الفصل الثاني الوحي والإلهام

الفصل الثاني

الوحي والإلهام

يتميّز الكتاب المقدّس عن سائر كتب العالم بأنه يرتبط بالله. إنه يحمل كلام الله. لهذا نقول إن الوحي والإلهام يعطيانه هذه القيمة الإلهية الفريدة.
أ- الوحي
الوحي هو معرفة يعطيها الله للإنسان فيكشف فيها طبيعته ونشاطه. والوحي يتمّ عبر تعليم يحمله الله إلى أحد مرسليه، ويطلب منه أن ينقله إلى الناس. يتوجّه الوحي إلى إنسان من الناس أو إلى جماعة صغيرة. وهو يبدو بشكل نور يتغلغل في قلب الإنسان. وسيحاول الذي تقبّل هذا النور أن يعبرّ عنه بلغة البشر فيلجأ إلى الصور والتشابيه.
لقد أرسل الله وحيه إلى موسى والأنبياء، وفي النهاية بواسطة يسوع المسيح الذي كان وحي الله الكامل للبشر.
الله يكشف عن ذاته، لا كما هو بل من خلال الرموز، من خلال الرعد والغمام والنار، من خلال صوت بشري. ويكشف أيضاً عن مقاصده من خلال التاريخ.

ب- الإلهام
1- الإلهام هو دفع عُلوي به يثير الروح القدس الكتّاب الملهمين فيدفعهم ليكتبوا كلمات الله. ويسندهم حين يكتبون بحيث إنهم يتصوّرون بدقة ويرغبون أن ينقلوا بأمانة ويعبرّون بدون خطأ عمّا يأمرهم الله أن يكتبوه.
وهذا الدفع يؤثّر على العقل وعلى الإرادة. سيبحث الكاتب الملهم عن الوثائق، ويسأل الشهود، ويقوم بالمجهود الضروري لأجل تأليف كتابه. وفي كل هذا يدفعه الله ويسنده إلى أن يتمّ كتابه. وعملُ الله يحرّك فكر الكاتب الملهم فيجعله يدرك الأفكار والوقائع. ويقود إرادته ليحكم إن كان عليه أن ينقل هذا الفكر وهذا الواقع أم لا.
2- نقرأ في 2 تم 16:3: "الكتاب كله من وحي الله يفيد في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البرّ، ليكون رجل الله كاملاً معدّاً لكلّ عمل صالح".
ونقرأ في 2 بط 1: 20- 21: "ما من نبوءة في الكتاب تقبل تفسيراً يأتي به أحد من عنده، إذ لم تأتِ نبوءة بإرادة بشر، ولكن الروح القدس حمل بعض الناس على أن يتكلموا من قِبَل الله".
3- يمتد الوحي إلى كل أسفار الكتاب المقدس وإلى كل أجزاء هذه الكتب، أكانت مقاطع تتعلّق بالإيمان أم بالأخلاق. وما هو ملهم هو النص الأصلي كما دوّنه الكاتب الملهم في العبرية أو الأرامية أو اليونانية.
4- الكاتب الرئيسي للكتاب المقدس هو الله. ينتج عن ذلك أن الكاتب الملهم لا يقدر أن يقول أي خطأ في ما يخصّ العقيدة والإيمان. هذا ما يسمّى مبدأ العصمة من الخطأ. وعلى أساسه لا يمكن أن يكون تضارب في التعليم، بل تكامل. ما قاله هذا النصّ يكمّله النص الآخر، وما قاله العهد القديم يتممّه العهد الجديد ويصل به إلى كماله.

ج- شرح الكتاب
1- هذا يفرض على شّراح الكتاب المقدس أن ينطلقوا من النص الأصلي ويضعوه في إطاره ويفهموه حسب الفن الأدبي الذي كُتب فيه. ثم يجب أن لا ننسى أن الكتاب المقدس كتاب ديني. فهو والحال هذه ينطلق من معطيات علمية أو تاريخية تناقلتها الناس في ذلك الزمان، ولكنه لا يأخذها على عاتقه. مثلاً: كانت مقابلات بين أيام الخلق الستة وبين مراحل تكوين الأرض، بين خلق الإنسان من التراب وما تقوله نظرية التطور. نحن نحاول بهذا أن نكيّف نظرة علمية على نظرة دينية فنقع في الخطأ. إن الكتاب المقدس يقول لنا إن الله خلق الكون والإنسان، ويحاول العلم أن يعرف متى خُلق وكيف خُلق.
2- ونستطيع أن نُجمل كلامنا فنقول: الوحي نور سماوي يرسله الله مجّاناً إلى قلب الإنسان فيغمر حياته وأفكاره ونظرته إلى الأمور. الوحي علم إلهي يتعدّى العين والأذن والفم والقلب. يحسّ به من حصل عليه. ولكنه يحتاج إلى صُوَر البشر وكلمات البشر لكي يعبرِّ عنه. ماذا يفعل؟ يعود إلى تعابير وصُوَر إستعملها الذين سبقوه ويحملّها معنى جديداً. عاد العهد القديم إلى صور أخذها من عالم الأشوريين والبابليين والمصريين. وعاد العهد الجديد إلى عالم العهد القديم يستلهم أخباره وأقواله. ولكنه فجرَّها ليحمّلها واقعاً جديداً، فرضه عليه تجسّد الإبن الوحيد في العالم.
3- وحين نتحدّث عن الإلهام في الكتاب المقدّس، نميّز بين ما هو من الله وما هو من الإنسان. ما هو من الله لا خطأ فيه ولا ضلال. إنه يرتبط بالعقيدة والأخلاق. وما هو من الإنسان قابل للدرس. حين يستند الكاتب إلى أمور علمية أو تاريخية أو تقليدية، تبقى هذه الأمور موضوع درس بين العلماء، وهي تساعدنا على فهم النص فهماً أفضل. ولكنها لا تؤثر على صفة الإلهام التي يتمتّع بها الكتاب المقدس.

د- شعب يقرأ تاريخه
قبل أن ندخل في رحاب هذه المكتبة التي هي الكتاب المقدس، نودّ أن نعطي ملاحظات أربع.
الأولى: نحن أمام كتاب شعب بكامله. الكتّاب عديدون جداً، فلا نستطيع أن نحصيهم، كما أننا لا نعرفهم. فبواسطتهم دوّن شعب من الشعوب بصورة جماعية، ما عاشه وما تأمله في التاريخ. هو تقليد شفهي طويل سيصبح تأملاً في الماضي. إنتقلت التقاليد من الآباء إلى البنين داخل العشيرة أو القبيلة، إنتقلت بطريقة شفهية قبل أن تدوّن مرة أولى، على ما يبدو في أيام سليمان.
الثانية: نحن أمام كتاب يرتبط بالتاريخ. هبر لم يُكتب دفعة واحدة. ولكن تدوينه إمتدّ على تسعة قرون من الزمن. كان الناس في كل عصر يعودون إلى النص السابق ويزيدون عليه ملاحظاتهم على ضوء حياتهم. وهكذا أورد الكتاب المقدس أهمّ مراحل الشعب، أنتصاره وفشله، شقاءه وفرحه.
الثالثة: نحن أمام كتاب يتأمّل في تاريخ الشعب وفي حياته. توقّف الشعب في الأوقات الحاسمة، وأعاد قراءة تاريخه الماضي. إكتشف الغنى الذي تسلمَّه من الآباء، وواجه إيمانه ومعتقداته مع ظروف الحياة الجديدة وثقافات الشعوب الأخرى. إستعاد الإرث القديم يقرأه ويتأمل فيه، فاستطاع أن يأخذ الحاضر على عاتقه، وأن يتحملّ مسؤولية المستقبل.
الرابعة: نحن أمام كتاب يقرأ أحداث الحياة على ضوء الإيمان. فشعب الكتاب المقدس أعتبر أن الله حاضر دومأ في تاريخه وفاعل، وهو يكشف عن نفسه للبشر من خلال أفعاله. لقد اكتشف العبرانيون في أحداث حياتهم علامات عن حضور الله وعمله من أجل تحرير شعبه وخلاصه. وهكذا فهموا أن مخطط الله بالنسبة إلى البشر هو مخطّط فداء وعهد صداقة. وهكذا تكوّن إيمان شعب الله. إيمان تقبّلوه كعطية وسط خبرة حياة جماعية وفردية مع إله يسيطر على الكون والتاريخ.
ونحن شعب اللُّه اليوم، تدعونا قراءة الكتاب المقدس إلى اكتشاف عمل الله في عالمنا، وإلى مواصلة كتابة تاريخ هذا العمل، فلا نتوقّف عن بناء عالم يوافق مخطّط الله تجاه البشر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM