الفصل الحادي عشر: أطيعوا مدبِّريكم

الفصل الحادي عشر

أطيعوا مدبِّريكم

بهذه الكلمات كانت نهاية الرسالة البولسيَّة إلى العبرانيّين، إلى هؤلاء المسيحيّين العائشين في رومة والمتحسِّرين على دمار الهيكل وغياب الكهنة وأبَّهة الاحتفالات الليتورجيَّة. الاضطهاد يلاحقهم كما يلاحق إخوتهم. وكما لاحق آباء العهد القديم. فماذا يفعلون في هذه الظروف الصعبة؟ الطاعة لمدبِّريهم اليوم كما كانت الطاعة لبطرس وبولس اللذين أنهيا حياتهما. والقبول بهذا الوضع الذي قد يقودنا إلى الصليب على مثال الربِّ يسوع الذي صار طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب. والطاعة في الكنيسة تدعو العيال المسيحيَّة إلى الطاعة اليوميَّة التي تعلِّمنا كيف نتوافق بعضنا مع بعض من أجل حياة فيها الفرح والسلام والأمانة والوداعة.

1- الطاعة الكاملة

صعوبات كثيرة في كنيسة كورنتوس، تلك الجماعات التي أحبَّها بولس وما أراد أن يتساوى فيها مع المعلِّمين المدبِّرين. قال لهم: »فلو كان لكم في المسيح ربوة من المرشدين، فما لكم آباء كثيرون، لأنّي أنا الذي ولدكم في المسيح يسوع بالبشارة التي حملتها إليكم« (2 كو 4: 15)

ذاك هو أساس الطاعة الكاملة في المسيحيَّة: الأبوَّة الروحيَّة وهي أعمق من الأبوَّة الجسديَّة بأشواط. فالأبوَّة بحسب الجسد يمكن أن تكون عرضيَّة، بشريَّة محضة وكأنّ الوالد ما كان ينتظر ولدًا. أمّا الأبوَّة الروحيَّة فلا تتمُّ بسرعة بل هي ثمرة عمل طويل. ونلاحظ أنَّ القدّيس بولس لم يتحدَّث عن المعموديَّة، بل عن البشارة، عن الإنجيل. يروي لنا سفر الأعمال أنَّ الرسول لبث سنة وستَّة أشهر في كورنتوس »يعلِّم الناس كلام الله« (أع 18: 11). عارضه اليهود، شتموه (آ6) وكاد يترك المدينة، لكنَّ الربَّ قال له »ليلاً في رؤيا: لا تخف! بل تكلَّمْ ولا تسكت، فأنا معك، ولن يؤذيك أحد، فلي شعب كبير في هذه المدينة« (آ9-10).

الأبوَّة الروحيَّة تشبه الأمومة. فالأمُّ تحبل بأولادها تسعة أشهر، ويوم الولادة تتألَّم ولكنَّها تنسى ألمها لأنَّه وُلد إنسان في العالم (يو 16: 21). أخذ بولس هذه الصورة وطبَّقها على نفسه بالنسبة إلى أهل غلاطية، وكان من الممكن أن يطبِّقها على أهل كورنتوس: »فيا أبنائي الذين أتوجَّع بهم مرَّة أخرى في مثل وجع الولادة حتّى تتكوَّن فيهم صورة المسيح« (غل 4: 19). هل نسيتم »أمَّكم«؟ هل نسيتم أباكم؟ لماذا تذهبون إلى »معلِّمين« آخرين وتتنكَّرون لمن ولدكم؟ وعاتب الرسول أهل غلاطية الذين تحوَّلوا عن »أبيهم في المسيح«. قال: »كم كنت أتمنّى لو كنتُ عندكم الآن لأغيِّر لهجتي، لأنّي تحيَّرتُ في أمركم« (آ20). فالانتقال من معلِّم إلى معلِّم يريح المؤمن، فلا يُجبَر على المسيرة في طريق واحدة توصل إلى المسيح. هكذا كانت الجماعة في كورنتوس حين تبع المؤمنون هذا الإنسان أو ذاك. أبلُّوس خطيب »مصقع« ونحن نتبعه وننسى في النهاية أنَّنا نتبع المسيح. بولس رسول الحرِّيَّة، نسير وراءه »بحرِّيَّة« هي في الحقيقة فلتان، لا حرِّيَّة في المسيح. ونتبع بطرس لمِا في رفقته من منفعة: هو يمثِّل أهل الختان وبالتالي اليهود الذين اعترفت بهم الدولة الرومانيَّة، فنجوا من الاضطهاد. والأمر لا يختلف كثيرًا في وقتنا حين نطيع هذا الرئيس أو ذاك. حين نتبع هذا الكاهن أو ذاك. فصاح فيهم الرسول: هل اعتمدتم باسمي أم باسم يسوع المسيح؟ هل أنا الذي صُلبتُ من أجلكم أم المسيح؟

لهذا قال بولس: »في المسيح«. هو وحده الهدف الذي تصبو إليه حياتنا. فالتوقُّف عند الأشخاص البشريّين يجعلنا في »عبادة« الأوثان. عبد الأقدمون الشمس وتوقَّفوا عندها، فما وصلوا إلى خالق الشمس. صارت الشمس صنمًا. قال لهم سفر الحكمة: إذا كانت جميلة، فانظروا كم ربُّنا أجمل منها (حك 13: 3). وكذا حدَّثنا عن النجوم والنار والهواء والريح، قال: »هم عندما ظنُّوا أنَّ هذه آلهة فلأنَّهم فُتنوا بجمالها غير عالمين أنَّ لها سيِّدًا أعظم منها هو الذي خلقها وهو مصدر كلِّ ما فيها من جمال«. ونحن نؤلِّه البشر ونعتبر خلاصنا بيدهم. وسعادتنا أن نلتصق بهم. وفي النهاية، يحسبون نفوسهم آلهة. فقال لهم سفر المزامير: »لا إله غير الربّ، ولا خالق سوى إلهنا« (مز 18: 32). وفي المزامير أيضًا حسب الحكّام أو القضاةُ أنفسهم »آلهة« (مز 58: 2: إ ل م في العبريَّة)، فقيل لهم: »مثل البشر تموتون ومثل أيِّ عظيم تسقطون« (مز 82: 7).

فالطاعة لا تتوجَّه أوَّلاً إلى الإنسان، بل إلى الله، وفي قلب الله يُعرَف المعنى الحقيقيّ للطاعة. لهذا حين حدَّث الرسول المؤمنين على الاقتداء به، لم يجعل نفسه الهدف الأخير، فقال: »اقتدوا بي كما أنا أقتدي بالمسيح«. فالاقتداء بالمسيح هو الذي يسمح لبولس أن يدعو المؤمنين إلى الاقتداء به. وكذا نقول عن الطاعة التي هي في الأساس »طاعة الإيمان« (رو 1: 5).

هنا تأتي صورة رائعة في الرسالة الثانية إلى كورنتوس: بولس هو ذلك الذي يأخذ العروس إلى عريسها، يأخذ جماعة كورنتوس إلى المسيح. قال: »أغار عليكم غيرة الله لأنّي خطبتُكم لرجل واحد هو المسيح، لأقدِّمكم إليه عذراء طاهرة« (2 كو 11: 2). الطاهرة تعارض النجسة، الزانية، التي تنظر إلى الأوثان لا إلى الربّ. هي خائنة. هي مثل عجلة شموس لا ترضى أن تكون تحت النير، أن تخضع (إر 31: 18)، هكذا بدت جماعة كورنتوس: تركت الصدق والولاء للمسيح (2 كو 11: 3). وكيف بدا ذلك؟ حين رفضت الطاعة لرسولها وفضَّلت عليه أناسًا حسبوا نفوسهم رسلاً من الدرجة الأولى.

ويبيِّن الرسول اهتمامه بكنيسته اهتمام الأمِّ بأولادها: ما ثقَّلت على أحد منكم. حملتُ إليكم إنجيل الله مجّانًا (آ9، 7). وهو الذي طبع فيهم صورة المسيح. فما عليهم سوى أن يقتدوا بالمسيح، أن يعملوا أعمال المسيح.

في هذا المجال نميِّز بين طاعة وطاعة. وقد قال لنا تعليم الكنيسة: نحن نخضع للرسول إذا كان طلبه يقود إلى القداسة، لا إلى الخطيئة لا سمح الله. في هذه الحال، رفضُ الطاعة أمرٌ واجب. هذا ما نفهمه في إطار القدّيس بولس حين يشدِّد على الطاعة التي تقود إلى البرّ (رو 6: 19). في الماضي »كنتم عبيدًا للخطيئة« (آ20). إذًا، أطعتم الخطيئة ومن يقودكم إليها، وأوَّل قائد لكم هو إبليس والحيَّة الجهنَّميَّة. مثل هذه الطاعة قادتكم إلى الموت (آ16). ويعلن الرسول بفرح كبير: »ولكن شكرًا لله! فمع أنَّكم كنتم عبيدًا (خاضعين) للخطيئة، أطعتم بكلِّ قلوبكم تلك التعاليم التي تسلَّمتموها، فتحرَّرتم من الخطيئة وأصبحتم عبيدًا للبر« (آ17-18). صرتم في خدمة القداسة، تطلَّعتم إلى ما علَّمنا الربّ في الصلاة: أن نقدِّس اسمه، ونعمل مشيئته، ونطيعه في كلِّ ما يطلب منّا.

ونعود هنا إلى عنوان المقال: أطيعوا مدبِّريكم واخضعوا لهم« (عب 13: 17). لفظ »مدبِّر أو مرشد« يقابل في اليونانيَّة »الهيجومين« أو رئيس الدير. كان عادة شخصًا كبيرًا في السنّ. دعاه التقليد العبرانيّ: الشيخ. والتقليد السريانيّ: قسّيس (قشيشا). أمّا الطاعة فهي الانقياد. الأكبر »يقود« الأصغر. الوالد (والوالدة) يقود ابنه إلى المدرسة، والطاعة تعني التوافق من أجل عمل معًا. عندئذٍ يُصبح سهلاً. هنا نفهم كلام القدّيسين الذين كانوا يفضِّلون الطاعة على إعطاء الأوامر و«الحكم« في الدير. من نطيعه هو مسؤول عنّا، ويحاسَب على تصرُّفاته. من نطيعه يسهر علينا، على نفوسنا. وهنيئًا له إن نحن سهَّلنا له مهمَّته فيقوم بها بفرح. أمّا إذا غابت الطاعة، »فالرئيس« يتحسَّر، يبكي إذا كانت عنده مخافة الله. وفي أيِّ حال، لا يكون الرفض لمنفعتنا بل خسرانًا لنا. ذاك ما قالته الرسالة إلى العبرانيّين: مدبِّروكم »يسهرون على نفوسكم كأنَّ الله يحاسبهم عليها. فيعملون عملهم بفرح، لا بحسرة يكون لكم فيها خسارة« (آ17). عن هذه المسؤوليَّة حدَّثنا سفر صموئيل الأوَّل، فذكر لنا بني عالي. ضعفَ الوالدُ في تأديبهم، فكانت النتيجة وخيمة عليه وعليهم: »علم أنَّ بنيه أثموا، ولم يردعهم« (1 صم 3: 13).

أمّا الخضوع فيعني أوَّلاً التواضع. رفض آدم الخضوع لأنَّه أراد أن يصير مثل الله، عارفًا الخير والشرّ. تلك كانت التجربة في الماضي. وهي ترافقنا اليوم. فمن يرفض الخضوع يحسب نفسه أفضل من الرئيس. ربَّما على المستوى البشريّ. ولكن لا في المسيح. فالطاعة الحقَّة هي الطاعة لله، لا للناس. من أجل هذا قال لنا الرسول: »اتَّضعوا تحت يد الله القديرة ليرفعكم عندما يحين الوقت« (1 بط 5: 6). ويعقوب أخو الربّ: »اتَّضعوا أمام الربِّ فيرفعكم الرب« (يع 4: 10).

والخضوع يرتبط بالسكون والطمأنينة. بما أنَّ يدًا تمسك بيدنا، فنحن لا نقلق ولا نضطرب. وإذا كانت هذه اليد امتدادًا ليد الربّ، فماذا ينقصنا بعد؟ ولكن ما حيلتنا والإنسان يريد أن يقود نفسه بنفسه، فيسمِّيه أفلاطون »مجنونًا«، لأنَّ الإنسان قلَّما يعرف نفسه. على ما يقول لنا يعقوب أيضًا: »ينظر في المرآة وجهه، وحين يمضي ينسى كيف كان وجهه« (يع 1: 23-24). والمسؤولون في كنيسة كورنتوس: استفاناس، فرتوناتوس، أخائيكوس (1 كو 16: 17) حملوا الأخبار إلى بولس الموجود في أفسس. »اعرفوا كيف تكرمون أمثالهم« (آ18). والإكرام شكل من أشكال الطاعة. قال عنهم الرسول: »قاموا مقامكم في غيابكم«. ثمَّ إنَّ عائلة استفاناس هي الباكورة، »هم أوَّل من آمن بالمسيح في أخائية، وأنَّهم كرَّسوا أنفسهم لخدمة القدّيسين. فأناشدكم، أيُّها الإخوة، أن تسمعوا لهم ولكلِّ من يعمل ويتعب معهم« (آ15-16). السماع هو الطاعة. ونلاحظ التعابير: كرَّسوا أنفسهم. لم يعودوا لأنفسهم بل للمؤمنين الذين أوكلوا بهم، وهذا يعني التضحية والعطاء. ثمَّ عمله هو الخدمة لا الترؤُّس والرئاسة على ما قال الرسول لمن أراد له ولأبلّوس أن يكونا »زعيمين« في الكنيسة: »فمن هو أبلُّوس ومن هو بولس. هما خادمان بهما اهتديتم إلى الإيمان بقدر ما أعطاهما الرب« (1 كو 3: 5). وهذه الخدمة هي عمل وتعب، وأبعد ما تكون عن »الراحة« وإتعاب الآخرين.

وما قاله الرسول لأهل كورنتوس، سبق وقاله لأهل تسالونيكي، لأنَّه رأى أنَّ كلَّ كنيسة وكلَّ جماعة تحتاج إلى مثل هذا التنبيه، وإلاَّ لما كانت الطاعة واحدة من النذور الثلاثة التي ترافق الفقر والعفَّة. قال: »ونطلب منكم، أيُّها الإخوة، أن تكرِّموا الذين يتعبون بينكم، ويرعونكم في الربّ، ويرشدونكم«. فالمسؤول هو الراعي ومثاله الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن أحبّائه. هو يعرف الخراف والخراف تعرفه، ومثل هذه المعرفة تجعل الكلَّ في حياة حميمة كالأعضاء في الجسد الواحد أو كالكرمة مع أغصانها حيث الماويَّة تنطلق من المسيح وتصل إلى آخر غصن في الشجرة.

2- تواضع وأطاع حتّى الموت

حين كتب بولس إلى أهل فيلبّي دعاهم إلى الطاعة، لا  له وحده، بل  للذين جاؤوا بعده على »رئاسة« الكنيسة. فالذين اختارهم المسيح ليرشدوا المؤمنين، يشبهون الذين اختارهم الرسل ومن بعدهم كلّ »هيجومين« (رئيس دير) أو »إبيسكوبّس، أسقف« (مراقب ومناظر) في الكنيسة. ونحن لا ننسى الدياكونوس (الخادم) أي »مشمشنا« في السريانيَّة (شمّاس). والكلام واضح في الرسالة إلى العبرانيّين ولا يقبل أيَّ شكّ. فحين تحدَّث الكاتب عن بطرس وبولس اللذين ماتا شهيدين في زمن نيرون، دعاهما »هيجومين«. قال: »اذكروا مدبِّريكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم واقتدوا بإيمانهم« (عب 13: 7). وحين تحدَّث عن الذين خلفوا الرسولين في رومة، ونحن لا نعرف أسماءهم، دعاهم الكاتب أيضًا »مدبِّرين« (هيجومين) باسم الرسولين كما باسم الرسل. هذا ما ندعوه التسلسل في الرسالة. فلا انقطاع منذ المسيح إلى الآن. والطاعة للمسؤول الآن تشبه الطاعة للرسل، بل للمسيح، بل لله. قال الربّ: »من سمع منكم سمع منّي، ومن رفضكم رفضني، ومن رفضني رفض الذي أرسلني« (لو 10: 16). أو كما في إنجيل متّى: »من قبلكم قبلني، ومن قبلني قبل الذي أرسلني« (مت 10: 40).

قال الرسول: »فكما أطعتم كلَّ حين، أيُّها الأحبّاء، أطيعوني الآن في غيابي، أكثر ممّا أطعتموني في حضوري، واعملوا لخلاصكم بخوف ورعدة« (فل 2: 12). تلك هي طريق الخلاص. في الطاعة. وعمليٌّا، البشريَّةُ كلُّها تعيش في الطاعة. فمن لا يخضع للآخر في أمر من الأمور؟ الملك نفسه يخضع للحلاّق. والوزير ترتبط حياته بخبز يقدِّمه الخبّاز... أمّا المخافة فتكون في الربّ، لا مخافة العبيد، بل مخافة الأبناء، بل مخافة العابدين كما يكونون في حضرة الله. فالله يدعونا إلى مثل هذه الطاعة.

وما قال بولس هذا الكلام وكأنَّه تعليم خارج عنه، فهو أيضًا عاش الطاعة قبل أن يتحدَّث عنها. قال لأهل فيلبّي: »اقتدوا بي أيُّها الإخوة، وانظروا الذين يسيرون على مثالنا« (فل 3: 17). وقال لهم أيضًا: »واعملوا بما تعلَّمتموه منّي وأخذتموه عنّي وسمعتموه فيَّ ورأيتموه فيَّ، وإله السلام يكون معكم« (فل 4: 9). أربعة أفعال متلاحقة. أطاع بولس وهم يتعلَّمون منه الطاعة. أخذ عن المسيح الذي أطاع مشيئة الآب، فوجب أن يأخذوا منه. والسماع يصل إلى الأذن، والرؤية إلى العين. يكفي التلاميذ أن ينظروا إلى الرسول لكي يتعلَّموا ما هي الطاعة الحقيقيَّة، ولاسيَّما في وقت المحنة.

قال الرسول لأهل كورنتوس: »كتبتُ إليكم لأختبركم وأرى هل تطيعونني في كلِّ شيء« (2 كو 2: 9). طلب منهم الرسول أن »يصفحوا« عمَّن أذنب إليهم. هل يطيعونه؟ طلب منهم أن يطردوا الزاني من جماعتهم بسبب الشكوك التي يتركها وراءه. (1 كو 5: 1ي). هل يتقبَّلون ما يعرضه عليهم؟ حذَّرهم من الذهاب إلى المحاكم ودعاهم إلى التوافق والتصالح (1 كو 6: 1ي). ماذا كان جوابهم؟

واستفاد الكورنثيّون من غياب رسولهم لكي يفتروا عليه. قالوا: »رسائل بولس قاسية عنيفة، ولكنَّه متى حضر بنفسه، كان شخصًا ضعيفًا وكلامه سخيفًا« (2 كو 10: 10). دافع بولس عن نفسه. بلا شكّ، وقال لهم: »ما نكتبه في رسائلنا ونحن غائبون نفعله ونحن حاضرون« (آ11). وسبق له وقال في الرسالة الأولى: »أيُّها تفضِّلون؟ أن أجيء إليكم بالعصا أم بالمحبَّة وروح الوداعة؟« (1 كو 5: 21). ولماذا قال هذا الكلام القاسي؟ لأنَّ البعض اعتبروا أنَّه لن يأتي إلى كورنتوس وبالتالي يستطيعون أن يفعلوا كما يشاؤون على مثال الخادم الشرّير الذي اعتبر أنَّ »سيِّده يتأخَّر، فأخذ يضرب رفاقه ويأكل ويشرب مع السكّيرين« (مت 24: 48-49). لماذا الكلام؟ هو يبقى كلامًا. فلا بدَّ من العمل. والطاعة لا تكون حين يرانا الناس، بل حين يرانا الله الذي يعرف ما في أعماق قلوبنا. فلماذا التحايل والتظاهر على ما قال الربُّ عن الكتبة والفرّيسيّين: »يقولون ولا يفعلون« (مت 23: 3)، فيبدون كالقبور المبيَّضة (آ27)؟

أمّا المثال الأعلى للطاعة فهو يسوع المسيح، فقال عنه الرسول: »ارتسم المسيح أمام عيونكم مصلوبًا« (غل 3: 1). عند الصليب تجلَّت طاعةُ المسيح في أبهى مظاهرها. في معرض الكلام عن تواضع يسود عظمته، قدَّم لنا بولس نشيدًا اعتادت أن تنشده الجماعة في كنيسة فيلبّي. أمّا النشيد فانطلق من »صورة«، إلى »صورة« (مورفي في اليونانيَّة)، من »صورة الله« إلى »صورة العبد«. نلاحظ هذا التنازل العجيب، هذا التواضع الذي لا يجاريه تواضع على الأرض. وحين نرى القدّيسين يتركون الغنى والعظمة والمُلك ليكونوا بجانب الفقراء والمرضى، نندهش منهم. هذا ما لا شكَّ فيه. شارل ده فوكو، ذاك الشابّ الذي كان من عائلة كبيرة وصاحب ثروة طائلة، صار خادمًا يكنِّس الدير عند الراهبات في فلسطين، قبل أن يمضي إلى الصحراء الجزائريَّة ويموت هناك ميتة يمكن أن يحسبها الناس »تافهة«. وفرنسيس الأسِّيزيّ الذي تخلّى عن كلِّ شيء فاستطاع أن يدعو الله »أباه« بدل الأب الذي حرمه من كلِّ شيء. ونقول الشيء عينه عن »مؤسِّسي« الرهبنات في لبنان، كانوا في حلب »المدينة العامرة وصاحبة الثقافة« فأتوا إلى الجبل اللبنانيّ يفتِّتون الصخور مع إخوتهم ويعيشون عيشة الفقر والامِّحاء. ولكن ما هذا بجانب ما فعله يسوع الذي ما اكتفى بأن يصير بشرًا، أن يظهر في »صورة إنسان« (فل 2: 7)، بل أخذ »المقعد الأخير« في القاعة، لا المقام الأوَّل مثل الكتبة والفرّيسيّين الذين »يحبّون مقاعد الشرف في الولائم ومقاعد الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق« (مت 23: 6-7).

فمن تواضع إلى هذا الحدِّ، لا يستصعب الطاعة حتّى لمن هو أصغر منه. أما كان هكذا القدّيس شربل؟ فكما تجرَّد من المال فما نظر إليه، كذلك تجرَّد عن إرادته ورافق الربَّ يسوع حين رفعه على الصليب »يا أبا الحق«، التي بدأها على الأرض وأكملها في السماء. وما كانت طاعة يسوع لفترة معيَّنة، أو لبعض الأعمال المحدَّدة. فكما أحبَّ إلى الغاية (يو 13: 1)، أطاع حتّى الغاية، حتّى الموت. ما توقَّف في الطريق وما وضع شروطًا. هو الذي تخلّى عن إرادته كلِّيٌّا، فكيف يستعيد ما قدَّمه لأبيه السماويّ. قال لتلاميذه الذين حدَّثوه عن الطعام: »طعامي أن أعمل بمشيئة أبي الذي أرسلني وأتمِّم عمله« (يو 4: 34). إذا كان أرسل التلاميذ وقال لهم: »كما أرسلني الآب أنا أرسلكم أيضًا« (يو 20: 21)، فأيّ نوع من الرسالة يقوم بها، في اتِّحاد تامّ مع الآب، وهو الذي قال: »ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني« (يو 6: 38).

ويتواصل النشيد الذي أنشدته كنيسة فيلبّي، وقد يكون من تأليف الرسول نفسه: »أطاع حتّى الموت والموت على الصليب« (فل 2: 8). هذا ما نكتشفه في النزاع في جبل الزيتون. قال في صلاته: »يا أبي، إذا كان لا يمكن أن تعبر عنّي هذه الكأس، إلاَّ أن أشربها، فلتكن مشيئتك« (مت 26: 42). وسبق هذه الصلاة طلبة أخرى: »إن أمكن يا أبي، فلتعبر عنّي هذه الكأس، ولكن، لا كما أنا أريد، بل كما أنت تريد« (آ39). وكانت الصعوبة كبيرة. ما عرق الربُّ في نزاعه فقط، بل »كان عرقه مثل قطرات دم تتساقط على الأرض« (لو 22: 44). ومع ذلك فهو لم يتراجع: »لتكن إرادتك لا إرادتي« (آ42). وسيبقى طائعًا لمشيئة الآب حتّى النهاية. فقال وهو على الصليب: »تمَّ كلُّ شيء« (يو 19: 30). ما بقي شيء يقوم به في مشروع الآب الخلاصيّ. عندئذٍ أسلم الروح.

هنا نقرأ في الرسالة إلى العبرانيّين ملخَّصًا عن حياة يسوع وموته. »وهو الذي في أيّام حياته البشريَّة، رفع الصلوات والتضرُّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر، ولمّا بلغ الكمال صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه« (عب 5: 7-9). ذاك هو الابن في انحداره، ساعة أخلى ذاته، لاشى ذاته، صار أقلَّ من إنسان. وبما أنَّه أطاع، حمل الخلاص للبشر فقابل »آدم« الذي عصى، الذي خطئ، »فسادَ الموتُ البشر بخطيئة إنسان واحد« (رو 5: 15). وواصل الرسول كلامه: »فكما أنَّ خطيئة إنسان واحد قادت البشر إلى الهلاك، فكذلك برُّ إنسان واحد يبرِّر البشر جميعًا فينالون الحياة. وكما أنَّه بمعصية إنسان واحد صار البشر خاطئين، فكذلك بطاعة إنسان واحد يصير البشر أبرارًا« (آ18-19). فما أعظم الطاعة، وأيَّة نتيجة تقدِّم للبشريَّة. وإذا كان يسوع رضي أن يكون طائعًا حتّى الموت، فما يكون موقف التلميذ، مع العلم أنَّ ذاك الذي أطاع »رفعه الله جدٌّا وأعطاه اسمًا فوق كلِّ اسم« (فل 2: 19) بحسب مبدأ الإنجيل: »من اتَّضع ارتفع، ومن ارتفع اتَّضع« (لو 14: 11). لا طريق إلاَّ هذه، وهنيئًا لمن يأخذها ولو كانت ضيِّقة، صاعدة... فالنور ينتظرنا في النهاية.

3- أيُّها الأبناء أطيعوا والديكم

وننتقل من الإطار الكنسيّ الذي أضاء عليه موقف يسوع، لنصل إلى البيت بما فيه من والدين وأولاد، من أسياد وعبيد. من جهة، واجب الأبناء تجاه الوالدين، ومن جهة ثانية، واجب الوالدين تجاه أولادهم. لأنَّ الطاعة لا تكون من جهة واحدة، وكأن الأصغر أو الأضعف يحمل كلَّ الواجبات ولا يكون له حقٌّ واحد. في الطاعة، لا يكون الهدف الخضوع كخضوع. يجب أن يركع الولد. وبالأحرى العبد. لا يحقُّ لهؤلاء الضعفاء أن يناقشوا ولا أن يسألوا. والولد في العالم الرومانيّ لا يفترق عن العبد، بل العبد هو الذي يقوده إلى المدرسة. لا شكَّ نحن أبناء الله، ولكن يتابع الرسول: »الوارث لا فرق بينه وبين العبد ما دام قاصرًا، مع أنَّه صاحب المال كلِّه. لكنَّه يبقى في حكم الأوصياء والوكلاء إلى الوقت الذي حدَّده أبوه« (غل 4: 1-2). وفي عالمنا الشرقيّ، الولد هو مُلك الرجل يفعل به ما يشاء، يرسله إلى العمل، يطلب منه ما هو في طاقته وما هو فوق طاقته.

ولكن هذا لا يمكن أن يكون في تعليم القدّيس بولس. بدأ فطلب من الأبناء الطاعة. وأضاف: »هذا عين الصواب« (أف 6: 1). هذا ما يجب على الأولاد أن يقوموا به. عاد الرسول إلى الوصايا وتلك التي تقول: »أكرم أباك وأمَّك« وتلك أوَّل وصيَّة يرتبط بها وعد وهو: »لتنال خيرًا وتطول أيّامك على الأرض«.

الأمثال عديدة في هذا المجال. قيل عن يعقوب »سمع لأبيه وأمِّه وذهب إلى سهل آرام« (تك 28: 7). أطاع فافترق عن أخيه عيسو: تزوَّج امرأة أولى من بني حثّ ثمَّ امرأة ثانية »فكانتا لإسحق ورفقة خيبة مرَّة« (تك 26: 35). وسوف تقول رفقه لإسحق: »سئمتُ حياتي من امرأتَي عيسو الحثّيَّتين. فإن تزوَّج يعقوب من بنات حثّ مثل هاتين أو من بنات سائر أهل الأرض، فما لي والحياة؟« (تك 28: 46). نحن لا ننسى أنَّ هذه الشعوب لا تعبد الإله الواحد، فكيف الزواج من امرأة لا تؤمن إيمان زوجها، فمن يربّي الأولاد التربية الصحيحة. سمع يعقوب. أمّا عيسو فتزوَّج مرَّة أولى ومرَّة ثانية كأنَّه يضيف عصيانًا على عصيان. بل هو عصى أمر الله نفسه الذي قال عن »الحثّيّين« وغيرهم: »لا تصاهروهم فتعطوا بناتكم لبنيهم وتأخذوا بناتهم لبنيكم، لأنَّهم يردُّون بنيكم عن اتِّباع الربّ، فيعبدون آلهة أخرى« (تث 7: 3-4). أمّا عقاب العصيان فيكون قاسيًا. قال سفر التثنية: »وإذا كان لرجل ابنٌ عقوق لا يسمع لكلام أبيه ولا لكلام أمِّه، ويؤدِّبانه ولا يصغي إليهما، يمسكه أبوه وأمّه ويخرجانه إلى شيوخ المدينة التي يقيم بها... فيرجمه جميع رجال مدينته حتّى يموت« (تث 21: 18ي). تدبير قاس. ربَّما لم يُعمَل به إلاَّ نادرًا نادرًا، ولكن هذا يبيِّن أهمِّيَّة الطاعة للوالدين.

ويوسف أطاع أباه، فذهب إلى الإخوة مع أنَّه عارف أنَّ الخطر يتهدَّده (تك 37: 13-14). وطوبيّا أيضًا هو ابن الطاعة: »كلّ ما أمرتَ به أفعلُه« (طو 5: 1). وماذا قال طوبيت لابنه؟ »إذا متُّ يا ابني فادفنّي بكرامة. كذلك أكرِمْ والدتك، ولا تتركها في ضيق كلّ أيّام حياتها. أطعْها في كلِّ ما تعمل ولا تحزنها« (طو 4: 3). في هذا المجال قال سفر الأمثال: »الابنُ الحكيم يفرح أباه، والابن البليد حسرة لأمِّه« (أم 10: 1).

تلك واجبات الأبناء (والبنات). وما هي واجبات الآباء (والأمَّهات)؟ »لا تُثيروا غضب أبنائكم، بل ربُّوهم حسب وصايا الربّ وتأديبه« (أف 6: 4). حين حدَّث الرسول الأبناء طلب منهم الطاعة »في الرب«. فالربُّ هو شاهد على هذه الطاعة. ومن عصى والديه عصى الله. قال الرسول: »أيُّها البنون، أطيعوا والديكم في كلِّ شيء، لأنَّ هذا يرضي الرب« (كو 3: 20). وفي الربِّ يهتمُّ الآباء بأولادهم. يسيِّرونهم »بحسب وصايا الرب«. دورهم هو دور الله، وتأديبهم يكون تأديب الله. لا بالغضب و»فشَّة الخلق« القريب  من الانتقام. إن كان الأمر هكذا، فالأولاد يثورون ويرفضون، وفي النهاية ييأسون.

كيف يؤدِّب الوالدون أولادهم؟ مثل الربّ. قال سفر الأمثال: »لا ترفض مشورة الربِّ ولا تكره توبيخه لك. فمن يحبُّه الربُّ يوبِّخه ويرضى به كأبٍ بابنه« (أم 3: 11-12). المحبَّة تسيطر في عمل الربّ، وبالتالي في عمل الوالدين. ومعاملة الله تشبه معاملة الأب، بحيث إنَّ الإنسان يكتشف تعامل الله معه انطلاقًا من تعامل والديه معه. هذا يعني واجبًا كبيرًا على الوالدين ومسؤوليَّة خطيرة في مجال التربية. استعادت الرسالة إلى العبرانيّين كلام سفر الأمثال هذا، وأضاف كاتبها: »فتحمَّلوا التأديب، والله إنَّما يعاملكم معاملة البنين، وأيُّ ابن لا يؤدِّبه أبوه؟« (عب 12: 7). ويواصل: إذا رفضنا التأديب لا نكون أبناء شرعيّين، بل أبناء زنى. وينهي الكلام في هذا الموضوع: »ولكن كلُّ تأديب يبدو في ساعته باعثًا على الحزن، لا على الفرح، إلاَّ أنَّه يعود فيما بعد على الذين عانوه بثمر البرِّ والسلام« (آ11).

وفي هذا الإطار من الطاعة التي تسيطر في البيت، نتعرَّف إلى العلاقة بين الرجل والمرأة. الخضوع متبادل. الرجل يخضع للمرأة والمرأة تخضع للرجل. ذاك ما قال الرسول في معرض كلامه عن الزواج: »ليخضع بعضكم لبعض في مخافة المسيح« (أف 5: 21). أمّا الطريقتان فهما الخضوع والمحبَّة في تقابل متوازٍ. ارتبط الخضوع بالمرأة والمحبَّة بالرجل، وكأنَّ المرأة لا تقدر أن تحبَّ ولا الرجل أن يخضع. أمّا المثال الأعلى فهو خضوع الكنيسة للمسيح. قال: »وكما تخضع الكنيسة للمسيح، فلتخضع النساء لأزواجهنَّ في كلِّ شيء« (آ24).

أمّا طاعة العبيد فتكون »بخوف ورهبة وقلبٍ نقيّ كما تطيعون المسيح« (أف 6: 5) والأسياد يعرفون أنَّ سيِّد العبيد هو سيِّد الأسياد وهو لا يحابي أحدًا (آ9). كيف تكون المعاملة؟ »بالعدل والمساواة« (كو 4: 1). فالدينونة تنتظر السيِّد والعبد، وكلُّ وحد يجازى بحسب أعماله.

الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا لكي نتعلَّم ما هي الطاعة في أديارنا، في رعايانا، في الجماعات الكبيرة أو الصغيرة، في بيوتنا. كلُّ شيء يكون تحت نظر الربِّ وفي المسيح. والمثال الأعلى يبقى يسوع الذي تعلَّم الطاعة في بداية مجيئه إلى العالم، الذي كان طائعًا لوالديه (لو 2: 51)، مع أنَّه ابن الله. في خطِّه سار الرسول، ومثله فعل القدّيسون فتقدَّسوا بالطاعة المستندة إلى التواضع والمحبَّة من أجل بناء الكنيسة. في هذا المجال نُنهي ببعض ما قال الرهبان: »إنَّ الطاعة فخر الراهب، فمن اقتناها يسمع الله صوته، ويقف أمام المصلوب ربّ المجد بدالَّة، لأنَّ إلهنا من أجل طاعته لأبيه صُلب عنّا«. وقال أنطونيوس: »النسك والفقر يُخضعان الوحوش لنا«. وقال أيضًا للآتي إليه: »لا تكن قليل السمع لئلاّ تكون وعاء لجميع الأشرار. فضع في قلبك أن تسمع لأبيك (مرشدك الروحيّ) فتحلّ بركة الله عليك«. أمّا باخوميوس الذي رأى أربع مراتب في السماء فرأى أرفعها تلميذًا ملازمًا لطاعة أبيه من أجل الله. »فالطاعة لأجل الله أفضل الفضائل«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM