الفصل السابع عشر: أسرار التنشئة في الكنيسة البولسيّة

الفصل السابع عشر

أسرار التنشئة في الكنيسة البولسيّة

حين نتحدّث عن أسرار التنشئة، نتذكّر الأسرار الثلاثة الأولى، التي تحدّد الهوية المسيحية: المعموديّة، التثبيت والافخارســتيّا(1). عرف الآبــاء »التنشــئة« منذ القــرن الثــاني، كما كانت تمارَس في العالم الوثنيّ، ولكنّهم انتظروا القرن الرابع الذي هو »العصر الذهبيّ« بالنسبة إلى هذه الممارسة لكي ينظّموا ليتورجيا نموذجيّة تحمل رمزيّة غنية، عميقــة. وامتــدّت هذه »التنشئـة« طــوال أربعــين يوماً، هي أيام الصيام المبارك. عندئذ يتســـجّل »الموعوظون«(2) مــــن أجــل المعموديّة، لأن »المعموديّة هي الاسم الأصلي للتنشئة«(3). هــــــم أيضـــــاً: المختارون(4). و»الطالبون«(5). عن هذه التنشئة تحدّث كيرلس الأورشليميّ(6)، وتيودور، أسقف المصيصة(7)، ويوحنا الذهبيّ الفم(8)، وامبرواز أسقف ميلانو(9)، وأوغســـطـين، أسقف هـيبونة (= عنـــابة الحالية)(10) وسويريوس الانطـــاكي(11). هكذا نتعرّف على التنشئة في كنائس أورشليم وسورية والقسطنطينية وميلانو وقرطاجة وانطاكية... فأين هو الينبوع الذي استقى منه آباء الكنيسة لكي »يدرّجوا« طالبي العماد خلال الصوم الأربعيني؟ في ما قاله بولس الرسول إلى جماعة كورنتوس سنة 57. نبدأ فنقدّم نصاً نتأمّل فيه وندرسه قبل أن نستخلص مسيرة »الموعوظين« كما عرفـتها الكنائس البولسيّة.

1 - نتعلّم من الكتب المقدّسة

في إطار الكلام عن الأوثان (ف 8 - 10)، راح الرسول في استطراد بلفت انتباه المؤمنين فيدعوهم »أيها الاخوة«(12). ويعيدهم إلى خبرة الشعب العبراني في البرية. وها نحن نقدّم النصّ (10: 1-13) كما في ترجمة بين السطور(13).

1 فلا أريدكم أن تجهلوا، أيها الإخوة، أن آباءنا كلّهم تحت السحابة كانوا وكلّهم في البحر عبروا.

2 وكلُّهم لموسى عُمّدوا في السحابة وفي البحر

3 وكلُّهم أكلوا الطعام الروحي نفسه

4 وكلُّهم شربوا الشراب الروحي نفسه، لأنهم كانوا يشربون من مرافقة صخرة (= من صخرة ترافقهم)، والصخرةُ كانت (= هي) المسيح

5 لكن ما رضي الله بأكثرهم فصُرعوا (سقطوا أمواتاً) في البريّة

6   وهذه أمثلةًτυποι صارت لنا، لئلاّ نكون نحن مشتهين شروراً كما أولئك أيضاً اشتهوا

7 ولئلاّ تصيروا عبّاد أوثان، كما بعضٌ منهم، كما كُتب: جلس الشعب ليأكل وليشرب، وقاموا ليلعبوا

8 ولا نزنِ كما بعضٌ منهم زنوا، وسقطوا في يوم واحد ثلاثةٌ وعشرون ألفاً

9 ولا نجرّب المسيح كما بعضٌ منهم جرّبوا، وبالحيّات كانوا يهلكون

10 ولا تتذمّروا كما بعض منهم تذمّروا، وهلكوا من (قِبَل) ملاك الموت

11   وهذه كمثالτυπικως كــانت تحــدث، لأولئك وكتبت لإنذارنا  νουεσιαν، الذين إليهم نهاياتُ الدهور انتهت

12 إذاً، من يظنّ أنه يقوم (قائم، واقف) لينظر (= ليحذر) لئلاّ يسقط

13 تجربتكم ما أصابت إلاّ (حالة) بشريّة، وأمينٌ (هو) الله الذي لن يدَعَكم أن تجرَّبوا فوق ما تقدرون، لكن سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ  لتستطيعوا أن تحتملوا.

كيف بدا هذا التوسّع فوصل إليه بولس تاركاً ما يتعلّق بعبادة الأوثان؟  بواسطة الصفة »مرذولاً« كما نقرأها في 9:9(14). ظنّ الأقوياء في الجماعة أنهم ثابتون ولا شيء يزعزهم، فردّ عليهم الرسول: يمكن أن تُرذَلوا كما رُذل أبناءُ الشعب الأول. ها هنا أخطار التكبّر والاعتداد بالذات.

فلا أريدكم أن تجهلوا (آ 1). نحن هنا أمــــام نَفيين، الأول ''لا'' ου والــــثـــان   α في بـــداية الفعــــــل  α-γνοειν: أن لا تعرفوا. هناك طريقتان للكلام: إمّا الطريقة الايجـــابيّة: أريدكـــم أن تعرفــوا  γνοειν. وإمّــا النفيان كمــا هو الأمر هنا. رج 10: 1. ويبدو أن استعمال الصيغة الايجابية يفترض أن المعلومة التي تُعطى هي معروفة(15). واستعمال النفيان يعني أن المعلومة جديدة(16).

آباءنا. هم أفراد الشعب الاول. فمع أن الجماعة تألّفت من مسيحيين آتين من العالم الوثنيّ، فبولس يتوجّه إليهم وكأنّهم ارتبطوا بالعهد، شأنهم شأن بني اسرائيل (1: 2؛ 5: 13؛ 12: 2). هي المرة الوحيدة يعود فيها بولس إلى الخروج ويذكر الشعب الأول على أنه آباء πατερες الكورنثيين. أما في 2 كو 3 - 4 فيقاسم الكورنثيون بعض الخير في مسيرة الخروج. هذا يعني أن هذه الخبرة معروفة، شاملة، لهذا جاء اللفظ »كلّهم« παντες مرّتين في هذه الآية. ثم يرد أكثر من مرّة. كل هذا سوف يوجّهنا إلى الإرشاد اللاحق: »فليحذر السقوط« (10: 12).

عُمّدوا. الــفعل في المجهول (17) εβαπτισθησαν . الله عمّد شعبــــه حين »غطس، غرق، عبـــر«  διηλθον في البحر الأحمر. ولكن جاء من صحّح الفعل بحيث يزول اللبس بين »عماد في موسى« و»عماد في المـسيح«. فاستعملـوا (18) εβαπτζαντο . ظنّ بعضهم أنه وُجد »عماد« في العالم اليهودي المتأخّر على مثال العالم المسيحي. ولكن لا شيء أكيداً في هذا المجال. أما الرسول فلا يقابل بين »عماد« و»عماد«. بل بين »خبرة بني اسرائيل« و»خبرة الكورنثيين« ليستخلص الموقف الواجب اتخاذه(19).

الـــــروحـــي (آ 4)   πνευματικον. المعنى الروحي هو الذي يقرأه المسيحيون، وهذا ما يعارض النظرة اليهودية. وهو أمرٌ واضح نجده في الانجيل الرابع: عرض يسوع الماء على السامرية، فحَسبَتْ أنه يستطيع أن يعمل عنها ويملأ لها الجرّة. ولكن يسوع تكلّم عن ماءٍ آخر يتفجّر في المؤمن حياة أبدية. وشبع اليهود من خمسة أرغفة وسمكتين. ورجعوا إلى الوراء، إلى خبرتهم مع موسى. أما يسوع فقال لهم: »خبز الله هو الذي ينزل من السماء ويعطي العالم الحياة« (يو 6: 23). والولادة الثانية لدى نيقوديمس صارت دخولاً جديداً في بطن أمه »ليُولَد« (يو 3: 4).

المعنى المادي يدلّ على المنّ. المعنى الروحي يوجّهنا نحو معنى آخر. وكذا نقول عن الماء الذي تفجَّر من الصخرة، فرافق الشعب العبرانيّ حتى الوصول إلى أرض الميعاد. هل صار الصخر »صهريجًا« يختزن الماء ويسير مع السائرين في البرية؟ أما بولس فيرى هنا شخص المسيح الذي يرافق المؤمنين »الجائعين والعطــاش إلى البــر« (مت 5: 9).  πνευματικος هــو لــفــظ بولسي بامتياز. فإذا وضعنا جانباً 1 بط 2: 5 ورؤ 11: 8، فهو لا يرد إلاّ في الرسائل البولسيّة، وفي 1 كو وحدها، خمس عشرة مرة. نحن أمام عمل الروح في قدرة الله الخالقة والخلاصية. فالمسافة بعيدة بين طعام التقطه بنو اسرائيل وطعام أغدقه الله عليهم.

كـل مــــا حصـــل هو مـثال (آ 6)  τυπος، نـمـوذج، يجمع السمـات الرئيسيّة. فكأننا نرى هنا ما سوف يتمّ مع يـسوع الـمسيـح. أمّــا الظــــرف τυπικως فلا يرد في العهد الجديد إلاّ هنا، في 1 كو 10:11. وهكذا نكون أمام تضمين بين آ 6 وآ 11، ممّا يدلّ على وحدة أدبيّة. استعمل الآباء الرسوليون لفظ »مثال« ليدلّوا على صورة مسبقة لتاريخ الخلاص في يسوع المسيح. نذكر هنا يوستين في الحوار مع تريفون: »وكذلك الاثنا عشر جرساً التي كانت تُعلَّق تقليدياً على ثوب رئيس الكهنة الطويل، كانت ترمز إلى الاثني عشر رسولاً المنتمين إلى قدرة المسيح الكاهن الأبديّ«(20).

ولا نجرّب المسيح (آ 9). غير أن هناك مخطوطــات قديمــة، مثل السينائي والفاتيكــاني والافــــرامي  والــــنــصّ المتسلَّم(21)، تقدّم عبارة بيبليّة نقرأها في تث 6: 16؛ رج خر 17: 7؛ »لا نجرّب الربّ«. ويقرأ الاسكندرانيّ ومخطوط آخر (81) يعود إلى القرن السادس: »لا نجرّب الله« أما يوحنا الذهبي الفم فقال مرة »المسيح« ومرّة »الربّ«. وبما أن مع المسيح هي القراءة الأصعب(22)، أَخذت بها النسخة الشبه رسميّة(23). ظنَّ البعض أن التصحيح جــــاء في خطّ مسحنـــة الكتـــابات اليهوديّة. ذاك كان موقف بولس الشميشاطي، أسقف انطاكية في القرن الثالث. غير أن 10: 9 هي كافية لكي نقرأ هنا: »ولا نجرّب المسيح«. فالمسيح ليس مجرّد بشر، بل هو الله وابن الله، وبالتالي يعمل في الأزمنة البيبليّة.

كما بعض منهم جرّبوا. لا نجد هنا المفعول به. ولكن الرسول يعود إلى سفر العدد (21: 5 - 6) وإلى المزامير (78: 18): نقص الطعام والشراب، فتذمّر الشعب على الله وعلى موسى، وكان العقاب الحيّات السامّة.

كل هذا كُتب ليكون لنا »مثالاً« (آ 11). »هذه الأشياء حدثت لهم«. أضــافت بعض المخطوطــات »كــل« تارة قبل »لهم« وطوراً بعد: »حدثت لهم كلهم«. ولكن عدم ثبات »كل« يدلّ أنّناً أمام تصحيح للنصّ.

كُتبت لانذارنا νουθεσιαν (آ 11). هو لفظ لا يرد إلاّ في الكتابات البولسيّة (أف 6: 4؛ تي 3: 10). وهو يعني »التعليم«(24). وفي الوقت عينه التوبيخ والتأنيب (حك 16: 6)، ولا سيّما من قبل الوالدين، كما قال الرسول في 4:14  (ناصــحٌ νουθετων ) عـــرف العالم اليهودي الهلنستيّ توبيخ الله لشعبه، لا لكي يعاقبهم، بل ليردّهم إليه (فيلون، حياة موسى 1: 110). انطلق بولس من هذا الخبر لكي »يوبّخ« الكورنثيين. فعددٌ كبير منهم يعتبرون نفوسهم من العارفين ولا يحتاجون إلى من يُرشدهم (2: 6).

2 - شعب العهد القديم مثال لشعب العهد الجديد

يُشكّل هذا النص (10: 1 - 31) الذي نقرأ وحدة أدبيّة، نستطيع أن نقسمها قسمين كبيرين، مع تنبيه من التجربة التي أصابت الشعب الأول وتصيب الكورنثيين إن لم ينتبهوا إلى التجربة، هذا مع العلم أن الله لا يجرّبُنا فوق طاقتنا. في آ 1 - 5، كلّ شعب اسرائيل اختبروا عطايا الله الخلاصيّة. ومقابل هذا، بعضٌ منهم تمرّدوا على الله (آ 6 - 11). خمسة أمثلة إيجابيّة، وخمسة أمثلة سلبيّة، نافية. يبدو أننا هنا أمام عظة ألقاها بولس كما فعل مثلاً في  أنطاكية بسيدية حيث أنطلق من مصر والقضاة وصموئيل فوصل إلى داود وبالتالي إلى يسوع المسيح (أع 13: 16 - 52). أما في 1 كو، فلبث في سفر الخروج والعيش في البرية، وقدّم لائحة بأعمال الله الخلاصيّة، ثم لائحة بالخطايا تنتهي بتحذير للسامعين. مثل هذه البنية نجدها في نصوص الكتاب المقدس: في نشيد موسى (تث 32)؛ في مز 78. كما نجدها في الأدب اليهودي وفي العهد الجديد (الرسالة إلى العبرانيين)(25).

أما آ 1 - 5 فهي مدراش أو درس وتأمّل، يرتبط بالخروج والإقامة في البـريّة. أول هديّـة من لدن الله: السحابـة νεφελη. هنا نقرأ خر 13: 21:

وكان الرب يسير أمامهم نهاراً في عمود من سحاب

ليهديهم في الطريق

وليلاً في عمود من نار ليضيء لهم،

فواصلوا السير نهاراً وليلاً.

كيف يمكن أن يسير الشعب في النهار، وحرّ الشمس يلفحُهم؟ لهذا جعل الله لهم »مظلّة« ترافقهم. تلك هي حماية الرب في النهار، مع حماية مماثلة في الليل: نار تضيء. فالسحابة ترافق ظهور الله (خر 19: 9) الذي يقود شعبه بحيث لا يضلّ الطريق. ردّد مز 105: 39 هذه الخبرة:

بسط سحاباً ظلّلهم

وناراً أضاءت لهم في الليل(26)

والهدية الثانية: عبور البحر (خر 14:     21):

ومدّ موسى يده على البحر،

فأرسل الرب على البحر

ريحاً  شرقيّة عاصفة طول الليل

حتى أيبس ما بين مياهه فانشقّت المياه.

الخطر يلاحق العبرانيين بعد أن »شدّ فرعون مركبته وأخذ جيشه معه، واختار ست مئة مركبة من مركباته، وأخذ معها جميع مركبات مصر وعليها قادتها« (خر 14: 6-7). الموت من وراء موسى وشعبه. والموت أمامهم. فانفتح البحر ومضى الشعب كما على أرض يابسة. »وكان الماء لهم سوراً عن يمينهم وعن يسارهم« (آ 22). هي خبرة خلاص رائعة، أنشدها مز 66: 6

حوّل البحر إلى يبس

وبالأرجل عبر آباؤنا النهر.

ونقرأ مز 78: 13 - 14 الذي  يجمع البحر إلى السحاب:

شقّ البحر لهم ليعبروا،

ونصب المياه كتلٍّ مرتفع.

هداهم بالسحاب في النهار

وطولَ الليل بضوء النار.

هي حماية الله في السحاب، وقدرته في تحطيم أكبر جيش في ذلك الزمان. ووصل العبرانيون إلى البرية: ماذا يأكلون وهم عدد كبير(27)؟ فأرسل الرب لهم المنّ الذي هو منّة من الله وهديّة. نقرأ خر 16: 4:

فقال الرب لموسى:

»الآن أُمطر لكم خبزاً من السماء،

وعلى الشعب أن يخرجوا ليلتقطوه

طعام كلّ يوم بيومه«.

المنّ رافقهم في مسيرتهم حتى وصلوا إلى أرض البعاد. فنقرأ يش 5: 12:

ومنذ أن أكلوا من غلّة الأرض،

انقطع عنهم المنّ

فالـــرب يحــمي شــعــبه بشكل عجائبيّ، ساعة الشعب يحنّ إلى طعام مصر (خر 16: 3؛ عد 11: 4 - 6). وفي ما يعمل يُظهر مجده، كما نقرأ في مز 78: 23:

فأمر الغيوم من فوق

وفتح أبواب السماء

فأمطرت مناً ليأكلوا،

حنطة أعطاهم من السماء.

والهدية الرابعة: ماء يشربونه. نقرأ خر 17:

3   وعطش هناك بنو اسرائيل إلى الماء

5   فقال الرب لموسى:

»خذ بيدك عصاك

6   فتضرب الصخرة فيخرج منها ماء ليشرب منه الشعب«.

ونقرأ العبارة الايجابيّة الأخيرة: »تعمّدوا لموسى« أو: »في موسى«. أي: غطسوا في موسى لكي يتّحدوا به فيرافقوه في مسيرته عبر البرية(28).

خمسة أقوال إيجابيّة كان بإمكانها أن تجعل من مسيرة الشعب من مصر إلى أرض الميعاد تطوافاً مجيداً برفقة الله، فإذا هي تعطي النتيجة المعاكسة. جاءت الأداة αλλα : ولــكن، ومع ذلك. لم يكن كلُّ هذا للحياة، بل للموت: »صُرعوا κατεστροθησαν. صيغة المجهول للدلالة على عمل الله الذي لم يَرضَ عن شعبه. أو بالأحرى، رفض الشعب أن يُرضيَ الله فابتعد عنه كما في مثل الابن الضال (لو 15)، فكان له المــــوت لا الحـــيـــاة. إذاً، ليــحـذر الكورنــثــيــون: المــوت هنا ينتظرهم. والمثال الذي يسمعونه عن خبرة البرّيــة لا يقــودهم إلى معرفة نفوسهم وأنه يسقطــون كمـــا سقط »آباؤهم« في البريّة.

خـبـرة الشـعـب في البرية مَثَل τυπος للمؤمنين في كورنتوس. نالوا ما نالوا من مواهب فبدوا عاقّين، ناكري الجميل. هكذا بُني المدراش في التراث اليهودي وهو ينقسم قسمين: هاغادا وهلكه. أما الهاغادا فهي الخبر. والهلكة هي السلوك. بعد أن يسمع المؤمنون كلاماً عن أعمال الله، يُدعَون إلى تبديل حياتهم: إذا سمعتم صوته، فلا تُقسّوا قلوبكم. مع الهلكة تبدأ التوصيات مع النافية: لا. هم فعلوا. وأنتم لا تفعلوا. وهكذا نكون أمام خمس لاءات:

الأولى: لا نشتهي (آ 6)، لا نكون مشــتــهيـــن   επθυμητας. وهكذا لا نتشبَّه بالشعب العبراني. هنا يعود بولس إلى خبرة قبروت هتأوة. نقرأ عد 11:

وتأوّه الأوباش الذين فيما بين اسرائيل شهوة إلى اللحم،

فجاراهم الكثيرون من بني اسرائيل

وبكوا وقالوا: »من يطعمنا لحمًا«؟

الشهوة. في العبرية مع المفعول المطلق :                         : اشتهوا شهوة. هذا ما يدلّ على عمق الشهوة. ونقلت السبعيــنــيـــة النـــص العـــبري حــرفياً    επιθυμησαν  επιθυμιαν

33 وبينما اللحم بين أسنانهم قبل أن يمضغوه

اشتدّ غضب الرب على الشعب فضربهم ضربة عظيمة جداً.

أرسل الرب طيور السلوى طعاماً عجيباً، مثل المنّ. ولكنه تحوّل عقاباً على ثورة الشعب وتمرّده. وهكذا صار »اللحم« عطية ملتبسة: طعام عجيب للذين طلبوه بتواضع، عقاب أليم للذين طالبوا به في جوّ من العصيان والتذمّر(29). والتساؤل: كيف يتعامل الكورنثيون مع مواهب نالوها من الرب؟ لن تكون حالهم أفضل من حالة العبرانيين. قال بولس إلى مؤمني رومة الآتين من الوثنية: اليهود لم يؤمنوا فقُطعوا من الشجرة وأنتم طُعِّمتم مكانهم. فإذا لم تؤمنوا يكون مصيركم كمصيرهم.

اللاء الثانية: لا تصيروا عبّاد أوثان (آ 7)  ειδολολατραι. هـــنـــــا يـــعـود الموضوع إلى ما فعله العبرانيون حين كان موسى على الجبل. أتوا إلى هرون وقالوا: »قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا« (خر 32: 1). كيف يسمع هرون لمثل هذا القول؟ لهذا جاء في هامش الترجوم: »يُقرأ ولا يترجم«(30) لئلاّ يتشكّك السامعون. ومع ذلك، »نزع جميع الشعب حلق الذهب التي في آذان نسائهم وجاؤوا بها إلى هرون، فأخذها من أيديهم وأذابها وسكبها في صنم على صورة عجل« (آ 3 - 4). ورسم سفر الخروح ما عمل الشعب أمام هذا الصنم: »جلسوا يأكلون ويشربون، ثم قاموا يمرحون« (آ 6). ثلاثة أفعــــال: أكــــل   φαγειν،   شرب  πινειν ، لــــعـــب أو مــــرح παιζειν .                       : ضحك. تلك هي الأفعال الواردة في النص البولسيّ. هكذا كانت تئمّ العبادة أمام البعل، فجاء في بعض الترجمات: »جلسوا يأكلون طعام العيد، فانقلبت وليمتهم عربدة«. وأضاف الترجوم: »ثم نهضوا ليمرحوا بفلتان في عبادة الأصنام«.

أتُرى عاد الكورنثيون إلى عبادة الأوثان؟ الأمر معقول جداً. كان الفقــراء يشـترون اللـحم من ذبـــائح الأوثان، فمــا توقّفــوا. ثم هناك الأصحــاب الذين يُجبـــرون المؤمنين على المشاركة بالعيد في مناسبة من المناسبات. لهذا جاء كلام الرسول قاسياً: »لا تستطيعون أن تشربوا كأس الـرب وكــأس الشــيــاطـيـن، ولا أن تشتــركـــوا في مــائدة الرب ومــائدة الشياطين« (1 كو 10: 21). بعد أن أكل »الكورنثيون« المنّ وشربوا الماء من الصخرة، ها هم يفعلون الشيء عينه أمام »عمل« صنعه لهم »هرون«.

الـلاء الثـــالـــثــــة: لا نـــــــزنِ (آ 8) μηδε πορνευομεν . يشــــيـــر الرسول هنا إلى ما حصل في فاغور. قــــــال عـد 25: 1: ''وأخــذوا يزنــــون''                           بالأرض. هو الزنى حول المعبد، ويُدعى البغاء المكرّس، فيتّحد الملك مع إحدى الصبايا علامة على اتحــــاد السـماء بالأرض και ο ντωπηβεβεη λαος εκπορνευσαι زنى الشعب فكان العقاب كبيراً مع تضخيم في الأرقام! ثلاثة وعشرون ألفاً. سقطوا επεσραν. أما الزنى فهو أيضاً تطلّع إلى الأوثان وخيانة الرب، كما الشريك الزاني يخون شريكه. فالخطر خطران، وهو يهدّد الكورنثيين. لهذا جاء التحذير: »لا نزن«.

اللاء الرابعة: لا نجرّب (آ 9) μηδε επειραζωμεν .في البداية »جرّب« الشعبُ الرب: هل يقدر؟ هل هو معنا أم لا؟ نريد أن نرى الرب ماشياً أمامنا، على مثال الأصنام التي تُحمَل في مقدّمة التطواف. أما هنا فتُذكر »ضربةُ« الحيّات. نقرأ في عد 14: 2: ''ولام جميعُ بني اسرائيل موسى وهرون وقالوا لهما: »يا ليتنا متنا في أرض مصر... لماذا جاء الربّ بنا إلى هذه الأرض؟« (آ 3). بل عزموا أن ''يقيموا رئيساً عليهم'' (آ 4). وأسوأ من هذا، قالوا: »هيَّا نرجمهما بالحجارة« (آ 10). وفي عد 21: 5: ''تكلّموا على الله وعلى موسى''. حينئذ أتت ''حيات ناريّة''                   . هــذا مــــا يقابل في العربية ''ح ن ش'' (نوع من الحيات). رج في السريانية       . تــحــــدّث الـــيـــونــــانـــي عـــــــن الحــيّــاتτους οφεις، ولكنه لم يَدعُهـــا »الحـــارقــة«، بـــــل »القــاتلة« θανατουντας. هنا يُبرز الترجوم عقوق الشـعـب: »فـــي المــاضي لعـنـتُ الحـيّة...أخرجتُ شعبي من أرض مصر، أعطيتُ الحيةَ الترابَ مأكلاً، أما شعبي فأنزلتُ له المن من السماء... ولكنَّ شعبي عاد يتذمّر قدّامي على المن الذي هو طعام هزيل. إذاً، لتأتِ الحية التي لم تتذمّر على طعامها، ولتعضّ هذا الشعب الذي تذمّر على طعامه«(31).

واللاء الخامسة والأخيرة: »لا تتذمّروا« (آ 10) μηδε γογγυζετε . هذا ما نقرأ في الاسكندراني والفاتيكاني والأفرامي وغيرها مع عدد كبير من المخطوطات الجرارة والآبـــاء. ولكنّ الســـيـــنــائي والبازي واوريمجــان وأوغسطــيـــن  فتركوا صيغة الأمر مع المخاطب الجمع، وأخذوا بصيغة التمنيّ مع المتكلم الجمع: لا نجرّبْ. قد يكون »التمني« تأثّر بما في آ 9 (لا نزنِ). نلاحظ هنا أن اللاءتان الثانية (آ 7) والرابعة (آ 10) هما ارشادان متوازيان يتحدّثان عن جيل البرية كمثَل سلبيّ، وقد جاءت في صيغة الأمر μηδε γινεστε. ثم: لا تتذمّروا. أما اللاءات الثانية والثالثة (آ 9) فجاءتا في صيغة التمني: لا نزنِ، لا نجرّب.

تذمّر العبرانيون على موسى         . (عد 14: 2). في اليونانية:   δεγογγυζον استعمل بولس الفعل عينه مرتين  εγγογυσαν ثم  γογγυζετε»أنتم لا تتذمّروا كما هم تذمّروا، لئلاّ يأتي ملاك الموت ολοθρευτου . لا يرد هذا اللفظ إلاّ هنا في العهد الجديد كلّه، وهو يتألف من لفظين ολοος. (الهلاك) ثم (بكى، ندب). نشير إلى أن ملاك الموت يُذكَر في خر 12: 23  ολοθρευοντα على أنه ''المهلــــك''                 . الفعل هو        . في العربية: سحت: أفسد، أهلك.

3 - من الكتاب المقدس إلى الليتورجيا

اعتادت الكنائس الشرقيّة أن تقرأ الكتب المقدّسة في إطار ليتورجي كما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني في دستور في الليتورجيا(32). أما 1 كو 10: 1 - 13، فهو خلاصة الحياة الليتورجية في كنيسة كورنتوس. يُذكر أولاً فعل العماد. عماد في موسى، في العهد الأول. وعماد في يسوع، في العهد الثاني. يسوع نفسه هو الذي يغطّسنا في الماء فنموت معه لنعود إلى الحياة. أمَا هكذا كانت تتمّ الليتورجيا حين ينزل »السامع« في الماء بعد أن يخلع ثيابه. ثم يلبس ثوباً أبيض يرافقه سبعة أيام. وفي اليوم الثامن، الذي دُعي في الليتورجيا الأحد الجديد، ينطلق مَنْ تعمّد يوم الفصح في حياة كتلك التي وعد بها يسوع نيقوديمس.

فالعبور في البحر موضوع يرتبط بالعماد منذ الكنيسة الأولى، في خطّ ما فعله بولس. ونقرأ ما كتب القديس يوستين حوالي سنة 152 إلى الامبراطور انطونين، من دفاع هو الأول:

ونحن نصلّي ونصوم معاً،

ثم نذهب بهم إلى مكان فيه ماء

وهنا بالطريقة نفسها التي تجدّدنا بها نحن، يتجدّدون هم بدورهم(33)

ويتواصل الكلام (ص 81)

هذا الاستحمام يُدعى استنارة، لأن الذين يتلقّون هذه العقيدة يمتلئ روحُهم ناراً، ويغتسل المستنير أيضاً باسم يسوع المسيح الذي صُلب على عهد بيلاطس البنطي في ليلة الفصح. ساعة ينال الموعوظون العماد، تقرأ الليتورجيا عبور البحر الأحمر ونشيد موسى الذي فيه يَشكرُ الله على خلاص أمّنه لشعبه، فأوصله إلى أرض الميعاد (خر 14 - 15). انفتح البحر وجاءت السحابة تحمي الشعب من الذين يلاحقونهم. وما ان عبروا، حتَّى انغلق البحر على المصريين. وهكذا رافقت صورة العماد صورة النصر التي حازها المؤمنون بالصليب المنتصر على الشيطان الذي يستعبدنا (34).

وتحدّث كيرلس الأورشليمي عن »مجد الشيطان الذي يرمز إليه فرعون«:

كان فرعون، هذا الظالم المفتري القاسي، يضطهد شعب العبرانيين الحرّ الأصيل، أرسل الله موسى ليحرّرهم من عبودية المصريين المضنية... وبطريقة تدعو إلى العجب، نجا شعب العبرانيين. فانطلق العدوّ في إثر الذين استردّوا حريتهم، وعندما رأى البحر قد انشقّ لهم بأعجوبة، اندفع وراءهم فغمرته فجأة مياه البحر الأحمر(35).

إن مضمون عبور البحر الأحمر ظهر منذ العهد القديم مع تلوين اسكاتولوجي. قال الرب في إش 43: 19:

في الصحراء أَشقّ طريقاً

وفي القفر أُجري الأنهار(36)

ونقرأ في 51: 10 كيف أن عبور البحر الأحمر هو صورة عن انتصار الله على رهب، الذي يرمز إلى مصر:

وجففتُ مياه البحر

مياه الغمر العظيم

فجعلتُ أعماقه طريقاً

ليعبر فيه المفتدون

وما قاله العهد القديم، وجد صداه في العهد الجديد، في سفر الرؤيا، مع صورة الوحش الذي تدمّره المياه، ساعة يجد عبادُ الله نفوسهم منتصرين بعد أن وصلوا إلى الشاطئ الآخر، وبعد أن عبروا بحر الموت(37). نقرأ رؤ 15: 2 - 3:

ورأيتُ ما يشبه بحراً من البلور   المختلط بالنار.

ورأيت الذين غَلبوا الوحش وصورتَه وعددَ اسمه،

واقفين على بحر البلور، معهم قيثارات الله

ويرتّلون نشيد عبد الله موسى ونشيد الحمل

ونقدّم هنا بعض النصوص من آباء الكنيسة. ديديم الأعمى في كتابه عن الثالوث (2: 14)

إن بحر الأحمر الذي تلقّى أيضاً بني اسرائيل الذين لم يرتابوا، والذي نجّاهم من شرور المصريين الذين يلاحقونهم، وكل خبر الخروج من مصر، كل هــذا هو رمز τυπος إلى الخلاص الذي تمنحه المعمودية. فمصر رمزت إلى العالم الذي فيه نصنع شقاءنا حين نعيش في الشرّ. والشعب هو هؤلاء الذين استناروا (= اعتمدوا) الآن. والمياه التي هي للشعب وسيلة خلاص، تدلّ على المعمودية. وفرعون وجنوده هم إبليس وجنوده

باسيل في الروح القدس، ف 14

يردُ ما يتعلّق بخروج بني اسرائيل ليدلّ على الذين خُلّصوا بالعماد... فالبحر هو صورة المعمودية التي تنجّي من فرعون، كما المعمودية من طغيان ابليس. البحر قتل العدوّ. وكذلك في المعمودية دُمّرت عداوتُنا مع الله. خرج الشعب من البحر بصحّة وعافية، ونصعد نحن أيضاً من الماء مثل أحياء من بين الموتى.

غريغوار النيصي

عبور البحر الأحمر هو بحسب القديس بولس نفسه، نبوءة عن عمل (δειργω) سر العماد. فالآن أيضاً، حين يقترب الشعب من مياه الولادة الجديدة، هارباً من مصر التي هي الخطيئة، فهو ينجو ويخلص، ويهلك إبليس وجنودُه وارواح الشرّ (38).

وأفرام السرياني في أناشيد الدنح(39)

عبر الشعب البحر فصوّر حينئذ مثالاً ( ܛܘܦܣܐ ςοπος)

للمعمودية التي بها تغتسلون

عبرها الشعب (اليهودي) ولم يؤمن

أما الشعوب فاعتمدت وآمنت ونالت الروح القدس (1: 6)

موسى عمّد الشعب في داخل البحر

ولم يستطع غسل قلبه من الداخل لامتلائه بأدناس الخطايا (7: 5)

ومع المعمودية الذي هو الموضوع الأساسي، يظهر عمود السحاب الذي رافق العبرانيين خلال مسيرة الخروج. فموضوع السحاب الذي هو علامة سكنى الله في الخيمة، نجده في العهد القديم كله. وفي يو 1: 14 نعرف أن سكن الله يرتبط ببشريّة يسوع(40). ونبدأ مع أوريجان في عظاته حول سفر الخروج (5: 1)

أنظروا كيف أن التقليد البولسيّ يختلف عن القراءة التاريخيّة. ما يعتبره اليهود »عبور البحر«، يدعوه القديس بولس »المعمودية«. وما ظنوا أنه »سحاب«، أكَّد القديس بولس أنه الروح القدس. وأراد من هذا العبور أن يُفسّر في ذات معنى وصيّة الرب الذي قال: »إن لمْ يولَد الانسان من الماء والروح القدس، لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات«.

وهكذا دلّت السحابة التي تظلّل المؤمنين على الروح القدس. فهذا ما نفهمه في قراءتنا لمشهد البشارة: الروح يحل عليك وقوّة العلي تظلّلك. إذاً نحن أمام اسرار التنشئة الثلاثة: المعمودية، التثبيت، الافخارستيا. ونقرأ  ما تركه القديس امبراوز في الأسرار (12 - 13)، وذلك بعد أن عدّد صور المعمودية:

ووصلت إلينا الشهادة الثالثة بيد الرسول... جميع آبائنا كانوا تحت السحاب... ثمّ يقول موسى نفسه في نشيده: »أرسلتَ روحك فابتلعَهم البحر. فترى في عبور العبرانيين حيث هلك المصري ونجا العبري، صورةً مسبقة عن العماد المقدّس. وماذا تتعلّم أيضاً بواسطة هذا السر؟ أن الخطيئة غرقت، والضلال زال ونجت التقوى والبرارة.

أما السحابة فهي صورة عن حضور الروح القدس:

هي التي أتت على العذراء مريم، وقدرة العلي غطّتها بظلّها.

واستعاد امبرواز الموضوع عينه مع تفاصيل جديدة في أسرار الكنيسة(41). فيبين سموّ الأسرار (أو: المقدّسات) المسيحية على »الأسرار« اليهودية:

ما الذي هو أهمّ من عبور الشعب اليهوديّ للبحر؟ ومع ذلك فاليهود الذين عبروا ماتوا كلّهم في البرية. أما الذي عبر بهذه العين (الماء) أي من الأمور الأرضيّة إلى الأمور السماوية - وهذا هو الانتقال transitus أي الفصح، العبور من الخطيئة إلى الحياة. إذاً، من يعبر بهذه العين لن يموت بل يقوم.

ويتواصل الكلام في خطّ أوريجان:

عمود السحاب هو الروح القدس. كان الشعب في البحر وسحابة النور تسير أمامه، ثم عمود السحاب يتبعه، مثل ظِلّ الروح القدس. فترى أنه بالروح القدس وبالماء تجلّت صورة المعموديّة.

وبـــعـد المــعــمـوديّة والتـثـبـيـت، الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. هذا ما يقودنا إلى المنّ في البرية، وصخرة حوريب.

قال يوحنا الذهبي الفم:

رأيتَ بالنسبة إلى المعمودية ما كانت الصورة وما كانت الحقيقة. والآن أريك المائدة أيضاً وتناول الأسرار المرسومة هنا. هذا إذا كنت لا تطلب أن تجدها كلها، بل أن تتفحّص الوقائع كما هو من الطبيعي أن تكون في الصوَر. فبعد عبور السحاب والبحر، قال بولس: وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً. وقال ايضاً: أنتَ حين تصعد من حوض المياه، تقترب بسرعة من المائدة. وهكذا هم حين صعدوا من البحر، أتوا إلى مائدة جديدة وعجيبة، أعني المنّ. وكما نلتَ شراباً سرياً، الدم الخلاصيّ، كذلك هم نالوا نوعاً عجيباً من الشراب، إذ لم يجدوا هناك لا نبعاً ولا مياه جارية، بل مياهاً وافرة تتفجّر من صخر جاف.

وهكذا تبرز المتتالية التي تضمّ الافخارستيّا إلى العماد في إطار الخروج من مصر، والطعام والشراب في البريّة. ونقرأ تيودوريه القورشي:

الأمور القديمة صورة عن الجديدة: شريعة موسى هي الظلّ، والنعمة هي الجسم. حين كان المصريون يلاحقون العبرانيين، عبَرَ هؤلاء البحرَ الأحمر ونجوا من تسلّطهم. فالبحر صورة عن حوض العماد. والسحاب عن الروح. وموسى عن المسيح المخلّص. والعصا عن الصليب وفرعون عن إبليس. والمصريون عن الشياطين. والمنّ عن الطعام الالهي، ومياه الصخرة عن دم المخلّص. وكما أن الناس بعد أن عبروا البحر الأحمر ذاقوا طعاماً إلهياً وينبوعاً خارقاً، كذلك نحن، بعد العماد الخلاصيّ، نشارك في الأسرار الالهيّة.

في خطّ انجيل يوحنا، ارتبط المنّ بالافخاستيا (يو 6: 31 - 33). نستطيع أن نذكر قبريانس في الرسالة 69 أو 70(42) أو القديس أوغسطين في خطبة إلى معمّدين جدد أو في العظة 216 ، 259(43). ولكننا تكتفي بالعودة إلى امبرواز:

معجزةٌ كبيرة المنُّ الذي نثره الله على الآباء. فالسماء غذّتهم بطعام يومي كما كُتب: »أكل الانسان خبز الملائكة« (مز 78: 25). ومع ذلك، فالذين أكلوا هذا الخبز ماتوا في البرية. أما هذا الطعام الذي تتقبّلُ، الخبز النازل من السماء، فهو يمنحك جوهر الحياة الأبدية. إنه جسد المسيح. كم النور يتفوّق على الظلّ! والحقيقة على الصورة! وجسد الخالق على منّ السماء!

وننهي كلامنا مع يعقوب السروجي، صاحب الصور الرائعة. في الميمر الرابع من مجموعة بيجان(44)، يطلب هذا الشاعر أن ينزل إلى بحر أسرار الابن:

25  أكل الشعب المنّ وتذمّر على الباري (الخالق)

وما سبّح على مأكله، هذا الشرِهُ

26  تنكّر للنعمة، كما وجب عليه بعد الوليمة

وما شكر من قاته بشبع كبير

27  أُرسل له خبز الملائكة لكي يسمَن به

فما حسن له ذاك الطعام لأنه ناكر (النعمة)

33  وفّر (الله) لهذا الطمّاع (الشعب) المنّ والسلوى، وهما بسيطان له.

تَخِمَ من الأكل، ولأنه جاع ولوَلَ وجدّف

34  في البرية، شرب من الصوّان مياهاً مباركة

وما اندهش بهذه المعجزة العجيبة

35  السحب والرياح قرَّبتْ له الطعام،

فتكاسل وما سبّح حين كان يأكل

45  ولما اشتدّ، تمرمر بتذمّر كبير

أدّبه (الاله) العادل بحيّات تتقيّأ السمّ

48  وبما أنه ما سبّح لأنه نجا من المصريين،

أتت الأفاعي ولدغته فتمرمرَ

49  غلب لاويثان (الثعبان، الملتوي) الذي هو فرعون ورضَّ رؤوسه،

وبما أنه ما شكر، ابتُلع برؤوس الحيّات.

الخاتمــة

من عبادة الأصنام في مصر إلى الحرية في عبادة الله، مروراً بالبحر الأحمر وصولاً إلى البرية مع المن والسلوى والمياه الخارجة من الصخر. هدايا حلوة من الرب للشعب الأول، ولكنه بدا وكأنه لم يقبلها فدلّ على أن رضى الله ابتعد عنه، فمات الرائحون في خطى موسى قبل أن يصلوا إلى ارض الميعاد. لا شكّ في أنهم اجتمعوا حول الجبل وأخذوا الوصايا وقطعوا العهد مع الرب، ولكنهم ما لبثوا أن عادوا إلى ما كانوا عليه في الماضي. عادوا إلى عبادة الأوثان مع العجل الذهبي، ثم الزنى والبغاء المكرّس، عادوا يجرّبون الله ويتذمّرون على عبده موسى. ومع أن الله كان يؤدّبهم في كل مرة، فما قبلوا التأديب، بل راحوا إلى ملاك الموت، الذي نجوا منه يوم الفصح الأول وخروجهم من مصر، ليكون لهم الهلاك. تلك هي الليتورجيا التي يعيشها اليهود على مدّ تاريخهم خصوصاً في الأعياد الثلاثة التي فيها يحجّون إلى المعبد، أي في الفصح والأسابيع والمظال.

انطلق بولس من هذه الليتورجيا، فرأى فيها مثلاً من أجل المؤمنين في كورنتوس، الذين بدوا وكأنهم لم يختلفوا في شيء عن الشعب الأول. كانوا وثنيّين، فعادوا إلى الممارسات الوثنية. مارسوا الزنى بأنواعه بما فيه البغاء المكرَّس، وها هم يعودون إليه. ويطرحون الأسئلة لكي يعرفوا إلى أي حد يستطيعون أن يمضوا. نال العبرانيون عطايا ماديّة ترمز إلى العالم الروحي، ولا سيّما مع المسيح. ولكنها تبقى مادية: نجاة من موت الجسد. طعام وشراب وقيادة. أما المسيحيون فنالوا هبات روحيّة سامية هي اسرار التنشئة. المعمودية حيث مرّوا في حوض الماء. كما عبر العبرانيون في البحر، هم أيضاً عبروا من ضفة الخطيئة إلى ضفة النعمة والخلاص. ظلّلت السحابة الشعب في صحراء شمسُها قاسية. أما المسيحيون فظلّلهم الروحُ القدس حين نالوا »سرّ التثبيت« كما تدعوه الكنيسة في لاهوتها. وأخيراً، سر الافخارستيا: الطعام الروحي والشراب الروحي. لم نعد فقط أمام المنّ، بل أمام جسد الرب ودمه: من يأكل جسدي ويشرب دمي فله الحياة الأبدية. لم نعد فقط أمام ماء »يخرج من الصخرة«، بل أمام المسيح، الماء الحيّ الذي يرافقنا في مسيرتنا اليوميّة. قالت التقاليد اليهوديّة إن هذه الصخرة رافقت العبرانيين حتّى وصولهم إلى ارض الموعد. هو تمنّ. فانطلق بولس من هنا وقال: »هذه الصخرة هي المسيح«.

ذاك اساس الليتورجيا العمادية التي تستقبل »الموعوظين« أو »السامعين« كما نقول في التقليد السرياني. فبعد التعليم، يأتي النداء من أجل عيش بحسب مشيئة الله فيرضى عنا. أما التجارب التي يمكن أن تعترضنا، فنحن لا نخاف منها، لأنَّنا نعرف أن الرب لا يسمح بأن نجرَّب فوق طاقتنا. فيبقى الموقف الذي يأخذه المؤمن على ما قال سفر التثنية: وضعتُ أمامك الموت والحياة، الشقــاء والسعـادة، فماذا تختار؟ عبادة الأصنـــام وعبوديتها، أم عبـادة الله في الحرية لأننا أبنـــاء الـله؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM