الفصل السابع الشعب العبراني من مصر إلى كنعان

الفصل السابع

الشعب العبراني من مصر إلى كنعان

توقفّنا في فصل سابق عند الشعب العبراني الذي جاء من الشرق، من بلاد الرافدين (تقابل العراق تقريباً)، فوصل إلى أرض كنعان وتخلّق بأخلاق أهلها. وها نحن نرافقه إلى أرض مصر في مجموعة صغيرة قبل أن يعود إلى أرض كنعان.
ننتقل أولاً إلى مصر، فنتعرّف إلى علاقات هذا البلد الكبير بالبدو الآتين من آسيا: كيف دخلوا إلى أرض مصر، وكيف أُخرجوا منها. ونرافق ثانياً هؤلاء العبرانيين ساعة خروجهم من أرض مصر. خرجوا على دفعات وكان الخروج مع موسى هو الأخير.

أ- مصر وآباء شعب التوراة
كانت مصر قوّة سياسية بين سنة 1800 وسنة 1200. وبعد أن كانت في الذروة، نزلت إلى الأعماق، ثم بدأت صعودها شيئاً فشيئاً. كل هذا سيؤثّر على مصير البدو الذين إتصلوا بمصر في هذه الحقبة الطويلة من الزمن.

1- إنحطاط في مصر
حوالي سنة 1800، بدت مصر بلداً ناحجاً مزدهراً، بدت أرضاً موحّدة. قامت المملكة بأعمال ذات طابع عام منها تجفيف أراضي واسعة في جنوبي غربي مدينة ممفيس. وامتلكت "الدولة" جيشاً مؤلّفاً من المصريين، لا من المرتزقة الغرباء، فأمنّوا حماية الحدود. ونمت الزراعة بعد أن تطوّرت أساليب الريّ، وكبرت المدن وتكاثرت، وتنظّمت الصناعة والتجارة كما صار الذهب "العملة المتداولة".
غير أن جميع السكان ما كانوا ينعمون بهذا الإزدهار. فالعلائق الإجتماعية هي في خطر. فالعبيد الذين أسرتهم الحرب كثروا جداً. وافتقر الفلاحون بعد أن أرهقتهم الضرائب وأعمال السخرة. وبدأت القلاقل منذ سنة 1800، فدخلت البلاد في فترة من الصراعات الداخلية والثورات دامت قرابة ثمانين سنة.
في تلك الفترة كانت السلطة المركزية شبه غائبة، والحدود مفتوحة على مصراعيها. فاستفاد البدو الأسيويون من هذا الوضع، وتوغلّوا بأعداد كبيرة في المراعي الخصبة حول دلتا النيل. وكان بينهم عدد من العشائر العبرانية. وجاء ملوك غرباء. جاؤوا من الشرق، وربّما من منطقة كنعان، وتسلّموا مقاليد الحكم. سمّوا الهكسوس أو الملوك الرعاة ودام حكمهم قرابة قرن ونصف قرن من الزمن.

2- طرد الأسيويين (1550)
وبدأت حرب التحرير ضد الهكسوس إنطلاقاً من جنوبي البلاد. وكان على رأس هذه الحركة ملك طيبة، كاموسي. وبعد صراع طرد الهكسوس. ولكن لم يخرج هؤلاء الملوك الغرباء وحدهم، بل خرج معهم البدو الأسيويون الذين أقاموا في مصر مع تسلّط الهكسوس عليها. وكان بين هؤلاء البدو عدد من العشائر العبرانية. وهكذا نستطيع أن نتحدّث عن خروج أول من مصر، هو خروج بشكل طرد وترحيل، وقد حدث حوالي سنة 1550. وقد أشارت إليه التوراة في خر 6: 1 ب: "سيطردهم من أرضه". وفي 11: 1: "يطردكم (فرعون) من هنا طرداً". وفي 12: 39 يكلّمنا النص عن العبرانيين "الذين طُردوا من مصر، فأجبروا على الرحيل".
في تلك الحقبة، تجاور سكان عديدون في كنعان. فانضم إلى الكنعانيين القدماء قبائلُ هندو أوروبية جاءت من جبال أرمينيا، فكانت جزءاً من هجرة دامت سحابة ألف سنة. عبدوا الشمس والنار وعرفوا الفرَس. فرضوا نفوسهم على سكّان المنطقة بصورة مسالمة، فكانوا أرستوقراطية غريبة، ودعموا النظام الإقطاعي في المدن الممالك، وسيطروا على بعض منها. وفي ذلك الوقت، لبثت قبائل البدو تتحرّك قبل أن تقيم في المنطقة. غير أنها ظلّت تعيش على هامش المجتمع.

3- مصر وكنعان
بعد أن طَرَدت مصر الهكسوس، دخلت في مرحلة المملكة الحديثة. توحدّت البلاد من جديد ونمت الزراعة، وتوسّعت وسائل الإنتاج. وتقوّى الجيش وتخصّص، وتنظمّت نخبة من قوّاد المركبات، تألفت من الأغنياء والنبلاء. وهكذا تكوّنت مملكة حربيّة قوية. قام الفرعون تحوتمس الثالث (1501- 1447) بسبع عشرة حملة في كنعان، فسيطر عملياً على البلاد كلها. وظلّت هذه السيطرة حتى أمينوفيس الرابع (الفرعون الهرطوقي) الذي حاول أن يدخل التوحيد من خلال عبادة الإله الشمس معارضاً الكهنة المصريين. وقد اكتُشفت رسائل دوّنت على 350 لويحة، أرسلت من كنعان إلى مصر. اكتشفت في تل العمارنة فأعطتنا عدداً من المعلومات عن هذه الحقبة.
ما هو الوضع في كنعان بعد الحملات المصرية؟ إتّبع الفراعنة خطّين سياسيين. من جهة، تركوا المدن الممالك مستقلة. ومن جهة ثانية، فرضوا على الأمير أو الملك قسَم الولاء والخضوع، مراقبة طريق الحنطة، الضرائب، أعمال السخرة. وتوزعت في عرض البلاد وطولها، مدن محصّنة عرفت بأمانتها لمصر. لا شك في أن مثل هذا الوضع كان له تأثيره أيضاً على البدو المقيمين في كنعان.

4- العبرانيون ومصر
أقامت بعض عشائر البدو في مناطق تحميها قلاع محصنة. فالذين استقرّوا قرب سهل يزرعيل الخصب، كانوا عمّالاً في مزارع فرعون التي اشتهرت بحنطتها. وهذا هو أصل إسم قبيلة يساكر: عبد السخرة، ذلك الذي ينال أجره على عمله (تك 49: 14- 15). وأقامت عشائر أخرى في منطقة جبلية وحرجية، تسهّل لها عمل السلب والنهب. فتجنّد الرجال لدى أمراء يقاومون تسلّط مصر على البلاد. هذا هو وضع عشيرة ماكير. فهذا الإسم يعني "المؤجرّ" أو "المباع". فيوسف الذي نعرف قصة حياته (تك 37- 50) يعود إلى هذه المنطقة. ويشير عدد من الوثائق المصرية إلى هؤلاء العائشين على هامش المجتمع (عبيرو) الذين صاروا أسرى حرب في مصر. وأخيراً، ما زال البدو الأسيويون في تلك الفترة يمرّون قرب دلتا النيل أو يقيمون فيه.
ونستطيع القول إن إرتباط أجداد العبرانيين بمصر كان على ثلاثة أنواع: أعمال السخرة في شمالي كنعان، حرب العصابات في الوسط والإنتقال إلى مصر كأسرى حرب يباعون عبيداً، عبور بعض عشائر البدو في المناطق الحدودية.

5- الهرب من مصر
وفشل الإصلاح الديني الذي قام به أمينوفيس الرابع (1424- 1388). فسيطرت سلالة جديدة من الفراعنة في مصر. جاءت من دلتا النيل، فعرفت تلك المنطقة ازدهاراً كبيراً. فبُنيت في عهد رعمسيس الثاني المدن والهياكل والقصور ومراكز المؤن. وأستعملت مصرُ لهذه الأعمال أسرى الحرب الذين بيعوا عبيداً، وكان بينهم العبرانيون. ولكن هذا لا يكفي. لهذا أخضعت مصر لأعمال السخرة الأسيويين الذين أقاموا في المناطق الحدودية. مثل هذا التبدّل في ظروف الحياة لم يكن يُطاق لهؤلاء البدو الذين إعتادوا على عمل يعود بالربح على عشيرتهم ويبقيهم أحراراً في تنقلاّتهم.
فثاروا حوالي سنة 1250. ورحلوا من مصر بقيادة موسى وباسم إلههم. لاحقهم جيش فرعون فأفلتوا منه. كوّن الهاربون مجموعة متنوّعة. فكان منهم العبيد الذين عملوا في ورشات البناء وأسرى الحرب وأنصاف بدو أقاموا في تلك المنطقة. هذا ما سمّي الخروج الهرب.
شكّل هربُ هذا الخليط من الناس خبرةَ تحرّر لا مثيل لها. وقد تكون بعض مركبات الجيش الفرعوني المرابطة على الحدود قد غرقت في مستنقعات تقع شمالي البحر الأحمر. فرأى الهاربون في هذا الوضع، إنتصاراً لإلههم الذي حارب لأجلهم. ونقلت إلينا التوراة ردّة قد تكون قريبة من الأحداث أنشدها الهاربون: "أسبحّ الرب فقد قام بعمل رائع. الفرس وراكبه طرحهما في البحر" (خر 15: 1).

6- من هو يهوه
تحدّثنا حتى الآن عن "إله الآباء"، وعن الإله العظيم "إيل". فماذا نقول عن يهوه، الإله الذي هو، الإله الكائن؟ إنه يدلّ على الإله الشخصي الذي حرر العبرانيين من مصر. وفيما بعد ستماثله التوراة مع إله الآباء الذي تماثل مع الإله إيل. ولقد لعب موسى دوراً كبيراً في هذا الاكتشاف. غير أن للإله يهوه ميزة محدّدة، وقد جاءته من حدث الخروج. إنه إله الحرب، وهو وبهذا يختلف عن إله الآباء والإله إيل. هو إله حارب من أجل شعبه ضد فرعون. وهو إله سيحارب من أجل شعبه على مدّ تاريخه.
توّقفنا بعض الشيء عند حدث "الخروج الهرب". والسبب في ذلك هو أن شعب التوراة سيعود إليه دوماً على أنه الحدث المؤسّس للشعب. ولكتنا لا ننسى أن وثائق ذلك العصر لا تعطينا أية معلومة عن هذا الموضوع. نحن أمام مجموعة صغيرة من أنصاف البدو تركوا أرض مصر وتحرّروا من أعمال السخرة. مثل هذا الحدث لا يستحقّ أن يدخل في التاريخ، لا سيما وأنه لا يشّرف المهتمين بأمور الكتابة (الملك أو الأمير).
أول مرّة نقرأ إسم إسرائيل (لا ننسى أنها كانت مجّرد عشيرة) على وثيقة قديمة كانت سنة 1220. دوّن منفتاح، خلَف رعمسيس الثاني، على مسلة انتصاراته الحقيقية والخيالية. ونقرأ في لائحة الشعوب المهزومة: "دمّر إسرائيل فلم يعد له نسل ولا زرع".

ب- العبرانيون والتقلّبات الكبرى حوالى سنة 1200
عرفت قوى الشرق الأوسط العظمى حالة من الضياع. فمصر تسيطر عليها الصعوبات والمتاعب. ومملكة الحثيين الواسعة (في آسية الصغرى، أي تركيا الحالية) قد دمرّت تدميراً نهائياً. وماتت المعاهدة الأبدية التي حدّدت سنة 1280 مناطق نفوذ المصريين والحثيين، كما تحطّم التوازن السياسي.
وظهرت شعوب جديدة. فجاء من الغرب بحّارة شجعان لا يهابون الموت. إجتاحوا بأسلحتهم شواطىء مصر ثم شواطىء كنعان. وكان منهم الفلسطيون. وفي الشرق، تواصل ضغط القبائل على المدن الممالك. وعلى حدود الصحراء، تنظمت بعض الشعوب في ممالك، فكان المديانيون والإسماعيليون. وفي فلسطين، إختبأ ملوك كنعان في مدنهم المحصّنة. وإن هجرة هذا الخليط من البشر الذين خرجوا من مصر مع موسى، تجد موقعها في هذا الوضع الدولي. وتتوّزع هذه الهجرة على مرحلتين: الطريق في البرية أو في الصحراء، والدخول إلى كنعان.

1- الطريق في البرية
أفلت العبرانيون من جيش فرعون المرابط على الحدود، فعرفوا الحرية التي طالما تاقوا إليها. ولكن كيف العمل ليقوموا بأود حياتهم؟ فأمامهم صحراء سيناء الجبلية، ووسائل العيش فيها هزيلة.
وفرضت صعوبات الحياة في الصحراء على هذا الحشد أن يصير شعباً. عليه أن يمشي يوماً بعد يوم، ويبحث عن مواضع مياه. هم يخيّمون في مكان واحد، يسيرون في الطريق معاً، يقبلون بطعام بسيط، يقتصدون في أكلهم، يحاربون أصحاب السلب والنهب. ولا بدّ من المحافظة على تماسك المجموعة التي منها تبرز حركات تمرّد ضد موسى. نحن هنا أمام مسائل جماعية تتطلّب حلولاً جماعية.
ويجب على هذه المجموعة أيضاً أن تفضّ الخلافات وتؤمّن العدالة. وموسى لم يَعُد يكفي لهذه المهمة. فأحسّوا بالحاجة إلى تنظيم، إلى تعلّم طرق ممارسة العدالة. أحسّوا بالحاجة إلى شرائع وقوانين. فنظمّ موسى الشعب وأقام مسؤولين، كما رتّب أساس شريعة وُلدت من الخبرة وأنطبعت بالإيمان بالله. هذا الإله الذي حرّر شعبه، قد رافقه في تجواله، وعبرّ له عن إرادته بهذه الشريعة. فالوصايا العشر (20: 1- 21) كانت نواة هذا التشريع في أول تعبير له: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور.
إنتقال من حال من الفوضى إلى شعب منظّم، وقد كان خبرة بشرية من الطراز الأول. وكان أيضاً خبرة دينية فريدة. وتلاحمَ الشعب، كما تقوّى إيمانه بالرب. وساعد الإطار المهيب الذي تتمتع به صحراء سيناء على إعطاء هذه الخبرة طابعاً عجيباً.

2- الدخول إلى كنعان
خرج الشعب من مصر، ولكنّه لم يبقَ في الصحراء. فسنجده في كنعان بعد عشرات السنين. فما الذي حدث؟ وكيف دخل العبرانيون إلى كنعان؟
لم يتمّ الدخول إلى كنعان دفعة واحدة، ولا بشكل واحد، ولا عبر طريق واحدة، ولا بقيادة رئيس واحد. هناك عشائر تغلغلت من الجنوب. وأخرى دارت إلى الشرق ودخلت من هناك. بعض القبائل أقام في شرقي الأردن. وبعض العبرانيين عبروا الأردن بقيادة يشوع، خليفة موسى، واجتاحوا وسط كنعان. ولا ننسى أن عدداً من العشائر كانت تقيم في كنعان، ولا سيما في الشمال، وأنها لم تنزل يوماً إلى مصر.
لقد تحدّثنا عن خروجين، عن خروج طرد تمَّ حوالي سنة 1550، وخروج هرب تمَّ حوالي سنة 1250. وهناك تقليد بيبلي يتحدّث عن خروج إحتلال، وكأن الواصلين الجدد إحتلوا كنعان في حرب خاطفة. غير أن الواقع هو أكثر تشعباً وتعقيداً. فقد كانت تغلغلات مسالمة وتدريجية إرتبطت بالبحث عن المراعي. وفي بعض المواضع، عُقدت إتفاقات مع أهل البلاد. ولكن لا بدّ من الوقوف أمام المدن المحصّنة، ولهذا بدت الحرب ضرورة ملحّة. وكانت انتصارات نسبها العبرانيون إلى الله المحارب. وكانت هزائم. ويبدو أنه حين وصل يشوع ورجاله إلى أرض كنعان، ثارت قبائل الشمال ضد الأمراء الكنعانيين، وهكذا انفتحت الطريق أمام العبرانيين.
وما إن وصل العبرانيون إلى البلاد حتى طُرحت عليهم مشاكل عديدة. وإحداها وحدة العشائر العبرانية المبعثرة في مناطق واسعة والممزوجة بالشعوب الكنعانية. فلا بدّ من ترسيخ هذه الوحدة. فاختار يشوع مدينة في وسط البلاد هي شكيم. فدعا كل الذين عادوا من مصر والذين ظلّوا في البلاد ليلتئموا في جماعة كبيرة. وهناك عرَضَ عليهم أن يختاروا يهوه كفله لهم. قال لهم يشوع: "أنتم شهود على أنفسكم أنكم اخترتم الرب لتعبدوه". فقالوا: "نحن شهود". فقال لهم: "إنزعوا الألهة الغريبة التي فيما بينكم، ووجّهوا قلوبكم إلى الرب إله إسرائيل". فقال الشعب ليشوع: "الربَّ إلهنا نعبد ولصوته نسمع" (يش 24: 22- 24).
وكان عهد ديني قام على وحدة الدم في القبائل، على امتلاك أرض يقيمون عليها، على إيمان بيهوه الرب. وهكذا وُلدت رابطة القبائل الإثنتي عشرة. وهذا ما نسميه النظام الإثني عشري. بمعنى أن كل قبيلة تخدم المعبد المركزي شهراً واحداً من أشهر السنة.

3- التذكّر والواقع
عاشت هذه القبائل مفردة أو مجتمعة أحوالاً مختلفة. فما الذي بقي منها في حياة إسرائيل وتفكيره في القرون اللاحقة؟ هناك أولاً تذكّر الماضي، وثانياً الواقع الحالي.

أولاً: التذكّر
إنّ عدداً من الأحداث قد طبع بطابع عميق هذه العشيرة أو تلك، فانتقلت إلى ذاكرة العشائر الجماعية. مثلاً: هجرة الآباء القديمة وإيمانهم، العبودية في مصر، التحرّر والإيمان بيهوه الإله المحرّر، طريق الصحراء وصعوباتها، شخصيّة موسى وعمله، إنتصارات يهوه حين الدخول إلى أرض كنعان.
لا شك في أن كل قبيلة لم تعِش كل هذه الأحداث. وكلها لم تنزل إلى مصر. وكلها لم تتبع موسى. وكلها لم تشارك في الدخول إلى كنعان. وكلها لم يكن لها الإختبار الديني الواحد. ولكن ما تذكّرته عشيرة واحدة على مدّ التاريخ، صار شيئاً فشيئاً تذكّراً للشعب كله. وفي المستقبل، سوف يتحدّث الكتّاب عن هذا التاريخ، وكأن كل الشعب وُلد من إبراهيم، كما لو أن كل الشعب كان عبداً يعملِ في مشاريع البناء في مصر، كما لو أن كلّ الشعب عبر البحر الأحمر. فَعرْضُ الأمور على هذا الشكل ليس بخدعة. ولكن حين يُذكر التاريخ الماضي يعي الشعب وحدته. فليس من تاريخ حيادي. كل تاريخ يُكتب من أجل هدف. والتاريخ المقدّس يهدف إلى إعطاء الشعب تعليما دينياً وضمّه في بوتقة واحدة.

ثانياً: الواقع
حوالي السنة 1200 كان عدد من الوقائع مشتركاً بين مختلف العشائر العبرانية. هناك احتلال بلد معّين، حاجة إلى التضامن والقتال المشترك من أجل البقاء. وهناك عدد من العادات وأساس تشريعي يعود إلى موسى أو ينتسب إليه. وهناك الإرتباط بيهوه، الإله الذي حرّرهم من مصر، والذي يقدّمون له شعائر العبادة في مكان محدّد.
تجذّر إيمان شعب التوراة في التاريخ الماضي، فعبرّوا عنه وجدّدوه خلال اختبارات جديدة، كما ربطوه بحياتهم. ولكن هذا. الإيمان إمتزج بمعتقدات وممارسات دينية، فما كان فقط عبارة مجرّدة ومحجرّة. إنه إيمان شعب يسير مسيرته باتجاه الله، ولهذا فهو سينمو نمواً عجيباً وفريداً في تاريخ البشرية. وهذا ما تشهد له أسفار التوراة.
وهكذا وعت العشائر العبرانية شيئاً فشيئاً أنها شعب، وذلك بفضل التاريخ الذي تذكّروه، والأرض التي أقاموا فيها، والشريعة التي مارسوها، والإيمان بيهوه الإله المحرّر.

ج- نظرة شاملة
1- التوراة قبل التوراة
في الفصول اللاحقة سنقدّم الأسفار البيبلية التي دوّنت في الحقبة التي ندرس. أما في هذا الفصل فلا كتب نعرضها. فساعة انتهت المرحلة التي تجولنا فيها، حوالي سنة 1200، لم يكن بعد كُتب أي سفر من أسفار التوراة. فتدوين التوراة سيبدأ فيما بعد.
ولكن هل نقول بفراغ مطلق بين الأحداث التي قدمناها في هذا الفصل (وقعت بين 1800 و1200) وتدوينها في أول الأسفار البيبلية (حوالي سنة 950)؟ كلا. فالشعب استعمل وسائل أخرى، غير الكتابة، لحفظ التذكّرات ونقلها، لحفظ الشرائع والفرائض ولنقل الإيمان. كل هذا تم بالطريقة الشفهية، من الوالد إلى الأولاد، من المعلّم إلى التلاميذ، من الشيوخ إلى الشبّان. وكان هذا النقل يتمّ بصورة طبيعية، لا بشكل درس مجرّد. فبعض المواضع تذكّر المؤمنين بما حدث قربها. ها هنا بئر. إلى هنا جاء أبونا يعقوب مع قطيعه. ها هو قمر الربيع الأول. في ذاك الوقت حرّر الرب الشعب من مصر. وهكذا عيّدوا الفصح. وقع خلاف بين الرعاة: تذكر الشيوخ شريعة موسى. حدثت عاصفة قوية ومطر متدفّق فعادت إلى أذهانهم صور عن الله الذي ترمز إليه البروق والرعود.
وهكذا دُوّنت التوراة على الشفاه قبل أن تدوّن على "الورق". لقد دوّن قسم منها في تقليد العشائر الحي. فالعبراني يرى الوحدة في الحياة اليومية، في التفسير الديني لهذه الحياة بحاضرها وماضيها. ولكن لا ننسى أنه لم يكن هناك تقليد واحد، بل تقاليد شفهية عديدة، إحتفظت بها هذه العشيرة أو تلك. وحين بدأت العشائر تنضمّ بعضها إلى بعض، دمجت هذه التقاليد. ولكن كما أن وحدة العشائر لم تكن يوماً كاملة، فلم تكن يوماً تقاليد إسرائيل واحدة بل ظلّت متنوّعة.

2- بعض النصوص القديمة
لا نستطيع أن نقدّم نصوصاً دوّنت بين سنة 1800 وسنة 1200. لهذا نشير إلى تقاليد معاصرة لتلك الحقبة القديمة التي تجوّلنا فيها. إن هذه التقاليد ستدخل في مجموعات متحرّكة، وسيفسرّها الكتّاب الملهمون بالنظر إلى هدفهم حين دوّنوا كتبهم.

أولاً: نشيد الإنتقام
إنه يذكّرنا بممارسة الإنتقام بين القبائل في الماضي السحيق وقبل تشريع موسى الذي يضع حداً للأخذ بثأر الدم. "أجل، قتلت رجلاً لأنه جرحني، وولداً لأنه خدشني. أجل، يُنتقم لقايين سبع مرات، ولكن للامك سبعاً وسبعين مرة" (تك 23:4- 23).
لا حدود للانتقام في شريعة الغاب. أما في الإنجيل فلا حدود للمغفرة. سأل بطرس يسوع: حكم مرة يخطأ إليَّ أخي وأغفر له: أسبع مرات"؟ فأجاب يسوع: "لا سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات" (مت 18: 21- 22).

ثانياً: شريعة المعاملة بالمثل
نحن هنا أمام تطوّر بالنسبة إلى النص السابق. الهدف هو المساواة. تتساوى الجريمة مع العقاب لدى الصغار والكبار. "حياة (نفس) بحياة، عين بعين، سنّ بسنّ، يد بيد، رجل برجل" (تث 19: 21). من أخذ عين أحد تُؤخذ له عينه. لا يؤخذ له رأسه. إذن، وضعَ المشترع حدوداً للعقاب والإنتقام.
ولكن قال يسوع: "سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. أما أنا فأقول لكم: لا تنتقموا مّمن يسيء إليكم. من لطمك على خدك الأيمن، فحوّل له الآخر" (مت 38:5- 39).

ثالثاً: الوصايا العشر
نجد هنا بعض عناصر الوصايا العشر، ويمكن أن تعود إلى موسى. إنها أساس ما سيسمّى فيما بعد شرعة حقوق الإنسان: "أكرم أباك وأمك. لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على قريبك شهادة زور" (خر 12:20- 16).
سيعمّق يسوع متطلبّات هذه "الوصايا". "قيل لآبائكم: لا تقتل. أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه باطلاً إستوجب الدينونة... وسمعتم إنه قيل لآبائكم: لا تزنِ. أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى إمرأة فاشتهاها، زنى بها في قلبه" (مت 5: 21- 22، 27- 28).

رابعاً: الختانة
نحن هنا أمام تقليد قديم لختانة إبن موسى وصفورة. يرجع ولا شك إلى قبيلة مديان التي استقبلت موسى الهارب من مصر. "ولما كان في الطريق، توقّف بعض الشيء. فاقترب منه الرب وحاول أن يقتله. فأخذت صفورة صوّانة وقطعت قلفة ابنها ومسّت رجليه (رجلي موسى، إرتباط بالولادة) وقالت: أنت لي عروس دم. فتركه (الرب) حين قالت: عروس الدم، من أجل الختان" (خر 4: 24- 26).
أجل، هناك قيمة تكفيرية للختان، الذي يرتبط بالزواج. ولكن القديس بولس سيبيّن أنّ الختان ليس بشيء في الشريعة الجديدة، ولا الغرلة (أي عدم الختان). المهم هو الإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6).

3- على عتبة الألف الأول
والآن نترك الماضي ونتطلّع إلى المستقبل. فحوالي سنة 1200 بدأ إستعمال الحديد ينتشر في العالم، لا في صنع السلاح وحسب، بل في الأدوات المنزلية.
وعرفت ممالك الشرق الأوسط محطّات كبرى في توسّعها. تجمدّت الممالك القديمة وسارت إلى الإنحطاط. وبدأت شعوب شابة إنطلاقتها في طول الأرض وعرضها. الألف الأول هو العصر الذي وُلدت فيه الديانات العالمية. وهو الزمان الذي فيه دون شعب التوراة تاريخه وعبرّ عن إيمانه

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM