الفصل الثاني عشر
لملك الدهور كلُّ إكرام ومجد
بالكلام عن المجد، تنطلق الرسالة الأولى إلى تيموتاوس، فتتحدَّث عن المجد الذي نرفعه إلى يسوع المسيح، والكرامة القريبة من المخافة والتي هي موقف الإنسان في حضرة الله. وفي كلام مماثل، تنتهي الرسالة فتعلن الخلود إلى من هو ملك الملوك وربُّ الأرباب. بين هاتين الذروتين هي أمور عمليَّة ضروريَّة لتنظيم الكنيسة في أفسس، حيث يقول التقليد إنَّ تيموتاوس كان أسقفًا عليها. أمّا كلامنا فيتحدَّث عن المجدلات في الرسائل البولسيَّة، عن أساسها في العالم اليونانيّ. وفي القسم الثالث ندرس المقطعين اللذين أشرنا إليهما في هذه الرسالة (1: 17 ثمَّ 6: 15-16).
1- المجدلات البولسيَّة
المجدلة تقوم في أن نُعلن المجد لله. والمجد هو تجلّي الله في الخليقة، وظهور قدرته وعظمته. وحين يدرك المؤمن ذلك، تنطلق منه صلاة أو نشيد على مثال ما نقرأ في المزمور الثامن، أمام عظمة الإنسان في وسط الخليقة: »أيُّها الربُّ ربُّنا، ما أعظم اسمك في كلِّ الأرض« (آ2). مزمور جاء وسط عدد من المزامير فيها يتألَّم المؤمن من الشرِّ الذي يحيط به، فيصعد الكلام بشكل فعل إيمان بمن هو الحاضر والعامل في الكون وفي حياة أتقيائه. ذاك ما ينشده مزمور آخر: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يده« (مز 19: 2).
هذه الطريقة في إعلان مجد الله(1) تواصلت في العهد الجديد، منذ ولادة الربِّ يسوع. وذلك حين أنشد الملائكة فوق مذود بيت لحم: المجد لله في العلى. تجلّى الله في هذا الطفل الوضيع، فلا مجال للكلام الفلسفيّ ولا للنظريّات، بل السجود والإكرام أمام الله الذي صار حضورًا ساميًا على الأرض، فاستطاع الناس أن يروه ويسمعوه ويلمسوه (1يو 1: 1).(2)
فالمؤمن يؤدِّي المجد لله فيعترف بأعماله. ذاك كان عمل إبراهيم الذي نال القوَّة في إيمانه، بعد أن انتطر طويلاً تحقيقَ مواعيد الله له. يقول الرسول: »مجَّد الله واثقًا بأنَّ الله قادر على أن يفي بوعده« (رو 4: 20)، وذاك يكون عمل المسيحيّ حين يُدرك قدرة الله الذي أقام يسوع من بين الأموات (رو 6: 4). وحين نفهم نحن المؤمنين صبر الله وطول أناته حين يعاملنا بالرحمة، ويترك طريق الغضب، نكتشف مجده الحاضر (رو 9: 23).
تتوجَّه المجدلة إلى الله الآب. وتتوجَّه أيضًا إلى الله الابن، إلى الربِّ يسوع من أجل عمله الخلاصيّ. فهذا المجد ظهر بشكل نور على وجه المسيح (2 كو 4: 6) لكي يضيء للبشر، بحيث يستطيعون أن يشاهدوا الله »ماشيًا على أرضهم«. كما قال الربُّ نفسه: »من رآني رأى الآب« (يو 14: 9). هذا النور يشرق في الظلمة فيراه المؤمنون، لا أولئك »الذين أعمى إله هذا الدهر بصائرهم حتّى لا يشاهدوا النور الذي يضيء لهم، نور البشارة بمجد المسيح الذي هو صورة الله« (2 كو 4: 4).
أ- المجدلات في قلب الرسالة
تتوزَّع المجدلات البولسيَّة في قلب رسائله، كما في نهايتها. فالوعاء يمتلئ بالماء أو بالخمر. وكذلك الرسول. يحسُّ قلبه وكأنَّه يشتعل، فيُخرج النار التي فيه، على مثال ما كان إرميا يفعل. نورد أوَّلاً رو 11: 33، 36:
33 ما أعمق غنى الله وحكمته وعلمه!
وما أصعب إدراك أحكامه وفهم طرقه!
36 فكلُّ شيء منه وبه وإليه،
فله المجد إلى الأبد. آمين.
تحدَّث الرسول عن مسيرة الخلاص. الوثنيّون خطأة ويعوزهم خلاصُ الله. واليهود أيضًا الذي تصرَّفوا بشكل جعل الناس يجدِّفون على اسم الله بسببهم (رو 2: 24). ولكن ماذا حصل؟ أولئك الذين نالوا »المجد والعهود والشريعة والعبادة والوعود« (رو 9:4)، لم يصلوا إلى البرِّ الذي حمله يسوع المسيح. بل هم اتَّهموا الله بأنَّه أخلَّ بوعده، واعتبروه جائرًا. فبيَّن لهم بولس أساس ابتعادهم: تعلَّقوا بأعمال الشريعة، وما ارتبطوا بالإيمان بذاك الذي أرسله الآب وقدَّسه (يو 10: 36). وتألَّم بولس في أعماقه (رو 9: 2) من أجل »إخوته، بني قومه، في الجسد«. لا جواب بشريٌّا، فما بقيَ له سوى الاستسلام إلى »غنى الله وحكمته وعمله«. عندئذٍ ارتفع من قلبه آي المجد إلى الله. فمخطَّطُه يعلو إدراك البشر، وطرقُه غير طرق البشر، كما قيل في إشعيا النبيّ: طرقي غير طرقكم. وأفكاري أعلى من أفكاركم (إش 55: 9). ولكنَّ النتيجة أكيدة تأكيد المطر النازل على الأرض. لا يعود غيومًا إلاَّ »بعد أن يَروي الأرض ويجعلها تجود فتنبت نبتًا وتعطي زرعًا للزارع وخبزًا للآكل« (آ10).
إذا كان المطر يفعل، فماذا لا يفعل الله بواسطة كلمته الخلاَّقة. إذا كانت المياه تنزل من سمائه، أما تنزل قدرته أيضًا. وإذا كان بالماء حياة الأرض، فماذا لا يفعل ربُّ الماء؟ والماء يعود إلى الربِّ في شكل سحاب، ونحن كلُّنا نعود إليه مع ذاك الذي ترك العالم وعاد إلى الآب (يو 16: 28). مثل هذا الكلام يملأ القلب ثقة وأملاً بعمل الله. إذًا، »له المجدُ إلى الأبد!«
وفي الرسالة إلى غلاطية، انتقل الرسول من »الله أبينا« إلى »الربِّ يسوع المسيح« (1: 3). وأنهى كلامه: »له المجدُ إلى أبد الدهور. آمين« (آ5). ولماذا يمجِّد بولس المسيح؟ »لأنَّه ضحّى بنفسه من أجل خطايانا ليُنقذنا من هذا العالم الشرّير« (آ4).
لماذا هذه البداية عن يسوع المسيح؟ لأنَّ الغلاطيّين تركوا التعليم الذي حمله إليهم بولس، »وتبعوا بشارة أخرى« (آ6). في الواقع، عادوا إلى الشرائع اليهوديَّة ومتطلِّباتها. فالخطأ كبير لأنَّهم لم »يروا« مجد الله في شخص يسوع، بل حاولوا أن »يغيِّروا« البشارة، أن يغيِّروا الإنجيل لكي يفرضوا تعليمًا بشريٌّا. فماذا بقي لهم من كلِّ ما فعله المسيح حين »ضحّى بنفسه«؟ لا شيء. لذلك اعتبر بولس أنَّه تعب باطلاً، ولكنَّه أعلن أنَّ قلب الإنجيل هو يسوع المصلوب. وبحدث قيامته الفريد، يقطع كلَّ علاقة بالماضي، بالعالم القديم الذي ما زال يسيطر عليه إبليس، ويدخلنا في الخليقة الجديدة. أمام هذا الواقع الجديد، هتف الرسول: »له المجد إلى أبد الدهور.«
ب - المجدلات في آخر الرسالة
هذا ما يجعلنا في إطار ليتورجيّ، حيث نشيد المجد يُنهي صلاة الجماعة. في الرسالة إلى فيلبّي، كتب بولس يشكر أبناء هذه الكنيسة على المعونة التي وصلت إليه بواسطة أبفروديتس. أبعد من تلبية حاجةٍ مادِّيَّة، اعتبر الرسول هذه العطيَّة بشكل »ذبيحة يقبلها الله ويرضى عنها« (فل 4: 18). تذكَّر بولس ما كان يُفعَل في العهد القديم، فأعطاه معنى روحيٌّا، فتحدَّث عن »غنى عظيم في المسيح« (آ19). وأنهى كلامه: »المجد لله أبينا إلى أبد الدهور. آمين« (آ20).
لا يبقى بعد ذلك، سوى التتمَّة والختام. كما في الرسالة إلى رومة (16: 25-27):
25 للقادر أن يثبِّتكم بحسب الإنجيل،
وكرازة يسوع المسيح
حسب إعلان سرٍّ مكتوم
في الأزمنة الأزليَّة،
26 ولكن ظهر الآن بالكتب النبويَّة
حسب أمر الله الأزليّ
وعرَّف جميع الأمم لطاعة الإيمان.
27 لله الحكيم وحده
بيسوع المسيح الذي له المجد إلى الدهور.(3)
يُنشد الرسول قدرة الله. ويندهش باسم الكنيسة أمام السرّ الذي أُوحيَ الآن، بعد أن كان مكتومًا. بواسطة الأنبياء عُرف، بعد أن تمَّت أقوالهم، وبواسطة الرسل، الذين بهم وصلت البشارة إلى العالم كلِّه. تطلَّعت الكنيسة إلى الوراء، ففرحت لأنَّها حاضرة في وقتٍ كُشف اسمُ يسوع المسيح، وصار منذ الآن المفتاح لتاريخ الكون ولمصير الإنسان.(4)
2- أساس المجدلات في العالم اليونانيّ
انطبع بولس بالثقافة اليونانيَّة وهو المتعلِّم في طرسوس(5)، تلك المدينة الجامعيَّة، لهذا نعود إلى هذه الحضارة ونكتشف ما تركت لنا من آثار تنشد مجد الآلهة. أمّا الفنُّ الأدبيّ فهو البلاغة في المجال النظريّ كما في المجال العلميّ.(6) بما أنَّ الإله في المدينة، أو في شعب من الشعوب، فريد، واحد، ولا يُذكَر معه آخر، لهذا نُنشد له المجد.
أوَّلاً: في المجال النظريّ
فرادة الإله تتطلَّب المديح والتمجيد. تحدَّث أهل البلاغة اليونان عن هذا الموضوع، ولكن أرسطو في كتابه البلاغة رتَّب، ومنهَجَ وأبرز الفرادة داخل نظريَّة متكاملة حول البلاغة. وبمختصر الكلام، يقول لنا طوعًا ما الذي يعنيه بمقياس الفرادة.
كانت البلاغة تقسم إلى ثلاثة أقسام délibérative, epidecitic ، ولكلِّ وجهة هدفُها ومرماها. وفي عرض أرسطو للبلاغة _- يعلِّمنا الخطيب كيف نضخَّم المديح، كيف نصوغ العمل الذي يحمل المديح، وأيَّة وسيلة نستعمل لنقنع نفوسنا وفي الوقت عينه نفرض الاحترام.
في عرض من العروض على الإنسان أيضًا أن يستعمل عددًا من أنواع التضخيمات. مثلاً، إذا كان موضوع المديح، هو الفريد(7) أو الأوَّل(8) أو واحد في قلَّة قليلة(9). أو واحد يكون أفضل من يعمل شيئًا(10) لأنَّ هذه الأشياء كلَّها تستحقُّ المديح.(11)
ذُكرت أربعة مدائح مضخَّمة، وكلٌّ منها يُبرز شكلاً عن الفرادة. أن يكون الأوَّل أو الشخص الوحيد الذي يُتمُّ شيئًا من الأشياء، هذا ما يشكِّل أكثر الأشكال المعروفة من التضخيم في بلاغة المديح.
وبعد أجيال، قدَّم شيشرون شاهدًا رومانيٌّا إلى مبدأ الفرادة. فحين تكلَّم على ما يخدم مديح الخطيب، أورد الفضيلة، الإحسان، الاحتمال، الأعمال الفريدة:
ينبغي اختيار الكمالات التي هي مهمَّة(12) أو أوَّل جديدة(13) لم تكن لها سابقة، أو لا يوازيها شيء في طابعها الحاليّ(14). لأنَّ كمالات صغيرة أو تلك اللاعاديَّة أو خارج المألوف، ليست القاعدة لكي تكون مدهشة أو لتخدم المديح.(15)
»التي لا سابقة لها« تقابل »الأوَّل« في لائحة أرسطو. وهكذا فالعمل اللامسبوق، الذي لم يُعمَل أبدًا من قَبْل، هو فريد. »واللامتوازي« يشير إلى »فريد«، بمعنى أنَّ هذا الشخص هو الوحيد الذي صنع هذا وذاك. ومع أنَّ كلام شيشرون حول »أهميَّة المستوى«. لا يُشير بشكل آليّ إلى »الفريد« أو »الحصريّ« فهو يميِّز الأعمال الفريدة خارج »الكمالات الصغيرة« وبين ما هو »لاعاديّ وما هو خارج المألوف«. وهكذا يمكن القول إنَّ عملاً ما هو نادر وعمِلَه »واحدٌ في قلَّة«، إذا لم يكن عمِلَه إنسان وحده.(16)
ومقال كونتستيليان(17) حول البلاغة، يتضمَّن ملاحظات حول الفرادة، شبيهة بما عند أرسطو:
ما يُرضي السامعين بشكل خاصّ، هو إنشاد الأعمال التي بطلها الأوَّل(18) أو الإنسان الوحيد(19) أو في أيِّ حال، الواحد في قلَّة(20)، قد قام بها. وعلينا أن نضيف إلى هؤلاء كمالات تتجاوز آمالنا أو انتظارنا.
بالإضافة إلى ذلك، مقاييس الفرادة عند كونستيليان هي واضحة وتقليديَّة: »الوحيد«، »الأوَّل«، »واحد في قلَّة«، »انتظار يتجاوز كلَّ شيء.«
وإذا كان كونستيليان جعل مقاييس الفرادة لدى نخبة رومة، فإنَّ أئيليوس تيون(21) يمثِّل ذات التقليد البلاغي في إطار المستوى الثاني من التربية(22). فالمدرسة الأولى لديه، التي تتضمَّن تربية بنويَّة لكتابة التقريظ(23)، تدجَّن البلاغة من أجل الأهداف المدرسيَّة. وتكمن أهميَّة تيون في عنصرين اثنين: الأوَّل، هو يمثِّل تقليدًا بلاغيٌّا، قديمًا وثابتًا فوق الزمن. الثاني، قواعده من أجل التقريظ، تدلُّ على أنَّ معرفة فن المديح وممارسته، كأنَّنا منتشريتين وفي شكل اصطلاح. فجاء كلامه كما يلي:
الأعمال التي تستحقُّ المديح هي أيضًا تلك التي تحصل في طريقة وقتيَّة، وإذا تصرَّف واحد (مونوس)، أو الأوَّل (بروتوس)، أو ساعة ما من أحد عمل (أودايس)، أو عمل أكثر من الآخرين (مالون تون ألون)، أو مع القليلين (مات أوليفون)، أو كان تحت السنِّ (هيبار هيليكيان)، أو ما تجاوز الآمال (بارا هلبيدا)، أو مع عمل قاسٍ، أو ما صُنع بسهولة(24) وسرعة(25).
تدلُّ هذه المفردات على ما فهمه تيون كأسُسٍ من أجل المديح، وهو ما ندعوه مقياس الفرادة. وهذا ما يعود بنا إلى ما هو فريدٌ إطلاقًا: مثلاً، حين يعمل إنسانٌ عملاً وحده، أو يكون الأوَّل، أو يكون مع قلَّة من الناس. والمديح الكبير يُحفَظ لأولئك الذين يتجاوزون المقياس: مثلاً، من يعمل وهو صغير السنّ، أو يتجاوز كلَّ الآمال. وفي النهاية، بعض الأعمال تنال الإعجاب الكبير مثل تلك التي نعملها بدون مجهود، بل بسهولة، أو بدون وقت، بل بسرعة.
وأخيرًا قدَّم مناندري البليغ(26) في نظرته البلاغيَّة إلى المديح، نظرةً مختلفة إلى التقليد. فجاءت ملاحظاتُه، أقلَّ نظريَّة من نظرات الآخرين البلاغيَّة، وشدَّدت على طريقة خاصَّة في تضخيم المديح لآلهة المدينة:
علينا أن نبيِّن أنَّ أكبر عدد(27) من الآلهة، أو أفضل الآلهة(28) كرَّموا المدينة بأكبر الكرامات(29) أو بأوَّل الكرامات(30) أو بأكثر الكرامات عددًا(31). فالآلهة الأكثر عددًا ارتبطوا بالاثينيّين: قيل إنَّ ديونيسيوس وأبّولون وبوسايدون وأثينة وهافايستوس وأريس(32)، كلَّ هؤلاء أو أكثرهم، كرَّموا (مدينة) أثينة. »أفضل الآلهة« أي زوش في الأولمب، ونامايا(33). أعظم الآلهة ارتبطوا بالأثينيّين لأنَّهم أعلنوا أنَّ كلَّ خير يأتي من لدن الآلهة. »وأكثر الكرامات ضرورة« نجدها في وضع المصريّين الذين يُعلنون أنَّ النجامة(34) والهندسة آتيان من عند الآلهة. »الأكثر...« تنطبق على البلاغة وعلى الفلسفة اللتين تُعتَبران بشكل خاصّ امتيازًا للآثينيّين.«(35)
العلامات التقليديَّة للفرادة (الأفضل، الأوَّل) هي واضحة. ولكن أُضيف إليها »أكبر عدد« من الآلهة، و»أفضل« الآلهة، وأكثر الإحسانات عددًا. وهكذا تكون مدينة أثينة، فريدة وسط الحواضر اليونانيَّة: فزوش، أفضل الآلهة، كرَّمها بإحسانه. وأكبرُ عدد من الآلهة يعمل لخير هذه المدينة (ديونيسيوس، أبّولون...). كانت أثينة أوَّل من كُرِّمت، أو من كرِّمت بأفضل الإحسانات، أو نالت أكبر عدد من الإكرامات.
وخلاصة القول، ينبغي أن نعطي ثقلاً هامٌّا للطريقة التي بها تضخَّم الأعمال، في البلاغة، لأنَّ مقاييس المديح هذه تمثِّل مِفصَل التقليد البلاغيّ، الواعي والمتواصل. فالكتّاب، مثل أرسطو، رتَّبوا الممارسة في أيّامهم. أمّا أرسطو فعبَّر عن المبدأ العامّ الذي لاحظهُ أولئك الذين جاؤوا بعده.
ثانيًا: في المجال العمليّ
نميِّز هنا اثنين: الكلام الجنائزيّ، المدائح اليونانيَّة والصلوات.
أ- الكلام الجنائزيّ
تشكِّل الخطب الجنائزيَّة لدى اليونانيّين، جسمًا مميَّزًا من المديح البلاغيّ، ويَذكر أرسطو معظمها في كتابه البلاغة. نقرأها فنتفحَّص استعمال التضخيم من أجل الفرادة. ومع البلاغيَّة النظريَّة التي تحدَّثنا عنها، تشهد هذه الأمثلةُ أنَّ مبدأ الفرادة هو تقليد أدبيّ ثابت ينطلق من عصر أثينة الذهبيّ.
في الكلام الجنائزيّ تبع ليسياس(36) اصطلاحًا فيه يُمدَح الناس على مستوى الجغرافية (البلاد)(37) فالاحتفال بأثينة على أنَّها مدينة المتوفّى، يتضمَّن أنَّ الميت الذي يُمدَح يشاركها في فضائلها. وتقريظه يتأسَّس على مديح أمِّه »الجغرافية«، أثينة، والأجداد في الأجيال السابقة الذين رفعوا هذه الحاضرة النبيلة.
كان من الطبيعيّ، من أجل أجدادنا... أن نقاتل قتال العدالة، لأنَّ بداية حياتهم الأولى كانت عادلة... كانوا أوَّل الناس وكانوا فريدين(38) في وقت سارت الطبقات... وأقامت الديموقراطيَّة.(39)
أجدادُ هؤلاء الموتى قاتلوا من أجل حرِّيَّة أثينة، على مثال ما فعل أولادُهم اليوم. ولكن الذين ما خافوا اليوم يكرَّمون بشكل فريد. كانوا الأوائل، بل قاتلوا وحدهم (الخطبة 23) في هذه الظروف. ما من يونانيّ آخر تجرَّأ فحاول أن يخلِّص الآخرين وما من إنسان يستطيع أن يجد حكومة مثل التي في أثينة. وما من شعب آخر نعِمَ بمثل هذه الحرّيَّة. وما من إنسان آخر عاش في الديموقراطيَّة. وواصل ليسياس كلامه: »هناك آخرٌ واحد لهم أن يُشركوا موتهم مع الكثيرين ولكن »مع القليلين« (الخطبة 24). وهكذا يكرَّم رجال أثينة في الماضي وفي الحاضر على أنَّهم »أوَّلون وفريدون« أو »أوَّلون في قلَّة«.
وامتدح توسيديا(40) أثينة كمنبع جغرافيّ للنبل لدى الذين يذكرهم في خطبته الجنائزيَّة (2: 35). فحين امتدح أولئك الذين سقطوا في حرب البيلوبونيز(41) ضخَّم عظمتهم التي أخذها من أثينة، التي هي أمُّ الأبطال لأنَّها مدينة فريدة في نبلها:
»وحدهم الآثينيّون ينظرون إلى الرجل الذي لا يشارك في الأمور العامَّة، لا على أنَّه يهتمُّ بتجارته الخاصَّة، بل على أنَّه غير صالح لشيء« (2/40: 2).
وواصل كلامه:
»نحن وحدنا نقدِّم الإحسانات بدون خوف من النتائج، ولا نحسب ما يمكن أن نربحه. بل نثق بروح السخاء الذي ينشِّط فينا« (2/40: 5)
وفي النهاية يعلن:
»بما أنَّ أثينة وحدها(42) بين معاصريها... تتفوّق(43) على الجميع، وبما أنَّها وحدها لا تخاف العدوَّ الآتي عليها، فيَغضب لأنَّه قُهر، كما أنَّ سكّانها لا يبكون إذا كان سيِّدهم غير جدير« (2/41: 3).
وفي النهاية أفلاطون (429-347 ق.م.) في كتابه مناكسانس(44). قدَّم سقراط إلى مناكسانس خطبة جنائزيَّة أخذت كلَّ الاصطلاحات البلاغيَّة في ذلك اليوم. لا نعجب إن كان بلدُ (جغرافية) شخص يعطيه ينبوعًا كبيرًا من الكرامة، وهنا أثينة. عدَّد سقراط أسبابًا كثيرة لإكرام أثينة، ولا سيَّما فرادتها. »كانت أرضنا الفريدة(45) والأولى في ذلك الزمان في تأمين الغذاء للناس«(46). ثمّ إنَّ جنود أثينة »بواسطة النصر الذي نالوه على البرابرة علَّموا سائر الناس أنَّ قوَّة الفرس يمكن أن تُغلَب« (مناكسانس، 242ب). وهكذا تكون الفرادة أمرًا عاديًا في بلاغة الخطبة الجنائزيَّة.(47)
ب- المدائح اليونانيَّة والصلوات
واعتادت المدائح والصلوات أن تُبرز فرادة الآلهة وتمدحهم. وجاءت الصلوات في العالم اليونانيّ، في بنية مثلَّثة: (1) نداء إلى الألوهة بواسطة الاسم أو اللقب والكنية، أو صفة من الصفات. (2) خطبة تأتي في صلاة تشرح لماذا تؤجَّه المؤمن إلى إلهه الخاصّ، وما هي علاقته بهذا الإله، ولماذا يظنُّ أنَّه يقدر أن بحسب حساب مساعدة هذا الإله. (3) الطلب أو مضمون التوجُّه(48). ونحن لا نعجب إن وجدنا »الفرادة« في الصلاة والدعاء. مثلاً: كلايانت »في مديح زوس«(49):
أنت يا أمجد الخالدين
المكرَّم فوق الأسماء العديدة
يا زوش، يا أوَّل علَّة للطبيعة (المخلوقة)
وجِّهْ كلَّ شيء نحو الشريعة.(50)
زوش هو فريد لأنَّه الأمجد، حتّى وسط الخالدين، أي بين مجموعة من النخبة. وحول زوش الذي نال الأسماء العديدة، نقرأ ما قال ديون الذهبيّ الفم(51):
»أنظر إذا كنت ولا تريد أن تجد أنَّ التمثال يُحفظ مع كلِّ الألقاب التي بها يُعرَف زوش. فهو وحده بين الآلهة من لُقِّب ''الأب والملك''، ''المحامي عن الحواضر''، ''إله الأصدقاء''، ''إله الأصحاب''، ''المحامي عن الطالبين''، ''إله الضيافة''، ''معطي النموّ''« (12: 75).
بما أنَّ زوشًا له أسماء عديدة فهو يكرَّم حصرًا كالألوهة لدى كليانت والرواقيّين. حين يتوجَّه النشيد إلى زوش على أنَّه »العلَّة الأولى للخليقة«، فهو يكرِّمه على أنَّه وحده معطي العقل الذي يجعل الكون في متناول الفكر البشريّ. وفي النهاية، زوش هو المعلِّم والقائد فوق كلِّ الأشياء فيدلُّ على تساميه الفريد وقدرته: وضعُ زوش فريد، أسماؤه عديدة، دورُه حصريّ في صنع المسكونة وتدبيرها.
وفي خطٍّ آخر، نقرأ شعرًا يمتدح الإلاهة إيزيس ويدعو الناس إلى تكريمها بحسب أسمائها العديدة:
أنا إيزيس، ملكة الأرض كلِّها(52) علَّمها هرمس
وأيَّ شريعة أمرت لا يمكن أن تُلغى(53)
أنا أكبر فتاة لأكثر الآلهة شبابًا، كرونوس (الوقت)
أنا زوجة الملك أوزيريس وأخته
أنا أوَّل من كشف ركنًا للبشر
أنا أمُّ الملك حورس.(54)
3- فرادة الله في مجدلات 1 تم
توقَّفنا عند العالم اليونانيّ وأطلنا، لأنَّ بولس يكتب إلى أهل اليونان، فيستعمل الأساليب التي استعملوها. في هذا الإطار نقرأ نصَّين في 1 تم. الأوَّل، 1: 17. والثاني، 6: 15-16.
أ- ملك الدهور (1: 17)
تبدو المجدلات بشكل غير متوقَّع داخل الرسائل أو كجزء من النهاية(55). وجاء من يميِّز نمطَين من المجدلات البيبليَّة(56). ففي 1 أخ 29: 10-11 (حسب السبعينيَّة) نجد أمرين: شكل عبريّ يبدأ مع: »مبارك(57) أنت أيُّها الربُّ إله إسرائيل... (29: 10). ثمَّ نمط ثانٍ: »لك(58) أيُّها الربُّ العظمة والقدرة والمجد... (29: 11).« جاءت 1 تم 1: 17 و6: 15-16 في النمط الثاني.
جاءت أكثر المجدلات في العهد الجديد، في أربعة عناصر: إلى من توجَّه، في صيغة الجرّ datif، ثمَّ »الكرامة« أو »المجد«. بعد ذلك، إلى متى يدوم هذا المجد؟ »إلى الأبد.« وأخيرًا: »آمين« علامة الموافقة(59). هذا ما يدفعنا لكي نُبرز أوَّلاً، عنصرين اثنين لاكتشاف البلاغة في »الفرادة«. ونقرأ 1 تم 1: 17:
إلى ملك الدهور،
إلى الله اللامائت
الوحيد (الفريد) الذي لا يُرى
الكرامة والمجد
إلى دهر الدهور. آمين.
* ملك(60). إنَّ لقب ملك يُطبَّق عادة على الله في العهد القديم، ونادرًا في العهد الجديد(61). أمّا عبارة »ملك الدهور« فهي تشير إلى من هو »إله الأزل«(62). وهكذا يُعلَن الله فريدًا على أنَّه القدير الذي يمارس قدرته، وأنَّ سلطانه يدوم ولا نهاية له. في هذا المجال تحدَّث شرّاحُ الرسائل الرعائيَّة عن ذاك الكاتب المسيحيّ الذي أراد أن يقف في وجه القائلين بأنَّ الإمبراطور الرومانيّ هو إله(63)، فهتف: »الله هو الملك. وهو يملك إلى الأبد. هذا يعني أنَّ الربَّ هو الإله الأوَّل والإله الوحيد، ولا يقف تجاهه ''مائت'' أكان إمبراطورًا أم لا«.
* اللامائت(64). نسب الكاتب إلى الله ثلاث صفات: اللامائت، اللامنظور، الإله الوحيد. اللامائت يدلُّ على الإله الحقيقيّ، ذاك الذي لا بداية له. ذاك الذي لا يصل إليه الفساد في الآتي من الأيّام(65). ولنا مثال على ذلك ديودور الصقليِّ الذي قابل الآلهة الحقيقيَّة والمائتين الذين صاروا آلهة بعد الموت، فأعلن السمة المميِّزة للإله الحقيقيّ: أزليَّة الوجود وأبديَّته. لا بداية له في الماضي. لا نهاية له في المستقبل.
بالنظر إلى الآلهة، أوصلت الأزمنة القديمة إلى الأجيال اللاحقة نظرتين مختلفتين. قالوا: بعض الآلهة هم أزليّون ولامائتون، لا يدركهم الفساد(66). فلكلِّ واحد من هؤلاء البداية والامتداد. هما من أزل إلى أبد (6/1: 2).
وأعلن سكستوس أمبيريكس(67) في الخطِّ عينه: »الله هو الأزليّ واللامائت والكامل في سعادته. وقال بلوتارك: »الآن نسمع اللاهوتيّين يؤكِّدون ويتلون... أنَّ الإله لا يموت وأنَّه أزليّ في طبيعته«(68). فالألوهة الحقيقيَّة تتميَّز عن الأبطال المائتين(69) وتسمو على كلِّ الخلائق كما على المائتين المؤلَّهين بعد موتهم. هو أمرٌ مهمٌّ جدٌّا من أجل أناس يعيشون المحيط الرومانيّ اليونانيّ حيث الآلهة عديدون، حيث الأبطال يدخلون إلى عالم الخلود، حيث الإمبراطور يُعبَد ومثله رومة في ساحة كلِّ مدينة من المدن الرومانيَّة، التي كانت تفتخر بأنَّ تمثال الإمبراطور في الساحة العامَّة، فيسجد له الجميع ويقدِّمون له البخور. ومن رفض هذه العبادة عُدَّ خائنًا للدولة وبالتالي يستحقُّ الموت. لهذا قيل: المسيحيّون، يجب أن يموتوا(70). والسبب: لأنَّ إلههم واحد ولا إله سواه. وربُّهم واحد وهو ملك الملوك وربُّ الأرباب.
* اللامنظور. الذي لا يُرى. هو لفظ نجده في الكتاب المقدَّس (خر 33: 20). ولكنَّه عمليٌّا يأتي من العالم اليونانيّ الرومانيّ. فحين استعمل فيلون الإسكندرانيّ(71) والمؤرِّخ يوسيفس(72) »اللامنظور«، عكس استعمالهما كلامًا يونانيٌّا حول »الإله«، على مثال بولس الذي قال إنَّ الله لا يُرى (رو 1: 20؛ كو 1: 15؛ عب 11: 27).
اللافاسد واللامنظور صفتان تجعلاننا في إطار سلبيّ للكلام عن الإله في العالم الوثنيّ. وكانت صفات أخرى. اللاموصوف، اللامصوَّر، الذي لا تراه العين البشريَّة، اللامفهوم، الذي لا يزاحمه في حكمته(73) هذا يعني أنَّ الله لا ينتمي إلى عالمنا الماديّ، بل إلى العالم العلويّ.
* الوحيد(74). هناك ثلاثة استعمالات لهذا اللفظ. (1) التعبير الأسمى عن التقوى تجاه الآلهة. (2) وضع الفلاسفة. (3) تعبير عن الديانة التوحيديَّة. ففي المدائح الأورفائيَّة(75) عرف أنَّ »الإله« وحده يحرِّر الإنسان. وحده يدبِّر مسيرة البشر. وحده ينظر كلَّ نسمة. وحده يخلِّص الإنسان من الموت في البحر... الإله يكون فريدًا في وظيفته، في وضعه، في مجاله.(76)
هذا في العالم الوثنيّ، أمّا في العالمين اليهوديّ والمسيحيّ، فالكلام عن الإله الواحد نقرأه مثلاً في تث 4: 35؛ 6: 4 (رج إش 44-45). الإله الواحد هو فريد، لأنَّ الألوهة واحدة هي، ولا يكون بقربها ألوهة أخرى. هنا نتذكَّر عبارات نقرأها في السبعينيَّة: »من هو مثلك؟« (خر 15: 11؛ 1 صم 2: 2؛ 2 صم 22: 32). »ما من أحد تجاهك« (تث 4: 35، 39؛ 6: 4؛ 32: 39). »أنتَ الإله الوحيد في كلِّ الممالك« (2مل 19: 15؛ نح 9: 6).
* المجد والكرامة(77). تتضمَّن المجدلة في 1 تم 1: 17 أمورًا تقليديَّة أخرى نجدها في المجدلات: رفع المجد إلى الله. دوام هذا المجد. وأخيرًا الجواب: نعم. هنا المجد والكرامة يبدوان لفظين مترادفين. يدلاَّن على الاحترام العميق، على المديح والبهاء والجلال. نحن نمتلئ عجبًا ودهشة من عمل تامّ، من دور قام به الربّ، من موقعه في العالم. في العهد الجديد، نرفع »المجد« إلى الله (رو 11: 36؛ غل 1: 5 )، »المجد والسلطان« (1 بط 4: 11؛ رؤ 1: 6). »المجد والإكرام« (رؤ 4: 11؛ 5: 13). وهناك أيضًا مجدلات موسَّعة كما في يهو 25: »المجد والفطنة والقدرة والسلطان.«
* إلى دهر الدهور.(78) اعتبر البعض أنَّ هذه العبارة تتضمَّن عنصرين اثنين. الأوَّل: إعلان المديح لله. الثاني، تأكيد لامحدوديَّته في الزمن(79). ما نستطيع ملاحظته هو أنَّ مجدلات العهد الجديد تتضمَّن مثل هذه التعابير على لامحدوديَّة الله وفي أشكال متنوِّعة. من العبارة البسيطة: إلى الدهر (رو 11: 36). أو 'إلى دهر الدهور» كما هو الأمر هنا (2 تم 4: 18). والموسَّعة: »قبل جميع الدهور والآنَ وإلى كلِّ الدهور« (يهو 25).
في العالم اليونانيّ والرومانيّ نجد كلامًا عن الإله الذي هو بداية كلِّ شيء ونهاية كلِّ شيء (الأورفيَّة 4: 2؛ 15: 7). لا بداية له (10: 10) ولا نهاية (10: 8). هو لا يعرف الفساد (أفتارتوس) ولا الموت (أتاناتوس). أجل الإله هو العائش والجواب يكون: آمين. أنا موافق. وأنا أنشد ملك الله وأرفع له المجد.
ب- المبارك الوحيد (1 تم 6: 15 -16)
هذه المجدلة الثانية التي نقرأها في 1 تم تتضمَّن بنية مصاغة بإحكام مع سلسلة من الأسماء والألقاب والصفات. وها نحن نقرأها:
15 الذي سيبيِّنه في أوقاته (المحدَّدة من قبل الله)
المبارك العزيز، الوحيد
ملك الملوك وربّ الأرباب
16 الذي وحده له عدم الموت (الخلود)
الذي يسكن في نور لا يُدنى منه
الذي ما رآه أحدٌ من الناس
الذي له الكرامة والقدرة الأبديَّة.
آمين.
* المبارك.(80) أعلن كالي أنَّ صفة الله هذه معروفة في العالم اليهوديّ الهلنستيّ وقال هاوك(81): »لا يُدعى الله« مكاريوس في البيبليا، ما عدا في 1 تم 1: 11 وفي 6: 15. ولكنَّنا نجد اللفظ في الأناشيد الأورفيَّة وعند فيلون (إبراهيم 202: ملء المباركة والسعادة). وقال الإبيقوريّون إنَّ الله هو »المبارك والخالد والذي لا بلبلة فيه كما هو لا يبلبل البشر«(82). هذه المباركة تميِّز الإله عن المائتين الذين يتعبون، يتألَّمون، يموتون. وحده الله مبارك وليس عرضة للتقلُّبات. هي صفة فريدة لدى الإله.
* العزيز، الوحيد.(83) عبارة نقرأها في العالم اليونانيّ كما في العالم اليهوديّ، وتنطبق على شخص رسميّ مثل الأمير أو الملك(84)، فتتحدَّث عن دور شخص ووضعه في موضع السلطة، بل السلطة السامية. واعتبر البعض(85) أنَّ الكاتب أراد أن يبيِّن سموَّ الإله الواحد على سائر الآلهة، ولا سيَّما أولئك المعبودين في الإمبراطوريَّة الرومانيَّة. ونضيف أهمِّيَّة »الوحيد« (مونوس). وحده الله هو سيِّد الخلائق كلِّها.
* ملك الملوك.(86) اسم يعود أوَّلاً إلى العالم الأشوريّ، البابليّ، الفارسيّ، الفراتيّ، المصريّ(87). وحده السيِّد والجميع خاضعون له. نقرأ في البيبليا: »إله الآلهة«. رج تث 10: 17؛ مز 136: 2؛ ق 3 مك 5: 35.
* ربُّ الأرباب.(88) عبارات ثلاثة: ربُّ الأرباب، ملك الملوك، إله الآلهة. تُستعمل للتكريم. دور هؤلاء هو الدور الأعلى على الأرض وفي السماء. وهي تنطبق فقط على الله في صيغة أفعل التفضيل: أعظم الملوك، أعظم الآلهة، أعظم الأرباب.(89)
* له وحده عدم الموت.(90) في 1: 17 الله هو اللامائت (افتارتوس، الذي لا يعرف الفساد). هنا: يملك اللاموت، الخلود، وما قلناه من قبل عن »افتارتوس« ينطبق هنا على »أتاناسيان«.
* يسكن في نور لا يُدنى منه.(91) كان الملوك يختفون عن الشعب بحيث لا يصلون إليهم بسهولة. فبقدر ما يختفون يكونون مكرَّمين. إذا كان »أفتارتوس« يدلُّ على تفوُّق على المائتين، مع اللاتبدُّل واللاألم واللامحدوديَّة، فإنَّ »ابروسيتوس« يدلُّ على صعوبة المعرفة والاقتراب. إذا كان اللامائت لا يستطيع الدنوّ من الله، فكيف يمكن أن يراه أو يعرفه.
* ما رآه واحد من الناس.(92) هذا المديح الأخير يعكس صفة سلبيَّة عن الله: لا يُرى، هو فوق ما يستطيع الإنسان أن يشاهد. ممّا يعني سموّ الله على البشر.
وهكذا لاحظنا شكل المجدلة التقليديَّة في 1 تم 1: 17؛ 6: 15-16. بحثنا عن أرضيَّة الأسماء والألقاب والصفات المنسوبة إلى الله، واطَّلعنا على مضمونها في إطار بلاغيّ من مبدأ »الفرادة« الإلهيَّة، على ما يقول هوشع النبيّ: »أنا إله لا إنسان، أنا القدّوس (= المنفصل) في وسطكم« (هو 11: 9).
الخاتمة
انطلقنا من بولس الرسول وتعرَّفنا إلى بعض المجدلات التي نقرأها في رسائله. ورحنا إلى العالم اليونانيّ الذي منه استقت المدرسة البولسيَّة ولا سيَّما في الرسالة الأولى إلى تيموتاوس. ماذا قال اليونان عن آلهتهم، سواء »الأزليّين« منهم أو الأبطال الذين »أُلِّهوا« بعد أن كانوا مائتين؟ آلهة لا تعرف الموت ولا الفساد. لا تعرف التبدُّل ولا التحوُّل. لا بداية لها ولا نهاية. بعيدة عن البشر الذين لا يستطيعون أن يروها ولا أن يعرفوها. أخذ الفكر البولسيّ هذه الأسماء وهذه الصفات وجعلها في الإله الواحد الوحيد الذي هو نور لا يُدنى منه. ولكن إذ يقول المجتمع الذي انتشرت فيه الرسائل البولسيَّة، إنَّ هناك آلهة كثيرين وأربابًا كثيرين (1 كو 8: 5)، فالمسيحيّ يقول: »لنا إله واحد، الآب الذي منه جميع الأشياء، ونحن له. ولنا ربٌّ واحد هو يسوع المسيح الذي به جميع الأشياء، ونحن له« (آ6). وكما أخذ العهد القديم اسم »الله« (ا ل هـ ي م) من الشعوب الساميَّة، واسم »الربّ (ي هـ و ه) من عالم مديان وشبه جزيرة سيناء، أخذ العهد الجديد الأسماء التي أعطيَت لآلهة الأمم، وجعلها في الكلام عن له: لا يعرف الفساد ولا الموت. أزليّ، لأنَّ لا بداية له. وأبديّ، لأنَّ لا نهاية له. بعيد عن متناول البشر الذين لا يستطيعون أن يروه ويلمسوه. ولكن مع يسوع صار الله قريبًا منّا، بحيث نراه حين نرى الابن، ونعرفه حين يخبرنا يسوع عن الآب، على ما قال في صلاته الوداعيَّة: »عرَّفتُهم اسمك وسأعرِّفهم، ليكون فيهم الحبُّ الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم« (يو 17: 26). هكذا يمجَّد الآب في الابن، وهكذا ترفع الكنيسة، بل العالم كلُّه ، المجد والشكران للكائن والذي كان والذي يكون إلى الأبد. آمين.