الفصل السادس: الفصل الأول من سفر التكوين من التقليد إلى التدوين

الفصل السادس:

الفصل الأول من سفر التكوين من التقليد إلى التدوين

النصُّ(1) الواسع الذي يفتح الكتاب المقدّس في اللغة العبريّة (1: 1-2: 3)(2) يظهر للوهلة الأولى على أنّه نصّ مرتّبٌ ترتيبًا كاملاً، كما في بنية هندسيّة. وعودة التعابير عينها تمنحه رتابة فيها الكثير من الجلال. يروي النصّ تحوّل الفوضى (ت هـ و م، الغمر) الأصليّة (1: 2) إلى نظام كبير ومتناسق، حيث يجد كلُّ عنصر موضعَه المحدّد. وهكذا يتوافق ترتيب النصّ مع ما يعرض. ولكنّ التفحّص الدقيق يكشف سلسلة من الصعوبات، واللاتساويات، التي شدَّد عليها الشرّاح منذ زمن بعيد: هناك تعابير ناقصة. أو وُضعت في غير محلِّها(3). وتتكرّر بعض الأمور. ونندهش حين نرى موضع الكواكب في مسيرة الخلق. ويتحدّد موضع الالتواء للنصّ في الترتيب المنطقيّ، على مستويين: مستوى بنية القطعة، من جهة. ومستوى مضمون كلّ بيت من جهة ثانية.

كشف المفسّرون، في شكل جوهريّ، نمطين من التفسير لهذه الظواهر. ففي خطّ أوّل، كان مجمل التأليف بما فيه من تشعّب وتماسك، من التقليد الكهنوتيّ الذي استلهم نماذج سبقته أو تقاليد(4). غير أنّ مثل هذا الشرح لا يستطيع أن يفهم جميع الصعوبات الدقيقة في النصّ. والاهتمام بإيجاد الرقم 7 أو ضعفه، حسب كاسوتو(5) قد يبرّر هذا الإغفال أو ذاك. ولكنّه لا يستطيع أن يحلّ جميع المسائل حلاٌّ أكيدًا(6).

ولاحظ مفسّرون آخرون أنّ »الخبر« يوازي شكلين من التدخّل الإلهيّ: الكلمة (قال) والعمل (صنع، فعل). على هذا الأساس، ميّزوا ارتباطًا على مستوى »صنع«جاء من التقليد، وآخر على مستوى »قال« جاء من التدوين الكهنوتيّ(7). ولكنْ وقف في وجه هذه الفرضيّة، عددٌ من الاعتراضات الحاسمة. ويبدو أنّه من الصعب أن نشرح تشعّب بنية النصّ انطلاقًا من هذه الفرضيّة. منذ بضع سنوات، لم يُفتَح هذا الملفّ. وها نحن نعود إليه، إذ قد يكشف لنا أسلوب الكتابة في التقليد الكهنوتيّ. ننطلق من البنية الإجماليّة، ثمّ نتوقّف عند صعوبات خاصّة بالنصّ.

1- بنية تك 1: 1-2: 3

ما هي البنية الأساسيّة لهذا المقطع؟هناك منطقان واضحان على المستوى الأدبيّ، ويبدوان كأنّها يتزاحمان: تصميم في سبعة أيّام (ستّة أيّام للخلق، ويوم سابع لراحة الله). قسمة أعمال الله الثمانية التي تتوزّع بين أيّام الخلق الستّة(8) حسب التفسير »الكلاسيكيّ« الذي يعود إلى الآباء اللاتين. يشمل الخبر هذا المقدّمة والخاتمة، في قسمين يتجاوبان تجاوبًا متوازيًا: الفصل بين النور والظلمة... وهكذا يكون كلّ شيء في موضعه. ثمّ تأتي أعمال يزيّن بها الله الطبيعة. كلُّ قسم من الخبر يتضمّن ثلاثة أيّام وأربعة أعمال. في اليوم الأخير، يكون هناك عملان اثنان. بالرغم من الظواهر، نكون أمام مجموعة متناسقة بُنيَت بعناية كبيرة، أمام خبرٍ تشعّبَ ولكنّه تنظّم. وها نحن نستعيد اللوحة التي قدّمها شارل هوريه(9).

*     المقدّمة (آ1-2): إجماليّة النصّ ومفتاحه

*     اليوم الأوّل (آ3-5). فصْلُ الله النور عن الظلمة، والنهار عن الليل.

*     اليوم الثاني (آ6-8). عمل واحد. فصلُ مياهٍ عن مياه. فصلُ الهواء عن المياه.

*     اليوم الثالث (آ9-13). عملان اثنان. فصل اليابسة عن المياه فبانت الأرض. ثمّ أنتج النبات.

*     اليوم الرابع (آ14-19) يقابل اليوم الأوّل. خلق الشمس لخدمة النهار، والكواكب والقمر لخدمة الليل.

*     اليوم الخامس (آ20-23) يقابل اليوم الثاني. خلق الطيور في الهواء والأسماك في المياه.

*     اليوم السادس (آ24-31) خلق الحيوان على الأرض، ثمّ الإنسان.

*     الخاتمة (2: 1-3): استراح الله من عمله.

بناء بسيط وإن كان فيه بعض التفنّن. فالتقابل الوحيد يقع بين اليومين الأوّل والرابع. وفي ما يتعلّق باليوم الثاني والخامس، وإن نحن راعينا بدقّة نظام النصّ، فالسماء تقابل الأسماك، والمياه الطيور. ويصعب علينا أن نوازي بين إنتاج النبات وخلق الإنسان، وإن كان الإنسان أُعطيَ النبات طعامًا. ثمّ إن خلق النبات يجد مكانه بالأحرى في القسم الثاني من اللوحة (الأيّام 3، 4، 5)، ساعة يكون عمل الكواكب في القسم الأوّل، مع أعمال الأيّام الثلاثة الأولى.

وطرح الأب بوشون(10) مسألة ترتيب تك 1 بشكل حاسم. لا نستطيع هنا أن نستعيد كلّ تحليلاته. ولكن يبدو من المهمّ أن نستعيد نقطة جوهريّة في استنتاجاته: الطابع المركزيّ، من جميع الجهات، لليوم الرابع (خلق الكواكب، آ14-19). هذا »نصّ الجمعة« يرتبط باليومين الأوّل (النور) والسابع (السبت). وهذا ما يقابل الرسمة التالية حيث ثلاث محطّات هامّة تحيط بسلسلتين من محطّتين أقلّ أهميّة، فتكون المحطّةُ الثانية محطّتين.

* اليوم الأوّل: النور. فصل النهار عن الليل

* اليوم الثاني: فصل المياه العليا عن المياه السفلى

* اليوم الثالث: فصل الأرض عن البحار. إنتاج النبات.

* اليوم الرابع: النيّرات، فصل الليل عن النهار، تحديد الأعياد

* اليوم الخامس: إنتاج الأسماك والطيور

* اليوم السادس: إنتاج الحيوان العائش على الأرض، إنتاج الإنسان

* اليوم السابع: السبت (زمن مقدّس مثل أعياد اليوم الرابع).

هذه الرسمة توافقُ بنيةَ النصّ كما فهمها بسنغر(11). فداخل الإطار الليتورجيّ، الذي تكوّنه الأيّام الأوّل والرابع والسابع، نكون أمام مجموعتين: الخلائق الجامدة، أي التي لا »ن ف ش« (نفس ووظيفة التنفّس) لها. و»النفس« تميّز الحياة. هذه الخلائق هي مجرّد امتداد للأرض. هي لا تتحرّك. ثمّ الخلائق الحيّة: الحيوان والإنسان. فهذا النصّ صاحب البنية المتماسكة، يعود كلّه إلى التقليد الكهنوتيّ. فيُنشد الخليقة على أنّها »بيت حياة« سلّمت إلى الإنسان. أمّا »الباب« فهو اليوم السابع، يوم السبت ويوم لقاء موسى مع الربّ على جبل سيناء(12).

ما من شرح قُدِّم حتّى الآن يتيح لنا أن نفهم لماذا ارتبط انتاج النبات بالفصل بين اليابس والرطب، في اليوم الثالث. ولا نفهم، لماذا سكن الإنسان مع الحيوان في اليوم السادس. لا شكّ في أنّ إطار أيّام العمل الستّة فرضَ تجميع بعض الأعمال. ولكن إن اعتُبر النبات امتدادًا طبيعيٌّا للأرض التي خرجت من الماء، فمن المنطق أن تجتمع أعمال »الفصل« (ما عدا فصل النهار عن الليل) في اليوم الثاني، بحيث يُحفَظ انتاج النبات لليوم الثالث. وكان من الطبيعيّ أيضًا أن نجمع في اليوم الخامس حيوان المياه والهواء والأرض. ونترك اليوم السادس للإنسان. كلّ هذا يتلقّى شرحًا بسيطًا، معقولاً، في مقال دُوِّن سنة 1965 بيد هرمان(13). هذا الشرح يترك مكانًا لمركزيّة اليوم الرابع وإلى تقابلاته مع اليومين الأوّل والسابع. ماذا يقدّم هرمان؟

بدأ فلاحظ الأبيات الثمانية في جسم الخبر، فوزّعها في ثلاث مجموعات، على مستوى المضمون كما على مستوى الشكل الأدبيّ.

* في 1-3 موضوع مشترك: وسمّى الله. شكل بسيط، قصير.

* في 4-7 يعود موضوع »بحسب صنفها« عشر مرّات. نجد هنا الشكل الطويل الذي يتضمّن بُنية مضاعفة. فالنصف الثاني من البيت يبدو في إيقاع مثله: عشب، نبات، شجر (4). شمس، قمر، كواكب (5)، حيتان، أسماك، طيور (6). وحوش، حيوانات داجنة، حيوانات صغيرة (7).

* في 8 (خلق الإنسان) نقرأ ميزات خاصّة.

يتحدّد موقع الفصلين الرئيسيّين بين البيت 3 والبيت 4 من جهة. وبين 7 و8 من جهة ثانية. أي في وسط اليومين الثالث والسادس. وجمعُ الأبيات في ستّة أيّام يعارض التجمّع الطبيعيّ الذي تفرضه البنيةُ الأدبيّة. وهذا ما يظهر في الرسمة التالية:

* بيت 1. فصل بين النهار والليل، لازمة الأيّام (وكان مساء وكان صباح)

* بيت 2. فصل بين العلوّ والعمق مع لازمة الأيّام

* بيت 3. فصل بين البحر واليابسة مع فعلين طبيعيّين (سمّى، رأى)

* بيت 4. النبات، لازمة الأيّام

* بيت 5. الكواكب في عمل فصل مع لازمة الأيّام

* بيت 6. حيوانات المياه والهواء مع لازمة الأيّام

* بيت 7. الحيوانات على الأرض مع مفاصل طبيعيّة

* بيت 8. الإنسان مع لازمة الأيّام (يوم سادس).

ربط هرمان هذه الظاهرة بملاحظات حول بيت 5 (خلق الكواكب)، والبيت 8 (اليوم السادس). فقد أدرج بيت 5 (خلق الكواكب، آ14-19) بشكل ضعيف في مجمل النصّ، فجاء مزيجًا من أشكال أدبيّة ارتبطت بالمجموعتين الأولى والثانية مع بنية خاصّة (آ14، 16) ومثلّثة. وهذا لا شيء يقابلُه. ولفظ »بحسب جنسه« الذي يشير إلى بيت 4، 6، 7 غاب من بيت 5. مقابل هذا نجد موضوعات ترتبط بالبيوت 1-3: نور وظلمة، »فصل«. فكما في 1-3، تُرسَل الكلمة في الفراغ وتعمل بدون وسيط، ففي 4، 6، 7 تتوجّه الكلمة إلى الأرض أو إلى المياه، وتتكوّن أدوات الخلق. وخلق الكواكب في اليوم الرابع يضيِّع التطوُّر المنطقيّ للخبر. فهذا انطلق من أُطُر كونيّة كبيرة ونزل على الأرض التي بدأت تترتّب (إنتاج النبات، آ11-13). والصعود إلى السماء مرّة ثانية، في اليوم الرابع، يقطع هذه الحركة التي تتواصل بعد ذلك على المستوى الأرضيّ (خلق الحيوان، الإنسان). منذ اليوم الأوّل، سبق الله وفصل بين النور والظلمة. فعاد بيت 5 إلى ذاك الفصل مع الألفاظ عينها. وأخيرًا، استعاد بيتُ 8، بيوتَ 4، 6، 7 التي خضعت عناصرُها للإنسان، ولكنّه ما ذكر الكواكب. كلّ هذا نفهمه إذا كان بيت 5 غير موجود في الخبر الأوّلانيّ. أدخله الكهنوتيّ بسبب اهتماماته بالليتورجيّا وخصوصًا بالكلندار (تقويمُ الأعياد) الليتورجيّ. فالكواكب تسمّى »م ا ر و ت«: نيّرات. هذا الاسم يُستعمَل للكلام عن سراجين في الهيكل. واليوم الرابع في الأسبوع الذي هو يوم أعياد الحجّ الكبرى(14)، جُعل في إطار الليتورجيّا.

وتفحّص هرمان بعد ذلك نهايةَ الخبر (2: 1-3)، فرأى في آ2 جملتين متماثلتين من الناحية العمليّة: »وأكمل (و ي ك ل) الله في اليوم السابع عملَه الذي صنع، وتعطّل (و ي ش ب ت: وسبتَ، استراح) الله في اليوم السابع من كلّ عمله الذي صنع«.

فهمت السبعينيّة والبنتاتوكس السامريّ والسريانيّة البسيطة (في اليوم السادس) استعمال فعل »ك ل ه«. في آ2أ: ما زال الله يعمل(15). مقابل هذا »ش ب ت« (توقّف عن العمل، تعطّل، آ2ب) في اليوم السابع. يعني أنّ هذا اليوم هو الأوّل الذي لا نعمل فيه. إذًا، ليست الجملتان متوازيتين، بل متعارضتان، وما دوَّنهما كاتبٌ واحد. فالجزء الأوّل لا يدخل إطلاقًا في إطار التقليد الكهنوتيّ، بحيث يُعتبر سابقًا لهذا التقليد(16).

واستنتج هرمان بحقّ، على ما يبدو، أنّ الكهنوتيّ أدخل بيت 5 (خلق الكواكب من أجل الليتورجيّا) وحوّل اليوم السابع إلى يوم راحة، لكي يكون النموذج الأوّل للسبت. وبعبارة أخرى، تحدّث النصّ القديم عن سبعة أعمال قام بها الله، فقابلت سبعة أيّام. ولكن وجبت المحافظة على الإطار الأسبوعيّ مهما كان الثمن، فدفع الكهنوتيّ كلّ مرّة في اليوم السابق النشاطات التي جُعلت »في البدء« ليومي الأربعاء والسبت، والتحوُّلان اللذان فُرضا على النصّ، تجاوبا مع الاهتمام ذاته، ألا وهو إبراز الأزمنة المقدّسة (الأعياد، السبت). في هذا المنظار، وجب أن يكون خلق الكواكب المرتبطة بالكلندار والأعياد، موضوعًا في اليوم الرابع. كما وجب أن يتعطّل العمل في اليوم السابع، بلا شكّ. منذ الآن مثّلت الأيّامُ الأوّل والرابع والسابع الأزمنة القويّة في الخبر، كما قال بوشون وغيره. أمّا النصّ الأدبيّ الأوّليّ، فقدّم ترتيبًا متكاملاً: بدأ الله فأرسل أوامره في الفراغ ففعل حين فصل العناصر (بيت 1-3). ثمّ وجّه أوامره إلى الأرض أو إلى البحر لكي يُنتجا ما يملأهما (4، 6-7). وأخيرًا وجّه أوامره إلى نفسه (تشاور) فاستعاد ما على الأرض وفي البحر والهواء ليجعله في خدمة الإنسان (بيت 8). في هذه المجموعة المبنيّة بناء محكمًا، شكّل الإنسانُ قمّة الخلق الفريدة بحيث لا يعارضه أحد(17).

2- الصعوبات الداخليّة

بدت الفرضيّة التي توسّع فيها هرمان، وجيهة. فيبقى الآن أن نسير قُدمًا: هناك عناصر أخرى  قد يكون أدخلها الكهنوتيّ أو مدوِّن آخر. ومهم يكن الحلّ المُعطى للمسألة الإجماليّة، التي يطرحها توزيع الأعمال والأيّام، فالنصّ يكشف عددًا من اللاتساويات والتكرارات والغرائب، في داخل كلّ بيت. لا شكّ في أنّنا لا نستطيع أن نتوصّل إلى تكوين كامل وأكيد للنصّ الأوّليّ ولمراحل تدوينه. ولكنّنا نحاول أقلّه إدراك حلٍّ معقول. ننطلق من البيت المخصّص للكواكب، ثمّ نكتشف بشكل منهجيّ النصّ، دون الانطلاق من نظريّة مسبقة كما في التمييز بين »قال« و»صنع«.

أ- خلق الكواكب (1: 14-19)

بيّن هرمان أنّ هذا البيت لا ينتمي إلى النصّ الأوّليّ، بل أدخله المدوِّن الكهنوتيّ. ولكن هل هو متماسك؟ إنه يقدّم بنية تكاد تكون متماسكة، تحدّدها الوظائف المعيّنة للكواكب (الأب بوشون، ص 94).

أ. لتفصل بين النهار والليل (آ14 أ1)

ب. لتكون علامات للأعياد والأيّام والسنين (آ14ب)

ج. لتضئ على الأرض (آ15)

أ. لتتحكّم بالنهار (آ16أ)

ب. لتتحكّم بالليل

ج ج. لتضيء على الأرض (آ17)

ب ب. لتتحكّم بالنهار والليل (آ18 أ1)

أ أ. لتفصل بين النور والظلمة (آ18 أ2).

بيّنت هذه اللوحة بوضوح الطابع المركزيّ في آ16، الذي يتوافق في الوقت عينه مع العنصر (أ) أي النهار والليل (آ14أ) والعنصر (ب ب) أي يتحكّم بالنهار والليل (آ18أ). هكذا يتثبّتُ أنّ العلاقة مع اليوم الأوّل (الفصل بين النهار والليل) قويّة جدٌّا. غير أنّ التوازي يبقى ناقصًا، لأنّ آ14ب لا تقابل آ18أ، كما كنّا ننتظر. هل هي إشارة إلى تاريخ أدبيّ مرَّ في مرحلتين أو أكثر؟ نجيب بكلاّ مع الأب بوشون: »مثل هذه العناصر (الجزء الحرّ في آ14ب) ضروريّة في التآليف النظاميّة النظاميّة، لأنّ التوازن حين يُفرط في الدقّة، يخسر قيمته التعبيريّة: هي تخرج من التعارض بين التوازي واللاتوازي« (ص 95). وبتعبير آخر، لا شيء يعارض انتساب مجموعة آ14-18 إلى المدوِّن الكهنوتيّ. كما نلاحظ تشديدًا على عناصر مثلّثة: هي ثلاث وظائف كُلِّفت بها الكواكب في آ14-18 كما في آ17-18. ثمّ إنّ النيّرات التي جُعلت في قلب النصّ، هي ثلاثة: الأكبر، الأصغر، النجوم.

ب- مقدّمة الخبر (1: 1-2)

نقرأ أوّلاً آ1. مثل هذا العنوان ليس بضروريّ في حدّ ذاته من أجل الخبر(18). فالكوسموغونيّات (ولادة الكون) الشرق أوسطيّة القديمة تبدأ عادة بوصف الخواء البديئيّ (تهوم)، تيامات (أو الغمر العظيم، اليماه المالحة) بدون أيّ توطئة سابقة(19). قد تكون هذه الآيةُ الأولى عملَ الكهنوتيّ(20) الذي اهتمّ ببناء خبره الكبير مستعينًا بالعناوين(21). كان تعبيرُه قريبًا ممّا في 2: 4أ الذي يبدو تدوينًا كهنوتيٌّا: نجد فيه العبارة ذاتها »السماوات والأرض« (مع أل التعريف) وفي ترتيب يعارض آ4ب، مع الفعل عينه »ب ر ا« (برأ، خلق) الذي لا نقرأه قبل التقليد الكهنوتيّ(22). ونلاحظ أيضًا التضمين مع 2: 1-3 (الألفاظ عينها: خلق، الله، سماوات، أرض) ومع 2: 1، 3ب (إضافات من الكهنوتيّ).

وقدّمت آ2 وصفًا لحالة الخواء البديئيّة، على مثال عدد من الكوسموغونيّات الرافدينيّة والمصريّة. في هذا الخطّ، يبدو من الطبيعيّ أن يعمل الله انطلاقًا من مُعطى سابق. ولا شيء يمنع أن تنتمي آ2أ (وكانت الأرض تائهة، خالية، خاوية) إلى نصّ تقليديّ سابق للكهنوتيّ. وهذا لا يسري على آ2ب (وروح الربّ يرفّ على وجه المياه).

من المعروف أنّ الجملة فُسِّرت في معنيين مختلفين جدٌّا. بعضهم رأى أنّ الله أعدَّ الخلق بحضور نسمته، نفحته (روح) على الخواء الذي لم يكن له شكل بعد(23). ولكن نلاحظ أنّ هذا يُضعف التعارض بين الخواء البديئيّ، شواش البدء، والكون (كوسمُس) الذي هو نتيجة التدخّل الإلهيّ(24). وعبارة »وقال الله« في آ3أ تدلّ على اجتياح، هجمة من عند الله، وجديدٍ جديد. فالعالم القبل العالم بما فيه من شرّ (الخواء، المياه، الغمر العظيم) لا يتحوّل من »الداخل«، بل بكلمة الله الآتية من »الخارج«.

ورأى شرّاح آخرون أنّ آ2ب هي امتداد لصورة الخواء، التي بدأت في آ2أ: »روح« هو هنا ريح عاصف. والاسم الإلهيّ يدلّ على الرفعة، ما هو فوق(25). غير أنّ هذا الاستعمال لبث نادرًا. وتفسير بعض المقاطع التي أشار إليها أصحاب هذه النظريّة تبقى موضوع جدال(26). إذًا، الحلّ الكلاسيكيّ لا يأخذ بعين الاعتبار جديد التدخّل من قِبَل الخالق. والحلّ »السلبيّ« يصطدم بمسألة لفظ »ا ل هـ ي م« كدلالة على الرفعة.

ولكن قد نجد حلاٌّ ثالثًا: هي عبارة ثانية في سياقها. ونُسند هذه الفرضيّة حين نلاحظ أنّ آ2ب لا تجد لها صدى في ما يلي من الخبر. ولن نجد تلميحًا إليها في عمل الخلق نفسه، ساعة العناصر الثلاثة الخوائيّة في آ2 (أرض لا يمكن أن تُسكن، الظلام. الغمر ومجتمع الماء) هي موضوع تدخّلات ثلاثة قام بها الله (النور، فصل المياه، ظهور اليابسة). ونضيف بأنّ العبارة »ع ل. ف ن ي. هـ م ي م«، على وجه المياه، في آ2ب تقابل على »وجه الغمر« (ع ل. ف ن ي. ت هـ و م) في آ2أ. وهي قريبة ممّا نقرأ في خر 31: 3 (ر و ح. ا ل هـ ي م، روح الله) وفي 35: 31 (وملأه روح الله). هما نصّان متأخّران يتحدّثان عن »روح الله« الذي أعطي لبصلئيل، المسؤول الذي امتلأ حكمة من أجل بناء المعبد في البرّيّة(27). هذا التقارب قد يرينا خلق العالم الذي أشرفت عليه الحكمةُ الإلهيّة، شبيهًا ببناء هيكل(28). نحن نقرأ هذين الموضوعين في أدب يعود إلى الحقبة الفارسيّة. وهناك توازٍ آخر يفرض نفسه مع خبر الطوفان: فساعةَ أعبرَ الله »روحًا« على المياه، بدأت المياه تتناقص(29). كلّ هذا يُفهمنا أنّ إضافة 1: 2ب لا تعود إلى الكهنوتيّ، بل إلى المدوِّن الأخير للبنتاتوكس كلّه.

ج- النور (1: 3-5)

إنّ الباعث على الفصل في بداية آ4ب (وفصل الله بين النور والظلام) لا يتوافق إلاّ بصعوبة مع آ3 (وقال الله: ليكن نور): النور هو هنا. ولا شيء يوحي بأنّه ممزوج بالظلمة (آ2أ). لا شكّ في أنّ ما ألهم هذا الباعث هو آ6 (يفصل بين مياه ومياه)، حيث الأمر طبيعيّ بل تقليديّ. نتذكّر أنّ الكهنوتيّ يهمّه موضوعُ الفصل، فيُدخله في كلامه عن الكواكب (آ14، 18 مع عبارة تكاد أن تكون هي هي: تفصل، تفصل)، وعن عبور البحر (خر 18) وعبور الأردنّ (يش 3-4). وتلي عبارةَ الموافقة حالاً، حساباتُ الأيّام (آ12-13، 18-19، 31)(30).

إنّ آ5أ، شأنها شأن آ4ب، تفصل عبارة الموافقة عن حساب الأيّام، ويجب أن تكون تدوينيّة. وإعطاء الاسم يرتدي أهميّة كبيرة في فكر الكهنوتيّ، كما تشهد على ذلك نصوصٌ مثل تك 17: 5 (لا تُسمّى أبرام)؛ 35: 10 (لا يُدعى اسمُك بعدُ)؛ خر 6 3 (اسمي يهوه). إنّ تطبيق الموضوع في نشيد الخلق هذا، قد يكون ألهمه تك 2: 19-20 (مع فعل »ق ر ا«، دعا، نادى) حيث الإنسان يعطي الحيوانات أسماءها.

د- الجلد (1: 6-8)

لا تبدو آ7أ في موضعها الطبيعيّ، لأنّها تفصل الأمر الإلهيّ (آ6: وقال الله) عن عبارة »وكان كذلك« (آ7ب). وهذا ما يخالف الاستعمال العاديّ (آ3، 9، 11، 14-15، 24). هي تشبه آ4ب فتدخل فكرة الخلق بالعمل، وتستعيد فعل »ب د ل«، فصل. ونجد في آ8أ موضوع إعطاء الاسم، كما في آ5أ. قد تعود هذه الجملة إلى المدوِّن نفسه.

ه- اليابسة (1: 9-10)

في آ9أ، تحدّث الراوي عن مياه دُعيَت لكي تجتمع في كومة واحدة، وحدّد موضعَها: »تحت السماء« (م ت ح ت. هـ. ش م ي م). هذا يقابل آ7أ الذي قدّم التعارض بين ما هو »فوق« (م ع ل) وما هو »تحت« (م ت ح ت) الجلد. مثل هذا التشديد حول توزيع بين فوق وتحت، نجده أيضًا في نصوص بعدمنفاويّة (مز 8؛ 148) في معنى كهنوتيّ يشدّد على التراتبيّة. وإذا جعلنا خارجًا آ9 وعبارة »محا الاسم (الذِكر) من تحت السماء« (خر 17: 14: تث 7: 24؛ 9: 14؛ 25: 19: 29: 19؛ 2مل 14: 27)، فعبارة »م ت ح ت. هـ. ش م ي م« لا تظهر إلاّ في تك6: 17 الذي هو نصّ كهنوتيّ. ونلاحظ أيضًا أنّ الاسم »ش م ي م« ما ورد حتّى الآن في النصّ القديم، بل فقط في إضافتين اثنتين من التقليد الكهنوتيّ (آ1، 8أ). وتستعيد آ10أ موضوع إعطاء الاسم، كما في آ5أ، 8أ. منطقيٌّا، تنتمي هذه الجملُ إلى الكهنوتيّ.

و- النبات (1: 11-13)

في آ11، لفظ »ل م ي ن و« (لجنسه) يبلبل الخطّ العاديّ للجملة. نستطيع أن نترجم النصّ العبريّ ترجمة حرفيّة: »شجر ثمرٍ صانع ثمرٍ لجنسِه الذي زرعُه فيه«. فلفظ »ل م ي ن و« يفصل الموصول ممّا يتّصل به بحيث يتّخذ شكل إضافة. وعبارة »ع ل. هـ. ا ر ص« (على الأرض) تثقّل الجملة ولا تتجاوب مع أيّ ضرورة، لأنّ بداية الآية تتحدّث عن الأرض التي تُنبت نباتًا. وهكذا نجد نفوسنا أيضًا أمام إضافة من الكهنوتيّ.

ونجد تقريبًا في آ12أ جميع العناصر التي نجد في آ11أ، بما فيها لفظ »لجنسه« الذي يرد مرّتين. في الحقيقة، يدلّ المثَل في آ9 أنّ التنفيذ الصريح للأمر المُعطى للأرض ليس ضروريٌّا للخبر فقد حوّل المدوِّن تحويلاً طفيفًا تعبير آ11. فبدل »د ش ا« (جعله ينبت) استعمل »ي ص ا« أخرج. واستلهم آ24. ربّما يدلّ هذا التحويل على نيّة المدوِّن بأن يعرض ترتيبًا واضحًا للنبات في ثلاث فئات، كما بالنسبة إلى الكواكب (آ14-18): الأعياد والأيّام والسنين (آ14)، أنواع الكواكب (آ16)، الحيوانات اللاأرضيّة (آ21) والأرضيّة (آ25). فبداية آ11 (لتنبت الأرض نباتًا) الموازية لما في آ20أ (لتفض المياه)، تُفهَم على أنّها تضمّ كلّ النباتات التي توزّعت في فئتين: الأعشاب والأشجار.

ز- حيوان البحر والجوّ (1: 20-23)

وتبدو آ21أ هي أيضًا تدوينيّة. فالفعل المستعمل للكلام عن عمل الله هو »خلق« (ب ر ا. رج آ1). ونجد أيضًا في الجملة كما في آ12أ، 14-18 توزيعًا في ثلاث فئات، ساعة تحدّثت آ20 فقط عن الأسماك والطيور. وذكرُ »الحيتان الضخمة« التي أضيفت (لا نجدها في آ26)، قد يدلّ على اهتمام لمحاربة الأصنام، قريب من ذكر »النيّرات« في آ14-16. ونلاحظ أيضًا استعمال »لجنسه« (ل م ي ن و) مرّتين(31).

وموضوع البركة (آ22) المرتبط بالخصب، سيعود في الكلام على الإنسان، في آ28أ. وسوف نرى أنّه تدوينيّ أيضًا. كما هو الأمر في 2: 3 والكلام عن السبت. لا وظيفة له في خبر الخلق، إن كان معزولاً. ولكنّه يتّخذ كامل معناه في المؤلَّف الكهنوتيّ الذي يهتمّ اهتمامًا كبيرًا بموضوع تكاثر الحيوان (8: 17) والإنسان (5: 1-32؛ 9: 17؛ 10: 1-32؛ 11: 26) وأبناء إبراهيم (17: 2، 4-6، 16، 20) وإسحق (28: 3) ويعقوب (35: 11؛ 48: 4؛ خر 1: 7). في نصوص عديدة، يجتمع هذا الموضوع مع موضوع البركة (5: 2؛ 9: 1؛ 17: 16، 20؛ 28: 3-4؛ 35: 9؛ 48: 3). فالله يمنح عطيّة الحياة الوافرة لجميع الكائنات الحيّة، وأوّلها شعب الموعد. والتاريخ الكهنوتيّ هو قبل كلّ شيء، تاريخ بركة.

ح- حيوان الأرض (1: 24-25)

في آ24 لفظ »لجنسه« الذي يرد مرّتين، أضيف كما في آ11، 12أ، 21أ، 25. استعادت آ25أ عناصر من آ24 وأبرزت القسمة المثلّثة بثلاثة استعمالات للعبارة »بحسب صنفه«. في النصّ القديم، كانت العبارة »ورأى الله أنّ ذلك حسن«، تأتي طبيعيًا بعد العبارة »وكان هكذا« (1: 9، 10-12؛ رج آ3-4، 7).

ط- الإنسان (1: 26-31)

اعتبر عددٌ من الشرّاح أنّ »ك د م و ت ن و« (كشبهنا، كمثالنا، آ26) تحديدٌ أضافَهُ الكهنوتيّ على »كصورتنا« الذي نقرأه في النصّ القديم(32). هذا ما نعود إليه. وتتضمّن آ26 صعوبة ثانية. ففي لائحة الحيوانات التي يجب على الإنسان أن يسودها، نقرأ: »و ب ك ل. هـ . ا ر ص« (وبكلّ الأرض). ساعة انتظرنا، تطابقًا مع آ24، 25: »و ك ل. ح ي ت. هـ. ا ر ص« (وكلّ حيوانات الأرض)، أي الوحوش. إن غياب لفظ »ح ي ت«، الحيّ، يفسَّر بشكلين اثنين: قد يكون خطأ في النقل. أو أراد المدوِّنُ ذلك. في آ28 (نصّ كهنوتيّ كما سوف نقول) يُدعى الإنسان لكي يملأ الأرض ويُخضعها. وهكذا يُبرز المدوِّن أنّ السيادة لدى البشر، لا تتوقّف فقط عند عالم الحيوان، بل تصل إلى »الأرض«.

استعادت آ27 مادّةَ آ26أ، وأدخلت ثلاثَ مرّات فعل »ب ر ا« (خلق). وميّزت الذكر عن الأنثى(33). هذا الموضوع الأخير يدلّ على التقليد الكهنوتيّ. ويستلهم 12: 18-23، وهذا يعني أنه أراد أن يُقيم رباطًا بين الخبر القديم الذي كان مستقلاٌّ، والمجموعة التي تبدأ في تك 2. وألحَّ الكاتب على موضوع الصورة، وعلى الطابع الرنّان في الآية، ساعة كلّ تك1 هو نثر.

كما في آ22، نجد في آ28أ موضوع المباركة الكهنوتيّ. أمّا آ28ب فقد يكون متأخّرًا. فهو يستعيد بشكل حرفيّ تقريبًا ما في آ26، مع تمييز مثلَّث يوزّع الحيوان بين البحر والسماء والأرض. وهكذا انضمّ موضوع السيادة على الحيوان مع إخضاع كلّ الأرض. هذا الموضوع الذي يترافق كما الأمر هنا، مع فعل »ك ب ش« (تسلّط، ساوم، نقرأه في نصوص قبل كهنوتيّة (عد 32: 22، 29؛ يش 18: 21؛ 1أخ 22: 18) في كلام عن إخضاع شعوب أرض الموعد. ونستطيع أن نفهم بسهولة صدى مثل هذا الموضوع في سياق الحقبة الفارسيّة، ساعة يُفرض على جماعة أورشليم أن تواجه شعوبًا معادية تحيط بها. في هذا الإطار »ا د م« لم يعد بعدُ الإنسان بشكل عامّ، بل الإنسان الذي يستحقّ هذا الاسم، أي الأمين للشريعة تجاه أصحاب العنف الذين يمثّلهم الوحوش. واستعارة »الحيوان« تدلّ على أكثر من نصّ، على البشريّة الغاشمة التي تسيء إلى البريء(34).

إن انتماء آ29 إلى الخبر القبل كهنوتيّ، قد يُبرز برهانًا مفيدًا: فكما أنّ الإنسان يسود الحيوان (آ26) فهو ينال طعامًا النبات الذي تحدّثت عنه آ11. ففي آ29 كما في آ11، توزّع النبات في فئتين. ومن المعقول جدٌّا أنّ موضوع الطعام المعطى للإنسان، قد يكون أدخله التقليد الكهنوتيّ، قياسًا مع 2: 16. ففي النصّ التقليديّ، العبارة »فكان هكذا« (آ30ب. أمّا آ30أ فهي تدوينيّة) تتبع الترتيب الأوّل في كلّ بيت شعريّ، وترتبط بصعوبة، بعطيّة الأرض. ثمّ، نحن لا نرى وظيفة هذه الآية إلاّ في خطّ 9: 3 (نصّ كهنوتيّ): بعد الطوفان، اللاعنف الأصليّ الذي رمز إليه عالم النبات، حلّ محلّه إذنٌ للإنسان بأن يأكل اللحم.

فجاءت آ30أ تدوينيّة، مع عودة إلى الحيوانات. مرّة أخرى تتوزّع في ثلاث فئات، ساعة اخضرار النبات يشكّل فئة ثالثة، كما في آ12أ.

ي- اليوم السابع (2: 1-3)

لا تنتمي الآية 2: 1 إلى الخبر الأوّليّ، بسبب طابعها الثاني(35). ليست وظيفتها بأن تبدأ آ2-3، لأنّها تكرّرهما، بل ترتبط بما في ف 1، وبالتالي باليوم السادس، وإن وُجدت عبارة: »وكان مساء...«. وقيل : جُعلت هذه الآية لكي تشدّد على أنّ الخلق انتهى قبل السبت. وهذا ما يجعلنا في التقليد الكهنوتيّ.

3- نظرة سريعة إلى التاريخ الأدبيّ

لا نستطيع أن نعرض هنا، مع التفاصيل اللازمة، ما يتضمّنه التحليل الأدبيّ السابق. ومع ذلك، نقدّم رسمة سريعة لخبر تك 1 كما نستطيع اليوم أن نُعيد تكوينه. فنميّز ثلاث مراحل: الخبر الأوّليّ. التدوين الكهنوتيّ، التدوين الأخير، البَعدكهنوتيّ.

أ- الخبر الأوّليّ

نعرض هنا فرضيّة معقولة حول الوضع السابق للخبر الكهنوتيّ. هي رسمة سرديّة، لا نصّ، بكلّ معنى الكلمة. هذا ما يمكن أن يكونه:

1: 2 كانت الأرض خالية خاوية وظلام (كأنّه اسم علم) يغطّي »ت هـ و م«          (الغمر)

3     قال الله: »ليكن نور«! ونور كان

4     ورأى الله أنّ النور حسن

5     وكان مساء وكان صباح: يوم أوّل

6     وقال الله: »ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلاً بين مياه لمياه«

7     وكان كذلك

]ورأى الله أنّ ذلك حسن[(36)

8     وكان مساء وكان صباح: يوم ثانٍ

9     وقال الله: »لتجتمع المياه ]التي تحت السماء[ إلى موضع واحد ولتظهر        اليابسة!«

10    ورأى الله أنّ ذلك حسن

]وكان مساء وكان صباح: يوم ثالث[

11    وقال الله: »لتنبت الأرض نباتًا: عشبًا يبزر بزرًا وشجرًا مثمرًا يحمل ثمرًا    بزره فيه!«

12    ورأى الله أنّ ذلك حسن

13    وكان مساء وكان صباح: يوم ]رابع[

20    وقال الله: »لتفض المياه خلائق حيّة وليطِرْ طيرٌ فوق الأرض على وجه           السماء!«

فكان كذلك

21    ورأى الله أنّ ذلك حسن

23    وكان مساء وكان صباح، يوم خامس

24    وقال الله: »لتُخرج الأرض خلائق حيّة: بهائم ودوابّ ووحوش!«

فكان كذلك

25    ورأى الله أنّ ذلك حسن.

31    ]وكان مساء وكان صباح: يوم سادس[

26    وقال الله: »لنصنع الإنسان على صورتنا، وليتسلّط على سمك البحر           وطير السماء والبهائم والدوابّ التي تدبّ على الأرض!«

فكان كذلك

31    ورأى الله كلّ ما صنعه فإذا هو حسن جدٌّا.

2: 1 وأكمل الله في اليوم السابع العمل الذي صنعه.

في هذه المرحلة الأولى، كانت لنا رسمة في سبعة أيّام مع موضوع الخلق بالكلمة(37) لا يمكننا أن نحدّث أكثر من ذلك أصل هذا الخبر، الذي هو سابق للمنفى(38). ولكن مهما يكن من قِدَمه، فبُعدُه اللاهوتيّ غنيّ جدٌّا. ونحن نكتشف فيه صدى للصراع البيئيّ بين النور الإلهيّ والشواش المعتّم والعنيف، وموضوع »الفصل« الذي يرتبط به. ونلاحظ بشكل خاصّ البعد الذي يركّز على الإنسان في الخبر: بعد تحديد موقع الأطر الكونيّة (الأيّام الثلاثة الأولى)، دعا الله إلى الحياة، النبات والحيوان (الأيّام الثلاثة التالية) اللذين يخضعان للإنسان(39) الذي هو ذروة الخلائق كلّها (اليوم السابع). صنع الإنسان بعد تشاورٍ ليكون صورة الله: يسود باسمه على كلّ كائن حيّ، فكان تتمّة عمل الخلق ومرماه ورأس كلّ تراتبيّة. وبعبارة أخرى، يبقى السؤال المركزيّ (كما في تك 2) سؤالاً عن هويّة الإنسان، لا عن بنية الكون في حدّ ذاته. ما هو حسن، ما هو حسن جدٌّا، هو هذا النظام الكونيّ الذي يتيح للإنسان أن يعيش وأن يمارس سيادته على أنّه صورة الله.

ب- التدوين الكهنوتيّ

حوّل المدوِّن الكهنوتيّ في العمق الخبرَ التقليديّ بحيث أعطى مولَّفًا جديدًا يبدو فيه طابعُه الخاصّ واضحًا. فإذا جعلنا جانبًا الاستثناءات الثلاثة في آ2ب، »ك د م و ت ن و« (كشبهنا، آ26)، وفي آ28ب (مع اللفظ الأخير في آ28، على الأرض)، ننسب إليه مجمل النصّ. فالكهنوتيّ بلبل الترتيب الكامل للخبر القديم (سبعة أعمال في سبعة أيّام) فأعطى الأيّام الأوّل والرابع والسابع وضعًا خاصٌّا كإطار. في رأس النصّ، تدشّنَ تناوبُ الزمن (نهار، ليل). في الوسط، خلقُ الكواكب مع تنظيم الأعياد. وفي النهاية، اليوم المقدّس، السبت. وللوصول إلى هذه النتيجة، وجب إبعاد خلق النبات إلى نهاية اليوم الثالث، وخلق الإنسان إلى نهاية اليوم السادس.

لا يمكن أن نشرح هذا التحوّل بدون باعث هامّ: تأسيس السبت الأسبوعيّ، الذي يعود بلا شكّ إلى الحقبة البابليّة(40)، لعب في هذا المضمار دورًا حاسمًا: لم يعد من الممكن بعد ذلك الوقت أن نتكلّم عن اليوم السابع دون التفكير في السبت. بل إنّ تحويل الخبر يتوافق مع اهتمام الكهنوتيّ بالليتورجيّا (الأعياد) وبتجديد أزمنة التاريخ الذي أخذ انطلاقته من هنا. وترافقت إعادة كتابة النصّ مع وضعه الجديد في انفتاح على عمل أدبيّ واسع، وانطبع بطابع التقليد الكهنوتيّ. وهذا ما نتحقّق منه مع موضوع البركة، وعطيّة الحياة الوافرة. وكلّ هذا يجد امتداده في أنساب التقليد الكهنوتيّ في ف 5، 11 مع ف 10 حيث امتزج الكهنوتيّ مع موادّ جاءت من موادّ قديمة.

ونظنّ أنّ الكهنوتيّ ليس وثيقة مستقلّة، بل إعادة كتابة نصّ قديم في البنتاتوكُس في طريق تكوينه. هذه الفرضيّة التي يدافع عنها شرّاح عديدون(41)، تجد في تك 1 ما يُثبِّتها. فالعناصر العديدة التي أدخلها الكهنوتيّ إلى تك 1 تُشرَح برباط جعله الكاتب مع ف 2-3: إعطاء الاسم للنور، للظلمة، للجلد، لتجمّع المياه. كلّ هذا استلهم تسمية الأسماء في 2: 20 (مع الفعل عينه: و ي ق ر ا. ودعا، في آ5، 8، 10). ونهاية آ27 (ذكرًا وأنثى خلقهما) يُفسَّر بواسطة 2: 18-25. وعطيّة البركة (آ29-30) تستبق لتعارض اللعنة في 3: 14-17(42). فيبدو أنّ تك 1 دُوِّن بالنظر إلى الفصول اللاحقة، مع نقل النشاطات المنسوبة إلى الإنسان في النصوص القديمة، إلى الله الخالق: فهو الذي يسمّي، وهو الذي يعمل، ساعة الإنسان يسمّي الحيوان في 2: 20 ويعمل في الأرض في 3: 17-18.

هذا الاعتبار الأخير يقود إلى »إبعاد الإنسان« (بحيث يعمل الله كلّ شيء. في خر 14: 14: الربّ يحارب عنكم وأنتم لا تحرّكون ساكنًا). فالنتيجة الواضحة في إعادة كتابة النصّ، تبديل محلّ قمّة الخبر: لم يَعد الإنسان نهاية عمل الخلق، بل راحة الله. لا شكّ في أنّ الإنسان يحتفظ بمكانة سامية، وسلطانُه على الحيوان تثبَت (إضافة آ28)، ولكنّ الكواكب هي التي تُشرف على النهار والليل (آ16) فتُفلت من قبضة الإنسان. منذ الآن لا يحتلّ خلقُ الإنسان مساحة يوم كامل، ولا زمنًا قويٌّا في الخبر، بل يشارك مع حيوان الأرض في اليوم السادس، بانتظار يوم السبت الحاسم والمقدّس(43). ولم يعد النظام الكونيّ موجَّهًا كلّه نحو الإنسان، ولكن له قوامه الخاصّ وفيه يجد الإنسان مكانه. في هذا النظام الكونيّ، التعارض بين »فوق« و»تحت« اتّخذ قيمته (آ7). ارتبط الله بالأعالي، بالسماء، والإنسان بالأسافل، بالأرض.

وما اكتفى الكهنوتيّ بأن يحوّل إيقاع الأعمال والأيّام: لم يعد عدد أقوال الله سبعة، بل عشرة (وقال الله)(44). وخبر الخلق صار دكالوغ (عشر كلمات، عشر وصايا) ضمنيّ مع تلميحات إلى فرائض عباديّة (آ15) وشرائع طعاميّة (آ29) ولا سيّما شريعة السبت (2: 2-3). فنظام الخلق هو نظام الشريعة(45). ونستشفّ أيضًا الهيكل مع النيّرَين (سراجين في الهيكل ومع الأعياد). كما نستشفّ شعبًا يفتخر بممارسة السبت. وفي النهاية، نقرأ تاريخ الخلاص في مقابلة تك 1 مع خر 14 ويش 3-4. أجل، كُتب تك 1 بالنظر إلى البنتاتوكس كلّه (بل أكثر)، فكان له البابَ والمدخل.

ج- التدوين الأخير (البَعدكهنوتيّ)

ما حوَّل المدوِّن الأخير بشكل هامّ، النصَّ الذي ورثه من الكهنوتيّ. فقد يكون اكتفى بثلاث لمسات أو أربع لها مدلولها. جعل »روح الله« قبل أولى كلمات الله (وقال الله) في علاقة مع الشواش (توه وبوه) في آ2ب. هذا ما يشير إلى تقابل حين خلْقِ الكون(46) وبناء المعبد في البرّيّة. وهكذا يكون الكون هيكلاً واسعًا. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، الالتباس في آ26 حيث عبارة »نصنع آدم بصورتنا«: »ب ص ل م ن و« قريب من »ص ل م« (صنم في العربيّة). هل صار الإنسان »صنم« الله، كسائر الأصنام في الطبيعة، المشابهة للحيوان كما في مصر مثلاً؟ لهذا أضيف»د م و ت ن و« شبهنا، مثالنا. وإذ استعاد الكاتب محوّلاً آ26ب إلى 28 ب (مع »أخضعوها« في آ28ب)، وأدخل »كلّ الأرض« في آ26، بدا وكأنّه يماهي بين سيادة الإنسان على الحيوان، مع المؤمن العائش في أورشليم ويحيط به الأعداء. ولكنّ كلّ هذا لا يمسّ سوى الهامش في النصّ الكهنوتيّ.

الخاتمة

في تك 1 نفهم عبقريّة الكهنوتيّ اللاهوتيّة والسرديّة، فنكتشف بصماته العميقة التي تركها. إذا كان التحليل الذي قمنا به صحيحًا، يبقى أن هذه التحفة (الكون) لم تكن خلقًا من العدم، من لا شيء. فموضوع الخلق بالقول الإلهيّ ينتمي إلى النصّ القديم، الذي عرض في سبعة أيّام أعمال الله الكبرى السبعة. مع قمّة في خلق الإنسان الذي هو صورة الله. فسَّر الكهنوتيّ هذا المُعطى فجعله مقدّمة جدرانيّة واسعة تشمل البنتاتوكُس كلَّه. وفي الوقت عينه، صحّحه بالنظر إلى تك 2-3 واهتماماته الليتورجيّة، وبالنظر إلى لاهوت تغلب فيه الوجهة العموديّة (الله، الإنسان. السماء، الأرض)، لم يعد الإنسان ذروة الخلق وسلطانه على الحيوان، بل راحة الله التي هي النموذج الأوّل للسبت. وجاء المدوِّن الأخير فأعاد قراءة النصّ الكهنوتيّ (سواء كان شفهيٌّا أو خطّيٌّا)، وأشار إلى حضور سرّي »لروح الله« قبل بدء الخلق، فماهى الإنسان المخلوق في آ26 مع البارّ، المؤمن، الذي يمارس الشريعة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM