الفصل الرابع عشر: يسوع المسيح في اللاهوت البولسيّ

الفصل الرابع عشر

يسوع المسيح

في اللاهوت البولسيّ(*)

بعد صعود يسوع المسيح إلى السماء وانطلاقة الكنيسة،  بدأ التساؤل حول هويَّة يسوع المسيح. وبرزت سريعًا الهرطقات التي نجد ردٌّا عليها في العهد الجديد. قال يوحنّا في إنجيله: »والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا« (1: 14). أي من لحم ودم sarx. وفي رسالته الأولى: »كلُّ روح يعترف أنَّ يسوع جاء في (جسم) بشريِّ، في اللحم (والدم)، يكون من الله، وكلُّ روح لا يعترف بـ homologei... أو بالأحرى: كلُّ روح يقسم luei (اليونانيَّة) solvit (اللاتينيَّة) يسوع، يمزِّق يسوع، لا يكون من الله« (4: 2-3). وتحدَّثت رسالة يوحنّا الثانية عن المضلِّلين الذين »لا يعترفون بمجيء يسوع المسيح في (جسم بشريِّ)، في اللحم (والدم)« (آ7). هي ردَّة فعل من قبل الفكر الهلِّينيِّ المطبوع بالثنائيَّة والمهتم بالحفاظ على تعالي اللاهوت بالنسبة إلى المادَّة وعلى لافساديَّته. فالمسيح الكائن الروحيُّ لا يمكن أن يأتي في اللحم والدم sarx، بل هو روح اتَّخذ ظاهر »الجسم البشريّ«. هنا بذور الفكر الغنوصيِّ مع تلاميذ ولنطين ومرقيون، الذي ردَّ عليه إيرينه وترتليان في تشديد على وحدة المسيح في انضمام اللوغوس الإلهيِّ والساركس أو العنصر البشريِّ. وفي خطِّ الغنوصيَّة عينها، اعتُبر يسوع أدنى من الملائكة لأنَّه اتَّخذ جسمًا بشريٌّا. فقدَّمت الرسالة البولسيَّة إلى العبرانيّين البراهين على سموِّ الابن، موردةً عددًا من نصوص العهد القديم. وأنشدت الرسالة إلى كولوسّي ذلك »الذي به خُلق كلُّ شيء في السماوات وفي الأرض، ما يُرى وما لا يُرى، أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان« (1: 16). الملائكة هم خدَّام، أمّا يسوع فهو الابن. كما أطلَّت هرطقة تعلن أنَّ يسوع صار ابنًا لله ساعة عماده في الأردنِّ. ونتذكَّر هنا بعض الأسماء مثل بولس الشميشاطيّ وصولاً إلى أريوس ذاك الآتي من ليبيا إلى الإسكندريَّة، والذي علَّم أنَّ ابن الله أدنى من الآب، مُبرزًا تراتبيَّة الوظائف داخل الثالوث الأقدس، ثمَّ أونوميوس الذي ردَّ عليه آباء الكنيسة في أنطاكية والكبادوك.

في وجه كلِّ هذه التيّارات، أُعلن قانون الإيمان النيقاويِّ القسطنطينيِّ الذي وجد جذوره في الرسائل البولسيَّة. ونحن نقدِّم مطالعتنا في ثلاث محطّات: يسوع المسيح هو الربّ. يسوع المسيح هو ابن الله، هوموأوسيوس. فالابن والآب هما من جوهر واحد. وأخيرًا، يسوع المسيح هو الكلمة المتجسِّد »الذي لأجلنا نحن البشر، ولأجل خلاصنا، نزل وتجسَّد وتأنَّس وتألَّم وقام في اليوم الثالث« كما قال مجمع نيقية المنعقد سنة 325، أو كما يقول مجمع القسطنطينيَّة الأوَّل المنعقد سنة 381: »الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، نزل من السماوات وتجسَّد من الروح القدس ومن مريم العذراء، وتأنَّس، وصُلب عنّا على عهد بونتيوس بيلاطس، وتألَّم ودُفن. وقام في اليوم الثالث بحسب الكتب...«.

 

1. يسوع المسيح هو الربُّ

اعتادت الرسائل البولسيَّة أن تذكر في بدايتها الله الآب والربَّ يسوع المسيح. ففي الرسالة الأولى إلى كورنتوس نقرأ: »عليكم النعمة والسلام من الله أبينا والربِّ يسوع المسيح« (1: 3). وتتكرَّر العبارة عينها في الرسالة الثانية إلى كورنتوس (1: 2) وفي الرسالة إلى أفسس (1: 2). ونشير إلى أنَّ لفظ »الربّ« kyrios في كلام عن الربِّ يسوع يرد مرّات ومرَّات في الرسائل البولسيَّة. ففي الرسالة إلى رومة وحدها نقرأ العبارة عشرين مرَّة تقريبًا، ولا نقول شيئًا عن سائر الرسائل. هذا ما أتاح لآباء المجمع في نيقية أن يقولوا: »وبربٍّ واحد يسوع المسيح«.

ماذا تعني كلمة الربّ kyrios؟ هذا الموصوف اليونانيّ kyrios تكوَّن في القرن الرابع ق.م. انطلاقًا من الصفة التي صارت موصوفًا to kyrios: سيِّد فلان أو فلانة، من له سلطة، السلطان. مثلاً، سيِّد المدينة. وتوسَّع المعنى: السيِّد، مالك العبد، مالك البيت. وما عتَّم هذا اللفظ أن اتَّخذ المدلول الدينيّ: فالإله هو الربُّ kyrios. وما نلاحظ في الشرق هو أنَّ الملك يُدعى الربَّ والإله. ذاك ما قيل عن بطليمس الثالث عشر (51-47 ق.م.): الربُّ الملك الإله. ودُعيَ بطليمس الرابع عشر (47-44 ق.م.) مع امرأته كليوبترا kyrioi theoi megisthoi الربّان الإلهان العظيمان جدٌّا. وفي رومة أُلِّه الإمبراطور. فدُعيَ أوغسطس سنة 12 ق.م. theos kai kyrios kaisar autocrator: الإله والربّ القيصر الحاكم بأمره. وحافظ خلفاؤه على اللقب kyrios وخصوصًا نيرون Kyrios Nero. ومن خلال هذا، نجد الكلام عن العظمة والجلالة وارتباط بالمسكونة oikoumené. هنا نفهم ما قاله لوقا في مقدِّمة خبر ميلاد الربِّ يسوع: »وفي تلك الأيّام صدر أمرٌ من أوغسطس قيصر بأن يُكتَب كلُّ المسكونة« (2: 1).

الثورة الأولى بدأت مع الترجمة اليونانيَّة المدعوَّة السبعينيَّة. ما استعملت كيريوس فقط في المعنى العاديِّ والمعروف: سيِّد البيت (قض 19: 22-23) أو الثور (خر 21: 28-29) أو بئر (خر 21: 34)، بل ترجمت المربَّع الإلهيَّ (ي هـ و ه)، بحيث إنَّ إله موسى هو »الربّ« kyrios. قال المزمور 68: 5: اسمه الربّ kyrios onoma autô (مز 148: 13). والله قال عن نفسه: »يعرف المصريّون أنّي أنا الربّ« egô eimi kyrios. وهكذا يصاغ لاهوت بالنظر إلى سيادة هذا الإله القدير والمتسامي، الذي يجب أن يخافه الإنسان ويحبَّه. عرشُه في السماوات (مز 103: 19؛ سي 1: 8). هو »العليُّ على كلِّ الأرض« kyrios hypsistos (مز 97: 9؛ سي 16: 1؛ دا 2: 19)، ومجده يدوم إلى الأبد (خر 16: 7، 10؛ عد 14: 10). إله الشعب العبرانيِّ هو الربُّ الملك، الربُّ الذي يملك إلى الدهر والأبد« (خر 15: 18؛ مز 146: 10). هو الربُّ والله (إر 31: 18؛ با 2: 27؛ 3: 6). هو »الربُّ وإله الآلهة« (مز 50: 1؛ 95: 3؛ 96: 4). وقال المرتِّل: »أنا عرفتُ أنَّ الربَّ عظيم megas، وربُّنا فوق جميع ِpara pantas الآلهة« (مز 135: 5). في الإسكندريَّة بآلهتها المتعدِّدة ومعابدها، أعلن الكتاب المقدَّس أنَّ الله هو الربُّ المتسامي، المتعالي، وهو وحده الله في العالم.

والثورة الثانية قام بها بولس الرسول في أوَّل ما نعرف من كتب العهد الجديد. فأعطى لقب الربِّ ليسوع المسيح. ففي سنة 51، دوَّن الرسالة الأولى إلى تسالونيكي فكتب: »بولس وسلوانس وتيموتاوس، إلى كنيسة التسالونيكيّين، في الله الآب والربِّ يسوع المسيح« kai kyrio Iesou Christô. ثمَّ أضاف العبارة عينها في الآية ذاتها: »نعمة لكم وسلام من الله أبينا والربِّ يسوع المسيح« (1 تس 1: 1). وعاد وقال في آ3: »نذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح«.

بالنسبة إلى الشعب اليهوديِّ، أعلن بولس أنَّ يسوع هو كيريوس، هو يهوه، الإله الذي هو. أو كما قال اليونان: الكائن. أنا هو »الكائن« egô eimi hô ôn. ممّا يعني المساواة التامَّة بين ما قيل عن الله وما يُقال عن يسوع المسيح. سوف يقول »النؤمن«: إله من إله، نور من نور، إله حقٌّ من إله حقٍّ«.

رفض الشعب اليهوديُّ أن يعلن يسوع عن نفسه أنَّه »الله«، وأرادوا أن يرجموه أكثر من مرَّة. مرَّة أولى، قال لهم يسوع: »الحقَّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم أنا كائن« (يو 8: 58). أو: أنا هو. وماذا كانت ردَّة الفعل: »رفعوا حجارة ليرجموه«. ومرَّة ثانية قال: »أنا والآب واحد« (يو 10: 31). فجاؤوا بحجارة ليرجموه. وبولس شدَّد على أنَّ يسوع هو الملك الإلهيّ والمسيح الآتي من أجل خلاص البشر. لهذا كتب تلميذه القدّيس لوقا موردًا كلام الملاك: »وُلد لكم اليوم في مدينة داود مخلِّص هو المسيح الربُّ« sôter hos estin christos kyrios (2: 11).

وطرح الشعب الرومانيُّ: من هو الربُّ وسيِّدُ المسكونة؟ هل هو الإمبراطور؟ وجاء الجواب: كلاَّ. ففي مشهد الميلاد، الطفل الإلهيُّ هو سيِّد المسكونة، لا ذاك الذي اعتبروه حاملاً السلام على الأرض بعد الحروب العديدة التي خاضها. حامل السلام هو ذاك الذي أنشده الملائكة: »المجدُ لله في العلى وعلى الأرض السلام« (آ14). والله أراد أن يجمع في ابنه »في المسيح كلَّ شيء، ما في السماوات وما على الأرض« (أف 1: 10). وقال بولس في الأولى إلى تيموتاوس: »صادقة هي الكلمة ومستحقَّةٌ كلَّ قبول أنَّ المسيح يسوع جاء إلى العالم ليخلِّص الخطأة الذين أوَّلهم أنا«. أجل، لخلاص العالم كلِّه. وفي هذا نقرأ إنجيل يوحنّا: »هكذا أحبَّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد« (يو 3: 16). وبما أنَّنا في الإطار اليوحنّاويّ، نلاحظ هذا الصراع بين المسيحيّين الذين يعلنون يسوع كيريوس، الربَّ، وبين السلطة الرومانيَّة التي تعتبر الإمبراطور هو كيريوس الذي يجب أن يُخضع له الجميعُ ويسجد ويقدِّم البخور. فمنذ بداية سفر الرؤيا يرد فعل إيمان بالمسيح: »هوذا يأتي مع السحاب (كابن الإنسان، دا 7: 13؛ مت 24: 30)، وستنظره كلُّ عين، والذين طعنوه (يو 19: 34)، وينوح عليه جميع قبائل الأرض (زك 12: 10، 14). أنا الألف والياء (أي البداية والنهاية، مخطوط جبل أتوس، القرن التاسع)، قال الربُّ الإله، الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كلِّ شيء« (1: 7-8). ماذا بقي لأوغسطس الذي وُلد سنة 63 ق.م. وتوفِّي سنة 14 ب.م. والذي حكم من سنة 27 ق.م. إلى سنة 14 ب م؟ له بداية وله نهاية. ثمَّ إنَّ قدرته تقف عند حدٍّ من الحدود، أمّا الابن فلا حدود لسلطانه .pantokrator لهذا دعاه سفر الرؤيا: ملك الملوك وربُّ الأرباب (19: 16) basileus basilôen kai kyrios kyriôn. وسبق وقال: »ملك الربِّ الإله القادر على كلِّ شيء« (آ6). وربط سفر الرؤيا كلامه بما قيل عن »يهوه« في ترجوم العهد القديم، الذي هو من الأزل إلى الأبد: »الكائن والذي كان والذي يكون« فيسوع هو »الذي يأتي« erchomenos ممّا يدلُّ على المجيء الثاني.

»يهوه« العهد القديم هو يسوع المسيح، الربّ. وكيريوس، اسم الإمبراطور، صار اسم يسوع المسيح، الحمل الوديع، »ربُّنا الذي صُلب« (رؤ 11: 8) وقيل عنه: »صارت ممالك العالم لربِّنا ومسيحه فيملك إلى أبد الأبدين« (آ15). نلاحظ صيغة المفرد »يملك«، لا المثنّى: فما يعمله الآب يعمله الابن أيضًا، كما قال يوحنّا (يو 5: 19). وأخيرًا، يسوع المسيح هو وحده الربُّ تجاه »أرباب« مزعومين. قال الرسول إلى أهل كورنتوس: »يُوجَد آلهة كثيرون وأرباب كثيرون« (1 كو 8: 5). هم يُسمَّون هكذا، يُقَال عنهم. فمن هم هؤلاء الكثيرون؟ آلهة الوثنيّين وأبطالهم. وفي أيِّ حال، سوف يدعوهم الرسول: الشياطين: »ما يذبحه الأمم (للأوثان) إنَّما يذبحونه للشياطين« (1 كو 10: 20).

تجاه هذا الاعتقاد في العالم اليونانيّ، أعلن الرسول إيمان الكنيسة: »أمّا نحن فلنا إله واحد، الآب الذي فيه جميع الأشياء، ونحن له، وربٌّ واحد، يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء ونحن له« (1 كو 8: 6). ما قيل عن الآب قيل عن الربِّ يسوع: واحد heis. ثمَّ ta panta (كلُّ الأشياء) هي للآب والابن. فالآب خلق كلَّ شيء بالابن، على ما نقرأ في الرسالة إلى كولوسّي: »به خُلق كلَّ شيء« (1: 16).

بربِّنا يسوع المسيح لنا السلام مع الله بعد أن تبرَّرنا بالإيمان (رو 5: 1). آمنّا، تعلَّقنا بالربِّ، غابت العداوة بيننا وبين الله، فعرفنا السلام مع الله وملء البركات، بيسوع صار لنا الدخول إلى النعمة والثبات فيها، بانتظار المجد الذي نرجوه منذ الآن (آ2). فلم يبقَ مجال للخوف ولا للارتياب، بل نحن »نفتخر بربِّنا يسوع المسيح الذي نلنا به الآن المصالحة« (آ11). في الماضي، ملكت الخطيئة وحملت إلينا الموت، أمّا الآن فلنا النعمة والحياة وكلُّ هذا »بيسوع المسيح ربِّنا« (آ21). ويُفهمنا الرسولُ دور الربِّ في عبورنا من الموت إلى الحياة في هذه الرسالة عينها: »احسبوا أنفسكم أمواتًا عن الخطيئة ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربِّنا« (رو 6: 11). في الماضي، كانت أجرة الخطيئة الموت، أمّا الآن »فهبة الله حياة أبديَّة بالمسيح ربِّنا« (آ23). في هذا الإطار نفهم أنَّ الخلاص يرتبط بالاعتراف بيسوع المسيح. »فإن اعترفتَ بفمك بالربِّ يسوع، وآمنتَ بقلبك أنَّ الله أقامه من بين الأموات، خلصت« (رو 10: 9). والرسالة إلى تيطس تعلن في بدايتها: »نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والربِّ يسوع المسيح مخلِّصنا« (1: 4). أجل، الربُّ يسوع »خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس الذي سكبه بغنى علينا« (تي 4: 5-6).

 

2. يسوع المسيح هو ابن الله

ويتواصل النؤمن: »ابن الله المولود الوحيد monogenes من الآب، أي من جوهر الآب«. ثمَّ »هو إله، إله حقّ، مولود غير مخلوق، مساوٍ للآبِ في الجوهر«. هنا برزت بدعة أريوس بسبب أفكاره حول الابن، فطرده سينودس محلِّيٌّ من الجماعة الكنسيَّة، بانتظار أن يُرسَل إلى المنفى بعد مجمع نيقية سنة 325. لخَّص الإسكندر، بطريرك الإسكندريَّة تعليم أريوس والأريوسيّين كما يلي: يقولون

* الله لم يكن دومًا الآب، بل كان زمنٌ لم يكن فيه الآب.

* والكلمة لم يُوجَد دومًا، بل جاء إلى الوجود من اللاموجود.

* والله الذي وُجد، صنع ذاك الذي لم يوجد انطلاقًا من اللاموجود.

* لهذا كان زمن لم يكن الكلمة فيه موجودًا.

* الابن هو خليقة الآب وعمله. ولا يشبه الآب في الجوهر، ولا هو كلمته الحقيقيُّ بحسب الطبيعة، ولا هو حكمته الحقيقيَّة، بل هو شيء من الأشياء التي صُنعت وأُحدثت.

* يُدعى الابن والحكمة بشطط (وإفراط) بعد أن أنتجه كلمة الله الخاصّ وحكمته الخاصَّة. إذًا هو متغيِّر ومتحوِّل بطبعه مثل كلِّ الكائنات العاقلة.

ذاك ما أورده سقراط في التاريخ الكنسيّ 2-3 (الآباء اليونان 67: 45ب). وفي الخطِّ عينه راح »الهوميون« الذين اعتبروا الابن شبيهًا homoios بالآب، لا من ذات جوهر الآب. أمّا الأنوميّون فقالوا إنَّ الابن غير شبيه homoios بالآب. هنا نفهم لماذا قال الآباء في مجمع نيقية: ''أمّا الذين يقولون: ''كان زمان ولم يكن فيه'' و''قبل أن يُولَد لم يكن'' و''إنَّه صار ممّا لم يكن''... مؤكِّدين أنَّ ابن الله مخلوق، أو قابل للتغيُّر أو التحوُّل، فهؤلاء تحرمهم الكنيسة الجامعة«. ولكن ما هو إسناد آباء المجمع؟ هنا نعود إلى العهد الجديد، ولاسيَّما إلى الرسائل البولسيَّة.

»في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله« (يو 1: 1). ميَّز يوحنّا هنا بين »تيوس« مع ال التعريف ho theos التي تدلُّ على الآب، و»تيوس« بدون أل التعريف theos التي تشير إلى اللاهوت. وكان منطقيٌّا مع هذا الاستعمال. فقال في آ2: »هذا كان في البدء عند الله«. فحين الكلام عن علاقة الآب بالابن، فأل التعريف حاضرة. مثلاً: »أنتم تؤمنون بالله (الآب)، فآمنوا بي« (يو 14: 1). أو في 16: 27: »لأنَّ الآب نفسه يحبُّكم، لأنَّكم أحببتموني وآمنتم أنّي من عند الله. خرجتُ من عند الآب وأتيت إلى العالم...«.

هكذا نفهم التمييز بين الآب والابن، كما نعرف أنَّ الابن يشارك الآب في الألوهة. هو أمر واضح عند القدِّيس بولس حين يتحدَّث عن »الله الآب« و»الربِّ الابن«. نقرأ مثلاً ما ورد في الرسالة إلى تيطس: »منتظرين الرجاء السعيد makarios وظهور مجد إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح« (2: 13). هو كلام واضح عن يسوع الذي هو المخلِّص والله، على أثر ما قيل عن تجلّي نعمة الله. ما نلاحظ في الرسائل الرعائيَّة، أي الرسالتين إلى تيموتاوس والرسالة إلى تيطس، هو أنَّ صفة المخلِّص تُعطى تارة للآب وطورًا للابن. ففي الأولى إلى تيموتاوس، نقرأ منذ البداية: »بولس رسول يسوع المسيح، بحسب أمر الله مخلِّصنا، وربِّنا يسوع المسيح« (1: 1). وتعود العبارة عينها في 2 تم 1: 1 ولكن مطبَّقة على الابن: »النعمة... أُظهرت الآن بظهور مخلِّصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود«. أمّا في الرسالة إلى تيطس فترد لفظة »مخلِّص« مرتبطة بالآب والابن: »أظهر كلمته... بالكرازة التي أؤتمنتُ أنا عليها بأمر مخلِّصنا الله... نعمة ورحمة وسلام من الله الآب والربِّ يسوع المسيح مخلِّصنا« (1: 3-4). وتعود البنية عينها في كلام عن »الله مخلِّصنا« (تي 3: 4) ثمَّ عن »يسوع المسيح مخلِّصنا« (آ6).

الآب هو المخلِّص والابن هو المخلِّص. الآب هو الله. إذًا الابن هو الله، وما يعمله الآب يعمله الابن مثله. »كما أنَّ الآبَ يقيم الموتى ويُحييهم كذلك الابن أيضًا يحيي من يشاء« (يو 5: 21). وما نقوله عن القيامة، نقوله عن الدينونة: »الآب لا يدين أحدًا، بل أعطى الدينونة للابن، لكي يكرم الجميعُ الابنَ كما يكرمون الآب. فمن لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله« (آ22-23). ويتواصل مثلُ الكلام في هذا الفصل من إنجيل يوحنّا حيث يتساوى الآب والابن: »كما أنَّ الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضًا أن تكون له الحياة في ذاته« (آ26).

ونورد ما كتبه الإنجيل عن شفاء المخلَّع. بدأ يسوع وقال للمريض: »مغفورة لك خطاياك« (مر 2: 5). اعتبر الحاضرون أنَّ هذا »الرجل« يجدِّف: »من يقدر أن يغفر الخطايا إلاَّ الله وحده؟« (آ7). ولكنَّ يسوع بيَّن أنَّه الله حين أرفق غفران الخطايا بالشفاء: »لكي تعلموا أنَّ لابن الإنسان سلطانًا على الأرض أن يغفر الخطايا«، قال للمخلَّع: »قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك« (آ11). وماذا كانت النتيجة؟ »فقام للوقت وحمل سريره وخرج قدَّام الجميع« (آ12).

فهذا الابن هو »في صورة الله« en morphê theou. وهو »معادل لله«، مساوٍ لله. فكيف يأتي من يقول إنَّه أدنى من الله. هو صار بشرًا، وأطاع حتّى الموت على الصليب. ولكنَّ الله رفعه »لكي تجثو باسم يسوع كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلُّ لسان أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب« (فل 2: 6-11). إذا كانت الوصيَّة واضحة بأنَّ السجود واجب لله وحده، فهذا يعني أنَّ يسوع المسيح هو الله. نحن هنا على مستوى الإيمان، والعقل البشريّ لا يستطيع أن »يفهم« انطلاقًا من الأمور الفلسفيَّة. هنا نفهم كلام الرسول في معرض كلامه عن المواهب: »لا يقدر أحد أن يقول »يسوعُ ربّ« إلاَّ بالروح القدس.

يسوع المسح هو الله، مساوٍ لله الآب. الآب لا يُرى، ولكنَّ الابن الذي هو »صورة الله« (كو 1: 15) eikôn tou theou، جعل الله منظورًا. طلب منه فيلبُّس: »أرنا الآب وكفانا«، فكان جواب يسوع: »من رآني رأى الآب. ألا تؤمن أنّي في الآب والآب فيَّ« (يو 14: 8-10). وكان الإنجيليُّ تحدَّث عن »الله الذي لم يره أحد قطُّ« (يو 1: 18). ولكنَّه أسرع فقال: الابن الذي في حضن الآب أخبر عنه«. فهذا الابن الوحيد الذي يقاسم الآب حياته مقاسمة لا حدود لها، يستطيع وحده أن يقود الناس إلى معرفة الله: بشخصه، بما يقوله، بما يعمله. وهناك صورة ترد مرارًا في سفر الرؤيا في الكلام عن العرش الذي يدلُّ على موضع الله. في 21: 5 نقرأ: »وقال الجالس على العرش«. هو الله الآب الذي يصنع كلَّ شيء جديدًا، وفي 22: 3 نعرف أنَّ العرش هو عرش الله والحمل، أي يسوع المسيح »الذي هو في حضن الآب«.

ويسوع هو الابن، هو ابن الله. ونبدأ بقراءة النصوص البولسيَّة. فيسوع »ابنه الذي صار من نسل داود من جهة الجسد، تعيَّن ابن الله بقوَّة من جهة روح القداسة، بالقيامة من بين الأموات« (رو 1: 13-14). وفي غل 4: 4: »ولكن لمّا جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة«.

نقول في النؤمن عن يسوع إنَّه »ابن الله«. هي تسمية تتكرَّر عند القدّيس بولس. فحين يذكر صدق الرسل، يقول: »لأنَّ ابن الله يسوع المسيح، الذي نكرز به بينكم بواسطتنا... لم يكن نعم ولا...« (2 كو 1: 19). وفي الرسالة إلى غلاطية التي هي رسالة البنوَّة والحرِّيَّة، يعلن الرسول: »مع المسيح صلبتُ. فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياه الآن في (الجسم) البشريّ، فإنَّما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبَّني وأسلم نفسه لأجلي« (غل 2: 20). هكذا يُذكر ابن الله. أو يرد لفظ »الابن« مع ضمير الغائب، فيقال: ابنه. ففي الرسالة عينها، يقول الرسول: »ولكن لمّا سُرَّ الله... أن يعلن ابنه فيَّ لأبشِّر به بين الأمم...« (1: 15-16). وفي 4: 6: »ثمَّ بما أنَّكم أبناء، أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم«. أمّا في الرسالة إلى كولوسّي، فنقرأ عبارة خاصَّة: »شاكرين الآب الذي... نقلنا إلى ملكوت ابن محبَّته« (1: 13).

ما معنى أن يكون يسوع »ابن الله« أو: »ابن الآب«؟ حين نتذكَّر أنَّ الميتولوجيّات القديمة عرفت زواج الآلهة، وأبناء وبنات الآلهة، نرى التحدِّي الكبير أن تكون عبارة »ابن الله« وردت أوَّل ما وردت في الرسائل البولسيَّة، وفي العالم اليونانيّ. لا شكَّ في أنَّ هذه العبارة استُعملت في العهد القديم، ولكنَّها لم تحمل إلاَّ المعنى الرمزيّ، لأنَّ العالم اليهوديِّ شدَّد على وحدانيَّة الله، وما تخيَّل يومًا أن يكون لله »ابن«. أمّا ما نقرأ في الأناجيل الإزائيَّة عن »ابن الله«، ففهمه اليهود عن الملك، كما في العبارة اليوحنّاويَّة التي جاءت بلسان نتنائيل: »أنتَ ابن الله! أنت ملك إسرائيل!« (يو 1: 49). ولن يُفهَم في المعنى المسيحيّ إلاَّ على ضوء القيامة. وكان جدال بين يسوع واليهود. اعتبروه مجدِّفًا: »فإنَّك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا« (يو 10: 33). إذًا فهموا مقاله. فعاد إلى المزامير (82: 6) ليبيِّن أنَّه ليس مجدِّفًا. »إن قال آلهة لأولئك الذين صارت إليهم كلمة الله، ولا يمكن أن يُنقَضَ الكتاب، فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له: إنَّك تجدِّف، لأنّي قلتُ: إنّي ابن الله؟« (آ35-36). أمّا البرهان بأنَّ هذا »المجدِّف« هو ابن الله، هو أنَّه يعمل أعمال الآب. وهكذا »تعرفون وتؤمنون أنَّ الآب فيَّ وأنا في الآب«. مثل هذا الاتِّحاد الحميم لا يمكن أن نقبل به إذا كنّا لا نؤمن. وإذا كان الله أراد أن يرفع »الأبناء« إلى مستوى ابن الله عن طريق التبنّي، فكيف نسمح لنفوسنا بأن نُحدر ابن الله إلى مستوى البشر، بدلاً من أن نرفع البشر إلى مستوى ابن الله. على ما قال الآباء: »صار ابن الله إنسانًا ليجعل الإنسان ابن الله«. فتحدَّثت الرسالة إلى العبرانيّين عن يسوع الذي »وُضع قليلاً عن الملائكة، ولكنَّنا نراه مكلَّلاً بالمجد والكرامة« (2: 9). »لاق بذاك الذي من أجله الكلّ وبه الكلّ، وهو آتٍ بأبناء كثيرين إلى المجد، أن يكمِّل رئيس خلاصهم بالآلام، لأنَّ المقدِّس (يسوع) والمقدَّسين (المؤمنين) جميعهم من واحد (هو تضامن بين المسيح والبشر)، فلهذا لا يستحي أن يدعوهم إخوة« (آ10-11).

وما يتفرَّد به يوحنّا هو أنَّه يدعو يسوع المسيح »الابن« بدون مضاف إليه: »الآب يحبُّ الابن ودفع كلَّ شيء في يده« (3: 35). هكذا لم يبقَ للآب شيء يعمله. »الآب يحبُّ الابن ويريه جميع ما يعمله« (5: 20). كما الآب... كما الابن (آ21، 22، 23، 24). هناك ابن واحد، وليس سواه، كما كان إشعيا مثلاً يقول: »أنا هو الربُّ ولا إله غيري«. ويقول يوحنّا أيضًا: الابن الوحيد (1: 18) monogenês. ذاك هو التعبير في قانون الإيمان. والبرديَّة 46 قدَّمت قراءة رائعة: ما من أحد رأى الله. الله theos الابن الوحيد... وهكذا تبرز العبارة الإيمانيَّة: إله من إله. الابن الوحيد من الله الآب. هذا الابن الوحيد بذله الآب (3: 16) لكي تكون للبشريَّة الحياة الأبديَّة. فمن يؤمن بالآب لا يُدان، والذي لا يؤمن يُدان »لأنَّه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد« (آ18). إيمان بالآب، إيمان بالابن.

أمثلُ هذا الابن يتبدَّل؟ قالت لنا الرسالة إلى العبرانيّين: »يسوع المسيح هو هو، أمسِ واليوم وإلى الأبد« (13: 8). وجاءت المقابلة بين الخلائق والابن مع استناد إلى الكتاب المقدَّس: »أنت يا ربُّ في البدء أسَّست الأرض، والسماوات هي عمل يديك. هي تزول وأنت تبقى، وكلُّها كثوب تبلى، وكرداء تطويها فتتغيَّر. أمّا أنت فسنوك لا تفنى« (عب 1: 10-12). وفي مقابلة للابن مع الملائكة، يأتي فعل صنع poieô: »الصانع ملائكته أرواحًا« (آ7). فالملائكة الذين اعتُبروا، في بعض البدع، أرفع من الابن هم »مصنوعات« الابن. كما »يسجدون له« (آ6) على أنَّه ربُّهم وإلههم.

وتبدأ الرسالة إلى العبرانيّين بوصف الابن الذي جعله الآب »وارثًا لكلِّ شيء« (آ2)، الذي به صنع الله »الدهور« aiônas. إذا هو قبل الدهور والعوالم، ومن يكون هذا إلاَّ الله وابن الله: »أنت ابني وأنا اليوم ولدتك« (آ15). ثمَّ: »أكون له أبًا ويكون لي ابنًا«. ذاك هو معنى المولود كما في قانون الإيمان gegonnêmenon. وقال الآباء في نيقية: هو غير مخلوق. أيُعقل أنَّ الذي بيده خُلق كلُّ شيء أن يكون مخلوقًا. En auto ektisthé (كو 1: 16). وتحدَّثت الرسالة إلى أفسس عن »الله خالق الجميع بيسوع المسيح« (3: 9). ويلتقي يوحنّا مع بولس الرسول: »به كان كلُّ شيء، وبدونه ما كان شيء ممّا كان« (1: 3). ثمَّ »فيه كانت الحياة«. كلُّ هذا يُفهمنا أن يكون الابن »بهاء مجدُ الآب ورسمُ جوهره« hypostaseôs.

3. يسوع المسيح الكلمة المتجسِّد

»بعد أن كلَّم الله الآباء بالأنبياء قديمًا... كلَّمنا في هذه الأيّام الأخيرة بابنه« (عب 1: 1). تعرَّفنا إلى يسوع المسيح الذي هو الربُّ كيريوس، في كلام إلى العالم الوثنيّ، وتعرَّفنا إلى من هو الله وابن الله في كلام إلى العالم اليهوديّ، حيث الابن واحد مع الآب ومتميِّز عن الآب في ما سوف يُدعى في اللاهوت المسيحيّ سرَّ الثالوث الأقدس. يبقى علينا أن نقرأ ما تبقّى من قانون الإيمان النيقاويّ القسطنطينيِّ في ما يتعلَّق بالتدبير الخلاصيّ οικονομια الذي تحدَّث عنه الرسول فوهب لفظًا من العالم (تدبير البيت) معنى لاهوتيٌّا. في الرسالة إلى أفسس ندخل في مسيرة الخلاص التي هي »تدبير ملء الأزمنة حيث يجمع  (الله) كلَّ شيء في المسيح، ما في السماوات وما على الأرض« (1: 10).

هذا ما ندعوه سرَّ التجسُّد وسرَّ الفداء. »فلأجلنا نحن البشر، ولأجل خلاصنا« تمَّ عملُ الابن. وتُذكَر ستَّة أفعال: نزل، تجسَّد، تألَّم، قام، صعد. وأخيرًا »سيأتي ليدين الأحياء والأموات«. ذاك ما أعلنه الآباء في نيقية. وأضاف الآباء في القسطنطينيَّة توضيحات: تجسَّد »من الروح القدس ومن مريم العذراء«. ثمَّ »صُلب عنّا على عهد بونتيوس بيلاطس«. وبعد فعل »تألَّم« قيل »ودُفن«. وأخيرًا كان التوسُّع الأخير في ما يتعلَّق بالروح القدس والكنيسة والمعموديَّة وقيامة الموتى. ونقرأ الأفعال:

الأوَّل، نزل katabainô. ينطلق الرسول من المزمور 68: 19: »إذ صعد إلى العلاء سبى سبيًا«. ثمَّ يطبِّق الكلام على يسوع: »وأمّا أنَّه صعد، فما هو إلاَّ أنَّه نزل... الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السماوات لكي يملأ الكلّ« (أف 4: 8-10). kata تقابل ana. ذاك هو الانحدار الذي أنشده القدّيس بولس في كنيسة فيلبّي. فالذي »كان في صورة الله... أخلى نفسه آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه الناس« (فل 2: 6-7). هذا ما نفهمه في لفظ »تجسَّد،، أخذ جسدًا. ثمَّ »تأنَّس« صار إنسانًا، على ما يقول يوحنّا: »والكلمة صار بشرًا وسكن بيننا، فأبصرنا مجده« (1: 14). في هذا التجسُّد، أدخلنا الرسول مع أهل غلاطية: »ولكن لمّا جاء ملء الزمان، أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة، مولودًا تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي« (4: 4-5). وُلد ابن الله من امرأة. هذا يعني أنَّه إنسان كامل مثل كلِّ إنسان حيث يُقال: »شابهنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة«. وأضافت الرسالة إلى العبرانيّين: »فإذ تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضًا كذلك فيهما لكي  يبيد الموت« (2: 14). فالابن ما أتى إلى مساعدة الملائكة، بل إلى مساعدة البشر، لهذا »كان ينبغي أن يكون شبيهًا بإخوته في كلِّ شيء« (آ17). فهذا الذي صار حبرًا رحيمًا هو قادر أن يرثي لضعفنا، وهو مجرَّب في كلِّ شيء مثلنا، ولكنَّه بدون خطيئة« (عب 4: 15).

نلاحظ هنا: الدم واللحم aimatos kai sarkos. أخذ لحمنا ودمنا، وبعد ذلك، كيف نجسر أن نقول إنَّ الابن لم يكن إنسانًا حقيقيٌّا، بل تظاهر مع فعل dokeô؟ وإذ كان إنسانًا بكلِّ ما في الإنسان من ضعف، اعتبروه أقلَّ من الملائكة، بسبب اتِّحاده بالمادَّة التي اعتبرها الغنوصيّون سافلة إن لم تكن شرٌّا.

وبما أنَّ الابن صار إنسانًا، عرف الألم. تفرَّد القدّيس بولس في استعمال لفظ patêma ليتحدَّث عن آلام المسيح. في الرسالة الثانية إلى كورنتوس، انطلق بولس من الآلام التي يعانيها هو والتي تعانيها الجماعة، فعاد إلى آلام المسيح: »لأنَّه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا« (1: 5). ويعلن ثقته بالمؤمنين: »فرجاؤنا من أجلكم ثابت، عالمين أنَّكم كما أنتم شركاء في الآلام، كذلك في التعزية أيضًا«. وفي الخطِّ عينه، رفض الرسول اتِّكاله على الجسد وأعلن أنَّه تخلِّى عن كلِّ شيء »لأعرفه (= أي المسيح) وقوَّة قيامته، وشركة آلامه، متشبِّهًا بموته، لعلّي أبلغ إلى قيامة الأموات« (فل 3: 10-11). وإذ عرف أهل رومة الآلام فوجب عليهم الصبر والجهاد (عب 10: 32)، قدَّم لهم الرسول وجه المسيح المتألِّم. ذكر »ألم الموت« (عب 2: 9) لأجل كلِّ واحد منّا. أمّا كمال الخلاص فلا يكون إلاَّ بالآلام (آ10). فإذا كان يسوع امتُحن وتألَّم، فلكي يستطيع أن يكون بقربنا، ويعيننا (آ18). وتتلاقى هذه الرسالة مع الرسالة إلى فيلبّي في كلام عن الطاعة. فالابن »في أيّام جسده (حين كان في اللحم والدم، sarx، خلال حياته البشريَّة) قدَّم بصراخ شديد ودموع، طلبات وتضرُّعات للقادر أن يخلِّصه من الموت، سُمع له من أجل تقواه (مخافته وارتهابه وخضوعه). ومع أنَّه الابن تعلَّم الطاعة بما به تألَّم، وإذ كمُلَ صار لجميع الذين يطيعونه سبب خلاص أبديّ« (عب 5: 7-9).

أجل، كمل يسوع بالآلام، لأنَّ هذه الآلام تقود إلى المجد والقيامة. أما هكذا قال لوقا تلميذ بولس لتلميذَيْ عمّاوس: »كان ينبغي على المسيح أن يتألَّم هذه الآلام ويدخل في مجده« (24: 26). والابن »الذي وضع نفسه وأطاع حتّى الموت والموت على الصليب، رفعه الله« (فل 2: 8). وهنا يرد الكلام عن القيامة مع صيغتين: إمّا الله أقام ابنه، وإمّا الابن قام بقدرته الإلهيَّة. »نحن نؤمن بمن أقام يسوع ربَّنا من بين الأموات، الذي أُسلم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا« (رو 4: 24-25). جاءت صيغة المعلوم: الله أقام. وصيغة المجهول أي المجهول الإلهيّ، حيث نتحاشى الكلام عن ذكر الله الفاعل. »أقيم«، أي الله أقامه. وحين الكلام عن المعموديَّة تُذكَر القيامة: »كلُّ من اعتمد يسوع المسيح اعتمد لموته، فدُفنّا معه بالمعموديَّة للموت، حتّى كما أُقيم المسيحُ من الأموات بمجد الآب، هكذا نسلك نحن أيضًا في جدَّة الحياة، لأنَّه إن كنّا صرنا متَّحدين معه بشبه موته، نصير أيضًا بقيامته« (رو 6: 4-5).

والصيغة الثانية: قام egeirô التي جاءت في قانون الإيمان. لمَّا سئل بولس عن قيامة الموتى، عاد إلى التقليد الرسوليّ وتكلَّم عن المسيح كلامًا نتلوه في جماعاتنا: »المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب، وأنَّه دُفن، وأنَّه قام في اليوم الثالث حسب الكتب« (1 كو 15: 3-4). فإذا كان الله أقام ابنه لأنَّه الله، فالابن قام بقدرته لأنَّه الله، ومثلُ هذه القيامة تسند قيامتنا. لهذا قال الرسول بعد جدال: »قام المسيح من بين الأموات وصار باكورة الراقدين« (آ20).

ولماذا كلُّ هذه المسيرة من نزول من السماء katabainô وصعود anabainô »لأجلنا ولأجل خلاصنا«؟ ذاك ما أعلنه النؤمن الذي ذكر بيلاطس البنطيّ كما سبق وذكره بولس الرسول حين كتب إلى تلميذه تيموتاوس (1 تم 6: 13: المسيح يسوع شهد لدى بيلاطس) جاءت ألفاظ بولسيَّة: خلاصنا، تبريرنا، الفداء، التكفير. قرأنا في الرسالة إلى رومة لفظ »تبرير« dikaiosynê. فهو التبرير يرتبط بالقيامة. نحن نبرَّر لأنَّنا نشارك منذ الآن في حياة المسيح القائم من الموت. كنّا خطأة فصرنا أبرارًا. مات المسيح من أجلنا يوم كنّا خطأة وهكذا نلنا الخلاص والمصالحة. كنّا معادين لله، وها هو الله يصالحنا بموت ابنه.

ومع التبرير الفداء apolytrosin. نقرأ هذا اللفظ في الرسائل البولسيَّة، ما عدا مرَّة واحدة في إنجيل لوقا (21: 28). بما أنَّ الجميع خطأة، فهم يبرَّرون مجّانًا بنعمة الله »بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدَّمه الله كفّارة بدمـه...« hilastêrion. فهذا الفداء الذي لنا بدم يسوع أي غفران الخطايا، نلناه يوم العماد (أف 1: 7)، فخُتمنا به (أف 4: 30) لينزع منّا »كلَّ مرارة وسخط وغضب« ويجعلنا »لطفاء بعضنا مع بعض« (أف 4: 31-32). فالمسيح يفتدينا من لعنة الشريعة (غل 3: 13)، كما يفتدي الذين هم تحت الشريعة (غل 4: 5). فشريعة المسيحيّ هي المسيح.

فالمسيح هو الفدية antilytron، وهو الذي بذل نفسه لأجل الجميع (1تم 2: 6) هذا ما يعود بنا إلى الأناجيل وكلام يسوع ردٌّا على الرسل الذين يتزاحمون على المراكز الأولى: »فابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدم، وليَبذل نفسه فدية عن كثرين« (مت 20: 28؛ مر 10: 45). تحدَّث بولس عن المسيح »الذي بذل نفسه لأجلنا لكي يفدينا« (تي 2: 14)، وأوضح بطرس: »افتُديتم لا بأشياء تفنى، بفضَّة أو ذهب... بل بدمٍ كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح« (1 بط 1: 18-19).

حين »دفع« الربُّ الفدية، نجّانا من عبوديَّة الخطيئة، فما عدنا نمتلك نفوسنا، بل صرنا لله، بعد أن اشتُرينا بثمن (1 كو 6: 20). بعد أن صرنا »عبيدًا« للمسيح، لماذا نريد أن نصير »عبيدًا للناس«؟ (1 كو 7: 22-23). نحن صرنا أبناء، بالغين، فلماذا نريد أن نبقى قاصرين يقودنا »عبد« يكون وصيٌّا علينا ووكيلاً (غل 4: 2)، ولماذا فعل يسوع كلَّ ما فعل من أجل البشر؟ لأنَّه أحبَّنا غاية المحبَّة (يو 13: 1) وقال: »ما من حبٍّ أعظم من حبِّ من يبذل نفسه من أجل أحبّائه« (يو 15: 13). وفي خطِّ هذا الكلام، كتب يوحنّا رسالته الأولى المبنيَّة على المحبَّة: »الله محبَّة. بهذا أُظهرت (المجهول الإلهيّ) محبَّة الله فينا، أنَّ الله أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به. في هذا هي المحبَّة: ليس أنَّنا نحن أحببنا الله، بل هو أحبَّنا وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا« (4: 8-10).

 

الخاتمة

ذاك هو تعليم الكنيسة عن يسوع المسيح، كما أعلنه الآباء في نيقية وفي القسطنطينيَّة. ونحن أوجزنا »قانون الإيمان« حول الابن في ثلاث محطّات: يسوع هو الربّ، هو الله وابن الله. وأخيرًا هو الكلمة المتجسِّد الذي قاد تدبير الله إلى كماله. واستندنا في كلامنا إلى القدّيس بولس، دون أن ننسى مراجع أخرى من العهد الجديد. ولماذا التشديد على الرسائل البولسيَّة الأربع عشرة بعد أن كان الشرق المدافع الرئيسيَّ عن الرسالة إلى العبرانيّين وارتباطها ببولس؟ لأنَّ بولس قدَّم لنا أوَّل نصوص العهد الجديد التي نمتلكها، فجاءت رسائله سابقة لتدوين الأناجيل. كما أنَّه أخرج تعليم يسوع من إطار ضيِّق هو الجليل أوَّلاً ثمَّ اليهوديَّة، فأوصله إلى رحب العالم، وما حصر كلام الإنجيل في لهجة من لهجات هذا الشرق، بل دوَّن البشارة في لغة عالميَّة مثل اليونانيَّة، فوصل الإنجيل اليوم إلى أكثر من ألفي لغة ولهجة في عالمنا. ونتساءل: من أين نال بولس كلَّ هذه المعرفة عن يسوع؟ حين عاش مع الجماعات المسيحيَّة المنتشرة في دمشق وحوران وشرق الأردنّ. فعلومه الرفيعة، ومعرفته بالكتب المقدَّسة وطرق التفسير، وعبقريَّته الفذَّة قدَّمت لنا أسس اللاهوت المسيحيِّ الذي استقت منه المجامع المسكونيَّة وما زلنا نحن نستقي منه لكي نتعرَّف إلى ربِّنا وإلهنا يسوع المسيح الذي له المجد الآن وإلى دهر الدهور.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM