الفكر الكهنوتيّ. ومنذ الآن، يكون التشديد على الوعد الإلهيّ اللامشروط، وهذا ما يكون في خطّ كهنوتيّ وكرازة »الأنبياء المتفائلين« مثل حجّاي وزكريّا. فحين نظر الاشتراعيّ (وبالأحرى الاشتراعيّ - الكهنوتيّ) إلى عودة الأيّام الحلوة، وجد رمزًا في دخول إسرائيل إلى أرض الموعد، بعد أربعين سنة من التيهان في البرّيّة (زمن المحنة الكبرى مع موت الجيل الخاطئ). وشدّد الخطاب، في وقته وفي غير وقته، على ضرورة ممارسة الشريعة. فبهذا الشرط فقط يستطيع إسرائيل أن »يقضي أيّامًا طويلة على الأرض« وعدَ بها الله (تث 11: 9). ويُدعى الشعبُ إلى خيار دراماتيكيّ بين الأمانة واللاأمانة، أي بين إقامة متواصلة على الأرض، والطرد من الأرض، بين الحياة والموت (تث 11: 26-30؛ 30: 15-30). استعاد إر 31: 31-34 مواعيد التثنية، ولكنّه قدّمها بشكل مطلق: سيَكتب يهوه الشريعة على قلب بني إسرائيل، بحيث تتثبّت الأمانة ويصبح الانغراس دائمًا في أرض الموعد، بشكل ضروريّ. وإن هو استعاد كتابًا طُبع بالطابع الاشتراعيّ، وإن هو أخذ بعض تعابيره الخاصّة، فلكي يقدّم تعليمًا في خطّ الفكر الكهنوتيّ.
3- مصير إر 31: 31-34
هناك مرحلتان. الأولى، تدوين ثانٍ يكون أساس الترجمة اليونانيّة. والثانية، النصّ الماسوريّ.
أ- التدوين الثاني
أدخل المدوِّن الثاني تمييزًا بين بيت إسرائيل وبيت يهوذا (آ31، 34ب). وما اكتشفناه يتيح لنا أن نؤكّد أنّ هذا التدوين يتسجَّل في مشروع تفسير للكتاب مع إعادة قراءة إجماليّة. وهذا ما حصل لكتب أخرى مثل سفر هوشع.
بيّن التحويل في آ31 فهمًا جديدًا للفظ »إسرائيل«. ففي التدوين الأوّل، دلّ هذا اللفظ على مجمل الجماعة المؤمنة، التي ارتبطت بأورشليم، وتألّفت بأكثريّتها من العائدين من المنفى. وعلى المستوى الأدبيّ عينه، دلّت »يهوذا« على أولئك الذين لبثوا في الأرض في زمن نبوخذنصّر (9: 25أ). منذ الآن، يشير »بيت إسرائيل« و»بيت يهوذا« إلى السامرة (مركز إسرائيل القديم، مملكة الشمال) وإلى أورشليم (مركز جماعة العائدين). والمعلومات التي بين أيدينا عن الحقبة الفارسيّة، متقطّعة بحيث لا نستطيع أن تكوّن، بشكل ثابت، تاريخَ مجموعات تكوّنت في نهاية القرن السادس وبداية الخامس ق.م. إلاّ أنّنا نستطيع أن نتخيّل أنّ أورشليم صارت موقع العائدين(28)، والسامرة المركز الرمزيّ للذين لبثوا في البلاد. إذا كانت هذه الفرضيّة صحيحة، فالوعد المُعطى للعائدين امتدّ إلى الآخرين، ممّا يتضمّن مصالحة بين المجموعتين أو انضمام أهل السامرة إلى هيكل أورشليم. وهذا في الواقع ما تُعلنه نصوص أخرى دوّنتها اليدُ عينها في الوسط عينه (إر 3: 12-13، 18؛ حز 16: 61؛ 37: 15-28؛ هو 2:2-3).
وإضافة آ34ب تتسجّل في منظار التدوين عينه، الذي يُبرز خطيئة إسرائيل ويهوذا (إر 3: 13؛ 5: 11-13)، كما يُبرز الغفران الإلهيّ الذي يُقدَّم للجماعتين. من وجهة الحسّ اللاهوتيّ، بدا التدوين الثاني أقرب من روح التثنية. وهذا يترافق مع رؤية مصالحة مع السامرة، إن كان صحيحًا أنّ السامرة صارت نقطة اللقاء للذين لم يمضوا إلى السبي. قرأ التدوين الأوّل لما في 31: 31-34، النصوصَ الاشتراعيّة لسفر إرميا من وجهة العائدين. أمّا التدوين الثاني فراح بعيدًا في المصالحة بين المجموعتين.
هل نستطيع أن نضع تاريخًا لهذا التدوين؟ يكون الجواب موقّتًا. ويمكن أن نقول: القسم الأوّل من القرن الخامس، أو حقبة نحميا.
ب- التدوين الثالث (الماسوريّ)
الأساس قالَه الأب بوغارت، كما قلنا في بداية هذا المقال، أمّا التحوّل الرئيسيّ الذي حصل في إطار النصّ الطويل، ففي آ32ب التي تحدّثت عن قطيعة حقيقيّة في العهد مع الآباء. فالكاتب الذي استعاد »هـ ف ر. ب ر ي ت« (نقض العهد) أوضح ما افترضه التدوينُ السابق فأضاف آ34ب. لن نتكلّم عن مجرّد ابتعاد بالنسبة إلى العهد، بل عن خطيئة حقيقيّة، وقطيعة كان بنو إسرائيل مذنبين فيها. والتحوّلات في هذه القطعة تتسجّل في إطار نظرة إجماليّة إلى الكتاب. ولكنّ هذا يتجاوز إطار هذا المقال.
الخاتمة
حين انطلقنا من النصّ القصير الذي تمثّله السبعينيّة، لا من النصّ الطويل (الماسوريّ)، بدا لنا أنّ آ34ب لا تلعب دورًا أوّليٌّا في القطعة. فاعتُبرت عنصرًا مضافًا وبدت هذه الإضافة مرافقة لذكر بيت يهوذا في آ31. كما تسجّلت في إطار تدوين إجماليّ لسفر إرميا كما لأسفار نبويّة أخرى. وهكذا يكون التدوين الأوّل للقطعة في مسيرة إعادة تدوين الكتاب في بداية الحقبة الفارسيّة. وهذان التدوينان المتعاقبان يشهدان على جدالات حرّكت جماعة أورشليم المؤمنة، بين العودة من المنفى وحقبة نحميا.