الفصل التاسع: أذكِّرك أن تضرمَ الموهبة

الفصل التاسع

أذكِّرك أن تضرمَ الموهبة

مضى زمان طويل والكنيسة تعيش في الزمن بعد أن ابتعد المؤمنون عن بداية الرسالة المسيحيَّة. أتراهم نسوا ما فعله يسوع حين قضى على الموت؟ أتُرى النار التي جاء المسيح يُشعلها خمدت أو كادت تنطفئ؟ مثل هذا الوضع عرفه أسقف كنيسة أفسس: »تركتَ محبَّتك الأولى. فاذكر من أينَ سقطتَ وتُبْ وعُدْ إلى أعمالك السابقة« (رؤ 2: 4-5). وسمع أسقف سرديس من يقول له: »فاذكُرْ ما تعلَّمتَه وكيف قبلتَه، واعمل به وتُبْ. فإن كنتَ لا تسهر جئتك كاللصّ« (رؤ 3: 3). »اسهرْ وأنعش ما بقيَ لكَ من الحياة قبل أن يعاجله الموت« (آ2). أترى ذاك كان الوضع في كنيسة تتوجَّه إليها هذه الرسالة؟ فالكنيسة صورة عن أسقفها، والأسقف هو رمز الكنيسة التي يُشرف عليها، كما الأب على أولاده، بحسب أساس الكلمة اليونانيَّة:επι أي فوق.σκοπεω: تنبَّه، احترز، سهر. لئلاَّ يحصل مكروه في الرعيَّة. ومن أين يأتي المؤمن بمثل هذه القوَّة؟ من الموهبة التي ينالها الأسقف حين »وضع اليد عليه«. من أجل هذا كان الكثيرون يتهرَّبون من الأسقفيَّة بسبب المسؤوليَّات الملقاة على عاتقهم. وليس آخرها استقبال المرسلين (3يو 8). لهذا حثَّهم الرسول وشجَّعهم: »من يرغب في الأسقفيَّة يشتهي عملاً حسنًا« (1 تم 3: 1). ويواصل: »يكونُ قنوعًا، رزينًا، مهذَّبًا، مضيفًا للغرباء وأهلاً للتعليم« (آ2).

1-  هبة بوضع اليد

ذاك هو دور الرسول الذي رأى أنَّ حياته وصلت إلى نهايتها. فما هو الإرث الذي يتركه لتلميذه؟ لا الإرث المادّيّ من مال ومتاع. فالرسول ما كان يملك أكثر من معلِّمه الربِّ يسوع الذي ما امتلك حجرًا يضع عليه رأسه (لو 9: 58). لا إرث البناء الذي »يخلِّد« الإنسان كما يقولون، مع أنَّ المزمور يهزأ بالذين »سمُّوا البلدان بأسمائهم« (مز 49: 12). فبولس ترك لتيموتاوس الإرث الروحيّ من أجل القيام برسالته.

أوَّل ما نال تيموتاوس، الهبة، الموهبة، كريسما. تحدَّثت 1 تم 4: 14 عن هبة النعمة. هو كلام واحد. فالموهبة هي نعمة، والنعمة هي موهبة. في الرسائل الكبرى، تحدَّث الرسول عن المواهب المتنوِّعة، والتي يمنحها الروح الواحد من أجل بناء الجماعة، لا من أجل الافتخار وكأنَّ هذه الهبة نابعة من قلبنا. موهبة الحكمة، موهبة النبوءة، موهبة الشفاء... (1 كو 12: 8-10). أمّا هنا، فالهبة هي موهبة الرعاية. يعرف الأسقف الذي يُشرف على الجماعة، أن يتدبَّر بيته، وبالتالي يتدبَّر بيت الله وكنيسته. ويهتمُّ بالشمامسة، ولا يتسرَّع في وضع يده عليهم. يهتمُّ بالأرامل: الصبايا يتزوَّجن. ومن لهنَّ معيل يعيلهنَّ. أمّا الأرامل اللواتي هنَّ حقٌّا أرامل، فالكنيسة تهتمُّ بهنَّ دون أن تحتمل العبء الثقيل.

والرعاية تقوم بالتعليم كما تقوم بمحاربة الآراء الضالَّة ومجابهة أولئك الذين يزرعون الفتن في قلب الجماعات. الراعي هو جنديّ لا يهمُّه إلاَّ أمرُ قائده لكي ينال الغلبة. فإن انشغل بأمور أخرى، لا ينال الإكليل المعدَّ له. والجنديُّ فلاّح يزرع لكي ينال حصَّته من الغلَّة. ومرَّات عديدة هو يحصد ما زرعه غيره (يو 4: 37-38). وفي أيِّ حال يكون أجرُه موافقًا لعمله. إن غرسَ نال أجرَ الغرس، وإن سقى نال أجر السقاية. وفي النهاية الله هو الذي يُنمي (1 كو 2: 6).

لا تحدِّثُنا الرسائلُ البولسيَّة الأولى عن أصل هذه الموهبة. أمّا في 2 تم فالأمر واضح: بوضع اليد. وضعَ الرسول يده على رأس تيموتاوس، فنال هذا الأخيرُ النعمةَ ودخل في مصافِّ الرسل والتلاميذ، في مصافِّ الأساقفة والقسوس والشمامسة.

هنا نتذكَّر ما تعنيه اليد. إنَّها تدلُّ على النشاط، على القوَّة، على السلطان. كما تدلُّ على العطاء. ويقول تقليد المعلِّمين: اليد اليسرى ترتبط بالعدالة، واليد اليمنى بالرحمة. هذا ما يقابل »شكينة« أو الحضور الإلهيّ مع اليد القاسية واليد الغافرة. وقالت القباليَّة (= التقليد السابق، الذي هو من قبل): اليدُ اليمنى هي اليد المباركة. والرمز إلى السلطة الكهنوتيَّة على ما يقول سفر العدد (6: 23-26): »بمثل هذا تباركون بني إسرائيل وتقولون لهم:

24    يبارككم الربُّ ويحفظكم

25    يضيء الربُّ بوجهه نحوكم ويرحمكم

26    يرفع الربُّ وجهه نحوكم ويمنحكم السلام.«

أمّا اليد اليسرى فترمز إلى العدالة وإلى السلطة الملكيَّة. فمنذ بداية الملكيَّة نقرأ في نشيد حنّة أمِّ صموئيل (1 صم 2: 10):

خصوم الربِّ ينكسرون

حين يُرعد عليهم من السماء.

الربُّ يدين أقاصي الأرض.

يختار ملِكه ويمسحه

ويمنحه النصرَ والعزَّ.

بل إنَّ الشعبَ طلب ملكًا يكونُ بحسب ما هم يريدون. قالوا لصموئيل:

»أعطنا ملكًا يَقضي بيننا كما هي الحال في جميع الأمم« (1 صم 8: 5).

وأعادوا الكرَّة: »يملك علينا ملكٌ، ونكون نحن أيضًا كسائر الشعوب، فيقضي بيننا ويكون قائدَنا ويحاربُ حروبنا« (آ19-20). بهذه الروحانيَّة كُتب المزمور الثاني:

8     أُطلبْ فأعطيك ميراثَ الأمم،

وأقاصي الأرضِ ملكًا لك.

9     ترعاهم بعصًا (صولجان) من حديد (لا قضيب الراعي)

وكإناءِ خزّافٍ تحطِّمهم.

ويحدِّثنا الكتاب عن يد الله. هي تدلُّ على ملء السلطان عنده، وعلى ما يمكن أن تفعل فتنجز. فيد الله تخلق، وتحمي إذا نحن فتحنا لها قلوبَنا. هنا نقرأ عبارة تتكرَّر في مسيرة الخروج من مصر »بقوَّة عظيمة ويد قديرة« (خر 32: 11). هذه اليد كانت مع إيليّا »الذي شدَّ وسطه بزنّار« (1 مل 18: 46) وانطلق.

وإن نحن عارضنا تلك اليد كان لنا الدمار والخراب. هذان الموقفان نقرأهما في بداية سفر إرميا: تقلع، تهدم، تهلك. ثمَّ: تبني، تغرس (إر 1: 10). ويقول إشعيا: »أمسكني الربُّ بيده« (إش 8: 11). وقال له: »لا تخف ولا تفزع«. أمّا على »الآخرين«، فالربُّ »بقيت يده مرفوعة« (إش 9: 17). ولم يرتدَّ غضبُه.

*  *  *

وماذا عن وضع اليد؟ هي حركة لا تُذكَر مرارًا في العهد القديم. فهي كبركة تَرِد مرَّة واحدة حين يبارك يعقوب ابنَيْ يوسف، منسّى وأفرائيم (تك 48: 1ي). أمّا ينبوع هذه البركة فمن عند الله. »قال يعقوب ليوسف: الله القدير ظهر لي في لوز، في أرض كنعان، وباركني وقال لي: »سأنمِّيك وأكثِّرك...« (آ3-4). وقرَّبَ يوسف ولديه من أبيه يعقوب، فقال يعقوب:

15    الله الذي سلك أمامه أبواي إبراهيم وإسحق

الله الذي رعاني طول حياتي إلى اليوم،

16    الله الذي نجّاني من كلِّ سوء

يبارك هذين الصبيَّين.

ونعرف أنَّ داود بارك الشعب بعد أن أدخل تابوت العهد إلى أورشليم، على ما يقول سفرُ صموئيل الثاني: »بارك الشعب باسم الربِّ القدير« (2 صم 6: 18). وهو فعلَ ما فعلَ، لأنَّ الملِكَ في العصور القديمة كان الكاهن الأعظم، ولهذا قيل في داود هنا: »قدَّم داود محرقات أمام الربِّ وذبائح سلامة« (آ17). وفعل سليمانُ مثل والده، بعد أن أنهى بناء الهيكل وجاء وقتُ تدشينه.

»وقف وبارك الحاضرين بصوتٍ عالٍ فقال: »تبارك الربُّ الذي وهب الراحة لشعبه... ليكن الربُّ إلهنا معنا كما كان مع آبائنا« (1 مل 8: 55-57). قبل المنفى، الملك هو الكاهن. ولهذا قرَّب سليمان »ذبائح سلامة للربّ« (آ62) بعد أن أعطى البركة وصرف الناس، »فعادوا إلى بيوتهم فرحين« (آ66). أمّا بعد المنفى، فالكهنة هم الذين يُعطون البركة: »قوموا، باركوا الربَّ إلهكم من الآن وإلى الأبد. ونادوا: تبارك اسمك المجيد الذي هو فوق كلِّ بركة وتسبيح« (نح 9: 5).

ووضعُ اليد يردُ مرارًا في ارتباط مع الذبائح. أمر »موسى« هارون فقال له: »وتقدِّم العجلَ أمام خيمة الاجتماع، فيضع هارون وبنوه أيديهم على رأسه« (خر 29: 10). ويذكر سفر اللاويّين ما يفعله مقدِّمُ الذبيحة: »يضع يده على رأس المحرقة فيَقبلها الربُّ منه« (لا 1: 4). هي علامة الاتِّحاد مع الذبيحة، وكأنَّ المؤمن يقدِّم نفسه للربّ مع ذبيحته. وتُوضَع اليد خصوصًا في يوم الكفّارة (يوم كيبور)، على تيس المحرقة (لا 16: 21). ويُحمَّل آثام الشعب ويُرسَل إلى البرِّيَّة.

وفي الحالة الثالثة، بعد يد البركة واليد على الذبيحة، يعني وضعُ اليد امتلاك سلطة أو انتقال مهمَّة أو التماهي مع الآخر. هنا نكون في طقس الرسامة من أجل القيام بخدمة أو بمهمَّة. يخبرنا سفرُ العدد كيف أقيم يشوع خلفًا لموسى: »قال الربُّ لموسى: خذْ يشوع بن نون، فهو رجلٌ فيه روحُ الربّ، وضع يدك عليه. وأقمه بمحضر من ألعازار الكاهن والجماعة كلِّها خلفًا لك« (عد 27: 18-19).

من هنا كان الانطلاق في العهد الجديد. نبدأ فنذكر ما قال سفر الأعمال في مناسبتين. الأولى، اختيار مساعدين للرسل أو بالأحرى »خدّامًا« من أجل المسيحيّين المتكلِّمين اليونانيَّة. بعد الاختيار، يروي القدّيس لوقا: »أحضروهم أمام الرسل، فصلُّوا ووضعوا عليهم الأيدي«. وهكذا نالوا سلطانًا جديدًا. كُرِّسوا في الأساس لخدمة الموائد، ولكنَّهم انطلقوا يحملون الإنجيل شأنَهم شأن الرسل،  في أورشليم مع إسطفانس أو في أرض السامرة مع فيلبُّس. من الرسل إلى من دُعوا »شمامسة« أو »خدامًا«، انتقلت سلطة سوف يمارسها هؤلاء السبعة.

والحدث الثاني حصل في أنطاكية، في خطِّ ما حصل في أورشليم. وُجد »أنبياء ومعلِّمون« (أع 13: 1). أوَّلهم برنابا وآخرهم شاول الذي سيكون بولس. سمعت الكنيسةُ الروح القدس يقول: »خصِّصوا لي برنابا وشاول لعمل دعوتُهما إليه« (آ2). ماذا حصل بعد الصوم والصلاة؟ »وضعوا أيديهم عليهما وصرفوهما« (آ3). وهكذا انتقل إلى هذين »الرسولين« موهبة خاصَّة، فائقة الطبيعة، وتسلَّما وظيفة سوف يقومان بها. وفي العودة، يقدِّمان التقرير عمّا فعلا. قال أيضًا سفر الأعمال: »فلمّا وصلا إلى أنطاكية جمعا الكنيسة وأخبرا بكلِّ ما أجرى الله على أيديهما« (أع 14: 27).

ولا نجد »وضع اليد« إلاَّ في ثلاثة مقاطع من الرسائل البولسيَّة. الأوَّل نقرأه في 1 تم 4: 14: »لا تهمل الهبة التي فيك، فهي هبة نلتَها بالنبوءة حين وضع جماعةُ الشيوخ أيديهم عليك.« هنا تترافق النبوءة مع ما فعله مجلس شيوخ الكنيسة أو الكهنة (أو: الأساقفة). فالنبوءة التي تحرِّك أحدَ الحاضرين في الكنيسة تكشف موهبة الله وتبرز حقيقتها، بحسب مقال الكتاب: »وما من أحد يتولَّى بنفسه مقام رئيس كهنة، إلاَّ إذا دعاه الله كما دعا هارون.« (عب 5: 4). أمّا وضع الأيدي فهو فعلة ليتورجيَّة تدلُّ على تقبُّل هذه الموهبة الخدميَّة في الكنيسة.

ويترافق مع هذا المقطع 2 تم 1: 6: »لذلك أنبِّهك أن تضرم الهبة التي جعلها الله لك بوضع يدي.« ما فعلت الجماعة لبولس حين أرسلته مع برنابا في مهمَّة كنسيَّة، كذلك فعل بولس بالنسبة إلى تيموتاوس. وهذه المهمَّة ليست موقَّتة، على ما تقول أيضًا الرسالة إلى العبرانيّين: »أنت كاهنٌ إلى الأبد على رتبة ملكيصادق« (عب 7: 17). وما حصل لتيموتاوس حين وُضعت عليه اليد، كذلك يحصل للذين يضع عليهم يده (1 تم 5: 22). هي سلطة بيد تيموتاوس تنتقل إلى الذين بعده. لا شكَّ في هذه السلطة، ولكن ما يُقال هنا هو تنبيه على الفطنة: »لا تستعجل في وضع يدك على أحد.«

وُضعتْ يدُ الجماعة على بولس وبرنابا، فما قاما فقط برسالة محدَّدة، بل هي  مسيرة امتدَّت ربَّما سنتين. وكذا نقول عن تيموتاوس. هو لم ينَل الرسامة الكهنوتيَّة (أو: الأسقفيَّة) لوقت محدَّد. فقد قيل له بعد زمان طويل، وبعد أن خبَتْ بعض الشيء »النار« التي نالها حين تسلَّم كنيسة »أفسس« كما يقول التقليد: عليه أن »يُضرم الهبة«. هي موجودة. وهي ترافقه. أجل، موهبة الروح مستمرَّة في تيموتاوس وبالتالي الرسالة. الله هو الذي يعطيها. من هنا صيغة المجهول في الأصل εδοθη (أعطيت). وهي تُعطى بوساطة مجلس الكهنة والأساقفة. من هنا عبارة »مع«μετα حيث النبوءة أو كلمة الله تترافق مع وضع الأيدي.

2-  مشاركة في الآلام

ولماذا نال تيموتاوس هذه الهبة؟ لكي يفعل ما سبقه بولس إليه. بولس أدَّى الشهادة التامَّة للربّ، ومثله يفعل تيموتاوس.

منذ بداية الرسالة، نبَّه يسوع التلاميذ: »تكونون لي شهودًا« (أع 1: 8). والشهود ليسوا الرسل فقط، بل أولئك الذين حلُّوا بعدهم. حدَّثتنا الرسالة إلى العبرانيّين عن »المدبِّرين« الأوَّلين الذين خاطبوا الجماعة »بكلام الله«. أمّا اليوم فأنهوا حياتهم بموتهم (عب 13: 7). هو كلام عن بطرس وبولس في رسالة تتوجَّه إلى جماعات رومة، وتدعوهم لا إلى الاقتداء »بإيمان« بطرس وبولس فقط، بل أيضًا بإيمان الذين جاؤوا بعدهم: »أطيعوا مدبِّريكم واخضعوا لهم« (آ17).

والشهود ليسوا التلاميذ فقط. فإذا قرأنا النصوص قراءة حرفيَّة، نعتبر مثلاً أنَّ إسطفانس لم يكن من السبعين الذين أرسلهم يسوع أمامه »اثنين اثنين إلى كلِّ مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه« (لو 10: 1). ومع ذلك كان أوَّل شاهد في العالم اليونانيّ وأوَّل شهيد حيث قال: »أرى السماوات مفتوحة وابن الإنسان واقفًا عن يمين الله« (أع 7: 56).

فالشاهد هو الذي شهد، رأى. كان حاضرًا حين حصل أمرٌ من الأمور أو حين وُقِّع عهد من العهود. وبالتالي يستطيع أن يشهد، أي أن يؤكِّد على ما رأى وما سمع. الإنسان يكون »شاهدًا«، وفي شهادته يمكن أن يَتَّهم. ذاك ما فعله الشيخان بسوسنة: »نشهد عليك...« (دا 13: 31). وفي الواقع كانت شهادتهما كاذبة. والله نفسه يكون الشاهد ولاسيَّما على شعبه: »فأنا من اليوم أُشهد عليكم السماء والأرض بأنَّكم تبيدون سريعًا...« (تث 4: 26). شهد الربُّ واتَّهم. والإنسان يستطيع أن يأخذ الربَّ شاهدًا. قال صموئيل: »يشهد الربُّ وملكه« (1 صم 12: 5). وهدَّد إرميا باسم الربّ: »يا ساكنة لبنان، يا من صنعتْ أرزه عشٌّا لها، كم تئنّين حين يأتيك الوجع في مخاض كالتي تلد« (إر 22: 23). والمؤمنون سوف يقولون لإرميا التي تعب فما استطاع أن ينال من الشعب ثمر التوبة. قالوا: »ليكن الربُّ إلهك شاهدًا علينا أنَّنا نعمل بكلِّ الكلام الذي يرسلُه إلينا« (إر 42: 5).

والشهادة لا تكون فقط للاتِّهام، بل للدفاع، ولاسيَّما عن عمل الربّ (إش 43).

9     اجتمعوا يا كلَّ الأمم،

واحتشدوا يا جميع الشعوب،

أين شهودهم يبرِّرون دعواهم

فنسمع ونقول: هذا حقّ.

ظنَّت الأممُ أنَّ آلهتها أقوى من الربِّ الإله.

10    أنتم شهودي يقول الربُّ

ذرِّيَّة عبدي الذي اخترتُه

لأنَّكم علمتهم وآمنتم بي

وفهمتم أنّي أنا هو

ما كان من قبلي إله

ولن يكونَ من بعدي.

11    أنا، أنا الربُّ

ولا مخلِّص غيري.

هل يستعدُّ المؤمن أن يؤدّي الشهادة، ويقف في وجه الجمع مهما كلَّفته هذه الشهادة من آلام؟ ذاك كان وضع إيليّا على جبل الكرمل. أمامه الملك آخاب وأنبياء البعل »الأربعمئة والخمسون« (1 مل 18: 22). هل يجسر أن يقف ويشهد أنَّ الربَّ وحده هو الإله؟ فشهد ونادى الربّ. فردَّ الربُّ عليه في رمز النار (آ38)، بانتظار أن ينزل المطر (آ45). ولكن هذه الشهادة كلَّفته غاليًا بعد أن انتقم الشعب من أنبياء البعل. قالت الملكة إيزابيل مهدِّدة إيليّا بالموت: »ويل لي من الآلهة إن لم أجعلك في مثل هذه الساعة غدًا كواحدٍ منهم« (1 مل 19: 2). وكانت ردَّة فعل إيليّا الأولى الخوف ثمَّ الهرب. ولكنَّ الربَّ أعاده: »ارجع في طريقك« (آ15). فرجع وسلَّم المشعل إلى إليشع.

وميخا بن يملة وجب عليه أن يشهد لكلام الربِّ في وجه الأنبياء الكذبة. جميعهم تنبَّأوا بصوت واحد: يكون النصر لك (1 مل 22: 12). ولكنَّ ملك يهوذا سأل: »أما من نبيٍّ للربّ؟« (آ7). فنبيُّ الربِّ يتكلَّم باسمِ الربِّ، ونبيُّ الملك يتكلَّم باسم الملك. أجل، قيل له: ميخا بن يملة (آ9). ولكنَّ الملك يخاف منه ولا يريد أن يسمع له. قال: »أُبغضُه« (آ8). فالشاهد الحقيقيُّ هو »مزعج«، ولهذا لا تكون له راحة. ذاك ما حصل لميخا الذي رفض أن يكون كلامه مثل كلام هؤلاء الأنبياء الكذبة (آ13). قال الحقيقة، فتقدَّم صدقيّا بن كنعنة (أحد الأنبياء) ولطمه على فكِّه (آ24). وأمر الملك فوُضع النبيُّ الحقيقيّ في السجن مع قليل من الخبز والماء (آ27). لا، لا يكون النبيّ مثل »أنبياء« هذا العالم. ولا يكون المؤمن خروفًا في قطيع من الغنم، يسير حيث يسير الآخرون ويخضع للملك ولمن وراءه.

تعذَّب ميخا، وهُدِّد إيليّا، وإرميا عرف من الآلام أقصاها: السجن أوَّلاً مع رغيف من الخبز كلَّ يوم (إر 37: 21). ثمَّ جعلوه في جبٍّ موحل لا ماء فيه »فغاص إرميا في الوحل« (إر 38: 6). لهذا نسمعه يتذمَّر. فأهله أنفسهم هم ضدَّه. ولكن هل خفَّف الله الحمل عنه؟ بل أراد أن يعدَّه لآلام قاسية. »تجري مع المشاة فتتعب، فكيف تسابق الفرسان؟« (إر 12: 5أ). يعني: أمور سهلة وتعبتَ فيها، فماذا تفعل حين تُجبَر على جهاد أكبر؟ لهذا تواصل كلام الربّ: »إن كنت تتعب في أرض آمنة (لا أشجار فيها ولا أشواك)، فكيف تفعل في غور الأردنّ؟« (آ5ب) وفيه الأسود (الصغيرة) وسائر الحيوانات المفترسة.

*  *  *

من أين قوَّة »النبيّ«؟ وقوَّة الرسول؟ وقوَّة تيموتاوس الذي »وعده« بولس بالآلام؟ قال له مرَّة أولى: »اشترك في الآلام« (2 تم 1: 8). ومرَّة ثانية، »شاركْ في الآلام كجنديٍّ صالح للمسيح يسوع« (2 تم 2: 3). أجل، ذاك ما ينتظر الرسول إذا هو أراد أن يكون أمينًا للرسالة. أمّا إذا مالق وداهن وأراد أن يرضي الناس (غل 1: 10)، فحياته تكون مرتاحة بحيث يسمع كلام الربّ: »الويل لكم إذا مدحكم جميعُ الناس، فهكذا فعل آباؤهم بالأنبياء الكذّابين« (لو 6: 26). »كلمة الله سيف ذو حدَّين« (عب 4: 12). فمن يحتملها وبالتالي من يحتمل الشاهد الذي يعلنها؟ ولكن إذا صار هذا السيف ناعمًا! وإذا سار المؤمن بحسب حكمة هذا العالم! أمّا الرسول فينادي »بالمسيح مصلوبًا« (1 كو 1: 23) ومثله يفعل تيموتاوس.

من خلال الآلام ومن خلال الصعوبات يؤدّي تيموتاوس الشهادة. أوَّلاً لربِّنا. فهو الشاهد الأوَّل. وهو الشاهد الأمين الثابت. قيل لتيموتاوس عنه: »المسيح يسوع الذي شهد أحسن شهادة لدى بيلاطس البنطيّ« (1 تم 6: 13). ونحن نعرف إلى أين أدَّت الشهادة بيسوع: »أسلمه إليهم ليصلبوه« (يو 19: 16).

قالت لنا الرسالة إلى العبرانيّين إنَّ المسيح تألَّم (مات) »في خارج باب المدينة ليقدِّس الشعب بدمه« (عب 13: 12). فما يكون موقف »الشاهد«؟ هل يبقى في أورشليم مع عظماء الكهنة والكتبة؟ بل »نخرج خارج المحلَّة حاملين عاره« (آ13) كان له عار الصليب، فهل نبحث عن شيء آخر مثل يعقوب ويوحنّا: »واحدٌ عن يمينك وواحد عن شمالك في مجدك« (مر 10: 37). غير أنَّ مجد الربِّ مرَّ عبر الآلام على ما قال الربُّ لتلميذَيْ عمّاوس: »أما كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام فيدخل في مجده؟« (لو 24: 24).

في هذا الإطار قال يسوع: »ما من تلميذ أفضل من معلِّمه، ولا عبد أفضل من سيِّده« (يو 15: 20). إذًا، ما حصل للمعلِّم يحصل للتلميذ، إلاَّ إذا بحثنا عن معلِّم آخر. ويواصل يسوع كلامه: »إذا اضطهدوني يضطهدونكم«. فإن كان العالم لا يُبغض المؤمن، فلأنَّ هذا المؤمن هو من العالم، والعالم يحبُّ ما يشبهه. لهذا قال الربُّ: »إن أبغضكم العالم، فتذكَّروا أنَّه أبغضني قبل أن يبغضكم. لو كنتم من العالم، لأحبَّكم العالم كأهله. ولأنّي اخترتكم من هذا العالم وما أنتم منه، لذلك أبغضكم العالم« (آ18-19).

وهناك شهادة أخرى، بالإضافة إلى الشهادة لربِّنا. يقول بولس: »فلا تخجل بالشهادة لربِّنا وبي أنا أسيره« (2 تم 1: 8). قال الربُّ: »من ينكرني قدَّام الناس أنكره قدَّام أبي الذي في السماوات. ومن يعترف بي قدَّام الناس أعترف به قدَّام أبي الذي في السماوات« (مت 10: 32). أترى الأمر سهلاً؟ كلاّ. فالربُّ أرسل تلاميذه »كالخراف بين الذئاب« (آ16). ونبَّههم: »الناسُ يسلمونكم إلى المحاكم وفي مجامعهم يجلدونكم« (آ17).

ذاك ما حصل لبولس. فهل يتبرَّأ منه تلميذه تيموتاوس؟ هل يستحي بمعلِّمه الذي هو في القيود؟ ديماس تركه (2 تم 4: 9). ويواصل الرسول: »ما وقف أحد معي عندما دافعتُ عن نفسي لأوَّل مرَّة، بل تركوني كلُّهم. صفح الله عنهم!« (آ16). نحسُّ هنا بالألم يحزُّ في قلب بولس. فهو يحتاج إلى ابنه تيموتاوس: »تعالَ إليَّ عاجلاً« (آ9). الحمد لله أنَّه بقي أونيسيفورس. قال عنه بولس: »شجَّعني كثيرًا وما استحى من قيودي« (آ16). فكان مختلفًا عن »فيجلُّس وهرموجينيس وجميع الذين في آسية« (آ15). »كلُّهم تخلُّوا عنّي«. أمّا أونيسيفورس فكان بإمكانه أن يتجاهل بولس، ولكنَّه لم يفعل. فقال عنه الرسول: »أخذ يبحث عنّي عند وصوله إلى رومة حتّى وجدني« (آ17).

نكتشف هنا قلب الرسول في وجهه البشريّ، وننسى أنَّه ذلك القويّ الذي همُّه أن يكون للمسيح. هو»سجين« ولكنَّه »حرّ« في منطق الإنجيل. قال في 1 كو 7: 22: »فمن دعاه الربُّ وهو عبد كان للربِّ حرٌّا. وكذلك من دعاه المسيح وهو حرّ كان للمسيح عبدًا«. وفي أيِّ حال، حين كان بولس في السجن، يقول عنه سفر الأعمال، كان الإنجيل حرٌّا، وكان الرسول يكرز به بكلِّ جرأة (أع 28: 30-31). أمّا الآلام فهي نعمة من عند الربّ. فالرسول قال إلى كنيسة فيلبّي، ساعة كان في سجن أفسس مهدَّدًا بالموت: أُعطيَتْ لنا نعمة، لا أن نؤمن به فقط بل أن نتألَّم لأجله (فل 1: 29).

والكلمة الأخيرة لا تكون الآلام، بل المجد. والموت ليس الهدف. فالمسيح »قضى على الموت« (2 تم 1: 10) وأعدَّ لنا القيامة. وهو كلام ورد مرارًا في الرسائل البولسيَّة. فالرسول كتب إلى تلميذه تيطس عن »رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد الله الصادقُ بها منذ الأزل، فأظهر كلمته في حينها بالبشارة التي أؤتمنتُ عليها بأمر الله مخلِّصنا« (تي 1: 2-3). هو السرُّ دخل فيه الرسول وإن كان »سجين المسيح« (أف 3: 1). ويطلب من تيموتاوس أن يتبعه فيه من أجل الإنجيل الذي هو أمانة في عنق بولس وتيموتاوس. فهل يتخلّى التلميذ عن الأمانة؟

الخاتمة

كلام الرسول إلى تلميذه، فيه القوَّة وإن كان الخوف يتربَّص به. فيه المحبَّة وإن هو أحسَّ أنَّ لا أحد بقربه وشعر بعاطفة بشريَّة تدفعه إلى تيموتاوس ابنه الحبيب. فكأنّي به يستنجد. وكلام فيه الفطنة، والوضعُ حرجٌ بحيث يجب أن يتعلَّم بولس الصبر في خطِّ العالم الرواقيّ حيث يسود الإنسان على نفسه وعلى مخاوفه وعلى أموره اليوميَّة مهما كانت صعبة. وبالرغم من ذلك، نسمع كلامًا ينظر فيه الرسول إلى تلميذه ويجعل أمامه كلمة الخلاص، كلمة الحياة، ويذكِّره، وينبِّهه. هو الأب مع ابنه: أين هي الحرارة الأولى؟ والموهبة التي نالها، ما زال مؤتمنًا عليها. أمّا الطريق التي تنتظره فلن تكون مفروشة بالورود: فالآلام تنتظره، وكذلك المشقّات. فهو شابّ بعد، وعليه أن »يفرض« نفسه في كنيسة تكمن فيها الصعوبات الكثيرة. فما يبقى عليه أن يقول سوى ما قاله معلِّمه: »أنا أعرف بمن آمنت، وأنا عارفٌ أنَّه قادر أن يحفظ وديعتي إلى يومِ ربِّنا.«

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM