الفصل الخامس: رجاؤنا لا يخيب

الفصل الخامس

رجاؤنا لا يخيب

سنة 51، كتب القدّيس بولس رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي، فكان أوَّل من ذكر الفضائل الإلهيَّة الثلاث: الرجاء والإيمان والمحبَّة. قال: »ما أنتم عليه بربِّنا يسوع المسيح من نشاط في الإيمان وجهاد في المحبَّة وثبات في الرجاء« (1 تس 1: 3). إذا كان ما يعبِّر عن النشاط المسيحيّ في الرسالة، هو الإيمان، وما يعبِّر عن الجهاد والاضطهاد لأجل اسم الربِّ يسوع، هو المحبَّة، فعلامة الرجاء هي الثبات، هي مواصلة المسيرة الإيمانيَّة حتّى المنتهى. وفي سنة 57، أرسل إلى أهل كورنتوس كلامًا حول المواهب في الكنيسة، ودلَّهم »على أفضل الطرق« (1 كو 12: 31). وبيَّن لهم ماذا يبقى من حياة الإنسان: »الإيمان والرجاء والمحبَّة« (1 كو 13: 13). لا شكَّ في أنَّ المحبَّة هي التي تدوم، فلا تتوقَّف في هذه الدنيا بل تصل بالمؤمن إلى الآخرة، إلى السماء، لأنَّ الله محبَّة، كما قال يوحنّا في رسالته الأولى (1 يو 4: 8).

أمّا نحن فكلامنا يدور حول الرجاء مع هذا العنوان: »رجاؤنا لا يخيب« (رو 5: 5). وذلك في محطّات ثلاث: الرجاء وارتباطه بالإيمان. الرجاء الذي يتضمَّن مواعيد الله. الرجاء الذي يستند إلى المحبَّة.

1-  ما هو الرجاء

يُقال الرجاء هو ضدُّ اليأس. واليائس هو من قطع الأمل، وكأنَّ الطريق صارت مسدودة أمامه فلا يعرف كيف يتوجَّه. وفي بعض المعاني، يرتبط الرجاء بارتقاب شيء لا يثق الإنسان بأنَّه يستطيع الحصول عليه. صاحب الرجاء هو من يرتقب الآتي، من ينتظره وكأنَّه يراه بعينيه. فالمترقِّب لا يعرف ما سوف يحصل له، لهذا يكون قلقًا وإن طال القلق، وصل بالإنسان إلى القنوط وما عاد ينظر إلى الحياة، بل ربَّما إلى الموت. من أجل هذا جاء كلام بولس الرسول متواترًا حول الرجاء، سواء برسائل كتبها بيده أو بيد كاتب بقربه، أو برسائل كتبها تلاميذه، بحيث إنَّ الموصوف »رجاء« (ελπις) في اليونانيَّة يرد إحدى وأربعين مرَّة. والفعل (ελπιζω) تسع عشرة مرَّة.

ففي رسالة رومة مثلاً، التي تُبرز وضع العالم قبل مجيء المسيح، العالم الوثنيّ الغارقٌ في خطاياه، الراضي عن الذين يقترفون أبشع الشرور وأشنعها. والعالم اليهوديّ المستند إلى »برِّه« على مستوى الشريعة، لا على مستوى الحياة، ينتظره غضب الله كما ينتظر الوثنيّين. لا مجال للهرب »لأنَّ غضب الله معلَنٌ من السماء على كفر البشر وشرِّهم« (رو 1: 18). ماذا يبقى للمؤمن؟ الرجاء. والوجه المشعُّ في هذا المجال هو إبراهيم. قال فيه الرسول: »كان راجيًا حيث لا رجاء« (4: 18). نفهم: حيث لا يكون رجاء بشريّ. بل النصُّ يقول: »ضدّ الرجاء البشريّ«. فلو كان إبراهيم منطقيٌّا مع ذاته، لما كان انطلق في طريق لا يعرف أين تصل به. ولكنَّ الرجاء جعله يرى ما لا يُرى. يرى يد الله تمسك بيده وتقوده عبر المخاطر. فكأنّي به يقول: »لو سرتُ في وادي الظلمات لا أخاف شرٌّا، لأنَّك أنت معي« (مز 23: 4).

وكيف تظهر فضيلة الرجاء؟ في الصبر. لا نعجِّل لكي نرى ما يمنحنا الله من مواهب، بل ننتظر النهاية. ننتظر أن نكون عبَرْنا النفق المظلم، لأنَّ النور يطلُّ في النهاية. مضى إبراهيم. إلى أين؟ الربُّ سوف يريه المكان في الوقت المناسب. ولولا ذلك لما سار هذا المؤمن آلاف الكيلومترات دون أن يتراخى. ووصل إلى أرض كنعان. يمكنه أن يرتاح. ولكنَّه غريب في هذه الأرض، ولن يكون له سوى موضع قبر لامرأته سارة بانتظار أن يُدفَن هو فيه. وأين الأولاد والربُّ وعده بنسل كبير؟ وسوف يقول للربِّ في أحد حواراته: »يا ربّ، ما نفع ما تعطيني وأنا أموت عقيمًا« (تك 15: 2). ثمَّ قال: »ما رزقتَني نسلا« (آ3). غريبٌ يرثُني. لا، قال الربُّ: »من يخرج من صلبك هو الذي يرثك« (آ4). وأراه الربُّ نجوم السماء. ما الذي يؤكِّد ذلك لإبراهيم؟

كلامُ الربِّ يؤكِّد له ذلك. لأنَّ أساس الرجاء هو الإيمان. »آمن إبراهيم بالله فحُسب له إيمانه برٌّا« (روم 4: 3؛ رج تك 15: 6). فمن يؤمن يعرف أن يصبر، أن ينتظر، ولو مرَّ انتظاره في قلب المحنة. فهذه المحنة، يقول لنا الرسول، »تلد الرجاء« (رو 5: 5). ويربط بولس مرَّة أخرى، في الرسالة إلى رومة، بين الصبر والرجاء، مع لمسة الله الحاضرة كما لمسة الأمِّ لولدها: نحن نتعلَّم »كيف نحصل على الرجاء بما في هذه الكتب من الصبر والعزاء« (رو 15: 4). ومن يعطيني هذه النعمة؟ الله ذاته. وهي نعمة تعلِّمنا العيش »في اتِّفاق الرأي« (آ5). ويتمنّى الرسول لكنيسة رومة ومؤمنيها: »فليغمركم إله الرجاء بالفرح والسلام والإيمان، حتّى يفيض رجاؤكم بقدرة الروح القدس« (آ15).

دور كبير يلعبه المؤمنون في هذا العالم، الذي انتظرته جماعةُ تسالونيكي مسهَّلاً بعد أن انتقلوا من الوثنيَّة إلى المسيح، ولكن ما اختبروه كان عكس ذلك. قال لهم الرسول: »عانيتُم كثيرًا« (1 تس 1: 6). غير أنَّ هذا لا يمنعهم من قبول »كلام الله بفرح.« أصاب أهل تسالونيكي في »عالمهم« ما أصاب إخوتهم في اليهوديَّة من اضطهاد (1 تس 2: 14ي). ولكن ما شجَّعهم كان كلام الله الذي عمل فيهم. فعلَّمهم »الثبات« ودعاهم إلى عدم التراجع لئلاّ يشابهوا العبرانيّين في البرِّيَّة. أمام أوَّل صعوبة، طلبوا أن يعودوا إلى مصر، ولو عبيدًا، فهناك الخيرات الكثيرة. أمّا في البرِّيَّة، فلا ماء ولا طعام سوى هذا المنّ الذي عافت منه نفوسهم. سوى الحليب ومشتقّاته التي هي طعام البدو. وكان بإمكان أهل تسالونيكي أن يتهرَّبوا من تعليم الرسول، بحيث يعيشون في راحة. ولكن هل جاء المسيح على الأرض لكي يلقي سلامًا، هدوءً، راحة، طمأنينة؟ كلاّ. بل »جاء يُلقي على الأرض نارًا وهو ينتظر من هذه النار أن تشتعل« (لو 12: 49).

لهذا، دعا بولس مؤمني رومة أن يكونوا »فرحين في الرجاء« (رو 12: 12). فبدون رجاء لا مكان لسرور ولا لفرح. وإذا كان الله يطلب ممَّن يعطي بعض ماله أن يعطيَه بفرح (2 كو 9: 7: المعطي الفرحان)، فماذا لا يطلب ممَّن يعطي حياته؟ ذاك كان موقف الرسل الذين نالوا الاضطهاد والجلد. أخبرنا لوقا في سفر الأعمال: »فخرج الرسل من المجلس فرحين، لأنَّ الله وجدهم أهلاً لقبول الإهانة من أجل اسم يسوع« (أع 5: 41). فهل خافوا؟ كلاّ. هل تراجعوا، توقَّفوا؟ كلاّ. بل هم عادوا »يعلِّمون كلَّ يوم في الهيكل وفي البيوت، ويبشِّرون بأنَّ يسوع هو المسيح« (آ42).

لولا الرجاء الذي يعمر في داخلكم، لما كانوا ثبتوا في الرسالة. هنا نسمع بولس يحدِّثنا عن القيامة التي ينتظر، ويدعو الجماعة إلى الانتظار. فإذا كان لا رجاء »لماذا نتعرَّض نحن للخطر كلَّ حين؟« (1 كو 15: 30). ويتحدَّث عن نفسه: »أنا أذوق الموت كلَّ يوم« (آ31). وأخبرنا كيف هُدِّد بأن يصارع الوحوش. وأنهى كلامه: »إذا كان الأموات لا يقومون، فلنقل مع القائلين: تعالوا نأكل ونشرب، لأنَّنا غدًا نموت« (آ32). حين يغيب الرجاء، ينغلق الإنسان على الأبديَّة ويحصر نفسه في هذا العالم يعبُّ فيه من الملذّات كلَّ ما يستطيع. ولكن بولس هو ابن الرجاء، فيعلن هو (أو: تلاميذه) في بداية الرسالة إلى تيموتاوس: »من بولس رسول المسيح يسوع بأمر الله مخلِّصنا، والمسيح يسوع رجائنا« (1 تم 1: 1).

أجل، إذا كان رجاؤنا في هذا العالم فقط، فنحن أشقى الناس جميعًا (1 كو 15: 19). حدَّثنا المؤمنين عن القيامة، »وما من قيامة«، كما يقول أولئك الذين ابتعدوا عن التقوى. »تبشيرنا باطل، إيمانكم باطل، بل نكون شهود زور على الله« (آ14). مثل هذا القول كفرٌ وتجديف. وكأنَّ بولس ندم لأنَّه أورده حين استخلص نتائج عدم قيامة يسوع المسيح. ولكنَّه انتفض فقال: »لكنَّ الحقيقة هي أنَّ المسيح قام« (آ20). وهذا يعني أنَّ أساس الرجاء حاضر هنا، وما يقوله »الرافضون« يقع عليهم في النهاية، وحين يستيقظون يكون فات الأوان. في هذا المناخ، نقرأ بداية الرسالة إلى تيطس: »من بولس عبد الله... على رجاء الحياة الأبديَّة التي وعد بها الله الصادقُ منذ الأزل« (تي 1: 1-2). أجل، الله وعد ونحن ننتظر تحقيق مواعيده. وماذا ننتظر؟ »اليوم المبارك الذي نرجوه، يومَ ظهور مجد إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح« (تي 2: 13). وماذا ننتظر؟ »أن نصير ورثة بحسب رجاء الحياة الأبديَّة« (تي 3: 7).

 

2-  مواعيد الله

وهكذا فتحَنا الله على مواعيده. فإذا كان الرجاء هو الانتظار الأكيد للسعادة الآتية، كما يقول القدّيس توما في الخلاصة اللاهوتيَّة، فنحن لا نفهم الرجاء في الإطار اللاهوتيّ إلاَّ في العودة إلى مواعيد الله التي تحتلُّ هنا مكانة مميَّزة. كان العالم الوثنيّ ينظر إلى الزمن على أنَّه دائرة تعود فيها السنون إلى حيث انطلقت. أمّا الكتاب المقدَّس فينظر إلى الزمن على أنَّه خطٌّ مرتَّب في التاريخ، وهو تاريخ يتجلّى فيه الله على أنَّه سيِّد المستقبل وسيِّد البشريَّة كلِّها. واسم »يهوه« نفسه كما كُشف لموسى (خر 3: 14) يؤكِّد الزمن الآتي: الله فعل وهو يفعل. أنا هو اليوم وغدًا كما كنتُ في الماضي.

هنا المعنى الأصليّ للوعد: يتكلَّم الله وما يقوله يُجريه، وما يعدُ به إنسانًا من الناس يُنيله ما وعد به. تلك كانت خبرة إبراهيم وسارة. قال الربّ: »سأرجع إليك في هذا الوقت من السنة المقبلة ويكون لسارة امرأتك ابن« (تك 18: 10). أمرٌ لا يصدَّق: إبراهيم كبير السنّ، وسارة خصوصًا »امتنع أن تكون لها عادة كما للنساء« (آ11). هذا غير معقول! لهذا ضحكت سارة. أمّا الربُّ فوعد ووفى: »فحملت سارة وولدت لإبراهيم ابنًا في شيخوخته، في الوقت الذي تكلَّم الله عنه« (تك 21: 2). وكان الكتاب قال: »وافتقد الربُّ سارة كما قال، وفعل كما وعد« (آ1). ففي الوعد التزام. أترى الله لا يفي بوعوده؟ بل هو الإله الثابت، الأمين.

وهكذا يكون الوعد إحدى الكلمات المفاتيح في لغة الحبّ. فحين يَعد الله، فهو يُلزم في الوقت عينه قدرته وأمانته، ويؤكِّد أنَّ المستقبل في يده، كما يؤكِّد صدق كلامه. هذا ما يحرِّك عندنا تعلُّق القلب وسخاء الإيمان. وبالطريقة التي بها الله يعد وباليقين الذي يملك بأنَّه لا يخيِّب الآمال، فهو يكشف أنَّه العظيم والعظيم وحده. قال سفر العدد: »ليس الله بإنسان فيكذب. ولا كبني البشر فيندم. أتراه يقول ولا يفعل، أو يتكلَّم ولا يقيِّم كلامه؟« (23: 19). فحين يعد الله، فهذا يعني أنَّه سبق وأعطى. وخصوصًا أعطى إيمانًا يعرف الانتظار ويتأكَّد أنَّ الله هو الأمين الذي لا يمكن أن ينكر نفسه (2 تم 2: 13).

وبولس حين اهتمَّ بأن يبيِّن أنَّ الإيمان هو أساس الإيمان المسيحيّ، دُفع لكي يُبيِّن أن جوهر الكتب المقدَّسة ومخطَّط الله يقوم في وعدٍ وعدَ به إبراهيم وأتمَّه في يسوع المسيح.

هنا نقرأ الرسالة إلى غلاطية. فالغلاطيّون الذين بشَّرهم الرسول وعلَّمهم الحرِّيَّة في المسيح، عادوا إلى العالم اليهوديّ، يمارسون شعائره. فجاء كلام بولس قاسيًا: »أيُّها الغلاطيّون الأغبياء« (غل 3: 1). بل هم تحت اللعنة لأنَّهم »يتَّكلون على العمل بأحكام الشريعة« (غل 3: 10). ويطرح السؤال: لمن أعطيَت المواعيد؟ لأهل الإيمان أم لأهل الشريعة؟ والجواب واضح: »أهل الإيمان هم أبناء إبراهيم الحقيقيّون« (آ6). وبما أنَّ إبراهيم برَّره الله لإيمانه، فنحن أيضًا »ننال بالإيمان الروح الموعود به« (آ14).

ويواصل الرسول برهانه للغلاطيّين، فيأخذ »مثلاً بشريٌّا«: من يقدر أن يبدِّل وصيَّة إنسان أعلنها قبل موته؟ والجواب لا أحد. وبالأحرى الله: وعد إبراهيم، فمَن يقدر أن يلغي وعد الله أو يبدِّله. لا أحد. حتّى ولا الشريعة التي »لا تقدر أن تنقض عهدًا أثبته الله، فتجعل الوعدَ باطلاً« (آ17).

وبماذا وعدنا الله؟ بالميراث. نحن أبناء مع الابن، وورثة معه على ما قال الرسول في الرسالة إلى رومة: »وهذا الروح يشهد مع أرواحنا أنَّنا أبناء الله. وما دُمنا أبناء الله، فنحن ورثة: ورثة الله وشركاء المسيح في الميراث، نشاركه في آلامه لنشاركه أيضًا في مجده« (رو 8: 16-17).

فما الذي يحرمنا من هذا الميراث؟ إذا وُجد هذا الحرمان، فهذا يعني أنَّ وعد الله ليس بوعد (غل 3: 18). معاذ الله من هذا الكلام! وتأتي المقابلة بين هاجر وسارة من جهة، وبين إسحق وإسماعيل من جهة ثانية. إذا نحن وُلدنا »بحسب الجسد« (أو: اللحم والدم)، فنحن عبيد، لا أحرار. وبالتالي لسنا أبناء. أمّا الذي وُلد بحسب الروح، فنحن »أبناء الحرَّة« وقد وُلدنا »بفضل وعد الله« (غل 4: 23). ويعلن الرسول بعد أن يورد النصَّ الإشعيائيّ: »فأنتم، يا إخوتي، أبناء الوعد مثل إسحق« (آ28).

مواعيد الله نتعرَّف إليها منذ العهد القديم. وعد بأرض وبنسل. وتواصلت مواعيدُه مع موسى وخصوصًا مع داود بالنسبة إلى الملكيَّة التي امتدَّت مع سليمان بحيث إنَّ الشعب »يثبت في مكانه فلا يتزعزع من بعد« (2 صم 7: 10). ووعد الربُّ بالخلاص في النهاية مع ذاك »الأب الأبديّ ورئيس السلام« الذي »سلطانه يزداد قوَّة، ومملكته في سلام دائم... غيرة الربِّ تعمل ذلك من الآن وإلى الأبد« (إش 9: 6).

مواعيد أُعطيت. فأوجزها القدّيس بطرس في عظته الأولى يوم العنصرة: »الوعدُ لكم ولأولادكم ولجميع البعيدين، بقدر ما يدعو منهم الربُّ إلهنا« (أع 2: 39). ذاك ما جعله لوقا، تلميذ بولس، في أوَّل خطبة توجز مشروع الكنيسة في انطلاقتها. وجاء الرسول يُفهمنا أنَّ الجميع يدخلون في هذا المخطَّط الإلهيّ. قال للوثنيّين: »في الماضي، كنتم بعيدين عن رعيَّة إسرائيل، غرباء عن عهود الله ووعده، لا رجاء لكم ولا إله في هذا العالم. أمّا الآن...« (أف 2: 12-13). الذين لم يعرفوا الرجاء عرفوا الرجاء بيسوع المسيح الذي تجسَّد في »ملء الزمن« (غل 4: 4)، الذين لم يعرفوا وعد الله بأن »يجمع في المسيح كلَّ شيء في السماوات وفي الأرض« (أف 1: 10)، عرفوا الآن أنَّ هذا الوعد وصل إليهم وإلى أبنائهم، سواء كانوا بعيدين عن أورشليم أو كانوا قريبين. فالجميع صاروا شركاء في ميراث الله، وأعضاء في جسد واحد. »ولهم نصيب في الوعد الذي وعده الله« (أف 3: 6).

وحين تفيض علينا النعمة في المسيح يسوع ونصير أغنياء في كلِّ شيء بحيث لا تعوزنا موهبة من المواهب (1 كو 1: 4-7)، لا يبقى لنا سوى أن ننتظر »ظهور ربِّنا يسوع المسيح... الذي يحفظنا ثابتين إلى النهاية« (آ7-8). أجل، القوَّة التي لا تأتي من البشر، بل من الله، تجعلنا نهتف مع الرسول: »إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟« (رو 8: 31). ذاك هو أساس رجائنا. والربُّ وهب لنا ما وهب. ويواصل الرسول: »الله الذي ما بخل بابنه، بل أسلمه إلى الموت، كيف لا يهبُ لنا معه كلَّ شيء؟« (آ32). عندئذٍ »من يقدر أن يفصلنا عن المسيح؟« (آ35). فمعه ننتصر كلَّ الانتصار حتّى في قلب الشدائد (آ37).

 

3-  الرجاء المرتبط بالمحبَّة

إذا كان الرجاء نظرة إلى المستقبل، فمن يؤكِّد لنا هذا المستقبل؟ وإلى ماذا أو إلى من نستند؟ أما يكون الرجاء سرابًا نتكمَّش به لأنَّ لا سبيل لنا إلى غيره؟ إذا كان الربُّ حوَّل سراب البرِّيَّة ماء، من أجل شعب البرِّيَّة، فهل يحوِّل برَكَته سرابًا بحيث يصبح الفردوس شوكًا وقطربًا؟ حاشا. فنحن نعلن مع الرسول: »رجاؤنا لا يخيب، لأنَّ الله سكب محبَّته في قلوبنا بالروح القدس الذي وهبه لنا« (رو 5: 6). ومتى فعل ذلك؟ أحين كنّا أبرارًا؟ كلاّ. بل حين كنّا »ضعفاء«، »خاطئين« أظهر الله محبَّته لنا »بأنَّ المسيح مات من أجلنا« (آ8).

رجاؤنا قويٌّ لأنَّه يستند إلى محبَّة الله، الذي أحبَّنا قبل أن نحبَّه. قال يوحنّا في رسالته الأولى: »نحن ما أحببنا الله (وسبقناه حين أظهرنا محبَّتنا له) بل هو الذي أحبَّنا، وأرسل ابنه كفّارة لخطايانا« (4: 10). الله أحبَّنا قبل إنشاء العالم، اختارنا (قبل أن نعرف أن نختار) »لنكون عنده قدّيسين بلا لوم في المحبَّة« (أف 1: 4). هل يمكن أن يتخيَّل بشرٌ ما أعدَّه الله لأحبّائه؟ لا يمكن. ومع ذلك هو الحقيقة. فهتف الرسول: »ما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر ما أعدَّه الله من أجل أحبّائه« (1 كو 2: 9). وأنتم أحبّاؤه حين تعملون بمشيئته. حين تتجاوبون معه، فتردُّون على الحبِّ بالحبِّ.

فماذا يفعل الله من أجل الذين يحبُّونه؟ يعدهم بالمجد الآتي، يقول لهم: »آلام هذه الدنيا لا توازي المجد الذي ينتظرنا« (رو 8: 18). بل يرينا أنَّ الخليقة كلَّها »تنتظر بفارغ الصبر« (آ19). ونحن ماذا نفعل؟ هل نشبه المؤمنين في زمن إشعيا، الذين قال النبيّ فيهم: »الثورُ يعرف مقتنيه، والحمار معلف صاحبه، أمّا بنو إسرائيل فلا يعرفون، شعبي لا يفهم شيئًا« (إش 1: 3).

نرفض الرجاء. نتعلَّق بما يُرى وننسى ما لا يُرى. مع أنَّ ما يُرى هو لزمان وما لا يُرى هو إلى الأبد. نرفض الاتِّكال على الله ونحسب أنَّنا نستطيع بمقدورنا أن نفعل. نرفض الباب الضيِّق والطريق الصاعدة. هكذا نكون لا نعرف ولا نفهم. وننسى خصوصًا ما الذي فعله الله ويفعله كلَّ يوم من أجلنا. هو مشروح محبَّة يغرز جذوره في حياة كلِّ واحد منّا، بل في التاريخ كلِّه. هو »سر« يريد أن يُدخلنا الله فيه. فهل نستعدُّ أن نرى؟ هل نستعدُّ أن نسمع؟ هذا يفترض الإيمان العامل بالمحبَّة.

قال الرسول: »ونحن نعلم أنَّ الله يعمل سويَّة مع الذين يحبُّونه لخيرهم في كلِّ شيء أولئك الذين دعاه حسب قصده. فالذي سبق فاختارهم، سبق فعيَّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتّى يكون الابنُ بكرًا لإخوة كثيرين. وهؤلاء الذين سبق فعيَّنهم، دعاهم أيضًا، والذين دعاهم برَّرهم أيضًا، والذين برَّرهم مجدَّهم أيضًا« (رو 8: 28-30).

»سبق«. يرد الفعل أكثر من مرَّة. الله هو السبّاق. كلُّ مبادرة هي منه، ولا يكون لنا سوى الجواب. وضع أمامنا السعادة والشقاء ونحن نختار. جعل الخير والشرّ أمام الإنسان، وقام بالخطوة الأولى فجعله في الجنَّة. فلماذا يسبقنا وهو لم يعرف شيئًا عنّا؟ لأنَّه جعل رجاءه فينا. كلام هائل. الله اتَّكل علينا. جعل ثقته فينا ولهذا خلقنا. فالمحبُّون وحدهم يعرفون أنَّ كلَّ شيء هو لخيرهم. دعاهم كما يدعو الأب أبناءه: أنتَ، اذهب إلى كرمي. إن أردت أن تتبعني، تمشي ورائي. والرسول يدعونا: »تشبَّهوا بالله كالأبناء الأحبّاء« (أف 5: 1).

ما نحن توجَّهنا إليه أوَّلاً، بل هو توجَّه. ما نحن دعوناه، بل هو دعانا، اختارنا على ما قال: »ما أنتم اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأرسلتكم« (يو 15: 16). والنعمة الكبرى بعد أن »تشوَّهت« صورة الله بفعل الخطيئة، هو أنَّه »عيَّننا«، »أعدَّنا« لكي نكون على صورة ابنه. تلك هي المحبَّة العظمى. لم يعد الابنُ الابنَ الوحيد، بل صرنا كلُّنا أبناءه، ويسوع المسيح صار أخًا لإخوة وأخوات عديدين.

وتتواصل السلسلة: من الدعوة، إلى التبرير، أي جعلنا أبرارًا قدّامه، خلَّصنا من جديد »كما من الماء والروح« لكي نعيش بحسب إرادته. أخذ منّا قلب الحجر وأحلَّ محلَّه قلبًا من لحم. وفي النهاية »مجَّدنا«. إلى هذا المستوى وصلت محبَّة الله لنا. نحن نعرف أنَّ المجد هو لله وحده. ولكن لمّا صرنا مع الابن دُعينا إلى المجد على مثال الابن. ويقول لنا المسيح: »تجلسون على اثني عشر كرسيٌّا وتدينون أسباط إسرائيل الاثني عشر«. ويقول لنا الرسول: »أنتم ستدينون العالم« (1 كو 6: 2). ويواصل، ويا للعظمة، فيقول للكورنثيّين الذين لم يفترقوا عنّا في شيء: »أما تعرفون أنَّنا سندين الملائكة؟« (آ3).

تلك هي الدرجة التي رفعنا الله إليها. وكلُّ هذا محبَّة لنا. فإلى هذه المحبَّة يستند رجاؤنا، ونخشى بعد ذلك الفشل والخيبة، بل يخاف الكثير منّا، مع أنَّ الله قال: لا أتركك ولا أرخي بك الأيدي. وقال أيضًا: »الربُّ لا يتخلّى عن أتقيائه، بل إلى الأبد يحرسهم« (مز 23: 28). بل هو يشبِّه الله بأمِّ وأب. هذان يمكن أن يتخلَّيا عن أولادهما. هي خبرة قاسية على مستوى البشر، لا على مستوى الله. ونحاول أن نجعلها على مستوى الله، وكأنَّ الله إنسان من البشر! ولكنه يجتذبنا بحبال الرحمة وروابط المحبَّة ويهتمُّ بكلِّ واحد منّا كما الأمُّ تهتمُّ بابنها الوحيد. وهكذا نحسُّ مع الله أنَّنا موضوع اهتمامه. قد يقول المؤمن، كما قالت أورشليم، »تركني الربّ، نسيَني«. ما هذا الكلام الذي يجرح الله في الصميم، لأنَّه يرى أولاده يبتعدون عنه، يغيبون في اليأس، يفقدون كلَّ شيء حتّى الحياة. لهذا فهو يجيبنا بلسان النبيّ: »أتنسى المرأة رضيعها، ألا ترحم ثمرة بطنها (وهو كان في رحمها)؟« هذا مستحيل في عالمنا. ويواصل الربُّ كلامه: »لكن لو أنَّها نسيَتْ فأنا لا أنساك... وها أنا على كفِّي رسمتك« (إش 49: 14-16). فاسمُك، يا ابني، يا ابنتي، لا يزول، ما زال كفّي معي.

»الجبال تزول والتلال تتزعزع وأمّا رأفتي فلا تزول« (إش 54: 10). إلى هذا الإله يستند بولس في سجنه. »أنت تعرف أنَّ جميع الذين في آسية تخلُّوا عنّي« (2 تم 1: 15). أين يضع رجاءه؟ في الربّ. وهكذا يبقى ثابتًا حتّى النهاية كما يجعل نفسه مثالاً لتلميذه. قال: »الله ما أعطانا روح الخوف، بل روح القوَّة والمحبَّة والفطنة« (2 تم 1: 7). ويواصل كلامه إلى تلميذه الحبيب: »أمّا أنت فتبعت تعليمي وسيرتي ومقاصدي وإيماني وصبري ومحبَّتي وثباتي واحتمالي الاضطهاد والعذاب« (2 تم 3: 10-11).

وفي النهاية، يهتف بولس من سجنه في رومة، الذي كان قاسيًا جدٌّا، وسوف يقوده إلى الموت قتلاً بالسيف على طريق أوستيا، القريبة من رومة. فيقول »أمَّا أنا فذبيحة يراق دمها، وساعة رحيلي اقتربت. جاهدتُ الجهاد الحسن وأتممتُ شوطي وحافظتُ على الإيمان. والآنَ ينتظرني إكليلُ البرِّ الذي سيكافئني به الربُّ الديّان العادل في ذلك اليوم، لا وحدي، بل جميع الذين يشتاقون ظهوره« (2 تم 4: 6-8). انتظر الرسول، فانتظره »إكليل البر«. اشتاق إلى لقاء الربِّ فلبّى الربُّ اشتياقه وفتح له يديه كما الأمُّ تستقبل طفلها الآتي إليها. كان المسيح ذبيحة على الصليب، والرسول هو ذبيحة أيضًا يدفعه الرجاء. فلولا هذا الرجاء ما خطا الرسول خطوة، ولا هو انبطح إلى الأمام، ناسيًا ما وراءه، من أجل »الفوز بالجائزة التي هي دعوة الله« (فل 3: 14). والسرُّ الذي دفع بولس، قاله هو: »أنا عارفٌ على من اتَّكلت، وأنا واثق بأنَّه قادر على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم« (2 تم 2: 12).

 

الخاتمة

مسيرة رائعة سرناها مع بولس الرسول. ترك العالمَ اليهوديّ، كما سبق إبراهيم وترك وراءه أرض أور وحاران. مضى إبراهيم وهو لا يعرف إلى أين يقوده الله. وكذلك بولس الذي عرف الشيء الوحيد بعد خبرة دمشق: »سوف أعرِّفه كم سوف يتألَّم من أجلي.« من هو أبو بولس ومن هي أمُّه؟ إخوته، أخواته؟ صار له الربُّ الأب والأمَّ والأخ والأخت والزوج والأولاد. جعل كلَّ رجائه في هذا الإله الذي استسلم له منذ النداء الأوَّل، نداء الصليب الذي يقود إلى القيامة. أتُرى خاب أمل بولس؟ كلاّ. بل لبث ثابتًا حتّى النهاية. وُعد بالإكليل ونال الإكليل. واكتشف بشكل خاصّ محبَّة الله له. فمع أنَّه كان مُضطهدًا ومجدِّفًا (1 تم 1: 13). نال الرحمة. محبَّة الله غمرته فاستند إلى هذه المحبَّة وانطلق في حياته وفي رسالته. وما ترك لنا من كتابات تدفعنا اليوم إلى الرجاء »فنتمسَّك بهذه الثقة (التي وُضعت فينا)، ونفتخر بالرجاء« (عب 3: 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM