الفصل العاشر: كونوا فرحين في الرجاء

الفصل العاشر

كونوا فرحين في الرجاء

بعد أن قدَّم بولس الرسول اللاهوت في الرسالة إلى رومة مُبرزًا التبرير بالإيمان، والحياة المعطاة في المسيح، وخلاص جميع البشر من اليهود أوَّلاً ثمَّ من اليونانيّين أو الأمم الوثنيَّة، بعد أن قدَّم توسُّعًا أوَّل يبيِّن أمانة الله لمواعيده، وتوسُّعًا ثانيًا يبيِّن كيف »يُصاب« المؤمن بمحبَّة الله وتوسُّعًا ثالثًا يعلن النجاح التامّ لمخطَّط الخلاص الشامل على أساس حكمة الله. بعد أن صوَّر الرسول شقاء الإنسان الذي يستند إلى قواه الخاصَّة فيعي ضعفه ويتقبَّل عون الله، وشقاءه على المستوى البشريّ حيث يصبح عبدًا للخطيئة، بعد هذا التوسُّع اللاهوتيّ، يعود بنا بولس إلى القسم الأخلاقيّ فيحدِّثنا عن الحياة الجديدة في المسيح التي تعلِّمنا أوَّل ما تعلِّمنا المحبَّة الأخويَّة في تفاصيل الحياة اليوميَّة. هنا يعطي الرسول جماعة رومة، وبالتالي كلَّ جماعة من جماعاتنا، توصيات من أجل الحياة الروحيَّة في الكنيسة، حول الصلاة والمحبَّة والضيافة، مع عبارة مفصليَّة في هذه السلسلة: »كونوا فرحين في الرجاء« (رو 12: 12).

عن الرجاء في الرسائل البولسيَّة يكون كلامنا. فنتعرَّف إلى الرجاء على أنَّها فضيلة من الفضائل تُذكر مع الإيمان والمحبَّة أوَّل ما تُذكر في المراسلة مع أهل تسالونيكي. نتوقَّف عند مكوِّناتها: ماذا ينتظر الإنسان؟ البرّ والخلاص في يسوع المسيح، المجد الآتي لا للبشر فقط، بل للخليقة كلِّها »التي تئنُّ حتّى اليوم« (رو 8: 22)، منتظرة أن »تتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (آ21). في هذا الرجاء عاش بولس في خطى إبراهيم، والمسيحيّون بشكل عامّ والجماعات المنتشرة التي يكتب إليها الرسول، لأنَّ الحياة بالنسبة إلى الإنسان هي الرجاء. فحين يمضي الرجاء لا يبقى شيء كما يقول سفرُ الجامعة (9: 4)، فيتفوَّق حينئذٍ الميتُ على الحيّ. هنا يُعلن أيّوب بقلبٍ جاوره اليأس (ف 17):

13  ما رجائي والقبر أصبح بيتي،

وفي الظلام فرشتُ مضجعًا لي؟

14  أقولُ للقبر: »أنت أبي!«

وللديدان: »أنتِ أمّي وأختي!«

15  فقولوا لي: »أين إذًا رجائي؟

سعادتي من يا ترى يراها؟

1. فضيلة الرجاء

الفضيلة هي الدرجة الرفيعة في الفضل، في أن يزيد الإنسان على قريبه في البرِّ والإحسان. الفضيلة تقابل النقيصة، وحيث ينقص الرجاء لن يبقى للإنسان من طريق سوى القنوط واليأس. والفضيلة ترافق المزيَّة التي هي التمام في ما يعيشه الإنسان، ما يتميَّز به الإنسان.

فالرجاء لا يُولَد مع الإنسان وكأنَّه جزء من طبيعته، بل هو صفة يتحلّى بها الإنسان المؤمن، فيختلف عن الذين لا رجاء لهم (1 تس 4: 13). ولاسيَّما عند ساعة الموت، فعلى المؤمن أن »يضيفها«، »يزيدها« على ما عنده من صفات بشريَّة، بسبب سموِّها ورفعتها. فهي ثابتة كما يقول الرسول تجاه الأمور العابرة: »والآن يبقى الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). من أجل هذا يهنّئ الرسول أهل تسالونيكي: »نشكر الله كلَّ حين من أجلكم جميعًا، ونذكركم دائمًا في صلواتنا. ونذكر أمام إلهنا وأبينا ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح، من نشاط في الإيمان، وجهاد في المحبَّة، وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 2-3).

فهذه الفضائل الثلاث لا تأتي بالطريق السهلة، بل هي تفترض مجهودًا كبيرًا ربَّما يعرِّضنا للخطر، إن لم يكن للهزء، كما حصل لبولس حين كان في أثينة فحدَّث أهلها عن »قيامة الأموات« (أع 17: 32). من هنا قال الفلاسفة عن الفضيلة: »هي تجعل الإنسان قادرًا على العمل كما يجب، بحيث تكون نفسه عائشة في توازن تام«. مثل هذه الفضيلة هي عطيَّة من لدن الله.

أمّا الرجاء فهو ضدُّ اليأس والقنوط ورفيق الأمل أو النظر إلى البعيد. في الرجاء نعتبر أنَّ ما نرغب فيه يمكن أن يتحقَّق. لهذا ننتظر بملء الثقة عطيَّة من العطايا، أو نتَّكل على شخص قدير بأن يمنحنا ما نصبو إليه من خير.

هذا يعني أنَّنا حين نتكلَّم عن الرجاء نشير إلى المكانة التي يحتلُّها المستقبل في الحياة الدينيَّة لدى شعب الله. وهو مستقبل من السعادة يُدعى إليه البشرُ جميعًا، »فالله يريد أن يخلص جميعُ الناس ويبلغوا إلى معرفة الحق« (1 تم 2: 4). ومواعيد الله كشفت لشعبه، مرحلةً بعد مرحلة، عظمة هذا المستقبل الذي لن يكون »واقعًا« من هذا العالم، بل »وطنًا أفضل، الوطن السماوي« (عب 11: 16) بل »ما وُعدنا به، أي الحياة الأبديَّة« (1 يو 2: 25).

وما يُسند هذا المستقبل الذي وعد به الله والمتطلِّبات التي يفترض، هو الإيمان الذي هو »الوثوق بما نرجوه، وتصديق ما لا نراه« (عب 11: 1). فالإنسان الواثق يستند إلى الله الذي به يرتبط هذا المستقبل. وحين يتجذَّر الرجاء في الإيمان والثقة، يستطيع أن يتحدَّد نحو المستقبل ويحرِّكُ بديناميَّته حياة المؤمن كلَّها. والرجاء يحافظ على الصبر والأمانة اللذين يعبِّر عنهما العهد الجديد بالمحبَّة. وهذا ما يجعلنا أمام المثلَّث الذي أطلقه الرسول، الإيمان والرجاء والمحبَّة، أو ما يُدعى في اللاهوت المسيحيّ: الفضائل الإلهيَّة. فهي تربطنا بالله مباشرة قبل أن توجِّهنا إلى القريب: »أمّا نحن، فننتظر على رجاء أن يبرِّرنا الله بالإيمان بقدرة الروح. ففي المسيح يسوع، لا الختان ولا عدمُه ينفعُ شيئًا، بل الإيمان العامل بالمحبَّة« (غل 5: 5-6).

في قراءة للإناجيل الأربعة، لا نجد لفظ »رجاء« كاسم، بل كفعل، وفي معنى دنيويّ لا في معنى دينيّ. في لو 6: 34 هو الرجاء بأن ينال الإنسان مالاً (ترجون أن تستردُّوا منه قرضكم). وفي لو 23: 8 نعرف أنَّ هيرودس كان »يرجو أن يشهد آية تتمُّ على يده«، على يد يسوع. وفي المعنى الدينيّ نقرأ الفعل »ترجّى« ثلاث مرّات في خطِّ العهد القديم. في مت 12: 21، يرد نصّ إش 42: 4: »وعلى اسمه تترجّى الأمم« (رج رو 15: 12). في لو 23: 21، ترجَّى تلميذَيْ عمّاوس من يسوع أن يخلِّص إسرائيل. وفي يو 5: 45، جعل اليهود رجاءهم في موسى.

لهذا كانت أفعال أخرى: انتظر (1 تس 1: 10: وتنتظروا ابنه من السماء). توقَّع (رو 8: 19، 23: متوقِّعين التبنّي؟ رو 8: 25؛ 1 كو 1: 7؛ غل 5: 5؛ فل 3: 20؛ عب 9: 28). سهر (1 كو 16: 13؛ كو 4: ..2.). تمسَّك (فل 2: 16: متمسِّكين بكلمة الحياة؛ 1 تم 4: 16). صبر، احتمل (رو 2: 12: صابرين في الضيق؛ 1 كو 13: 7؛ 2 تم 2: 10، 12؛ عب 10: 22؛ 12: 2، 3، 7). هذا ما يقابل الأفعال العبريَّة كما ترجمت في السبعينيَّة: »ب ط ح«، وثق به، اطمأنَّ. »ق و ه« انتظر، ترجّى. »ي ح ل« انتظر إنسانًا. »ح ك ه« انتظر بثقة ويقين. »ح س ه« التجأ إليه، وجد فيه الحماية، جعل اتِّكاله عليه.

هذه الأفعال بما تحمل من معانٍ وُجدت في الأدب اليونانيّ السابق للعهد الجديد، ولاسيَّما الرسائل البولسيَّة. فاستعملها الرسول. نشير هنا إلى أنَّ الرومان تعبَّدوا »للرجاء« وبنوا له المعابد الكثيرة، واعتبروا أنَّ هذه العبادة تشدِّد العزيمة. ففي خلال الحرب بين رومة وقرطاجة، مثلاً، بُنيَ هيكل »للرجاء«. في القرن الأوَّل المسيحيّ، ترجَّت بعض النفوس الخلاص بواسطة آلهتها، ولكن سيطر الحزن بشكل إجماليّ مع اليأس والقنوط. فقال أحدهم: »لا نستطيع بعدُ أن نتحمَّل رذائلنا ولا علاجاتنا«. وبكى آخر على الأبناء الذين يسيرون وسط الشرور المختلفة، كما حسدَ الأمواتَ الذين تركوا الحياة فوجدوا في الموت الدواء لشقاءاتهم. هنا نلتقي مع أيّوب البارّ الذي هتف بعد أن أصابه ما أصابه من شرور (ف 3):

11  لماذا لم أمُتْ من الرحم

أو فاضتْ روحي عندما خرجتُ.

12  لماذا قبلتني الركبتان،

أو الثديان حتّى أرضع؟

13  إذًا لكنتُ الآن أرقُدُ في سلام

غارقًا في سباتٍ مريح.

بل قال أحدهم: »لم أكن موجودًا وصرتُ موجودًا. لم أعُدْ موجودًا، لا بأس«. مثل هؤلاء الناس احتاجوا إلى من يحرِّك فيهم الرجاء. قال الرسول لهم: »إذا كنّا نؤمن بأنَّ يسوع مات ثمَّ قام، فكذلك نؤمن بأنَّ الذين رقدوا في يسوع سينقلهم الله إليه في يسوع« (1 تس 4: 14). وكلَّم الوثنيّين في الرسالة إلى أفسس »لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم« (أف 2: 12). لماذا؟ لأنَّكم »كنتم بعيدين«. »أمّا الآن، ففي المسيح يسوع صرتم قريبين بدمِ المسيح« (آ13). ويتواصل الكلام في هذه الرسالة: »فأنتم جسدٌ واحد وروح واحد، مثلما دعاكم الله إلى رجاء واحد« (أف 4: 4). أجل، هناك رجاء واحد، لأنَّ الله واحد. فلا ندهش بعد اليوم: »نحن بيته (بيت الله) إن تمسَّكنا بالثقة والفخر بما لنا من رجاء« (عب 3: 6). لهذا قيل: »الرجاء واحد والباقي انتظار«. لهذا كانت الحياة نداء مثل نداء ذاك المكدونيّ الذي جاء في الليل إلى بولس وقال له: »اعبُر إلى مكدونية وأغثنا« (أع 16: 9). وهكذا توجَّهت كرازة الخلاص شيئًا فشيئًا نحو كرازة الرجاء، وصار الإعلان الإيمانيّ »تمسُّكًا بالرجاء... لأنَّ الله الذي وعد أمين« (عب 10: 23).

2. مكوِّنات الرجاء

حدَّد أفلاطون الرجاء بأنَّه »انتظار خيرٍ من الخيرات«. أمّا الخيرات التي ننتظر فهي عديدة. قال ابن سيراخ (ف 2):

7   يا من تخاف الربّ، انتظر رحمته،

وحين تسقط لا تمِل عنه.

8   يا من تخاف الربّ آمنْ به

وأجرك لن يضيع.

9   يا من تخاف الربّ انتظرْ خيرًا

وسرورًا أبديٌّا ورحمة.

فالمؤمن ينتظر العودة إلى أرضه (إر 44: 14). والحرِّيَّة (إش 25: 9؛ مز 112: 7)، كما ينتظر أن ينال التعليم (إش 42: 4) أو المال (أع 24: 26) أو الغلَّة الوافرة (1 كو 9: 10). وجاء الكلام عن الرجاء على لسان بولس: أن يزور الجماعة، أن يطيل إقامته في موضع ما، أن يكون حرٌّا بحيث يلتقي أحد التلاميذ. قال لجماعة رومة: »أرجو أن أراكم عند مروري بكم في طريقي إلى إسبانية« (رو 5: 24). ولجماعة كورنتوس: »فأنا لا أريد أن أراكم هذه المرَّة رؤية عابرة، بل أرجو أن أقيم بينكم مدَّة طويلة بإذن الرب« (1 طو 16: 7). وقال لأهل فيلبّي: »أرجو في الربِّ يسوع أن أُرسل إليكم تيموتاوس« (فل 2: 19). ثمَّ: »ولي ثقة بالربّ أن أجيء إليكم أنا أيضًا بعد قليل« (آ23). وكتب الرسول إلى تلميذه تيموتاوس: »أكتبُ إليك هذه الرسالة راجيًا أن أجيء إليك بعد قليل« (1 تم 3: 14).

فالرسول يعيش في الرجاء وينتظر من الله أن يسهِّل له طريقه، إذا شاء. كما ينتظر أن تكون عواطف قرَّائه كما يُرام. كان خلاف مع كنيسة كورنتوس، فترجّى بولس »أن يفهموه« (2 كو 1: 13). »أن يعرفوه« (2 كو 5: 11). وترجّى لهم »أن يزداد إيمانهم« (2 كو 10: 15). وأوجز الرسول كلامه بهذه العبارة: »رجاؤنا فيكم ثابت، لأنَّنا نعرف أنَّكم تشاركوننا في العزاء كما تشاركوننا في الآلام« (2 كو 1: 7).

موضوع الرجاء في العهد القديم كان الإقامة في أرض الموعد (تك 15: 7؛ 17: 8؛ خر 3: 8؛ 6: 4). ولمّا أقام الشعب في الأرض، ترجُّوا من الربِّ الحماية تجاه الأخطار المحدقة بهم. وتطلَّعوا إلى يوم الربِّ حيث ينجون من كلِّ شر وينعمون بعهد من السعادة والازدهار. كلُّها انتظارت مادِّيَّة. وتجاه الخطيئة التي ندَّد بها الأنبياء، ترجَّى الشعب خلاصه أو أقلَّه خلاص البقيَّة الباقية، إن لم يكن الآن، ففي نهاية العالم: »أعاهدكم عهدًا أبديٌّا. الأمم يعرفون نسلكم، وذرِّيَّتكم بين شعوب الأرض« (إش 61: 8-9).

في امتداد العهد القديم نرافق بولس الرسول، ذاك الذي تعلَّم عند قدمَي غملائيل (أع 22: 3). فالرجاء عنده هم أكثر من رغبة، أكثر من احتمال مؤسَّس على الواقع. فالرجاء يتضمَّن الثبات، التي هي إمكانيَّة تحمُّل الصعوبات بدون ارتخاء، والوقوف مهما كانت الرياح مضادَّة. مثل هذا الرجاء ذكره الرسول (1 تس 1: 3)، الذي يتضمَّن اليقين والتأكيد، والحرارة والثقة التامَّة، وإن كان الرجاء ينبوعًا يحرِّك الصبر والجلد والمثابرة، فالصبر من جهته يستطيع أن يُولِّد الرجاء، بمعنى أنَّه الطريق الذي يقود إلى الرجاء. وهذا الرجاء يدلُّ على نفسه في المثابرة، لا في اندفاع ينطلق سريعًا ليتوقَّف أسرع، مثل النار في القشّ، أو حبَّة الحنطة التي وقعت على أرض قليلة التراب: أفرخَت حالاً وما عتَّمت أن يبست. قال متّى عن تلك الحبَّة: »ووقع بعضه على أرض صخريَّة قليلة التراب. فنبتَ في الحال لأنَّ ترابه كان بلا عمق، فلمّا أشرقت الشمس احترق وكان بلا جذور فيبس« (مت 13: 5-6).

هنا نقرأ الرسالة إلى رومة: »نحن نفتخر بها (= بالنعمة) في الشدائد لعلمنا أنَّ الشدَّة تلد الصبر، والصبر امتحانٌ لنا. والامتحان يلد الرجاء، ورجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 3-5). نحن أبعد ما يكون عن انتظار الأمور المادِّيَّة، وإن كان الربُّ لا يستثنيها من عطاءاته. وسندُنا هو الله الذي يوجِّه حياتنا من أجل الخير بسبب المحبَّة المسكوبة فينا.

مثل هذا الرجاء يرافقه الفرح الذي يعمُر به قلبُ الرسول، حين يكلِّم الجماعة في تسالونيكي: »فمن يكون رجاءنا وفرحنا وإكليل افتخارنا أمام ربِّنا يسوع المسيح يوم مجيئه؟« (1 تس 2: 19). هو تطلَّع إلى المستقبل البعيد أو القريب: »مجيء ربِّنا«. والربّ يأتي في المجد. ونحن ننتظره »صابرين في الضيق، مواظبين على الصلاة« (رو 12: 12). وما قاله بولس للتسالونيكيّين ها هو يقوله لجماعة رومة: »فليحِّرركم إلهُ الرجاء بالفرح والسلام في الإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بالروح القدس« (رو 15: 13).

وماذا يرجو المؤمن؟ أوَّل أمر يرجوه هو البرّ. هو لا يتَّكل على أعمال الناموس مهما سمت كرامتها، بل على الله وحده الذي يُتمُّ مواعيده بنعمة من لدنه، الذي يؤمن بالإنسان ويطلب منه أن يؤمن، الذي يحفظ أمانته لكلِّ واحد منّا ويطلب منّا أن نردَّ على الأمانة بالأمانة. ذاك هو معنى مقال بولس في بداية توسُّعه في القسم العقائديّ من الرسالة إلى رومة: »لأنَّ فيه كُشف برُّ الله بالإيمان وللإيمان كما هو مكتوب: البارُّ بالإيمان يحيا« (رو 1: 17). من أعطاه هذه الصفة، من اعتبره بارٌّا؟ الله وحده. وحين يعتبر الإنسان نفسه بارٌّا يُشبه ذاك الفرّيسيّ الذي جاء إلى الهيكل يصلّي مشدِّدًا على برارته الخاصَّة. غير أنَّه عاد صفر اليدين. قام بطقس خارجيّ »فما كان مقبولاً عند الله« (لو 18: 14).

فالمؤمن ينتظر بلا ملل وفي هدوء تامّ ذاك »البر« الذي يحصل عليه بالروح القدس. هذا ما يقودنا إلى الرسالة إلى غلاطية مع ذروة في هذه العبارة: »أمّا نحن فالروح يجعلنا ننتظر، بالإيمان، الخيرات التي يرجوها البر« (غل 5: 5). تبرَّرنا، صرنا أحرارًا، فيُطلَب منّا أن لا نعود إلى العبوديَّة (آ1) من أيِّ جهة أتت. لأنَّ من يصنع الخطيئة يكون عبدًا للخطيئة، كما قال الربّ (يو 8: 34). والمال يجعلنا أيضًا عبيدًا ويقودنا إلى الحزن لأنَّنا ننغلق على عالم نعيش فيه، وهكذا لا نستطيع »الدخول إلى ملكوت الله« (مر 10: 25). ذاك ما حصل لذلك الرجل الذي سأل الربَّ ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديَّة (آ17).

فالإنسان المبرَّر لا يستند إلى نفسه ولا إلى كفالات يجدها في هذا العالم، بل إلى محبَّة الله. وهو يُقيم في رجاء موجَّه نحو المستقبل الإسكاتولوجيّ في موقف ناشط، حارّ، قويّ. »فالذي يفلح الأرض والذي يدرس الحبوب يقومان بعملهما هذا على رجاء أن ينال كلٌّ منهما نصيبه« (1 كو 9: 10). ومع أنَّ الخلاص الذي حمله يسوع المسيح هو حاضر منذ الآن، فإحدى تجلَّياته تكون المشاركة والمقاسمة بين الرسول والمؤمنين (2 كو 1: 7). ومع أنَّ المسيحيّ يمتلك منذ الآن جوهر ما يكون له من سعادة، إلاَّ أنَّ هذا الخلاص يُمنَح له في الرجاء بواسطة الروح. وهذا الرجاء لا يمكن أن يخيب لأنَّه يتأسَّس على حبِّ الله الذي تجلّى في المسيح، وأفيض في قلوبٍ كانت من قبلُ خطأة.

فالخلاص في تحقيقه التامّ والنهائيّ، يبقى بعيدًا لأنَّنا لا ندركه وجهًا لوجه. فالرؤية تدخلنا في الأشياء منذ الساعة الحاضرة، وتقيم علاقة عابرة. أمّا الرجاء، الموجَّه نحو المستقبل، فيقيم علاقة مع اللامنظور، مع الأمور الأبديَّة التي لم تحصل بعد. هو يستند إلى أمانة الله الثابتة لمواعيده، وإلى قدرته التي تكفل الخيرات الآتية، الإسكاتولوجيَّة واللامنظورة. ويرتكز على إيمان واثق به يؤمن الإنسان بالله، بما يقوله وبما يفعله. قال الرسول:

»فلمّا برَّرنا الله بالإيمان نعمنا بسلام معه بربِّنا يسوع المسيح، وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة التي نُقيم فيها ونفتخر على رجاء المشاركة في مجد الله« (رو 5: 1-2). ويواصل الرسول كلامه في الرسالة عينها:

»في الرجاء كان خلاصنا. ولكنَّ الرجاء المنظور لا يكون رجاء. وكيف يرجو الإنسان ما ينظره؟ أمّا إذا كنّا نرجو ما لا ننظره، فبالصبر (أو: بالثقة) ننتظره« (رو 8: 24-25).

ودعا الرسولُ التسالونيكيّين لئلاّ يتبلبلوا، فذكَّرهم بمكوِّنات الحياة المسيحيَّة: هم بالرجاء ينتظرون في مجيء الربّ، تتمَّةَ الخلاص الذي أدركوه منذ الآن بالإيمان. »أمّا نحن أبناء النهار فلنكن صاحين، لابسين درع الإيمان والمحبَّة، وخوذة رجاء الخلاص، لأنَّ الله جعلنا لا لغضبه، بل للخلاص بربِّنا يسوع المسيح« (1 تس 5: 8-9)؟ وجاء امتدادُ هذا الكلام في الرسالة إلى رومة: حيث المصالحة مع الله تتغلَّب على الغضب الذي هو عمليٌّا العقاب الأبديّ.

»ولكنَّ الله برهن على محبَّته لنا بأنَّ المسيح مات من أجلنا ونحن بعدُ خاطئون. فكم بالأولى الآن بعدما تبرَّرْنا بدمه أن نخلص به من غضب الله. وإذا كان الله صالحنا بموت ابنه ونحن أعداؤه، فكم بالأولى أن نخلص بحياته ونحن متصالحون« (رو 5: 8-10).

3. ترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء

في الرسالة إلى رومة، توقَّف بولس بشكل خاصّ عند شخص إبراهيم مع هذه العبارة اللافتة: »وآمن إبراهيم بالله راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة« (رو 4: 18). يروي سفر التكوين كيف دعا الله إبراهيم فانتقل من مدينة يمكن العيش فيها بسلام ورفاه، هي أور الكلدانيّين، إلى المجهول من الوجهة البشريَّة. إلى أين يمضي إبراهيم؟ هو لا يعرف. قيل له: »اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الموضع الذي أريك« (تك 12: 1). كلُّ الضمانات البشريّة هي هنا، ومع ذلك تخلّى عنها إبراهيم لأنَّ الربَّ طلب منه. ووعده بأن يعطيه »هذه الأرض كلَّها« (تك 13: 15) أي أرض كنعان، بين نهر الأردنّ والبحر. ولكن كيف ينال إبراهيم هذه الأرض »فيما الكنعانيّون والفرزيّون مقيمون هنا« (آ7).

أمر مستحيل! ومع ذلك آمن إبراهيم وترجّى »على خلاف الرجاء«. إبراهيم لا يرى. ولكنَّ الله يرى ويزرع في قلبه الرجاء. قالت عنه الرسالة إلى العبرانيّين: »بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله فخرج إلى بلدٍ وعده الله به ميراثًا، خرج وهو لا يعرف إلى أين يذهب وبالإيمان نزل في أرض الميعاد كأنَّه في أرض غريبة وأقام في الخيام... لأنَّه كان ينتظر المدينة الثابتة على أُسس، واللهُ مهندسُها وبانيها« (عب 11: 8-10).

في الخيمة إقامة موقَّتة، سريعة العطب، تهدِّدها الرياح. هذا في المنظور البشريّ. أمّا المؤمن فيتطلَّع إلى »المدينة الثابتة«، أورشليم السماويَّة، التي أسَّسها الله فجاءت أقوى من كلِّ بناء بشريّ. إلى هناك امتدَّ نظرُ إبراهيم. آمن وما شكَّ »فبرَّره الربُّ لإيمانه«  (تك 15: 6).

في هذا المجال قال الرسول: »وماذا نقول في إبراهيم أبينا في الجسد وما جرى له؟ فلو أنَّ الله برَّره لأعماله لحقَّ له أن يفتخر، ولكن لا عند الله. فالكتاب يقول: آمن إبراهيم بكلام الله فبرَّره الله لإيمانه« (رو 4: 1-3). فيبقى على المؤمنين »أن يقتدوا بأبينا براهيم في إيمانه« (آ12).

وعد الله إبراهيم بأرض، فوثق بوعد الله. ووعده بنسل منذ دعاه: »أجعلك أمَّة عظيمة، وأباركك، وأعظِّم اسمك، وتكون بركة« (تك 12: 2). أين هي هذه الأمَّة التي تخرجُ من صلب إبراهيم، وتتذكَّرُ اسمَه بعد موته؟ صار كبيرًا في السنّ، وسارة »امتنع أن يكون لها عادة كما للنساء« (تك 18: 11). وإبراهيم نفسه سوف يقول للربّ: »أنا سأموت عقيمًا« (تك 15: 2). الربُّ يَعِدُ ولكن أين البرهان؟ كلام الربِّ يكفي: »انظرْ إلى السماء وعُدَّ النجوم إن قدرتَ أن تعدَّها... هكذا يكون نسلك« (آ5). وترجّى إبراهيم على خلاف الرجاء. والربُّ أتى إليه في الوقت الذي حدَّده: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة، ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). ضحكت سارة. هذا غير معقول. ولكنَّ الرجاء يتعدَّى المفهوم البشريّ. »أيصعبُ على الربِّ شيء؟« (آ14). ويواصل الكتاب: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل لها كما وعد«. »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 1-2).

تلك هي ثمرة الرجاء. استعاد بولس نصَّ سفر التكوين لكي يتكلَّم عن الإيمان والوعد، فانطلق من العبارة التي ذكرنا: »آمن إبراهيم راجيًا حيث لا رجاء، فصار أبًا لأمم كثيرة، على ما قال الكتاب: هكذا يكون نسلك« (رو 4: 18). كيف بان إيمان إبراهيم؟ »كان إبراهيم في نحو المئة من العمر، فما ضعُف إيمانه حين رأى أن بدنه مات وأنَّ رحم امرأته سارة مات أيضًا. وما شكَّ في وعد الله، بل قوّاه إيمانُه فمجَّد الله واثقًا بأنَّ الله قادر على أن يفي بوعده« (آ19-21).

الخاتمة

الرجاء هو انتظار أكيد للسعادة، يرتبط في اللاهوت البولسيّ بالإيمان والمحبَّة (1 كو 13: 13). وهو لا يُفهَم إلاَّ في إطار تحتلُّ فيه مقولة الوعد مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه حلقة، ندور فيها لنعود إلى المكان الذي انطلقنا منه. أمّا الكتاب المقدَّس فنظرته إلى الزمن نظرة خطوطيَّة مرتَّبة في تاريخ. لا عودة إلى وراء، بل انطلاقة وانطلاقة في رفقة الربِّ إلى أن نصل إلى »الأرض الجديدة والسماء الجديدة«. في هذا التاريخ يتجلّى الله كسيِّد المستقبل ويُعدُّ الإنسان لهذا المستقبل. في هذا الإطار رافقنا القدّيس بولس في كلامه عن الرجاء المسيحيّ. مستقبل ننظر إليه. تمَّ كلُّه في يسوع المسيح وننتظر تتمَّته في الكنيسة وفي كلِّ مؤمن من المؤمنين. كان لنا مثالٌ بعيد في مسيرة إبراهيم وجدت كمالها في شخص المسيح معه انطلق بولس تاركًا ما وراءه منبطحًا إلى أمامه. »فجرى إلى الهدف ليفوز بالجائزة التي هي دعوة الله السماويَّة في المسيح يسوع« (فل 3: 14). ومعه تسير الكنيسة إلى مجيئه ومنتهى الدهر، بل الخليقة كلُّها التي »ستتحرَّر من عبوديَّة الفساد لتشارك أبناء الله في حرِّيَّتهم ومجدهم« (رو 8: 21).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM