الفصل الثالث عشر: الشريعة بين بولس ومتّى

الفصل الثالث عشر

الشريعة بين بولس ومتّى(*)

حين أطلق البابا يوحنّا الثالث والعشرون فكرة المجمع الفاتيكانيّ الثاني، كانت الشريعة هي المسيطرة، فلا تبديل في طرق الصلاة ولا في الليتورجيّا، بل حتّى ولا في اللباس الكهنوتيّ. قوانين وتحذيرات وتهديدات بعض المرّات. الكلّ يسيرون منذ بداية القرن العشرين في خطٍّ رسمه القدّيس بيّوس العاشر مع التحريمات التي لحقت بمدرسة الحداثة. وهكذا كانت تمشي الأمور بحسب الخطِّ المعطى من فوق. وانتهى المجمع فكانت ردَّة فعل واسعة. بدا المؤمنون وكأنَّهم لم يعودوا بحاجة إلى شريعة، إلى قوانين، إلى أمور محدَّدة. الإنجيل وحده يكفي، فلماذا نتقيَّد بقيود والمسيح خلقنا أحرارًا؟ ولكن أطلَّت ضرورة قراءة الكتاب المقدَّس في منظار جديد فكانت عودة خاصَّة إلى رسائل بولس وإلى الإنجيل الأوَّل، إنجيل متّى. ماذا يقول هذان الرسولان عن الشريعة وهل يعارض الواحد الآخر؟ الشريعة تملأ إنجيل متّى من بدايته إلى نهايته مع الخاتمة: »علِّموهم أن يعملوا بما أوصيتكم به« (مت 28: 20)، أي أن يعيشوا بحسب الوصايا. أمّا عند بولس فتسيطر الشريعة في الرسالتين إلى غلاطية ورومة، وتغيب في 1 تس، 2 كو، وتلامَس في 1 كو وفل بشكل عرضيّ: »قوَّة الخطيئة هي الشريعة« (1 كو 15: 56). وفي فل 3: 2ي يطلب الرسول من المؤمنين أن يحترسوا من »الكلاب«، من عمّال السوء، من أهل الختان.

نقرأ متّى أوَّلاً ثمَّ بولس، وفي قسم ثالث نكتشف كيف يلتقيان في جذورهما الأنطاكيَّة أو يتباعدان.

1- متّى والشريعة

قراءتنا لإنجيل متّى تجعلنا في ثلاثة اتِّجاهات. الأوَّل، الاستمراريَّة والتواصل بين العهد القديم والعهد الجديد، من أجل إيصال الشريعة إلى كمالها. الثاني، تفسير الشريعة لأنَّ سلطة يسوع فوق سلطة موسى. وإذا كانت الشريعة تقدِّم كلمات الله، فيسوع هو الكلمة الذي فيه تصبُّ أقوال الله في العهد القديم، كما الأنهار في البحر. والاتِّجاه الثالث، قطيعة وانقطاع، لأنَّ »الخمرة الجديدة لا تُوضَع في زقاق قديمة...« (مت 9: 17).

أ- ما جئتُ لأُبطل بل لأكمِّل

ذاك ما قاله الربُّ في عظة الجبل ليشدِّد على أنَّ الشريعة القديمة تتواصل في الإنجيل. أمّا الإطار فهو كلام إلى المؤمنين في كنيسة متّى، الذين حسبوا أنَّ شريعة موسى عتقت وزالت. »ما جئتُ لأُبطل«(1). ردَّ يسوع بالنفي أوَّلاً، وتبع ذلك بالإيجاب: »بل لأكمِّل«(2). وواصل يسوع كلامه: »لن تزول(3) ياء من الناموس. ويبقى فعلان: خالف(4)، عمل(5)، ويقابلهما علَّم(6). وها نحن نورد النصَّ انطلاقًا من الترجمة البيسطريَّة(7):

5: 17لا تظنُّوا أنّي جئتُ لأُبطل الشريعة أو الأنبياء. ما جئتُ لأُبطل بل لأكمِّل.

18  لأنّي الحقَّ أقول لكم: »حتّى تزول السماء والأرض، ياءٌ واحدة أو نقطة واحدة لن تزول من الشريعة حتّى الكلُّ يصير.

19  فمن نقضَ واحدةً من هذه الوصايا الصغرى، وعلَّم الناس هكذا، صغيرًا يُدعى في ملكوت السماوات. ومن عمل وعلَّم، هذا عظيمًا يُدعى في ملكوت السماوات«.

ماذا نكتشف في هذه الآيات الثلاث؟ شابه يسوع عددًا من المعلِّمين اليهود، وطلب طاعة تامَّة للكتاب المقدَّس(8). واختلف عن عدد كبير من معاصريه، فما رضيَ عمّا يطلب الكتبة والفرّيسيّون الذين لا تصل بهم الممارسة إلى الخلاص. قال يسوع لتلاميذه: »إذا لم يزَد برُّكم على برِّ الكتبة والفرّيسيّين لن تدخلوا ملكوت السماوات« (آ20)(9). بعد أن لفت يسوع انتباه سامعيه، قدَّم تحديدًا لشريعة الله، لا كما يفعل الشعب بل كما يجب أن يكون(10).

واجه يسوع الاتِّهام بأنَّه يعارض الشريعة (12: 2: تلاميذه يعملون ما لا يحلُّ في السبت) وقدَّم جوابًا. وقد يكون متّى شدَّد على هذه النقطة ليضع حاجزًا في وجه التعليم المناوئ للشريعة في الكنيسة(11)، أو قبالة اتِّهامات باللاخلقيَّة من قبل معارضيه(12). وجاء من عارض بشكل جذريّ تعليم متّى هنا وتعليم بولس(13) ولكن ساعة الكاتبان يطرحان مسألتين مختلفتين، راح بعضهم يرفع الصراع. فمع أنَّ بولس أكَّد أيضًا أنَّ الشعب اليهوديّ يقدر أن يحتفظ بعادات ورثها (1 كو 9: 20)، وتحدَّث عن مقاربة صحيحة إلى شريعة الله بالنسبة إلى المؤمنين (رو 3: 27، 31؛ 8: 2؛ 9: 31-10: 13)، حرَّف بعض معاصريه مقاله واعتبروه رافضًا للشريعة (رو 3: 8)(14). لهذا اعتبر بعض الشعب اليهوديّ أنَّ المسيحيّين الأوَّلين يرفضون الشريعة. لهذا جاء كلام يسوع في مت 5: 17-20 يعطي الثقة لليهومسيحيّين في جدالهم مع رؤساء المجمع. وهكذا لاحظ الشرّاح أنَّ يسوع ما أراد إلغاء الشريعة بل توصيلها في المعنى الصحيح وإتمام روحها(15).

بدأ يسوع فأعلن سلطة الكتاب المقدَّس لتلاميذه، دون النظر البعيد إلى ما يكون من جدال مع الشعب اليهوديّ. ونحن نفهم من كلامه أربعة أمور. الأوَّل: لغة يسوع تعلن بوضوح ثقته بشريعة موسى. قال: جاء ليكمِّل. وذلك من خلال الطاعة والتوافق. أمّا الإلغاء فيعني رفض نير الشريعة واعتبارها فارغة(16). الثاني: صوَّر يسوع أبديَّة الشريعة بحسب طريقة المعلِّمين اليهود. سبق الأنبياء وأعلنوا أنَّ كلام الله لا يتبدَّل (إش 40: 8؛ زك 1: 5-6)، فتكلَّم يسوع بشكل استعارة: ياء واحدة، نقطة واحدة. هو حرف »يود« العبريّ الذي يكاد لا يُرى. مثل هذه الإشارة الصغيرة لا يمكن أن تُلغى(17). يجب أن يتمَّ كلُّ شيء (5: 18)، إلى أن يتمَّ الملكوت وتزول السماء والأرض(18). ثالثًا: أعلن يسوع أنَّ المؤمنين يُدَانون بالنظر إلى كلام الله: من يحفظ أصغر وصيَّة ويعلِّم الناس أن يفعلوا مثله، ذاك هو العظيم في الملكوت(19). ما تطلَّع يسوع إلى العدد الكبير أو الصغير الذي يحفظ الشريعة أو ينقضها، بل إلى »أكبر« الوصايا و«أصغر« الوصايا. أكبر وصيَّة إكرام الوالدين (خر 20: 12؛ تث 5: 16)، وأصغر وصيَّة حول عشِّ الطير (تث 22: 6-7). وعدٌ واحد: إفعل هذا فتحيا، في حياة الأبد. فالربُّ يجازي الإنسان من أجل كلِّ وصيَّة. رابعًا: شدَّد يسوع في 5: 19 أنَّ الإنسان لا يقدر أن يختار. لأنَّه لا يعرف مستوى الأجر المحفوظ لهذه الوصيَّة أو تلك (أبوت 2: 1)(20).

وواصل يسوع كلامه: الله يعاقب من يعلِّم الناس أن يخالف واحدة من هذه الوصايا. هذا لا يعني الطاعة فقط، بل التعليم أيضًا، ممّا يدلُّ على المسؤوليَّة تجاه الأطفال (بابل، يوما 87أ). وحفظُ الشريعة من الخارج لا يكفي. فمن لم يتحوَّل قلبُه من الداخل لا يدخل ملكوت السماوات(21).

ب- قيل لكم وأنا أقول لكم

بدأ يسوع فشدَّد على أنَّ الشريعة تستمرُّ في شعب الله الجديد، لا تزول منها نقطة واحدة ولو زالت السماء والأرض. ذاك هو المبدأ: لا معارضة للشريعة. ولكن لا بدَّ من تفسيرها، لأنَّ الممارسة في أيّامه لا تفي بالمرام(22). حاولت مجموعاتٌ يهوديَّة مختلفة، في القرن الأوَّل المسيحيّ، أن تربح معاصريها إلى تفسير يدلُّ على الطريق الصحيح لممارسة الشريعة، ولكن لم يكن هناك اتِّفاق. شدَّد اليهود على الوجهة الخلقيَّة(23) فكانت نقاط اتِّصال بينهم وبين يسوع(24). ولكنَّ يسوع راح بعيدًا في التفسير بحيث جعل نفسه موازيًا للشريعة، بل هو جاء يصحِّح الشريعة ويعمِّقها لئلاّ تبقى محصورة في إطار خارجها.

انطلق يسوع من ستَّة نصوص مأخوذة من الشريعة كما نقرأ في العهد القديم، وعمل كما يعمل معلِّم كبير في العالم اليهوديّ: فسَّر كلَّ مقطع في شكل نقيضة(25):

5: 21 سمعتم أنَّه قيل للأقدمين: »لا تقتل، ومن قتل يكون مستوجبًا الحكم« (الدينونة)

22  لكن أنا أقول لكم: »كلُّ من يغضب على أخيه يكون مستوجبًا الحكم«.

هكذا يُتمُّ يسوعُ الشريعة على المستوى التعليميّ، فيفسِّرها لا كما يفسِّرها الكتبة، بل يعطي رأيه الشخصيّ. فتفسيرُهُ هو من مستوى آخر. هو لا يُحلُّ فرائض جديدة محلَّ الفرائض القديمة، لا يجعل شريعة جديدة مكان شريعة قديمة. ما جاء يُلغي، بل يعيد الشريعة إلى مكانها الأصيل والجذريّ معًا.

بداية احتفاليَّة: قيل... وأنا أقول. كان الرابّينيّون يستعملون »وأنا أقول« ليتَّخذوا موقفًا بالنسبة إلى معلِّمين آخرين. أمّا يسوع فاتَّخذ موقفًا بالنسبة إلى الشريعة. فلو عارض رابّي الشريعة، اعتُبر مجدِّفًا ومنتهك الأقداس. ولكن ما اعتُبر تجديفًا عند »المعلِّمين« صار بالنسبة إلى يسوع إعلانًا نبويٌّا لرسالته.

»سمعتم«. كانت التوراة تُقرأ بشكل احتفاليّ في المجامع، يوم السبت. سمعتم وصاياها وفرائضها. والآن، يجب أن تسمعوا أمورًا أخرى. الشريعة آتية من عند الله، ولا يحقُّ لأحد أن يتجاوزها، إلاَّ إذا كان الله. هذا يعني أنَّ عبارة »أمّا أنا فأقول« تشير في شكل من الأشكال إلى ألوهيَّة المسيح.

قيل: »لا تقتل«. نقرأ هذا الإيراد الكتابيّ في خر 20: 15 وتث 5: 18. ومن يقتل يستوجب الحكم. حكم الإعدام على ما قال خر 21: 12: »من ضرب إنسانًا فقتله، فالضاربُ حتمًا يموت«.

»أمّا أنا فأقول«. ها هو يسوع يُضيف، يعمِّق الوصيَّة: من يغضب. لا نستطيع أن نجعل الغضب على مستوى القتل، ولكنَّ الله يدين الإنسان بحسب نوايا قلبه. فالغضب قد يقود إلى القتل. ودُعيَ في »وصيَّة دانيال« (كتاب منحول، 3: 12): روح بليعال. فالغضب الذي يَخرج من قلب الإنسان، يدلُّ على فراغ القلب من المحبَّة. وهو غضب على »الأخ«، أي المؤمن الذي يؤمن إيماننا، بحيث يكون أبونا السماويّ أباه.

ويترافق الغضب مع الكلام الجارح. أقول لأخي: راقا. أي: رأس فارغ، غبيّ، أبله، كما في اللغة العبريَّة. وفي اليونانيَّة: مُدَّع، متبجِّح. أو أقول له: بلا عقل، أبله. واللغة البيبليَّة تتحدَّث هنا عن الكافر، عن الذي يقاوم شريعة الله، على ما نقرأ في تث 12: 6: »أبهذا تكافئون الربّ، أيُّها الشعب الأحمق الغبيّ؟ أليس هو أباكم وخالقكم الذي عملكم وكوَّنكم«؟

من قتل أو غضب أو قال كلامًا نابيًا يستوجب الحكم: الله يحاكمه ويعاقبه. في عقاب أوَّل هو الحكم من قبل الله. في الثاني، يقف المذنب أمام مجلس القضاء، أو السنهدرين. والعقاب الثالث: جهنَّم. في هذه الحالات الثلاث، يقف الإنسان أمام منبر الله العادل(26).

هي »نقيضة« أولى حول القتل والغضب. وتبعتها خمس نقائض حول الزنى والنظرة المشتهية، حول الطلاق، حول الحلف، حول الانتقام، حول محبَّة الأعداء. هنا نلاحظ أنَّ الإنجيل لا يروح في خطِّ الشريعة، بل يعارضها وينقضها. لا مكان للطلاق، لا مكان للانتقام، لا مكان للحلف. بل محبَّة الأعداء والأقرباء بحسب القول الرفيع: »كونوا أنتم كاملين، كما أنَّ أباكم السماويّ كامل هو« (5: 48).

ج- أريد رحمة لا ذبيحة

عبَرَ الرسُل مرَّة وسط الحقول وقطفوا بعض السنابل. هاجمهم الفرّيسيّون لأنَّهم »يعملون ما لا يحلُّ في السبت« (مت 12: 2). ردَّ يسوع: »أريد رحمة لا ذبيحة« (آ7). عاد الربُّ إلى نصٍّ هو 6: 6 وأعطاه معناه بالنسبة إلى الشريعة في تعاملها مع الضعفاء والمساكين: داود لا لوم عليه. هو ملك. الكهنة لا لوم عليهم بسبب فتاويهم.

الذبيحة هي في صلب الشريعة، وهي لا تكون الأولى. بل تأتي بعد الرحمة. إن عُذِرَ الكبارُ لأنَّهم تعدَّوا على الشريعة، فلماذا الهجوم على الصغار؟ والسبت أمر أساسيّ في العالم اليهوديّ بحيث إنَّ المشناة كرَّست له أهمَّ الفصول وأطولها (بعد فصل »كليم«)(27). ولكن في نظر متّى، »ابن الإنسان هو ربُّ السبت« (آ8). ابن الإنسان »هو أعظم من الهيكل« (آ6). مِن هذا الهيكل سوف يَطرد الباعة، ومعجزاتٍ عديدةً سوف يُجري »يوم السبت«.

في هذا الخبر بان الفرّيسيّون شارحي الكتاب المقدَّس على ما قال يوسيفس(28) وبيّنت الأناجيل (12: 1-2، 4). ويسوع أجابهم انطلاقًا من الكتاب المقدَّس فما استطاعوا أن يجيبوه. قدَّم مثلاً أوَّل عن داود، لا يتعلَّق مباشرة بالسبت، بل بالطريقة التي بها يفسَّر الكتاب وتفسَّر الشريعة(29). والمثل الثاني يرتبط مباشرة بالسبت وبما يعمله الكهنة في هذا اليوم »المقدَّس« الذي يسحق الإنسان ويستعبده. أترى الفرّيسيّون ردُّوا جواب يسوع الأوَّل، فقدَّم جوابًا آخر مأخوذًا من الشريعة(30)؟ الكهنة يعذرون نفوسهم، ولا يعذرون هؤلاء »الرسل«. ذاك كان وضع الكنيسة الأولى تجاه العالم اليهوديّ قبل سنة 70ب.م. ودمار الهيكل.

الشريعة قاسية. لهذا قدَّم يسوع »الرحمة« تجاه المرضى والخطأة والعشّارين. سبق له فأورد آية هوشع هذه ردٌّا على الفرّيسيّين الذين رأوه يأكل مع الخطأة، وأضاف: »ما جئتُ لأدعو الأبرار« (مت 9: 13). والأبرار هم اليهود في وجه »الوثنيّين«. صعوبة كبيرة واجهت كنيسة متّى: كيف تستقبل مسيحيّين آتين من العالم الوثنيّ، تجاه تشديد المعلِّمين اليهود وقساوتهم(31)؟

لا سبيل إلى الجدال. إذًا تكون القطيعة. لا مجال لأن توضع الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة (مت 9: 17). وهكذا تفرَّد متّى فتحدَّث لا عن المجامع بشكل عامّ، بل عن »مجامعهم« (4: 23؛ 10: 17؛ 12: 9). مجامع اليهود يهجرها المسيحيّون. وبدت القطيعة تامَّة حين الكلام عن الفرّيسيّين المرائين الذين يفسِّرون الشريعة بشكل لا يمكن أن يقبل به الإنجيل: تصفُّون البعوضة وتبلعون الجمل (23: 24). الخارج طاهر والداخل »مملوء خطفًا وشرٌّا« (آ25).

2- بولس والشريعة

ما لاحظنا في قراءتنا للأناجيل ولاسيَّما إنجيل متّى أنَّ يسوع لم يحكم على الشريعة. عاشها كما عاشها تلاميذه الأوَّلون، وإن حاول أن يعمِّقها ويعيدها إلى أصولها، على مثال ما فعل في شريعة الزواج. عاد إلى البدء، وترك ما فعله موسى حين أخذ بعين الاعتبار »قساوة القلوب« (مت 19: 8). ولكن طرأت مسألة جديدة حين انتمى إلى الإيمان وثنيّون لامختونون: أراد يهومسيحيّون أتوا من أورشليم، من عند يعقوب أخي الربّ، أن يُكرهوا المهتدين من العالم الوثنيّ، على ممارسة الشريعة (غل 1: 12؛ أع 15: 1ي). في هذا الإطار جاء كلام متّى، ومثله أيضًا كلام بولس الذي بدا قاسيًا، خصوصًا في نظرته السلبيَّة إلى الشريعة: »يتبرَّر الإنسان بالإيمان بيسوع المسيح، لا بأعمال الشريعة« (غل 2: 16؛ رو 3: 28).

في هذا الإطار، نتوقَّف أوَّلاً عند الوجهة السلبيَّة للشريعة، ثمَّ نعود إلى الوجهة الإيجابيَّة، أي الوجهة الروحيَّة.

أ- الوجهة السلبيَّة

بداية نتذكَّر الصعوبة في دراسة الشريعة عند بولس. فالدراسات عديدة وهي تروح في أكثر من اتِّجاه(32). ونبدأ فنورد بعض الآيات:

رو 3: 21 ولكن الآن، برُّ الله أُظهر بدون شريعة! وشُهد (له) من الشريعة والأنبياء.

22  فَبِرُّ الله بإيمان يسوع المسيح (هو) إلى كلِّ الذين يؤمنون، لأنَّه ليس هناك فرق.

23  فالجميع خَطئوا وحُرموا مجد الله. (صاروا) مبرَّرين مجّانًا بنعمته. بالنداء الذي في المسيح يسوع.

»الآن« νυνι. هي مقابلة مع الماضي حيث كانت أعمال الشريعة تحتلُّ المكان الأوَّل. ففي الحاضر، تبدَّلت الأمور، ولم نعد بحاجة إلى شريعة(33). مثل هذا القول لا يقبل به العالم اليهوديّ، لأنَّ الشريعة هي إحدى عُمُد تقليد العهد. هي ما فُرضت ولا كانت نتيجة تنازل، بل قدَّمها الله الذي أحسَّ بآلام البشر. أعطيَت لا كمجموعة تشريعيَّة، ولا كقوانين لاشخصيَّة، بل بشكل عهد حياة بين الله وشعبه(34).

ولكن هكذا كانت في البدء. فماذا فعل »المعلِّمون« بالشريعة؟ أما سيطرت فيها الأعمال الخارجيَّة على روحيَّة العلاقات مع الله ومع القريب؟

»أظهر« . πεφανερωται هي صيغة المجهول. طريقة للدلالة على عمل الله دون ذكر اسمه العليّ. ويتبعه فعل آخر في الصيغة عينها ،μαρτυρουμενη شُهد. عاد الرسول إلى الله نفسه ليبيِّن أنَّ دور الشريعة »زال«. هي لا تنفع بعد لكي ينال الإنسان البرّ. فهي غير قادرة أن تهب الحياة وتقود إلى المسيح.

»البر«(35). لفظ يقابل qdc في العبريَّة، الصدق. وفي السريانيَّة ؟؟؟. البرّ قاعدة حياة، جواب الإنسان على نداء من لدن الله. من يعطي هذا البرّ؟ الله، الأمين دومًا على مواعيد الخلاص. والله يعطي هذا الخلاص مجّانًا بواسطة يسوع المسيح الذي تضامن مع البشر فاقتلعهم من الخطيئة ورفعهم إلى الله.

وما هو دور الشريعة هنا؟ تكتفي بأن تشهد لبرِّ الله، وهنا الشريعة تعني كلام الله بموازاة أسفار الأنبياء. كان البشر خطأة، فما نالوا الخلاص بأعمال الشريعة. قدَّموا الذبائح العديدة، واحتاجوا أن يكرِّروا هذه الذبائح كلَّ سنة، ولكنَّ النتيجة لبثت سلبيَّة إلى أن قدَّم يسوع نفسه ذبيحة بلا عيب.

*  *  *

ونقدِّم النصَّ الثاني من الرسالة إلى رومة، الذي يبدو أكثر سلبيَّة لأنَّه يربط الشريعة بالخطيئة. وها نحن نورد الفصل السابع:

7   فماذا نقول؟ هل الشريعة خطيئة؟ (هذا) لا يكون. ولكن ما عرفتُ الخطيئة إلاَّ بالشريعة، ولأنّي ما عرفتُ الشهوة لو أنَّ الشريعة ما كانت تقول: »لا تشته«.

8   فالخطيئة أخذَتْ فرصة بالوصيَّة فأثارت فيَّ كلَّ شهوة، لأنَّ الخطيئة بدون شريعة ميتة.

9   وأنا كنتُ أحيا قبلاً بدون شريعة. ولمّا أتت الوصيَّة عاشت الخطيئة(36).

نبدأ أوَّلاً بالصورة المأخوذة من العالم القضائيّ: أنا لا أعرف الجريمة حتّى يحدِّدها القانون. عندئذٍ يعرف الإنسان الجرم الذي اقترفه ويرتقب العقاب. وكذا نقول بالنسبة إلى الخطيئة في اتِّصالها بالشريعة. والصورة الثانية هي صورة حربيَّة: الخطيئة اتَّخذت فرصة. اتَّخذت المبادرة وقامت بالهجوم على الإنسان. جاءت الشريعة تُنهي الإنسان عن عمل ما، فأراد أن يرى ما وراء النهي، على مثال آدم وحوّاء: وماذا إذا أكلنا من شجرة معرفة الخير والشرّ؟ ألا نصير آلهة؟ وهكذا خُدع الإنسان فاستفادت الخطيئة من الوصيَّة »وقتلتني« (آ12).

ويرد لفظان يبدوان مترادفين: الشريعة، الوصيَّة. تحدَّثنا عن الشريعة التي تحاول أن ترسم للإنسان خطٌّا يسير فيه. والوصيَّة بقوَّتها الآمرة، الفارضة، ارتبطت بالعهد القديم (تك 26: 5: إبراهيم حفظ أوامري)، وهي تنطبق على الشرعة والقرارات والتنظيمات(37).

وتجاه الخطيئة أطلَّت الشهوة التي هي بداية الطريق. إنَّ  επιθυμια هي محرِّك قويّ للعمل، ديناميَّة خلاَّقة. حدَّدها أرسطو: »دفعٌ إلى ما يسرُّنا«. وقال الكتاب: هي الخطيئة النموذجيَّة في البرِّيَّة. ترتبط بالنسمة، بالقلب، بالاحتدام والاضطرام θυμος. نشير هنا إلى أنَّ الشهوة تبقى »حياديَّة«. يمكنها أن تميل إلى الشرِّ كما إلى الخير. والفعل الذي يدعو الإنسان أن لا يشتهي   ουκ επιθυμεσεις يذكِّرنا بالوصايا كما في سفر الخروج: أنت لا تشتهِ امرأة قريبك. أنت لا تشتهِ مقتنى غيرك. مثل هذا الفعل يدعو إلى الطاعة. ولكن بما أنَّني ضعيف، اجتذبتني الشهوةُ إلى الخطيئة. فما بقي للرسول سوى أن يقول باسم كلِّ واحد منّا: »الويلُ لي أنا الإنسان الشقيّ، من ينقذني من جسد الموت هذا!«(38)

*  *  *

في هذا الإطار السلبيّ، لماذا وُجدت الشريعة؟ أما كان أفضل أن لا توجد؟ فالإنسان قبْلَ الشريعة وبعْدَها يستطيع أن يفعل الخير، سواء كان يهوديٌّا أو يونانيٌّا؟ وُجدت الشريعة لكي تكون لنا »المؤدِّب«. وها نحن نقرأ النصّ الثالث في الرسالة إلى غلاطية (ف 3):

19  فلماذا الشريعة؟ أضيفت بسبب التعدِّيات إلى أن يأتي النسل الذي وُعد له (= لإبراهيم)، معلَنة بالملائكة في يد وسيط.

21  فهل الشريعة ضدَّ وعود الله؟ (هذا) لا يكون. فلو أنَّه أعطيت شريعة قادرة أن تحيي، كان البرُّ بالحقيقة من الشريعة.

23  فقبل أن يأتي الإيمان كنّا محبوسين تحت حراسة شريعة إلى أن يُعلَن الإيمانُ المزمع.

24  إذًا، كانت الشريعة مؤدِّبنا إلى (مجيء) المسيح، لكي نُبرَّر بالإيمان.

25  لكن لمّا أتى الإيمان لا (نكون) بعدُ تحت مؤدِّب.

كيف وصلت الشريعة ساعة البشريَّة عاشت أجيالاً وأجيالاً دون الحاجة إليها؟ بسبب التعدِّيات παραβασεωεν هو لفظ يقابل الخطيئة  αμαρτια. يقول بولس: أضيفت. نقرأ صيغة المجهول أيضًا وأيضًا. هل الربُّ أضافها؟ ووجودها له حدود إلى أن يأتي النسل، الزرع  σπερμα. إذًا، نظام الشريعة مرحلة موقَّتة في تاريخ الخلاص. ومجيء المسيح يضع له حدٌّا. جاءت الشريعة كإضافة، أو بجانب التعدِّيات. هي إذًا على هامش القصد الخلاصيّ، لأنَّ دورها ليس بالدور المحرِّر بشكل مباشر. هي تتدخَّل بسبب التعدِّيات بحيث تزيد على الخاطئ مسؤوليَّة فوق مسؤوليَّة (رو 4: 15؛ 5: 20)، وتُحرّك تعدِّيات أخرى. كلُّ ما تستطيع الشريعة أن تفعله هو أن تكشف للإنسان عبوديَّته: هو عبد وعليه أن ينتظر من يحرِّره من العبوديَّة.

هذه الشريعة جاءت بيد الملائكة  αγγελων. هذا يعني في نظر بولس أنَّها لا تساوي تلك التي أعلنها الربُّ على جبل سيناء. أمّا اليهود فاعتبروا سلطتها سامية. في نظر بولس، حمل الملائكة الشريعة فاستعبدوا الإنسان الذي احتاج إلى وسيط مثل موسى. ولهذا، حين يحرِّر المسيح البشر من الشريعة، يحرِّرهم أيضًا من هذا الارتباط وهذه العبوديَّة.

فإذا كان دور الشريعة أن تقود البشر إلى المسيح، فهي إذًا مؤدِّبة  παιδαγωγος. وما هو دورها؟ دور العبد الذي يقود الطفل إلى المدرسة، ما دام قاصرًا. ولكن حين يصير راشدًا فهو لا يحتاج بعدُ إلى مؤدِّب، إلى مربٍّ. إلاَّ إذا أراد أن يبقى قاصرًا، بحيث لا يتميَّز عن العبد في شيء على مستوى الحقوق والواجبات.

هل تهب الشريعة البرّ؟ كلاّ. هل تعطي الحياة؟ كلاّ. بل هي سجن للإنسان. فنحن المؤمنون »مسجونون«  συγκλειομενοι. نحن في حراسة  εφροιρουμθα هي صيغة المجهول. ذاك هو كلُّ دورها. وإن حُبسنا (آ22) تحت الخطيئة، فلكي نسير كلُّنا إلى الخلاص في موكب الربِّ يسوع. إلى متى نُسجَن؟ إلى مجيء المسيح. وهذا المجيء يُدخلنا في نظام الإيمان  πιστεως الذي يضع حدٌّا لنظام الشريعة. حينئذٍ لا نكتشف تعليمًا فقط حول قصد الله الذي يتجلَّى ويقدَّم لنا، بل موقفَ انفتاح على عطيَّة الله، على روح ابنه. عندئذٍ لن نكون بعدُ عبيدًا، بل أبناء (وبنات) تبنّانا الله، فهتفنا له: أبّا، أيُّها الآب.

ب- الوجه الإيجابيّ

تطلَّع بولس إلى عدم فائدة الممارسات المتعلِّقة بالعالم اليهوديّ، من ختان (غل 6: 12) وأعمال أخرى (غل 4: 10). هذا يعني أنَّ الشريعة تنحصر في نُظُم العهد القديم. وندَّد الرسول أيضًا بتمثُّل خاطئ عن التدبير الخلاصيّ، حيث يستحقُّ الإنسان أن يُبرَّر في ممارسته للشريعة، ساعة هو يُبرَّر بواسطة يسوع المسيح. ومع ذلك، هذه الشريعة هي من الله. ومع أنَّها أعطيَت بيد الملائكة، فهي مقدَّسة وروحيَّة، وهي امتياز خاصّ بشعب إسرائيل(39). وها نحن نقرأ النصوص:

رو 3: 28 فنعتقد أنَّ الإنسان يبرَّر بالإيمان، لا بأعمال الشريعة.

31       إذًا، أنُبطل الشريعة بالإيمان؟ (هذا) لا يكون، بل نُثبت الشريعة.

في إطار كلام عن عصيان البشريَّة كلِّها، يهودًا ويونانيّين، تحدَّث بولس عن البرِّ الذي نناله بالإيمان. ولا فرق في ذلك بين يهوديّ ويونانيّ. هذا يتبرَّر بالإيمان، وذاك يتبرَّر بالإيمان، وإن حَسبَ في وقت من الأوقات أنَّه يَتبرَّر بالأعمال. ويُطرَح السؤال: هل نبطل الشريعة؟  καταργουμεν. هل ننقضها؟ هل نُزيلها؟ والجواب: هذا لا يمكن أن يكون. بل بالعكس: نثبت الشريعة  ιστανομεν.

إذًا، لا تعارض في العمق بين الشريعة والإيمان. لأنَّ الإيمان يدعونا في النهاية إلى التجاوب مع نداء الله وممارسة الشريعة، شريعة المسيح. ونقرأ نصٌّا آخر في غل 3: 21: »هل الشريعة ضدَّ وعود الله؟« والجواب: »هذا لا يكون«. فشخص إبراهيم هو هنا. نال المواعيد وفي الوقت عينه آمن (من خلال الطاعة) فحُسب له إيمانه برٌّا.

وفي الرسالة إلى رومة، تحدَّث بولس عن المسيح الذي تحرَّر من الشريعة. كما تتحرَّر المرأة يوم يموت زوجها، كذلك المؤمن »يموت عن الشريعة بجسد المسيح، ليصير إلى آخر، إلى الذي قام من بين الأموات« (رو 7: 4). فأيُّ دور يبقى للشريعة بعد ذلك؟ هنا يعلن الرسول ولا يتركنا ننتظر:

رو 7: 12. إذًا، الشريعة مقدَّسة والوصيَّة مقدَّسة وعادلة وصالحة. صفة ترتبط بالشريعة: مقدَّسة  αγιος فالقداسة تنتمي إلى الله، ترتبط باسمه، بتساميه، بكيانه، وتتجلّى في أعماله. هو الذي يجعل الشريعة مقدَّسة، لأنَّها مفصولة عمّا هو دنيويّ، وحاملة ديناميَّة خاصَّة(40).

والوصيَّة  εντολη تجد نفسها مع ثلاث صفات. هي »مقدَّسة«  αγια مثل الشريعة. ثمَّ  δικαια عادلة. أي لا انحراف فيها ولا خطأ، لأنَّها من الله. وأخيرًا هي صالحة  αγαθη، نافعة، تحمل الخير لكلِّ من يتعامل معها إيجابيٌّا بالطاعة(41). أمّا الصفة »عادلة« فتدلُّ على الحكمة التي يمارسها الإنسان. تعلِّمه العفَّة والفطنة، وتمنحه القوَّة. وهي في النهاية تساعد الإنسان على اجتناب الخطيئة. والصفة »صالحة« ترتبط بالجمال بحسب القول المأثور في اليونانيَّة: جميل وصالح καλος  καγαθος. وأخيرًا، نستطيع القول إنَّ البرّ (= العمل بإرادة الله) الذي يرتبط بالشريعة  δικαιωμα του νομου يعلِّمنا كيف نسلك بحسب الروح لا بحسب الضعف البشريّ، بحسب اللحم والدم σαρζ.

ماذا نستطيع أن نقول، بعد هذا، عن الشريعة عند القدّيس بولس؟ هي أعطيَت لتكشف متطلِّبات وتُبرز تعدِّيات البشر. قبل الشريعة، كان البشر يفعلون الشرّ، ولكن لم تكن تُحسَب لهم الخطيئة خطيئة. ولمّا أتت الشريعة، حرَّكت شهواتهم واجتذبتهم إلى الثمرة المحرَّمة دون أن تعطي القوَّة لطبيعتهم الضعيفة بحيث تصنع الخير. ولمّا بيَّنت الشريعةُ للبشر تجاوزاتهم حكمت عليهم بالموت والدينونة. غير أنَّ عملها موقَّت، حتّى مجيء نسل إبراهيم، يسوع المسيح. إذًا، لعبت دور المربّي، المؤدِّب: هو العبد الذي يكلَّف بتربية الطفل والاعتناء به ما دام قاصرًا. ولكن حين يصبح راشدًا، لن يعود من دور له، كما أنَّ لا دور بعدُ للشريعة حين ننال نعمة التبنّي. فالآن متنا عن الشريعة وتحرَّرنا من »المربّي«، فصرنا للمسيح بعد أن قمنا معه. وإذ نولَد من جديد نستطيع أن نمارس في الروح ما تأمر به الشريعة: هي لم تعُدْ خارجيَّة. ليست مكتوبة على حجر، كما تسلَّمها موسى على جبل سيناء، ولا في كتاب، بل هي محفورة في القلوب. فالابن الذي لم يعد قاصرًا يُتمُّ طوعًا ما كان يفعله في الماضي خوفًا. وهكذا يتحرَّر المؤمن من الشريعة دون أن يقع في الفلتان، لأنَّه يبقى خاضعًا للحبّ. وإذ يحمله الروح، يُتمُّ الشريعة الجديدة، شريعة المسيح(42).

3- المواجهة بين متّى وبولس

قرأ الشرّاحُ متّى تجاه بولس فاعتبروه مزيجًا يهومسيحيٌّا حيث إعلان الخلاص تراجَعَ أمام لاهوت من النمط الشريعي(43). أجل، ما أراد متّى أن يتخلّى عن الشريعة ساعة كان بولس قاسيًا معها، إذ لا فائدة منها من أجل الخلاص. هي مواجهة، بل هو تلاقٍ. في الوقت عينه سوف نرى بولس ومتّى ينطلقان من موقع واحد هو أنطاكية. يبتعد الواحد عن الآخر، وفي النهاية يلتقيان ليُعلنا أهميَّة الشريعة بالنسبة إلى الكنيسة.

بعد أن نتعرَّف إلى المحيط الأنطاكيّ، نعرف أنَّ الشريعة لا تُفهَم إلاَّ في هدفها الأخير: المحبَّة. وفي النهاية يكون الشعار كما نقرأه في رو 10: 4: »غاية الشريعة هي المسيح«.

أ- المحيط الأنطاكيّ

نقطة الانطلاق الصراع الذي كان بين بطرس وبولس حول المشاركة في المائدة. هذا ما ترويه الرسالة إلى غلاطية (ف 2).

11  وعندما جاء بطرس إلى أنطاكية، قاومته وجهًا لوجه لأنَّه كان يستحقُّ اللوم.

12  فقبل أن يجيء قوم من عند يعقوب، كان بطرس يأكل مع غير اليهود. فلمّا وصلوا (قومٌ من عند يعقوب) تجنَّبهم (= غيرَ اليهود) وانفصل عنهم خوفًا من دعاة الختان.

13  وجاراه سائر اليهود في ريائه، حتّى إنَّ برنابا نفسه انقاد إلى ريائهم.

نلاحظ حالة الصراع بين اليهود المتشيِّعين لشريعة موسى، وبين غير اليهود، أو الأمم، الذين هم محرَّرون من شريعة موسى: لا داعي للختان، لا داعي للاهتمام بالأطعمة الطاهرة وغير الطاهرة، بعد أن صارت جميع الأطعمة طاهرة في المسيح(44)، وخصوصًا لا فصل بين اليهوديّ وغير اليهوديّ. فاليهوديّ يعتبر الأمميّ نجسًا، ولهذا فهو لا يأكل معه(45). وهكذا صارت الشريعة حاجزًا داخل الجماعة الواحدة.

وطُرح السؤال في أنطاكية: أيُّ سلطة لشريعة موسى بعد موت يسوع؟ إنَّ الجماعة اليهومسيحيَّة في أورشليم، التي لبثت متعلِّقة بالهيكل(46) وبالشريعة، دام حضورها حتّى موت قائدها، يعقوب أخي الربّ، سنة 62. والجماعة الهلّينومسيحيَّة(47) تألَّفت من يهود آتين من الشتات(48). تحرَّرت من الشريعة وهربت من أورشليم بعد رجم إسطفانس (أع 8: 1). اضطُهد أعضاؤها فلجأوا إلى فينيقية، إلى قبرص، إلى أنطاكية (أع 11: 29)، حيث أسَّسوا كنيسة من اليهود ومن غير اليهود (آ20-21)(49). إلى أنطاكية أتى بولس بعد أن جاء به برنابا من طرسوس (آ15-16).

*  *  *

»هاجم« إسطفانس الهيكل (أع 6: 14)(50) وذلك في خطِّ ما فعل الربّ (يو 2: 13ي) وما قال (مر 13: 1-2؛ مت 24: 1-2؛ لو 21: 5-6). وممّا قال لوقا على لسان متَّهمي إسطفانس: »ونحن سمعناه يقول: سيهدم يسوع الناصريّ هذا المكان ويغيِّر التقاليد التي ورثناها من موسى« (أع 6: 14)  τα εθη: التقاليد، العادات المرتبطة بموسى  μουσης. وسبق لإسطفانس فقيل عنه: »شتم الهيكل المقدَّس والشريعة« (آ13). غير أنَّ هذا الكلام غير صحيح، لأنَّ إسطفانس سوف يقول في خطبته عن الشريعة إنَّها »كلمات حياة« (أع 7: 38) λογια ζωντα(51). هذا يعني أنَّ الشريعة لم تُرذَل في أساسها على أنَّها طريق خلاص، بل أعفيَ بعض المؤمنين من بعض متطلِّباتها مثل الختان والأمور الطقسيَّة.

راح بولس في خطِّ الهلِّنيّين، ولكنَّه ما عاد إلى حياة يسوع على الأرض(52)، بل إلى الصليب. قال في غل 3: 13:

»والمسيح حرَّرنا من لعنة الشريعة بأن صار لعنة من أجلنا. فالكتاب يقول: ملعون كلُّ من مات معلَّقًا على خشبة«.

في آ10، ذكر بولس لعنة الخطيئة بفعل الشريعة (تث 27: 26). وإن هو ذَكَر »الخشبة« الذي يعلَّق عليها الملعون (تث 21: 23)، فلكي يذكر دور الصليب في تخليصنا من الخطيئة، ومن الشريعة التي تُبرز الخطيئة. وقال الرسول في رو 3: 24-25:

24  ولكنَّ الله برَّرهم (البشر كلَّهم) مجّانًا بنعمته، بالمسيح يسوع الذي افتداهم،

25  والذي جعله الله كفّارة في دمه لكلِّ من يؤمن به.

»الكفّارة«  ιλαστηριον. كيف كانت تتمُّ الكفّارة في العهد القديم؟ يُرَشُّ الدم على المؤمنين فتُغفَر خطاياهم (لا 16: 1ي). ورأى بولس في هذا الطقس صورة عن ذبيحة المسيح. »في دمه«  εν τς αυτου αιματι. أي بتقدمة ذاته ذبيحة يمنحنا الله الغفران بواسطة الإيمان (لا بالأعمال، آ27).

ما نلاحظه هو أنَّ موقف بولس يرتبط بالكرازة، بيسوع المسيح، لا بالوجهة الخلقيَّة. وهكذا يلتقي مع إسطفانس الذي يحافظ على الشريعة التي هي كلمة الله. وبولس دافع ودافع وما تعب عن سلطة الشريعة، وإن جاء تعليمه عن التبرير بالإيمان، يلغي الشريعة بالنظر إلى الخلاص.

*  *  *

ذاك كان جيل إسطفانس وبولس والهلّنيّين، وتجذُّره في أنطاكية قبل أن يصل إلى رومة. أمّا جيل متّى وإنجيله الأنطاكيّ في الثمانينات، فعرف إطارًا لاهوتيٌّا وكنسيٌّا مختلفًا جدٌّا. طُردوا من فلسطين على أثر الحرب اليهوديَّة الأولى (سنة 66-70) فمضوا إلى »سورية« بمعناها الواسع، من سهل البقاع مرورًا بحمص وحماة وصولاً إلى أنطاكية. هم يهومسيحيّون متعلِّقون بالشريعة تعلُّقًا دقيقًا(53)، وبرسالة إسرائيل(54). هو الخطُّ »الناموسي« من νομος(الشريعة). أمّا خطُّ مرقس فهو »أنتيناموسي« antinomiste  ، لأنَّ إنجيله لا يتوجَّه فقط إلى العائشين بحسب الشريعة، بل إلى الوثنيّين ولاسيَّما في رومة. ويبدو، بحسب دراسات أخيرة، أنَّ أساسه في أنطاكية(55).

هو صراع في مسيحيَّة أنطاكية وامتدادها، يمزِّقها ويجعل فئة ضدَّ فئة، فيمضي المؤمنون تاركين هذه الفئة وتلك. ما يكون موقف متّى؟ بدأ هجومه على المجمع(56). فالعالم اليهوديّ الذي أرعبه دمار الهيكل سنة 70، حاول البقاء فانغلق على ذاته في خطِّ تعليم الفرّيسيّين: لُعن الهراطقة (وأوَّلهم المسيحيّون) وطُردوا من المجمع. فماذا كانت النتيجة؟ عداوة بين اليهود واليهومسيحيّين، وكلُّ فئة تحاول أن تشدَّ بالتوراة إلى صدرها: هل تمرُّ الشريعة وتعاليم الأنبياء عبر الكنيسة أو عبر المجمع؟ أمّا متّى فتحدَّث باسم حركة مسيحيَّة تُجرّد إسرائيل من الوحي التوراتيّ وتُصادره: التوراة ومواعيد الآباء مُلكُ الكنيسة. ومقتل المسيح كرَّس فشل الشعب المختار(57). وتوقيع الله نقرأه في خراب المدينة، بحيث حُذف إسرائيل من خارطة الخلاص وانتُزعت الشريعة منه(58).

منعطف تاريخيّ في كنيسة متّى(59). دعا الإنجيليّ الجماعة اليهومسيحيَّة لكي تتخلّى عن إسرائيل الملعون، وتنطلق في الرسالة إلى الوثنيّين(60). في هذا الطريق، تتسلَّم الرسالة بأن تحفظ وصايا يسوع كما أعاد ترتيبها يسوع (مت 28: 20: ما أوصيتكم به). ولكن برز انقباض وتشنُّج داخل الكنيسة، وارثة المواعيد: التشديد على الشريعة لدى اليهومسيحيّين. ولكنَّ متّى أخذ مرقس، فبيَّن حرِّيَّة يسوع تجاه الشريعة(61)، وجاء النداء إلى الحبّ يتساءل حول معنى الفرائض النصوصيَّة. ففي الوضع الصعب الذي يعرفه متّى، كانت الأوَّليَّة للحبِّ الذي يُدمِّر »الناموسيَّة«.

وهكذا نفهم أنَّ بولس حافظ على السلطة الخلقيَّة في الشريعة(62). أمّا متّى فقطع كلّ اتِّصال بعقيدة سلطة الفرائض الموسويَّة التي لا تُناقَش، وتطلَّع إلى الشريعة بالنسبة إلى الكنيسة مع ابتعاد عن اليهومسيحيَّة.

ب- المحبَّة قمَّة الشريعة

حين تحدَّث الرسول عن المواهب في كنيسة كورنتوس، أراد أن يدلَّهم »على أفضل الطرق« (1كو 12: 31). هذه الطريقة هي المحبَّة وهي تُعطي كلَّ أعمال الإنسان معناها. وفي امتداد هذا القول، تَبرز المحبَّةُ التي تُجمِّل الشريعة وكلَّ الوصايا. قال الرسول إلى أهل غلاطية:

5: 13    اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبَّة،

14  فالشريعة تكتمل كلُّها في وصيَّة واحدة: أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك.

لا حاجة لكثرة الوصايا بعد أن وصل عددُها في العالم الفرّيسيّ إلى 613 وصيَّة. وصيَّة واحدة، سوف يدعوها بولس في الرسالة عينها: »شريعة المسيح«، قال:

6: 2 ساعدوا بعضكم بعضًا في حمل أثقالكم، وبهذا تتمُّون العمل بشريعة المسيح.

وشريعة المسيح هي في النهاية المحبَّة(63) التي تقود إلى الحرِّيَّة. فالمسيح الذي أخرج الذين آمنوا به من كلِّ إكراه خارجيّ، يحوِّلهم إلى أبناء الله، أي أناس حمَلَ إليهم المسيحُ حبَّه البنويّ، كأناس يُلهم هذا الحبُّ كلَّ خياراتهم، ويكون مبدأ نشاطهم كلِّه. فالحبّ الذي يجعل من البشر خدّام إخوتهم، يجعلهم يُفلتون من كلِّ عبوديَّة للشريعة. وكيف تمارَس الشريعةُ إكراهًا على الذي يمارسها بحبّ؟ لهذا قال الرسول: الشريعة تكتمل بوصيَّة واحدة، وصيَّة المحبَّة. ذاك هو الوجه الإيجابيّ. والناحية السلبيَّة تقول: »فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضًا« (آ15). وهكذا نفهم إلى أين تقود عبوديَّة الجسد، وكيف أنَّ الحبَّ يخلِّص من هذه العبوديَّة ومن الانقسامات التي تُنتجها هذه العبوديَّة.

وهذه الحرِّيَّة التي تميِّز أبناء الله، هي شيء إيجابيّ، لأنَّها تقول لنا إنَّهم لم يعودوا لأيِّ شريعة، بعد أن صاروا في خدمة إخوتهم. هنا نلاحظ طابع المفارقة في مثل هذه الحرِّيَّة، فهي تجد كمالها في الخدمة. وهذه الخدمة هي التعبير عن المحبَّة، ذات المحبَّة التي جعلت ابن الله يأخذ وضعنا كخادم، ويقبل الموت لكي يحرِّرنا من الموت ويعطينا أن نقاسمه حياته، كالابن الوحيد. ونقرأ في الإطار عينه الرسالة إلى رومة:

13: 8    لا يكن عليكم لأحد دَين إلاَّ محبَّة بعضكم لبعض، فمن أحبَّ غيره أتمَّ العمل بالشريعة.

9   فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا تقتل، لا تسرق، لا تشتهِ، وسواها من الوصايا، تتلخَّص في هذه الوصيَّة: أحببْ قريبك مثلما تحبُّ نفسك.

10  فمن أحبَّ قريبه لا يسيء إلى أحد، لأنَّ المحبَّة تمام العمل بالشريعة.

»دين«. حرفيٌّا: ما ينبغي عليكم، ما هو متوجِّب  οφειλετε . كانت الشريعة تفرض على المؤمنين أن يقوموا بأعمال ويمتنعوا عن أخرى. أمّا الآن فالمحبَّة هي هنا. ومن أحبَّαγαπων أكمل الشريعة νομον πεπληρωκεν. كانت ناقصة في العهد القديم. وها هي المحبَّة تكمِّلها. وهذا الذي قاله الرسول، ردَّده في آ10: المحبَّة  αγαπηهي كمال الشريعة  πληρωμα νομου. لا شيء يُطلَب بعد من المؤمن. لهذا كان بولس قاسيًا مع أهل غلاطية، فدعاهم »أغبياء« لأنَّهم أرادوا أن يضيفوا على مثل هذه الشريعة شريعة أخرى: »إذا اختنتم لا يفيدكم المسيح شيئًا« (غل 5: 2). لماذا؟ لأنَّ الختان »لا ينفع شيئًا، ولا عدم الختان، بل الإيمان العامل بالمحبَّة« (آ6). والشيء عينه يقال بالنسبة إلى الشريعة الطعاميَّة. فالشريعة هي المحبَّة. قال بولس: »إذا أسأتَ إلى أخيك بما تأكله، فأنت لا تسلك طريق المحبَّة. فلا تجعل من طعامك سببًا لهلاك من مات المسيح من أجله« (رو 14: 15).

قلنا »وصايا عديدة« تتلخَّص، أو بالأحرى »تلخَّص« (في صيغة المجهول):  ανακεφαλαιουται: الله يلخِّصها في »كلمة واحدة«  εν τω λογω. نتذكَّر هنا أنَّ النصَّ الأصليّ للوصايا كما ورد في التوراة هو zbrsy الكلمات العشر.

ذاك هو كلام الرسول: هناك دَين لا يمكن أن نتخلَّص منه مهما فعلنا، هو المحبَّة المتبادلة. فالوصيَّة الجديدة التي أعطاها الربّ، دُوِّنت هنا قبل أن تدوَّن في الأناجيل(64). فعلاقة الأخوَّة في الجماعة المسيحيَّة تكمن في الحبِّ المتبادل بين الأعضاء، بحيث يحبّ كلّ واحد قريبه بالحبِّ الشخصيّ الذي أحبَّه الله: »ونحن عرفنا المحبَّة حين ضحّى المسيح بنفسه لأجلنا، فعلينا أن نضحّي بنفوسنا من أجل الإخوة« (1 يو 3: 16). غير أنَّ المحبَّة المسيحيَّة ليست محبَّة منعزلة، منغلقة على ذاتها، وهي لا تنحصر في القريب القريب، أي الأخ المسيحيّ. فالمحبَّة عند المؤمن تصل إلى كلِّ إنسان لأنَّ كلَّ إنسان قد أحبَّه الله. وهكذا تتمُّ الشريعة. لاحاجة أن نعمل بعدُ شيئًا فوق ذلك(65) إذا كانت الشريعة في حياة الشعب العبرانيّ تعبيرًا ملموسًا عن حبِّ الله لشعبه (رو 9: 4)، فلا يمكن أن يكون كمالها إلاَّ في الحبّ، ممّا يعني أنَّ الربَّ عاد إلى الابتداء، تاركًا »تقاليد البشر التي تحاول أن تُبطل كلام الله« (مت 15: 6).

*  *  *

ما طرحه بولس في شأن المحبَّة، سوف يطرحه متّى في شكل آخر. فالمحيط هو هو. والصراع يكون، لا بين الشريعة والإيمان، بل بين الشريعة والمحبَّة. ونقرأ المقطع الأوَّل حيث يُطرَح سؤال على يسوع (مت 22):

35  فسأله واحد منهم، وهو من علماء الشريعة ليُحرجه:

36  »يا معلِّم، ما هي أعظم وصيَّة في الشريعة؟«

37  فأجاب يسوع: »أحبَّ الربَّ إلهك بكلِّ قلبك، وبكلِّ نفسك، وبكلِّ عقلك.

38  هذه هي الوصيَّة الأولى والعظمى.

39  والوصيَّة الثانية مثلها: ''أحبب قريبك مثلما تحبُّ نفسك''.

40  على هاتين الوصيَّتين تقوم الشريعة كلُّها وتعاليم الأنبياء«.

يدور الكلام على الوصيَّة εντολη. الوصايا عديدة في الشريعةεν τω νομω. وسأل العالم بالشريعة  νομικος ما »أعظم« الوصايا. μεγλα(66). أجاب يسوع فأورد »العظمى«. ثمَّ »الأولى« πρωτη: وصيَّة واحدة في وصيَّتين: محبَّة الله ومحبَّة القريب. بهما يتلخَّص العهد القديم كلُّه. بل بهما تتعلَّق κρεμαται »الشريعة والأنبياء«. في هذا الخطِّ نفهم كلام القدّيس أوغسطين: »أحبب وافعل ما تشاء. فمن يحبَّ لا يفعل سوءًا بالقريب«.

ضمَّ يسوع الوصيَّتين في أعظم الوصايا، فكان هذا التعبير أساسًا لعدد من التعابير في العهد الجديد. وحده يسوع يدعو تابعيه ليركِّزوا الخلقيَّة في العمق على هذا الكلام(67): فالأولويَّة المميَّزة التي تلعبها المحبَّة في الخلقيَّة المسيحيَّة، لا يمكن أن تصدر إلاَّ عن فم المعلِّم الذي وحَّد بين محبَّة الله ومحبَّة القريب. وهكذا نادت المسيحيَّة الأولى »بشريعة المحبَّة«(68).

إذ أورد متّى هذا الحوار، رسم محبَّة الله كموجز للشريعة (تث 16: 1-7): من يحبُّ الله يُتمُّ الشريعة كلَّها (تث 5: 29). هذا النصُّ حول محبَّة الله هو أرفع ما في العالم اليهوديّ (اسمع يا إسرائيل). وكذا نقول عن محبَّة القريب في لا 19: 18. نصّان من العهد القديم جُعلا في وصيَّة واحدة، ولا حاجة بعدُ إلى الوصايا العديدة(69).

وتَبرز هذه المحبَّةُ بشكل يوميّ في ما دُعيَ القاعدة الذهبيَّة: »اعملوا للناس ما تريدون أن يعمله الناس لكم. هذه هي خلاصة الشريعة وتعاليم الأنبياء« (مت 7: 12). ويواصل يسوع كلامه: »إذا كنتَ تقدِّم قربانًا« (مت 5: 23). وأيُّ شيء أعظم من القربان؟ ومع ذلك المحبَّة تمرُّ قبله: »اذهب أوَّلاً وصالح أخاك، ثمَّ تعال وقدِّم قربانك« (آ24). ويُقال الشيء عينه عن محبَّة الأعداء. »سمعتم أنَّه قيل... أمّا أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم...« (آ43-44).

أجل، المحبَّة تتجاوز الشريعة وفرائضها: أشرنا إلى حادثة التقاط السنابل مع قساوة قلوب الفرّيسيّين تجاه فقراء قطفوا بعض السنابل، فحسبوهم حصدوا حقلاً كاملاً. وكذا نقول عن المعجزات: كيف يمضي يسوع إلى الأبرص، بل »يمدُّ يده ويلمسه« (مت 8: 3) لمسة المحبَّة؟ يا للنجاسة، أين شرائع البرص والعفن كما يتحدَّث عنها سفر اللاويّين؟! والضابط الرومانيّ دعا يسوع إلى بيته من أجل خادم طريح الفراش. ما تردَّد يسوع في الذهاب إلى بيت وثنيّ: »أنا ذاهب لأشفيه« (آ8). والخطيئة الكبرى أنَّ يسوع جلس مع الخطأة والعشّارين! (مت 9: 11). وهذه النازفة، النجسة، التي لا يحقُّ لها أن تمسَّ إنسانًا، لمست يسوع فهنَّأها على ما فعلت: »ثقي يا ابنتي، إيمانك شفاك« (آ22). لا شيء يعلو على المحبَّة، حتّى الإيمان والرجاء. أتُرى الشريعة تبقى خارج المحبَّة؟ حينئذٍ يصيبها ما أصاب الابن الأكبر، ذاك الفرّيسيّ، الذي لا يريد أن يجلس مع أخيه العائش مع البغايا. يصيبها ما أصاب الشعب اليهوديّ حين رفض المسيح باسم الشريعة، فتألَّم بولس وقال: »إنّي حزين جدٌّا وفي قلبي أَلمٌ لا ينقطع« (رو 9: 2).

ج- غاية الشريعة المسيح

في إطار القسم الخامس (9: 1-11: 36) من الرسالة إلى رومة، يأتي الكلام على برِّ الشريعة وبرِّ الإيمان (10: 1-13):

3   لأنَّهم جهلوا (= اليهود) برَّ الله وطلبوا أن يثبِّتوا برَّهم الخاصّ  ιδιαν ، فما خضعوا لبرِّ الله،

4   لأنَّ غاية الشريعة المسيح، برٌّا لكلِّ من يؤمن.

»الغاية«  τελος. ماذا يعني هذا اللفظ(70)؟ توقُّف الشريعة بحيث لا تعود موجودة، أو غاية الشريعة، أو تتمَّة الشريعة(71). إنَّ النقيضة التي يقدِّمها السياق يدفعنا في خطِّ المعنى الأوَّل: نحن لا نمتلك الحكمة بعد بالشريعة (آ5)، بل بالإيمان (آ6-10). فالشريعة كطريق خلاص تجد نقطة توقُّفها في المسيح. فالمسيح هو الغاية والنهاية. غير أنَّ هذا لا يعني أنَّ العهد القديم صار مهجورًا وقريبًا من الموت. فقرار الرجوع عن الماضي يصيب محاولة المؤمن ليتمسَّك بالشريعة وينال الخلاص. فالطاعة للشريعة خسرت صفتها أهليَّتها، بالنظر إلى السوتيريولوجيّا، أو الكلام عن الخلاص.

ولكنَّ التردُّد حول معنىτελος يُبرز الاختلاف في استعمال الشريعة في النصوص البولسيَّة. فالعبارة في 3: 31 (بل نثبت الشريعة)، تدلُّ أنَّ الشريعة لم تنتهِ في كلِّ الأحوال. من جهة، هي باقية كوعدٍ موجَّه نحو المسيح (غل 3: 6-18). ومن جهة ثانية، الإرشادات التي نقرأ في نهاية الرسائل تدلُّ على أنَّ الشريعة الموجزة في متطلِّبة المحبَّة موجَّهة نحو الخلقيَّة. »فالوصيَّة التي هي مقدَّسة وعادلة وصالحة« تَبطل حين ترمز إلى طريق الخلاص لدى اليهود، ولكنَّها تبقى حاضرة حين يسبق الخلاص النداء إلى الطاعة(72).

قال الرسول عن اليهود »إنَّ فيهم غيرة الله« (آ2)، ومع ذلك »جهلوا كيف يبرِّر الله البشر« (آ3). لماذا نقصت معرفتهم؟ لماذا جهلوا برَّ الله؟ وجاء الجواب عن غاية الشريعة: الشريعة تسير مع البرّ، هي شريعة من أجل البرّ. تطلَّع بولس إلى شريعة موسى التي فُهمت »بالأعمال«. هل هذه الشريعة انتهت؟ إنَّ المسيح هو نهاية أيَّة وظيفة في الشريعة. هذا يعني أنَّه قبل المسيح كان بعض الأساس لفهم الشريعة. ولكن مع المسيح بدأت حقبة جديدة في تعامل الله مع الشريعة (3: 21). المسيح هو نهاية حقبة قديمة، ومعها امتيازات اليهود الحصريَّة. ولكن هذا يعني أيضًا أنَّ ما بدأ في الحقبة القديمة، يجد تتمَّته مع المسيح، مع توسُّعه إلى أبعد من شعب واحد(73).

*  *  *

وماذا قال متّى(74) في هذا المجال؟ يترتَّب كلامه حول طرح واحد يُشرف على عظة الجبل: يجب أن تُفهَم دعوة يسوع كموافقة على الشريعة كلِّها بحيث لا نحذف منها شيئًا (مت 5: 17-19)، وذلك حتّى أقلَّ متطلِّباتها (مت 23: 2). والمسيح وحده الذي أتى إلى إسرائيل، هو »يُتمّ« الشريعة والأنبياء (5: 17). وتصرُّفه يُوافق بدقَّة مواعيدَ الكتاب المقدَّس. في هذا المجال نتذكَّر المرّات التي ورد فيها فعل »تمّ« في إنجيل متّى(75). نقرأ في 2: 23: »لكي يتمَّ ما قيل بالأنبياء«. ما قاله الأنبياء بقي ناقصًا وهو لا يكتمل إلاَّ في المسيح، كما يجد نهايته في يسوع المسيح دون أن يترك هويَّته. وكذا نقول عن الشريعة: تتمُّ فقط في المسيح، »أنا أقول لكم«. هي تحتاج إلى تفسير جديد، بحيث يعود حقُّ الله إلى جذريَّته، بعد أن ضاع في الفتاوى لدى الفرّيسيّين والرابّينيّين. تركَّزت الشريعةُ على وصيَّة المحبَّة في وجهيها فأمَلتْ على المؤمن مضمونَ البرّ، هذا البرّ الذي نعيشه بالأمانة، في طاعة للوصايا تبدو ممارستُها ضروريَّة لمن يريد الدخول إلى ملكوت السماوات(76). فلا خلاص خارج الشريعة كما أوصلها المسيح.

هنا نفهم أنَّ الشابَّ الغنيّ لم يكتفِ بالوصايا، بل طلب أكثر. لهذا طلب منه يسوع أن يتبعه »إذا أراد أن يكون كاملا« (مت 19: 21)  τελειος الهدف τελος يكون المسيح، وهذا ما يردِّده متّى فيقول إنَّ يسوع هو ربُّ الشريعة(77). يسوع يعلِّم الشريعة، يشرحها، يفرض ممارستها، يتجادل مع المعلِّمين الذين يتهرَّبون من الجواب (مت 22: 41: المسيح ابن داود)، أو يشوِّهونها لكي يتبعوا تقاليد البشر على حساب كلام الله (15: 3-6). وما قيل في 5: 17-19 لا يعلن خضوع يسوع الناصريّ للشريعة، بل سلطة يسوع على الشريعة. فالتوراة تُشرف على المؤمنين لا بسلطتها الذاتيَّة، كما قال اليهود واليهومسيحيّون، فسلطتها في الجماعة تأتي من المسيح. وهذه السلطة لا تُعاد إليها إلاَّ بعد عمليَّة تطهير. فالطريق التي تقود إلى طاعة حقيقيَّة تمرّ في قراءة 5: 21-48، الذي يفرض التخلّي عن طاعة حرفيَّة لكي نستسلم كلِّيٌّا لمتطلِّبات الله غير المشروطة. فالأمانة الحقيقيَّة تمرُّ في تعلُّق بسلطة ربِّ الشريعة. وبعد الآن، جاءت سلطة الشريعة من قرار يمليه يسوع ويعلِّمنا كيف نفهمه.

نحن لا نستطيع أن نجهل خضوع الخلقيَّة للكرستولوجيّا عند متّى، وإلاَّ نشوِّه المشروع المتّاويّ اللاهوتيّ، ونُحدره إلى مستوى لاهوت الأعمال (في معارضة مع بولس).

حين نقرأ الجدالات في ف 12، 15، 16، 19، 23، والهجوم القاسي على الكتبة والفرّيسيّين المرائين في ف 23، نكتشف أنَّ هذه النصوص لا تكتفي بأن تندِّد بفتاوى المعلِّمين وضيق آفاقها، باحتقارهم لوصيَّة المحبَّة المركزيَّة، بلاتماسك بين القول والعمل (23: 3: يقولون ولا يعملون). وهي لا تكتفي أيضًا بأن تعلن في وجه المجمع، حقّ الكنيسة في فهم الشريعة(78). إنَّ هذه النصوص الموجَّهة إلى قارئي الإنجيل المسيحيّين، تطالب بقراءة صحيحة لمشيئة الله، التي هي الشرط الضروريّ لاستقامة الطاعة. حين يضع المسيح سلطته تجاه سلطة المعلِّمين في العالم اليهوديّ، فلا يمكن تقبُّل حقيقته إلاَّ بالتعلُّق بالمسيح(79).

الخاتمة

مسيرة طويلة سرناها مع متّى وبولس في قراءتنا للشريعة. انطلقنا من العالم اليهوديّ، فوصلنا إلى المسيح. انطلقنا من تعليم المعلِّمين فوصلنا إلى ذاك الذي هو وحده المعلِّم (مت 23: 8). شريعة موسى ناقصة، بل تشوَّهت حين شرحها الرابّينيّون. فأتى المسيح يكمِّلها ويعيدها إلى أصولها. الأعمال الشريعيَّة لا تكفي لتقود إلى الخلاص. فالإيمان هو الأوَّل، والإيمان العامل بالمحبَّة. وتقاليد الشيوخ لا يمكن أن تمرَّ قبل كلام الله. فمنذ الآن لا نقرأ الشريعة وكأنَّها تحمل سلطانها في ذاتها. الشريعة تُقرأ بحسب شرح المسيح ونحن نتبعها في خطى المسيح. هكذا فعل الرسل الذين رافقوا يسوع وسمعوا كلامه ورأوا معجزاته. وهكذا فعلت الكنيسة الأولى سواء في الستّينات مع بولس أو الثمانينات مع متّى. وهي لا تزال تفعل اليوم فتكتشف مع بولس علاقة البرّ بالحياة الخلقيَّة وتجذُّر الطاعة في الإيمان. ومع متّى، أنَّ الإيمان المسيحيّ لا يكون حقيقيٌّا إلاَّ إذا ترسَّخ في الأمانة للشريعة كما أوصلها إلينا المسيح في كمالها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM