الفصل السادس عشر: كيف نقرأ القدّيس بولس اليوم

الفصل السادس عشر

كيف نقرأ القدّيس بولس اليوم(*)

منذ ألفي سنة وبولس الرسول يُلاحَق. ففي أعمال الرسل نرى اليهود يلاحقونه من مدينة إلى مدينة ويحرِّضون الناس عليه، وفي النهاية اعتبروه خائنًا لشعبه ولدينه. والكتب عديدة في أيّامنا عن دور شاول - بولس الذي حوَّر المسيحيَّة بحيث أضعنا وجه يسوع الحقيقيّ، فقال بعضهم: ما العلاقة بين يسوع ابن الجليل وبولس ابن طرسوس الذي لا حدود لأسفاره؟ ورسالة بطرس الثانية تعلن أنَّ في ما كتبَه بولس أمورًا صعبة الفهم يحرِّفها الجهّال وغير الراسخين في الحقّ (2 بط 3: 16). ومع ذلك أعلنت الكنيسة الكاثوليكيَّة بفم قداسة البابا بنديكتس السادس عشر هذه السنة (2008-2009) سنة بولسيَّة. وفي اجتماع بيبليّ في دار السلام بتنزانيا، تنادت الرابطة الكتابيَّة العالميَّة لكي ينفتح الباب واسعًا للمؤمنين بحيث يتعرَّفون إلى هذا المفكِّر السامي الذي طبع بطابعه العهد الجديد كلَّه. ونحن في هذا الشرق، كيف نقرأ القدّيس بولس اليوم، وكيف نفهم هذا الفكر العبقريّ الذي أخرج المسيحيَّة من قوقعتها في القدس الحاليَّة، في أورشليم، فأرادها ديانة عالميَّة لا تترك إنسانًا لامباليًا أمام كتاباته.

وهكذا نتوقَّف عند ثلاثة وجوه من تعليمه: موضع المرأة في المجتمع، موضع الشريعة القديمة تجاه شريعة المسيح، موضع الإنسان بين الخطيئة والنعمة ومفهوم القدر.

1. لا رجل ولا امرأة

لا مجال للتمييز في فكر القدّيس بولس. ذاك ما كتبه إلى كنائس غلاطية حيث رفض اليهوديّ أن يأكل على مائدة واحدة مع غير اليهوديّ. ذكَّرهم بما حصل في أنطاكية. واستخلص: »لا فرق الآن بين اليهوديّ والأمميّ (أو غير اليهوديّ)، بين العبد والحرّ، بين الرجل والمرأة. فأنتم كلُّكم واحد في المسيح يسوع« (غل 3: 28).

ما هذا القول؟ هل تكون المرأة على مستوى الرجل، مع أنَّ المبدأ الشرقيّ العامّ يقول: هي خادمة أولادي وملبِّية حاجاتي؟ تلك هي الثورة التي أعلنها الرسول في الكنيسة وفي العالم. ونحن نعرف أنَّ الرجل اليهوديّ الذي يصلّي اليوم يشكر الله لأنَّه لم يُولَد »امرأة« و... و...

أعلن بولس المبدأ العامّ في منطقة تأثَّرت بالتعاليم اليهوديَّة، وعاد فأعلنه في إطار يونانيّ، فقال للمؤمنين: خَلعتم الإنسان القديم ولبستم الإنسان الجديد (كو 3: 9-10)، صارت المرأة حرَّة فلماذا تجعلونها عبدة؟ هي مساندة للرجل منذ البداية، فلماذا تسجنونها في تقاليد موروثة منذ القدم، فتبقى داخل الخيمة لا ترى أحدًا ولا تكلِّم أحدًا ولا تسلِّم على أحد. صارت »مُلكًا« بيد الرجل يحافظ عليها كما يحافظ على متاعه. أمَا جعلَ سفر الخروج المرأة بمنزلة البيت والعبد والجارية والثور والحمار؟ (خر 20: 27)، ومنع الإنسان من أن يشتهيها؟

أمّا المبدأ عند بولس الرسول فالمساواة بين الرجل والمرأة. هنا نقرأ الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، فنفهم أنَّ كلَّ شيء يتمُّ بالتفاهم بين الرجل والمرأة، بحيث لا يفرض الرجل رأيه على امرأته التي يجب أن تخضع خضوع الذلّ، وما يسري على الرجل يسري على المرأة. وها نحن نورد النصَّ أوَّلاً في الحياة اليوميَّة:

فليكن لكلِّ رجل امرأته

ولكلِّ امرأة زوجها (آ2).

لا مجال لكثرة الزوجات. ولا مجال للزنى وما اعتاد عليه الرجل من دوران في شرقنا فيجعل ضميره »مرتاحًا« بالنسبة إلى امرأته.

على الزوج أن يوفي امرأته حقَّها

كما على المرأة أن توفي زوجها حقَّه (آ3).

ما كانت تطلب المرأة من الرجل؟ أن يؤمِّن لها الطعام والشراب والمأوى، وغير ذلك هو حرٌّ في تصرُّفاته. والحقوق الزوجيَّة؟ لا حقَّ للمرأة على زوجها سوى الطاعة. أمّا الرسول فيذكِّر الرجل بواجباته. وما يدهشنا هو أنَّ على المرأة أن توفي زوجها حقَّه. بكلِّ حرِّيَّة، لا رغمًا عنها، لا بالقسر وربَّما بالضرب وسائر المعاملات السيِّئة.

لا سلطة للمرأة على جسدها، فهو لزوجها،

وكذلك الزوج، لا سلطة له على جسده، فهو لامرأته (آ4).

زوج واحد، امرأة واحدة، بحسب ما قيل في البدء: »يترك الرجل أباه وأمَّه ويتَّحد بامرأته فيكون الاثنان جسدًا واحدًا« (تك 2: 24). في الأصل: لحمًا واحدًا. لهذا قال آدم: »هي لحم من لحمي وعظم من عظمي« (آ23). الزنى ممنوع. فجسد المرأة لا يخصُّها، وكذلك جسدُ الرجل لا يخصُّه. تلك هي الأمانة الرفيعة التي إليها يدعو بولس الرجل والمرأة. لا إكراه ولا قسر، بل يقين داخليّ. وإذا أراد واحد أن يبتعد عن الآخر، يكون ذلك »بالاتِّفاق« (آ5) ولفترة محدودة.

ذاك على مستوى العلاقات الزوجيَّة. وإذا كانت صعوبات؟! لا فرق بين الرجل والمرأة. فعلى المستوى المسيحيّ، لا سلطة سوى سلطة المحبَّة والخدمة. وتقول لنا الرسالة إلى أفسس: »يجب على الرجال أن يحبُّوا نساءهم كما يحبّون أجسادهم« (أف 5: 28)، بحيث يستعدُّون للتضحية على مثال ما فعل المسيح من أجل كنيسته حيث »ضحّى بنفسه من أجلها« (آ25). قال الرسول إلى أهل كورنتوس، وإلينا اليوم:

لا تفارق المرأة زوجها (آ10).

وإن فارقته فلتبقَ بغير زواج،

أو فلتصالح زوجها (آ11أ).

وما قيل عن المرأة يُقال عن الرجل:

وعلى الزوج أن لا يطلِّق امرأته (آ11ب).

وما كتبه الرسول على مستوى الحياة اليوميَّة، يكتبه على مستوى الحياة الروحيَّة سواء في البيت أو في جماعة الصلاة. كان العالم اليهوديّ يعتبر الرجل وحده »تقيٌّا«، أمّا المرأة فلا يمكن أن تكون »تقيَّة«. فمؤنَّث »تقي« لم يكن موجودًا. ثمَّ إن تراخت المرأة في حفظ الوصايا، لا بأس. فهي كائن ضعيف، »ناقصة العقل«. هذا ما لا يقبل به بولس في خطِّ التعاليم الإنجيليَّة:

الزوج غير المؤمن يتقدَّس بامرأته المؤمنة،

والمرأة غير المؤمنة تتقدَّس بزوجها المؤمن (آ14).

ولكن ماذا تستطيع المرأة أن تفعل لزوجها؟ لا شيء كما كانوا يقولون. هو وحده القادر أن »يخلِّصها« وهي تتقبَّل منه كلَّ مساعدة. كلاّ فهي قادرة كما هو قادر. وهنا يكون التبادل أيضًا:

أما تعلمين أيَّتها المرأة المؤمنة أنَّك تخلِّصين زوجك؟

أما تعلم أيُّها الرجل المؤمن أنَّك تخلِّص امرأتك؟ (آ16).

وكما في الحياة اليوميَّة، كذلك في حياة الجماعة: الرجل يصلّي والمرأة أيضًا. الرجل يعلِّم والمرأة كذلك. الرجل يرنِّم والمرأة كذلك (1 كو 14: 26). لا يمكن أن تُفصَل المرأة عن الرجل في تمجيد الله وتسبيحه، وكلاهما مخلوقان على صورة الله ومثاله (تك 1: 26-27). في هذا المجال نقرأ لائحة أسماء الذين واللواتي يعملون في الرسالة: أوَّلهم فيبة، شمّاسة الكنيسة. ثمَّ عائلة مسيحيَّة برسكلَّة وأكيلا (ذُكرت المرأة قبل الرجل). ذُكر أبينيتوس وهو مسيحيٌّ آتٍ من العالم اليونانيّ وحالاً ذُكرت مريم الآتية من العالم اليهوديّ. وذُكر أندرونيكس وذُكرت معه يونيا زوجته (رو 16: 1ي). فكيف لا تستفيد الكنيسة من نصف المجتمع في أعمال الصلاة والرسالة والخدمة؟ والمثال الكبير هو الراهبات اللواتي تدعوهنَّ الكنيسة »لؤلؤة« في جبينها.

ولكن ما نلاحظ في هذه الثورة التي لا يمكن أن يقبلها الرجل في القرن الحادي والعشرين، وتعتبرها المرأة ناقصة هو أنَّ الرجل الذكر رأى أنَّه لم يَعُد »رأس« البيت والسيِّدَ المطاع. والمرأة اكتشفت أنَّها يجب أن »تصمت« كما هو الأمر في جماعات أورشليم، لأنَّه لا يجوز لها »التكلُّم« (1 كو 14: 33-34). من جهة أعلن بولس »إنجيله« بدون »مساومة«. ومن جهة ثانية خفَّف من حدَّة هذه المتطلِّبات. فتقول النساء: عاد إلى الوراء. أو استعاد بيدٍ ما أعطاه باليد الخرى. وربَّما يكون تلاميذه نزعوا بعض فتيل الثورة. وكلّ هذا من أجل السلام في الجماعة (1 كو 14: 33). أمّا الهدف فَرعَويّ.

»وكما تصمت النساء في جميع كنائس الإخوة القدِّيسين (أي في الكنيسة الأولى، في أورشليم)، فلتصمت نساؤكم (يا أهل كورنتوس) في الكنائس، فلا يجوز لهنَّ التكلُّم، وعليهنَّ أن يخضعن كما تقول الشريعة« (1 كو 14: 33-34).

هل نتخيَّل أن يلجأ بولس إلى الشريعة ليُسند كلامه؟ هو أمر صعب بالنسبة إلى من قال: »مُتنا عمّا كان يعتقلنا وتحرَّرنا من الشريعة« (رو 7: 6)! هل نتصوَّر بولس راجعًا إلى العادات اليهوديَّة حيث المرأة ليست بشيء في صلاة الجماعة؟ كلاّ. ومع ذلك يواصل النصّ: »فإن أردن (= النساء) أن يتعلَّمن، فليسألن أزواجهنَّ في البيت، لأنَّه عيب على المرأة أن تتكلَّم في الكنيسة« (آ35).

مراعاةً للعالم اليهوديّ ولعادات المؤمنين في أورشليم، فُرض على المرأة الصمت لا باسم مبدأ إنجيليّ، بل باسم السلطة: »هل صدرت عنكم كلمة الله، أم انتهت إليكم وحدكم؟« (آ36). واعتُبر هذا الترتيب من أجل »النظام في الكنيسة«. وفي الإطار عينه نتكلَّم عن »الغطاء« على الرأس، سواء كان الشعر أو الحجاب. ماذا كانت الخلاصة؟ هكذا يفعلون في »أمِّ الكنائس«، القدس. فلا مجال للمناقشة في خطِّ مجمع أورشليم: »فإن أراد أحد أن يعارض فما هذا من عادتنا ولا من عادة كنائس الله« (1 كو 11: 16).

نشير هنا إلى أمرين. الأوَّل، تغطّي المرأة الشرقيَّة رأسها فقط بل وجهها أيضًا بسبب المناخ الصحراويّ، والرجل يفعل أيضًا مثلها. أمّا المرأة الغربيَّة فلا تحتاج إلى ذلك فتمشي »مكشوفة الرأس« (آ13). يبقى على المؤمنات الجديدات في كورنتوس أن يراعين أخواتهنَّ الآتيات من الشرق للمشاركة في الصلاة. والأمر الآخر يتعلَّق بمدينة كورنتوس وسائر المدن الوثنيَّة: المرأة »على الرصيف« تقصُّ شعرها لتُعرف، والرجل يطيل شعره. لهذا نبَّهت الرسالةُ المرأةَ بأن شعرها فخرٌ لها، سترٌ لها. أمّا الرجل، فمن العار »أن يطيل شعره«. من يعلِّمنا هذا؟ »الطبيعة نفسها« (آ14-15). وهكذا ما قيل عن »الغطاء« على الرأس بالنسبة إلى المرأة، هو شعرها. إذًا هي حرَّة بأن تغطّي رأسها أو لا. وطول الشعر أو قصره أمرٌ تعدَّاه الزمن

وكان الجدال: من هو الأوَّل؟ وعادت الرسالة إلى العهد القديم: المرأة خُلقت من الرجل، كما في رمزيَّة سفر التكوين، وخُلقت من ضلع من أضلاعه لكي يكون موضعها في قلبه، لا عند قدميه. فإذا كانت المرأة من الرجل كما يقولون، يجب أن تخضع له. ويعيد الرسول التوازن: »إذا كانت المرأة أُخذت من الرجل، فالرجل تلده المرأة، وكلُّ شيء يأتي من الله« (1 كو 11: 12).

إذًا، من يخضع للآخر؟ ويأتي الجواب في الرسالة إلى أفسس: »ليخضع بعضكم لبعض بمخافة المسيح« (أف 5: 21). كلُّ شيء يكون في المسيح على مستوى الحبِّ والتضحية. وما يُشرف هنا، مخافة الله التي هي رأس الحكمة. إذًا، تبادلٌ في الخضوع وفي العطاء، تبادل في الحياة على جميع مستوياتها بحيث لا يدخل أحد ولا شيء بين الرجل والمرأة.

قراءة القدّيس بولس ليست بالأمر السهل وفهمه أصعب. ومع ذلك فرسائله تنطلق من الواقع البسيط جدٌّا وترفعنا إلى مستوى الله فالعلاقة بين الرجل والمرأة سرّ، على مثال العلاقة بين المسيح والكنيسة (آ25). وكلُّ الحلول التي تبقى ملتصقة بالأرض وبالأمور المادِّيَّة، لا يمكن أن تبني عائلة ولا جماعة. إنَّما يبقى المبدأ: لا رجل ولا امرأة. فكلُّكم واحد في المسيح.

2. الشريعة القديمة وشريعة المسيح

أُعطيَت الوصايا على جبل سيناء وسط البروق والرعود، وأضيفت الفرائض العديدة والفتاوى، وفي النهاية مع المعلِّمين في زمن بولس صارت الوصايا 613 وصيَّة. هذا ما ندعوه الشريعة والقوانين التي تُفرَض على الإنسان، والويل لمن يقع في وصيَّة واحدة، فكأنَّه وقع في جميع الوصايا، وما فادته بشيء هذه الممارسةُ ولا تلك.

بهذه الشريعة تعلَّق الرسول بحيث استطاع أن يقول، لو هو قال: »حياتي هي الشريعة«. ومن أجل هذه الشريعة أراد أن »يقاتل« المسيح ويلاحقه من مدينة إلى مدينة، من أورشليم إلى دمشق، ليُخفي أثر أَتْباعه.

ولكن تقولون: هذه الشريعة قديمة بعد أن ارتبطت بالعالم اليهوديّ القديم. فما لنا ولها؟ ولكنَّ الشريعة حاضرة اليوم في عالمنا وهي تفرض نفسها بالقوَّة، لا على المستوى الدنيويّ فقط بل على المستوى الدينيّ. والويل لمن يعارض أو يرفض ممارستها. وأعطي مثلاً قديمًا عن رجل خالف شريعة السبت: كان ذاك الفقير يجمع حطبًا. يا للخطيئة الكبيرة! أخرجته الجماعة من المخيَّم ورجمته (عد 15: 32). وكذا نقول عن الزانية التي يجب أن تُرجم، بل إنَّ الذي يعلِّم تعليمًا يختلف بعض الاختلاف عن تعليم المعلِّمين الرسميّ يُحرم من عيشه، من امرأته، ويُرسَل إلى المنفى. فالشريعة سيِّدة وهي تقول اليوم كما في الماضي: »ماذا نأكل وماذا لا نأكل. نأكل البقر والضأن والمعز والغزال، ولا نأكل الجمل والأرنب والدب وغيرها من الحيوانات« (لا 14: 3ي). وهكذا صار الإنسان مقيَّدًا بشرائع تنسى أنَّ كلَّ ما خلقه الله هو حسن. وجاءت عبارات ردَّدها بولس بلسان بعض الضعفاء: »لا تلمس، لا تذق، لا تمسك« (كو 2: 21). قال الرسول مبيِّنًا أنَّ كلَّ هذا أمرٌ نسبيّ: »كلُّ هذه الأشياء تزول بالاستعمال (آ22).

في البداية كان بولس قاسيًا مع الشريعة، رافضًا لها حين تأتي من خارج الإنسان، لا من داخله. فقال فيها مثلاً: »ما عرفتُ الخطيئة إلاَّ بالشريعة. فلولا قولها لي: ''لا تشتهِ!'' لما عرفتُ الشهوة« (رو 7: 7). وأضاف: »الخطيئة وجدت... فرصة لتثير فيَّ الشهوة، لأنَّ الخطيئة بلا شريعة ميتة« (آ8). أجل، الخطيئة اتَّخذت من الوصيَّة، (من الشريعة)، سبيلاً فخدعَتْني بها وقتلتني« (آ11).

فالشريعة في ممارستها الخارجيَّة تفصل الإنسان عن أخيه الإنسان، وتجعل حاجزًا بين جماعة وجماعة. في هذا الإطار نقرأ ما كتب بولس إلى أهل رومة، ونرى كيف ينطبق علينا الآن، لا في الشرق فقط، بل في العالم الغربيّ مع الأطعمة الطاهرة والأطعمة النجسة. قال: »من الناس من يرى أن يأكل من كلِّ شيء. ومنهم من هو ضعيف فلا يأكل إلاَّ البقول. فعلى من يأكل من كلِّ شيء أن لا يحتقر من لا يأكل مثله. وعلى من لا يأكل كلَّ شيء أن لا يدين من يأكل من كلِّ شيء« (رو 14: 2-3). خاف ابنُ الشريعة اليهوديَّة العائش وسط عالم وثنيّ أن لا يكون اللحم »طاهرًا« بحسب الشريعة، فتحاشى أن يأكل. وما الذي يجعل الطعام طاهرًا سوى الله الذي خلقه حسنًا، لا الإنسان الذي يفرض عاداته الآتية منذ أعماق التاريخ لأسباب لا تمتُّ إلى الدين بصلة. وخاف ابن التيّارات الدينيَّة من الخمر واللحم وحتّى من حياة الزواج. ولا نقول اليوم شيئًا عن ابن الديانات الهنديَّة. قال الرسول: إن أكلتم لا تزدادون شيئًا. وإن لم تأكلوا لن تنقصوا شيئًا (1 كو 8: 8). وجاءت الآية الرائعة: »ليس ملكوت الله أكلاً وشربًا، بل برٌّ وسلام وفرح في الروح القدس« (رو 14: 3). وجاء التنبيه الرائع المبنيّ على المحبَّة: »لا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (آ15).

وهكذا انفصل الجار عن جاره في أمور عديدة من أكل وشرب ولبس. هي عادات بها تستطيع الجارة أن تحكم على جارتها وتعرف سريرتها. وأين السبت؟ شريعة قديمة استخرجناها من الكتب المقدَّسة وطبَّقناها خطأ، وهكذا حمينا نفوسنا وحطَّمنا الآخرين. وما نقوله عن الأفراد نقوله عن الجماعات. تحدَّث بولس عن الحاجز الذي يفصل اليهوديّ عن اليونانيّ، من يعيش بحسب الشريعة الموسويَّة عن ذاك الذي »لا شريعة له« كما يقولون. ولكن بولس يعلن حالاً: من قال لك إنَّه بلا شريعة. الفطرة، الضمير... تلك هي شريعة. الضمير صوتُ الله في داخلنا. هو يقول لنا في أعماقنا ما يجب أن نعمل وما ينبغي أن نتجنَّب. وباسم هؤلاء وأولئك قال الرسول: »صرتُ لأهل الشريعة من أهل الشريعة، وإن كنتُ لا أخضع للشريعة، لأربح أهل الشريعة، وصرتُ للذين بلا شريعة كالذي بلا شريعة لأربح الذين هم بلا شريعة، مع أنَّ لي شريعة من الله بخضوعي لشريعة المسيح« (1 كو 9: 20-21).

نحن الأقوياء نفرض على الضعفاء إرادتنا! نحن الأكثريَّة نحطِّم الأقليَّة. ما الذي يجري اليوم في عصرنا؟ ذاك ما حصل للمؤمنين في رومة: الأكثريَّة آتية من عالم اليونان، ففرضت عاداتها على الآتين من العالم اليهوديّ. وبَّخهم بولس على ذلك وأعطى من نفسه مثالاً: »صرتُ للضعفاء ضعيفًا لأربح الضعفاء. وصرتُ للناس كلِّهم كلَّ شيء لأخلِّص بعضهم بكلِّ وسيلة« (آ22).

المبدأ: أن أربح الناس. وهم يربحونني في عمق شخصيَّتي. المبدأ أن يجتمع الناس في الخدمة بعضهم لبعض. تخيَّلوا ذاك الرجل الجريح الذي تحدَّث عنه يسوع في أحد أمثاله الإنجيليَّة (لو 10: 25-35). هو يمشي على يمين الطريق، لأنَّه يهوديّ. ولباسه مميَّز عن لباس الآخرين، ولاسيَّما الغرباء عن الدين. مرَّ بقربه كاهن يهوديّ، ففضَّل أن ينتقل إلى الجهة الثانية من الطريق. ما الذي منعه من الاقتراب إليه؟ الشريعة، الدم على هذا الجريح. قال: إن لمستُه تنجَّست ومُنعتُ من الخدمة في الهيكل. أمّا السامريّ، ابن نابلس الحاليَّة في فلسطين، الذي كان يسير على شمال الطريق ويلبس لباسًا يميِّزه عن لباس اليهود، فنسيَ كلَّ هذه الأمور ولو اعتبرها البعض من أساس الدين مع أنَّها جُعلت هنا لإذلال الأقلِّيَّة ولإظاهر قوَّة الأكثريَّة، بما معناه: إلهنا أقوى من إلهكم وكأنَّ هناك إلهين أو أكثر. أجل نسيَ هذا السامريّ شريعة النجاسة وتذكَّر شريعة واحدة: المحبَّة. في هذا المجال قال الربُّ يسوع لأناس قلوبهم قاسية: »أيحلُّ في السبت عمل الخير أم عمل الشرّ؟ إنقاذ نفس أم إهلاكها؟« (مر 3: 4). ساد الصمت، فبدا يسوع حزينًا. هل صار الإنسان في خدمة السبت؟ هل صار الإنسان عبدًا للشريعة؟

وحزن بولس لوضع مماثل حصل في أنطاكية. مدينة كبيرة فيها من كلِّ الأشكال والألوان. والمؤمنون يكوِّنون جماعة واحدة. ما أحلاهم! ولكن أتت الشريعة اليهوديَّة ففصلت بينهم، كما يفصل بيننا اليوم عددٌ من الفرائض. كانوا كلُّهم يشاركون في المائدة الواحدة، مائدة المحبَّة. بولس الرسول يوجِّه إنجيله إلى الأمم، إلى اليونان وغيرهم. وبطرس إلى أهل الختان مع بعض التنازل لأنَّه فهم أنَّ التطهير لا يقوم على ممارسات خارجيَّة. قال متحدِّثًا عن اليهود والأمم الوثنيَّة: »فما فرَّق بيننا وبينهم في شيء، فهو طهَّر قلوبهم بالإيمان« (أع 15: 9). ثمَّ أضاف: »نحن نؤمن أنَّنا نخلُص بنعمة الربِّ يسوع كما هم يخلصون« (آ11).

باسم الله نحن معًا. نجلس إلى مائدة واحدة. ولكن باسم »الشريعة« يفترق الواحد عن الآخر. فالمختون لا يكون مع اللامختون. فإذا كان هذا المختون لا يعيش حسب وصايا الله، أما يكون وكأنَّه لم يُختَن ولم يُحسَب منتميًا إلى »شعب الله«، إلى »المؤمنين«؟ ما الذي حصل في أنطاكية؟ »جاء قوم من عند يعقوب« (غل 2: 12)، وهو المعروف بدفاعه عن الشريعة، فاعتزل بطرسُ الجماعة. ترك الأممَ وحدَهم وكأنَّهم مؤمنون من الدرجة الثانية. أذلَّهم ساعة كان يجب أن يرفعهم. أمّا بولس فما استطاع أن يقبل بهذا الوضع. فهذا الحاجز الموجود بين فئة وفئة، بين مذهب ومذهب، بين دين ودين، أزاله يسوع. قال الرسول إلى أهل أفسس: »جعلَ اليهودَ والأمم شعبًا واحدًا، هدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين إنسانًا واحدًا جديدًا، بعدما أحلَّ السلام بينهما« (أف 2: 14-15).

فصلت الشريعةُ بين بعيد وقريب، بين غريب وأهل البيت، بين الأبناء والكلاب. وهنا تأتي العداوة. قال الرسول: »المسيح قضى على العداوة« (آ16) بشَّر بالسلام البعيدين والقريبين، ابن (وابنة) هذا الدين وذاك، بين ابن (وابنة) هذا المذهب وذاك؟ فكيف يجسر المؤمن، في الخطِّ البولسيّ، أن يحسب الآخرين »غرباء أو ضيوفًا مع أنَّهم من القدّيسين وأهل بيت الله« (آ19)؟ في العمق الإيمانيّ، نحن كلُّنا ضيوف لدى الله، وهو يستقبلنا كما نحن، سواء شابهنا الابن الضالّ الآتي من البعيد (لو 15: 13) أو الابن الأكبر الذي اعتبر نفسه »مع والده في كلِّ حين« (آ31) مع أنَّ قلبه لم يكن مع أبيه، بل مع »أصحابه« (آ29) حول جديٍ يفرحون به.

هل الشريعة تجمع الناس؟ ولكن أيُّ شريعة؟ يكفي أنَّ نمرَّ في بلاد الهند لنعرفَ كيف تتلوَّن الشريعة بلون المنطقة التي تقيم فيها. منهم من لا يأكل شيئًا من تحت الأرض (البطاطا مثلاً). وآخرون يأكلون ما يتعلَّق بالأغصان. منهم من يحترم هذه الخليقة وآخر يبتعد عن تلك لأنَّها نجسة. وفي الشرق القديم هناك المانويّون مثلاً الذين انطلقوا من اليهوديَّة والمسيحيَّة والبوذيَّة، خافوا أن يمشوا على العشب، كما تورَّعوا أن يقطفوا من البقول الكميَّة الكبيرة. وربَّما راح أبو العلاء المعرّي في خطِّهم فقال: »سرْ إن استطعت في الهواء رويدًا«.

الشرائع عديدة. فلا بدَّ من البحث عن شريعة واحدة تجمع البشريَّة كلَّها. هنا قال الرسول: »لو تكلَّمتُ بلغات الناس والملائكة ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا إلاَّ نحاس يطنُّ أو صنج يرنّ. ولو وُهبتُ النبوءة وكنتُ عارفًا كلَّ سرٍّ وعلم، ولي الإيمان الكامل لأنقل الجبال، ولم تكن فيَّ المحبَّة، فما أنا بشيء« (1 كو 13: 1-2). ويتابع: »لو فرَّقت أموالي... لو... بدون محبَّة، هذا لا ينفعني« (آ3). ونقول: كلُّنا عندنا محبَّة. أنا أحبُّ جميع الناس. أنا أحبُّ البشريَّة لأنَّنا كلُّنا من إنسان واحد. أمّا بولس فلا يكتفي بهذا الكلام العامّ، بل يقول لنا كيف تكون هذه المحبَّة، وكيف نمارسها. ما تحدَّث عن الطقوس ولا عن الممارسات الدينيَّة. ما تحدَّث عن عادات فرضَتْ نفسَها علينا فحسبناها الدين مع أنَّ الدين برّاء منها. »تنازل« بولس إلى الحياة اليوميَّة: المحبَّة هي الصبر والرفق. المحبَّة هي الصفح والأمانة والرجاء. حيث المحبَّة لا وجود للحسد ولا للتفاخر ولا للكبرياء. المُحبُّ لا يحتدّ، لا يغضب، لا يظنُّ السوء. المحبّ لا يتصرَّف سيِّئًا من أجل منفعته، بل يطلب ما هو لغيره.

والوصايا عديدة. حتّى الوصايا العشر بمتفرِّعاتها. لهذا جاء من يسأل يسوع عن »الوصيَّة العظمى« (مت 22: 34ي)، الوصيَّة التي تلخِّص الوصايا بحيث لا يُتعب المؤمن قلبَه فيحفظ لائحة طويلة من الفرائض. وجواب يسوع جاء بسيطًا: المحبَّة. وفي هذا الخطّ سار بولس الرسول. حمل إليه أهل الشرق »وصايا«، وكذلك أهل رومة. ماذا نفعل في الحياة اليوميَّة؟ قال: »فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحببْ قريبك مثلما تحبُّ نفسك. فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد. فالمحبَّة تمام الشريعة« (رو 13: 9-10). والمحبَّة تكون صادقة (رو 12: 9) تدعونا إلى الاتِّفاق، إلى الفرح مع الفرحين، إلى البكاء مع الباكين، إلى التواضع والوداعة (آ15).

كيف نقرأ بولس اليوم؟ تارة يقول عن الشريعة إنَّها حرَّكت الشهوة فيَّ، وطورًا يقول: »الشريعة مقدَّسة، والوصيَّة مقدَّسة وعادلة وصالحة« (رو 7: 12). فكرُ بولس أوسع من أن نقرأه بسرعة كما يفعل العديد في شرقنا العربيّ، فهو يرفع الإنسان فوق الإنسان، ويدعوه إلى لقاء إخوته وأخواته لا على أمور مادِّيَّة نفعيَّة، بل على مستوى الله، لأنَّ الله محبَّة: »فمن ثبت في المحبَّة ثبت في الله والله ثبتَ فيه« (1 يو 4: 16). فكيف أثبتُ في الله وحدي؟ هذا مستحيل على مثال ما قال أحد الأبطال في الكتب المقدَّسة: أو نموتُ معًا أو نحيا معًا.

3. نعمة الله ظهرت لجميع البشر

حين كان شاول - بولس - ماضيًا من أورشليم إلى دمشق لكي يلاحق المسيحيّين الذين تركوا الإيمان اليهوديّ والتحقوا بيسوع وأخذوا طريقًا آخر، دُعيَ الطريق (أع 9: 2)، في ذلك الوقت تصدَّى له يسوع بنعمته، تصدّى له يسوع ذاته وكأنَّه يقول له: إلى أين أنت ذاهب؟ كانوا يذهبون إلى أورشليم لكي يتعلَّموا الشريعة، أمّا بولس فترك الشريعة الموسويَّة ليأخذ بشريعة المسيح. لهذا هتف في الرسالة إلى فيلبّي: »حياتي هي المسيح، والموتُ ربحٌ لي« (فل 1: 21).

كان بولس ذلك الخاطئَ فبرَّره الله في دمشق حين اعتمد على يد حنانيَّا. كان ذاك المضطهدَ الذي يلاحق المسيحيّين، فسوف يضطهده أبناء قومه ويلاحقونه حتّى الموت. كان متحمِّسًا لقضيَّة »محدودة«، مغلقة على طائفة من الطوائف، فتحوَّل حماسُه كلُّه لقضيَّة أسمى هي قضيَّة يسوع المسيح. فاستطاع أن يهتف باسمه وباسم كلِّ إنسان: »فنعمة الله، ينبوع الخلاص لجميع البشر، ظهرت لتعلِّمنا أن نمتنع عن الكفر وشهوات هذه الدنيا لنعيش بتعقُّل وصلاح وتقوى في العالم الحاضر« (تي 2: 11-12).

النعمة. العطيَّة المجّانيَّة لكلِّ واحد منّا، للبشر جميعًا. والنعمة في النهاية هي يسوع المسيح. والرسول نفسه يقول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا، كيف لا يهب لنا معه كلَّ شيء« (رو 8: 32). أجل، أعطيَت لنا نِعم. ولكنَّ النعمة النعمة هي الابن يسوع المسيح. كما نقول: في الكتب المقدَّسة كلمات وكلمات. ولكنَّ يسوع المسيح هو الكلمة لدى الله لأنَّه الله.

هذه النعمة أخرجَتْنا من العبوديَّة: عبوديَّة الشريعة، عبوديَّة العناصر الأوَّليَّة، عبوديَّة الرؤساء والسلاطين، عبوديَّة القدر والمصير المجهول الذي يخاف منه الإنسان.

تحدَّثنا عن الشريعة ويمكن أن نقابلها مع العبد الذي يقود الطفل إلى المدرسة. ولكن حين صرنا أبناء الله، لم نعد عبيدًا، بل صرنا أحرارًا. أمّا الغلاطيّون المقيمون في الجبال التركيَّة حول أنقرة، فبعد أن صاروا أحرارًا عادوا إلى العبوديَّة. بعد أن نالوا العماد طلبوا الختان، وطلبوا الممارسات اليهوديَّة القديمة، لأنَّها محدَّدة ولا تطلب تفكيرًا كبيرًا. وبَّخهم الرسول وقال لهم أين موقع حرِّيَّتنا؟ في الشريعة أم في المسيح يسوع؟ أراد الإخوة الدخلاء الآتون من خارج المنطقة أن »يستعبدونا، أن يتجسَّسوا الحرِّيَّة التي لنا في المسيح يسوع، فما استسلمنا لهم ولا خضعنا لحظة واحدة« (غل 2: 4). أجل المؤمن حرٌّ في الربِّ الإله. لهذا قال الرسول إلى الغلاطيّين: »فأنتم يا إخوتي دعاكم الله إلى الحرِّيَّة... دعاكم الله لتكونوا أحرارًا« (غل 5: 13أ). ولكنَّه استدرك حالاً: »ولكن لا تجعلوا هذه الحرِّيَّة حجَّة لإرضاء شهوات الجسد، بل اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة« (آ13ب). لا. الحرِّيَّة لا تعني الفلتان بل التمسُّك بالله بملء إرادتنا. الحرِّيَّة لا تقوم في خدمة نفوسنا بالأنانيَّة ولو على حساب الآخرين، بل في خدمة الآخرين في المحبَّة.

قيل للمؤمنين: كيف تُستعبَدون وأنتم خُلقتم من بطن أمِّكم أحرارًا! ولكن هذه الحرِّيَّة مهدَّدة، ونحن نجاهد يومًا بعد يوم لكي نُنميها، اقتداء بالربَّ يسوع الذي كان ذلك الحرّ حتّى وهو ذاهب إلى الموت. قال: »لكي تعرفوا أنّي أحبُّ الآب، قوموا نمضي« (يو 14: 31). وهو من قال: »حياتي لا يأخذها أحد منّي. بل أنا أبذلها وأنا أستعيدها« (يو 10: 18). هكذا تحدَّث عن موته وقيامته. وفي خطِّه راح بولس الرسول الذي كان في السجن وينتظر ساعة تنفيذ الإعدام فيه. قال: »أمّا أنا فذبيحة يُراق دمُها وساعة رحيلي اقتربت« (2 تم 4: 6).

تلك هي حرِّيَّة المؤمن بالنسبة إلى الظروف التي يمكن أن تحيط به. وحين كتب بولس إلى الآتين من العالم اليونانيّ، نبَّههم من عبوديَّة تهدِّدهم: العناصر الأوَّليَّة. اعتاد العالم القديم أن يؤلِّه الأشياء التي حوله: البحر مؤلَّه ولا بدَّ من إرضائه (بالضحايا مثلاً). الجبل مؤلَّه ولا بدَّ من السجود أمامه. وهناك إله الحرب وإله المدينة وإله (أو: إلاهة) الحبّ وإله الموت... حدَّثهم الرسول عن حرِّيَّة المؤمنين: »فإن كنتم متُّم مع المسيح وتخلَّصتم من قوى الكون الأوَّليَّة، فكيف تعيشون كأنَّكم تَنتمون إلى هذا العالم؟ لماذا تَخضعون لمثل هذه الفرائض؟« (كو 2: 20).

الموت هنا يدلُّ على المعموديَّة. مُتُّم عن الخطيئة وذيولها، فهل تبقون في الموت؟ مُتُّم عن هذا العالم، العالم الوثنيّ، أما تريدون أن تتخلَّصوا منه؟ تخلَّقتم بأخلاق العالم، فمتى تتخلَّقون بأخلاق المسيح؟ (فل 2: 5).

قال الرسول لأهل غلاطية: »أمّا الآن، بعدما عرفتم الله، بل عرفكم الله، فكيف تعودون إلى قوى الكون الأوَّليَّة الضعيفة الحقيرة وتريدون أن تكونوا عبيدًا لها كما كنتم من قبل؟ تراعون الأيّام والشهور والفصول والسنين« (غل 4: 9-10). هذه هي العناصر التي تستعبد الإنسانَ لقوى الكون التي يؤلِّهها؟ وهكذا يسيطر الخوف علينا فنودُّ أن نعرف المستقبل وأيّ مصير ينتظرنا. عندما نسمع أولئك الذين يحسبون السنوات من عمرنا والأشهر فيقابلونها مع أعداد أخرى ويقولون لنا ماذا تكون النتيجة، يحزن قلبنا. عندما نسمع الناس يقولون لنا ماذا سوف يحصل في السنة القادمة، لأنَّ هذا الكوكب قريب من ذاك، نتساءل: هل الكواكب الجامدة المائتة تحرِّك الإنسان الذي هو فوق الكواكب وسيِّدها؟ لا شكّ هو قصبة ضعيفة بجسده وهو صغير بالنسبة إلى الكون الواسع، ولكنَّه بعقله وقلبه وحرِّيَّته أرفع من الكون. فلماذا نركع، نخضع، وننتظر خلاصنا من تلاقي الكواكب وموقع الشمس والقمر وتوالي السنين؟

قال الرسول: »كنتم عبيدًا لآلهة ما هي بالحقيقة آلهة« (آ8ب). كنتم معذورون »حين كنتم تجهلون الله« (آ8أ). أمّا الآن، أتريدون أن تلبَثوا في جهلكم الله وتنظِّموا حياتكم بحياتكم؟ كم نشبه الشعب العبرانيّ في البرِّيَّة. كلَّمه الربُّ على الجبل من خلال البروق والرعود وصوت البوق، فقالوا: نعمل بكلِّ ما أوصانا الله. ولكن أين هو هذا الإله؟ نحن لا نسمع صوته. وإن سمعناه فمن خلال موسى كليمه. ولكن نودُّ أن نراه. من أجل هذا صنع لهم هارون، أخو موسى، تمثال عجل. فرحوا بهذا »الإله« الصغير، الحقير، وسجدوا له، ورقصوا حوله. ضحُّوا له بكلِّ شيء »بحلق الذهب التي في آذان نسائهم« (خر 32: 3). وهكذا عادوا إلى العبوديَّة. والإنسان المعاصر بماذا لا يضحّي وأيَّ مال لا يدفع لكي يسمع كلمة خادعة تقول له ماذا يفعل. عباداتنا كثيرة وأصنامنا أكثر: الأشخاص، الأحزاب، المصالح، الغنى، الغرائز...

قرأ بولس هذا النصَّ وغيرَه من سفر الخروج. قال: »فلا أريد أن تجهلوا، أيُّها الإخوة، أنَّ آباءنا كانوا كلُّهم تحت السحابة، وكلُّهم عبروا البحر... وكلُّهم أكلوا طعامًا روحيٌّا واحدًا... ومع ذلك ما رضيَ الله عن أكثرهم، فسقطوا أمواتًا في الصحراء« (1 كو 10: 1-5). اشتهوا الشرَّ فوقعوا فيه. تعبَّدوا للأوثان واستسلموا للزنى... وكانت النتيجة وخيمة.

من أجل هذا دعانا الرسول إلى الجهاد بحيث نبقى أحرارًا. قال لنا في الرسالة إلى أفسس: »ليس جهادنا مع لحم ودم، بل مع أصحاب الرئاسة والسلطان والسيادة على هذا العالم، عالم الظلام والأرواح الشرّيرة« (أف 6: 12). هي عبوديَّة ثالثة تهدِّد الإنسان في حرِّيَّته وعليه في هذا المجال أن يحمل السلاح. ولكن أيُّ سلاح؟ لا الدرع  ولا الترس ولا السهام ولا الخوذة  ولا السيف؟ هذا ما حمله المؤمنون على مرِّ العصور. إذا كنت لا تقدر أن تُحيي، لماذا لا تقتل وتميت؟ إن لم أستطع أن أقنع أخي (أو: أختي) بطرق الله، أقنعه بطرق البشر الذين عرفوا آلاف الحروب صغيرها وكبيرها.

لا. مثلُ هذا السلاح لا ينفع. بل هو مضرٌّ كلُّ الضرر ويبقى المؤمنون في حالة من الضياع والتقهقر. هذا السلاح منذ القديمَ رفَضَهُ الله ومنع الانتقام حتّى عن قايين القاتل. هذا السلاح أفنى قبائل عديدة ودمَّر المدن. لأنَّ من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ، والعنف لا يمكن أن يجرَّ إلاَّ العنف. إذًا، أيَّ سلاح نأخذ؟ »سلاح الله الكامل« (آ13). بمثل هذا السلاح يثبت المؤمن ويقاوم في يوم الشرّ. وهكذا تحوّلَ سلاح البشر. »المنطقة« يضعها المحارب على خصره ليضع فيها ما يلزمه للقتال، صارت في منطق الرسول: الحقيقة. لا مجال للكذب والرياء والاحتيال. والدرع تدلُّ على العدالة والاستقامة. ولا ننسَ نعالَ المحارب التي تحدَّث عنها إشعيا، النعال التي تدوس العدوّ. هذه أحرَقَها الله مع »كلِّ ثوب ملطَّخ بالدماء« (إش 9: 5). هذه النعال صارت الاندفاع والحماسة لحمل الخبر الطيِّب إلى البشر، إنجيل السلام. وإن واجهتنا السهام لا نردُّها بسهام مقابلة بحيث نُقتَل أو نَقتل، فترسُنا هو الإيمان. ويتحدَّث النصُّ عن »سهام الشرّير«، أي الشيطان. فعالم الحرب هو عالم إبليس، ذاك الذي دعاه الربّ: »الكذّاب وأبا الكذب«. قال عنه: »ما ثبت على الحقّ، لأنَّ لا حقَّ فيه. وهو يكذب، والكذب في طبعه« (يو 8: 44).

وأخيرًا، أين يكون الخلاص الذي رمزت إليه خوذة يلبسها المؤمن؟ في كلام الله. ذاك هو السيف الذي به نحارب، فقيل: »كلمة الله حيَّة فاعلة، أمضى من كلِّ سيف له حدَّان، تنفذُ في الأعماق« (عب 4: 12). عندئذٍ وعندئذٍ فقط يستطيع الإنسان أن يكون حرٌّا. فالبغضُ يَستعبد ومثله الحقد. والسلاح البشريّ يُشعل الخوف من خصمي ويشعله فيَّ. وماذا يُرجى من مجتمع يعيش التهديد المتبادل؟ ومن أجل هذا العنف نستعدُّ للتضحية بكلِّ شيء. وهكذا صار العنف إلهًا نعبده. والقوَّة رَبَّة نخضع لها. ولكن إذا كنّا عرفنا الله، هل نعبد سواه؟ وإذا كان الله عرفَنا، اختارنا، أحبَّنا، أرادنا لمهمَّة رائعة وهي إضفاء مسحة من الجمال على الكون، وإحلال السلام بيننا وبين الآخرين، فماذا ننتظر لكي نتجاوب مع هذا النداء؟

الخاتمة

هكذا نقرأ بولس الرسول في أيّامنا، لا كما يقرأه بعض كتّابنا في هذا الشرق، فلا يتعدُّوا حرف الكلام. هم لا يَصلون إلى الروح، مع أنَّ بولس قال: الحرف يقتل والروح يُحيي. وفي الغرب؟ هذا الذي حسبه بعض العالم الغربيّ »مؤسِّس المسيحيَّة« دعا نفسه »عبد يسوع المسيح ورسوله«. أنريد للإيمان أن يكون عمل بشر؟ مثلُ هذا العمل يَسقط بسرعة على ما قال المعلِّم غملائيل في محاكمة الرسل: »لأنَّ ما يبشِّرون به ويعلِّمونه يزول إذا كان من عند البشر. أمّا إذا كان من عند الله، فلا يمكنكم أن تزيلوه لئلاَّ تصيروا أعداء الله« (أع 5: 38-39). أجل، ما نقرأه في الرسائل البولسيَّة هو من عند الله. تَسلَّمه بولسُ في الكنيسة وسلَّمه إلى الجماعات التي بشَّرها. اكتشف الربَّ على طريق دمشق وأراد لكلِّ إنسان أن يكتشف ما اكتشفه هو.

محيطنا الشرقيّ يحتاج إلى نظرة جديدة إلى المرأة إذا أراد أن يرتقي. وبولس ينبِّهنا: امرأة حرَّة رجل حرّ. امرأة عبدة، رجل عبد. وتكون المسيرة كما أرادها الرسول تدريجيَّة لئلاَّ يحصل ما يحصل في بعض الدول الغربيَّة من المآسي. محيطنا الشرقيّ مقيَّد بالشرائع وكأنَّه لم يتخلَّ بعدُ عن »خمير الفرّيسيّين والصادوقيّين« (مت 16: 6). الإكراه، القهر، تتميم الوصايا »البشريَّة« والعادات التي تتجذَّر في القديم الوثنيّ بما فيه من خرافات وأكاذيب تُبقي الإنسان عابدًا لما يخاف. لا شريعة سوى شريعة المحبَّة ومنها تنطلق كلُّ الشرائع والوصايا. فحين تغيب المحبَّة لا يكون الإنسان مؤمنًا بالله، ولا يمكنه أن ينتظر منه خلاصًا. والحرِّيَّة في قلوبنا هي نداء بولس الرسول إن عرفنا أن نفهمه. لا مكان للقَدَر في نظر المؤمن، تلك القدرة التي اعتُبرت في العالم القديم فوق الآلهة والبشر. لا مكان لمصير محدَّد يُكتَب لنا فلا نستطيع أن نتجاوزه. لا مكان لقوَّة حتميَّة مسبقة تحدِّد مسيرة الأحداث. علَّمَنا الرسول: لا رجوع إلى الوراء، إلى الأمجاد الماضية نفتخر بها بعد أن زالت ومضت. بل تطلُّعٌ إلى الأمام. وبهذا نختم كلامنا: »أترك ما ورائي وأنبطح إلى الأمام من أجل الدعوة العلويَّة«. تلك دعوةٌ إلى كلِّ واحد منا. تلك  دعوة إلى الشرق العربيّ ليأخذ مكانته بين الأمم والشعوب من أجل بناء الإنسان وحضارة المحبَّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM