الفصل الخامس عشر: الكنيسة المصرية في رسائل العيد لأثناسيوس الإسكندراني.

الفصل الخامس عشر:

الكنيسة المصرية في رسائل العيد لأثناسيوس الإسكندراني

دأب أساقفة الإسكندريّة، منذ مجمع نيقية(1) الذي كلّفهم تكليفًا رسميٌّا، على تحديد التاريخ الذي فيه تعيّد الكنيسة عيد الفصح، كلّ سنّة. وما كانوا يقتصرون على بعض عبارات حقيرة، بل كانوا يرسلون كلّ سنة رسائل »رعائيّة« تتوجّه إلى الأساقفة والمؤمنين في الأبرشيّات المرتبطة بكرسيّ الإسكندريّة، كما يرسلون إلى البطريركيّات الكبرى في رومة والقسطنطينيّة وأنطاكية وأورشليم. هذا ما يُسمّى رسائل العيد(2). أوّل أثر نجده وجّهه ديمتريوس (188-230) إلى أورشليم وأنطاكية ورومة(3). وتبعه ديونيسيوس وبطرس وصولاً إلى كيرلّس الذي احتفظت لنا المخطوطات منه بتسع وعشرين رسالة تعلن زمن عيد الفصح من سنة 414 إلى سنة 444(4). أمّا نحن، فنتوقّف بشكل خاصّ عند الرسائل التي حفظها لنا التاريخ من أثناسيوس الذي خلف الإسكندر على كرسيّ الإسكندريّة سنة 328(5).

1- اللائحة السريانيّة

كتب أثناسيوس في اليونانيّة، ولكنّ رسائله كانت تترجم، شأنها شأن رسائل كيرلّس بعده، إلى السريانيّة كما إلى اللاتينيّة(6). أمّا في السريانيّة، فنقرأ لائحة تشير إلى الشهر الفصحيّ لكلّ من السنـوات والأيّام، و»إينديقطيون«(7) والقنصل الرومانيّ، ومدبّر الإسكندريّة، والأنافة أو قاعدة القمر(8) وكلّ ما يُسمّى آلهة(9). والسبب الذي لأجله لم تُرسل الرسالة أو أرسلت من أرض غريبة(10).

من رسائل العيد(11) للبابا(12) أثناسيوس(13).

ويتابع النص السريانيّ: »رسائل العيد لأثناسيوس، أسقف الإسكندريّة، التي أرسلها كلّ سنة إلى كلّ المدن، كلّ الأبرشيّات الخاضعة له أي من بنتابوليس وليبيا إلى إبونياتي والواحتين الصغرى والكبرى، ومصر وأغوسطامنيقي مع القسمات(14) وتيبائيس(15) العليا والوسطى، من السنة 44 لزمن ديوقليطيانس، التي فيها كان عيد الفصح في التاسع عشر من فارموتي، في الثامن عشر قبل غرّة(16) أيّار في الثامن عشر من القمر. يوم ترك الإسكندر سابقُه الحياة في الثاني والعشرين من فارموتي، جلس (أثناسيوس) على الكرسيّ (الأسقفيّ) في الرابع عشر من فاهوني في الإينديقطيون الأولى، في قنصليّة أيانوارينس ديوسطُس. وكان المدبّر(17) ويناوس (الإيطالي) حاكم(18) مصر في الأنافة(19) الخامسة والعشرين في الأوّل لما يُسمّى آلهة(20)«.

ماذا نكتشف في هذا النصّ الذي أرسل سنة 327-328 الذي يقابل سنة 44 للإمبراطور ديوقليطيانُس؟ إنّ أثناسيوس، أسقف الإسكندريّة، يبعث برسالة كلّ سنة إلى الأماكن الخاضعة له. سواء كانت المدن أو الأبرشيّات التي كانت في الأصل مقاطعات إداريّة قبل أن تصبح تسمية لتقسيمات كنسيّة. ويذكر أوّلاً بنتابوليس أو المدن الخمس أو بلاد القيروان على الشاطئ الإفريقيّ(21). ثمّ ليبيا السفلى ومصر والمقاطعة التي عاصمتها تيبة، في مصر الجنوبيّة. تلك هي مقاطعات أربع استحدثها ديوقليطيانُس (245-313). وبعد سنة 341، أضيف إليها القسم الشرقيّ من مصر (أغوسطامنيقي)(22).

وذُكرت بعد ذلك أسماء قديمة لوحدات إداريّة مثل أمونياقي أو واحة آمون، التي ارتبطت بليبيا، والقسمات السبع(23) الواقعة جنوبيّ الدلتا، والتي ارتبط أربع منها بمصر ثمّ بقسمها الشرقيّ(24)، وثلاث بمنطقة تيبة(25). وذكر النصّ أيضًا الواحة الصغرى، وهي قسمة إداريّة ارتبطت بمصر، والواحة الكبرى التي ارتبطت بتيبائيس. وأخيرًا، تقسيمات تيبائيس العليا والسفلى التي تشهد النصوص بوجود حاكم عليها منذ سنة 298-300(26). ودُعيت تيبائيّة السفلى هنا، تيبائيّة الوسطى لكي تعارض الأرض السفلى، أو الدلتا، التي ستذكر سنة 334(27).

وتحدّد يوم العيد. في 14 نيسان سنة 328. نشير هنا إلى أنّ حساب الأعياد المعمول به في الإسكندريّة. هو حساب التسع عشرة سنة، الذي أطلقه أناتوليس، أسقف اللاذقيّة، في منتصف القرن الثالث، وأُصلح فيما بعد. إنّ هذا الإصلاح الذي ربط زمن الفصح بزمن ديوقليطيانُس، يُنسب إلى بطرس، أسقف الإسكندريّة، في مقال حول الفصح، حيث السنة الأولى في الدورة الجديدة تتوافق مع بداية السنة المدنيّة (واحد تموت) للسنة العشرين لهذا الإمبراطور، أي سنة 303-304. في الواقع، يعود هذا الإصلاح إلى سنة 323(28) لسنة أولى في دورة تمتدّ على تسع عشرة سنة، أي في عهد الإسكندر، خلف بطرس على كرسيّ الإسكندريّة، وبعد اضطهاد سنة 303-312 الذي ليس بالزمان المؤاتي لمثل هذا الإصلاح الليتورجيّ. وجاء التطبيق سهلاً جدٌّا بحيث كان زمن الفصح هو هو في الكلندارين خلال السنوات الستّ الأولى، أي من سنة 323 إلى سنة 328.

في الواقع، لسنا هنا أمام الرسالة »الفصحيّة« الأولى من رسائل العيد لأثناسيوس، لأنّ الإسكندر سلفه كان بعدُ حيٌّا، وقد توفّي في 17 نيسان، أي بعد عيد الفصح بثلاثة أيّام. ولم يجلس أثناسيوس على كرسيّ الإسكندريّة إلاّ في 8 حزيران(29). وذكر النصّ قنصلين، كما ذكر مدبّر مصر وحاكمها. لا نعرف شيئًا عن أيانوارينُس ويوسطُس اللذين كانا سنة 328. أمّا زيناوس فكان من إيطالية، باسم سبتيميوس زيناوس، وحكم سنة 328 و329.

وهكذا نجد في رأس الرسائل الفصحيّة أسماء الحكّام الذين تعاقبوا على تدبير أمور مصر. قد يكون هناك تضارب في المعلومات أو نقص. ولكنّ البرديّات تساعدنا على مقابلة اللوائح، كما مراسلة ليبانيوس سنة 356(30). وتذكر اللائحة، السنة التي فيها بدأ »المدبّر« حُكمَه، كما تذكر موطنه. هي تتحدّث عن أربعة وعشرين منهم، فترى القسم الأكبر منهم (18 حاكمًا) جاؤوا من المقاطعات الشرقيّة في الإمبراطوريّة، بل من مقاطعات مجاورة: من فلسطين وفينيقية وسورية. أمّا الستّة الباقون الذين من المقاطعات الغربيّة، فقد جاء منهم أربعة من إيطالية، والرسالة الأولى تتيح لنا أن نعرف الاسم الكامل لزيناوس.

بعد هذه المقدّمة، نقرأ عنوان الرسالة الأولى التي ارسلها أثناسيوس من أجل عيد سنة 329. »في (السنة) التالية، كان أحد الفصح في الحادي عشر من فارموتي، في الثامن قبل عيدس(31) نيسان والحادي والعشرين للقمر في قنصليّة قسطنطين القدّوس(32) الثامنة والرابعة في (قنصليّة) قسطنطين، وكان زيناوس نفسه مدبّر مصر وحاكمها. الإينديقطيون الثانية، الأنافة السادسة. الثانية للآلهة«(33) بعد ذلك، أضاف الجامع: »لا شكّ في أنّ هذه هي الرسالة الأولى التي أرسل، لأنّ السنة التي سبقت هذه، تَكرّس فيها بعدَ العيد(34)، كما عُرف، بحيث إنّ الإسكندر أدرك فأرسل رسالة قبل أن يترك هذه الحياة. إذن، كانت السنة الخامسة والأربعون لديوقليطيانُس«.

في السنة التالية، كان العيد في 19 نيسان 330، وقد زار فيها تيبائيس، وسنة 331، وقع العيد في 11 نيسان. أرسل الأسقف الرسالة وهو في طريق العودة من البلاط الإمبراطوريّ. فقد مضى إلى بلاط الملك العظيم قسطنطين الذي أرسل في طلبه، لأنّ أعداءه اتّهموه بأنّه أقيم أسقفًا وهو بعد شاب. فلمّا حضر وُجد أهلاً للقبول(35) والكرامة. عاد، يومَ وصلت الكنيسة إلى نصف الصوم(36).

في الرسالة الثامنة، نعرف أنّ العيد وقع في 18 نيسان 336. مضى أسقف الإسكندريّة إلى سينودُس أعدائه الذين اجتمعوا في صور. ما كان يستطيع التهرّب من دعوة جاءت إليه من قبل الإمبراطور، وإلاّ تعرّض للمنفى(37). إذن، انطلق من الإسكندريّة. ولكن حين رأى بجلاء الفخّ المهيّأ له، صعد من هناك وهرب إلى القسطنطينيّة بعد أن استفاد من سفينة وُجدت في المرفأ، فوصل إلى هناك في التاسع والعشرين من تشرين الأوّل. وبعد ثمانية أيّام، حضر أمام الملك قسطنطين. ومع أنّه نال تأكيد ثقة، إلاّ أنّ أعداءه زعزعوا الملك بافتراءات مختلفة. فحكم عليه في الحال بالمنفى. فمضى في 6 تشرين الثاني إلى غالية(38) لدى قونسطانس قيصر، ابن أغوسطُس. من أجل هذا لم يكتب رسالة العيد(39).

2- الرسالة العاشرة

تلك هي مقاطع من »اللائحة السريانيّة لرسائل العيد لأثناسيوس الإسكندرانيّ« جُعلت كمقدّمة للرسائل الفصحيّة التي كتبها أثناسيوس بين سنة 329 وسنة 373. احتفظ التقليد السريانيّ بست عشرة منها بما فيها من نقص، مع أربعة مقاطع. كلّ هذا نقرأه في مخطوط في المكتبة البريطانيّة (14569)، وجاء من الإسقيط في مصر، ويعود إلى القرن الثامن. نستطيع أن نرافق هذه الرسائل فنعرف الكثير عن مصر وكنيستها وما عمله بطريركها أثناسيوس. ولكنّنا نودّ أن نقدّم الرسالة العاشرة كما نشرها كيورتون(40) التي تعود إلى سنة 338، فتعطينا نظرة واسعة عن كنيسة مصر.

بعد أن نقدّم أجزاء من هذا النصّ، نعود لنقرأ ما يتعلّق بحياة أثناسيوس خلال سنوات من الاضطراب عرفها هذا الأسقف بسبب دفاعه عن مجمع نيقية.

أ- نصّ الرسالة

''هذه هي العاشرة(41) (وقد كُتبت) في قنصليّة أورسوس وفولميوس(42) في زمن تاودورُس(43) نفسه الذي من مدينة هليوبوليس(44) ومدبّر كاثوليكيّ(45) خلفه بعد سنتين فيلاغريوس(46)، أنديقياطون 11، وفيها اليوم السابع قبل غرّة نيسان هو الأحد، في الثلاثين من فارموتي(47)، في الثامن عشر من القمر، في السنة 54 لديوقليطيانُس.

»في الحقيقة، يا أخوتي، مع أنّي هجرتُكم وابتعدتُ عنكم، إلاّ أنّي لم أنسَ العرف المعروف لديكم، بعد أن انتقل إلينا من الآباء، الذي يجعلني لا أقول شيئًا ولا أعرّفكم بزمن العيد السنويّ المقدّس ويوم الاحتفال به.

»فمع أنّي عرضة للمضايقات التي سمعتم بها، في أيّ حال، ومع أنّ المحن القاسية سقطت عليّ، وباعدَتْ بيننا المسافات، وراقبَنا أعداءُ الحقّ، وتآمروا ليحصلوا منّا على رسالة لكي يتّهمونا ويضيفوا أيضًا على جراحاتنا عذابًا. ولكنّ الربّ قوّانا الآن، وعزّانا في شدائدنا. لهذا، لا نتردّد أيضًا ونحن عرضة لهذه العداءات والمؤامرات، أن نريحكم من أصقاع الأرض(48)، وأن نعرّفكم بفصحنا الخلاصيّ. وشجّعت أيضًا كهنة الإسكندريّة حين كتبتُ إليهم(49). (وطلبت) منهم أن يهتمّوا بأن يُرسلوا إليكم تلك الرسائل، لأنّي أعرف ما ينزل بهم هم أيضًا من قِبل الأعداء. وها أنا أحثّكم لتذكروا الفرّيسيّ(50): ''لا شيء يفصلني عن محبّة المسيح، لا الشدّة، ولا الضيق ولا الاضطهاد ولا الجوع ولا العري ولا الخطر ولا السيف«(51).

»فلو فهم(52) (الخصوم) ما كُتب في المزامير، لما كانوا ثاروا باطلاً على المخلّص، حين يقول الروح: ''لماذا اضطربت الشعوب، ولماذا نوت الأمم الباطل''(53). فلو أخذوا بعين الاعتبار نبوءة موسى(54) لما كانوا عرّضوا حياتهم(55). لو وعوا ما في كُتبنا، لما كانوا تجرّأوا فتلفّظوا بنبوءات تعنيهم بحيث إنّ مدينتهم ستدمّر الآن(56)، والنعمة ستتركهم، فيُستبعدون حتّى عن الشريعة ولا يُعلَنون بعد أبناء، بل غرباء(57). هذا ما أعلن في المزامير، فقيل: ''الغرباء، غرّروا بي(58)''. وقال النبيّ أشعيا: ''ولدتُ بنين ورفعتهم، أمّا هم فاستهانوا بي''(59).

»لا يُدعون شعب الله ولا أمّة مقدّسة، بل أسياد سدوم وشعب عمورة، لأنّهم تجاوزوا شرّ أهل سدوم، بحسب ما قال النبيّ أيضًا: ''كانت سدوم أبرّ منك، يا أورشليم''(60). فإن كان أهل سدوم خطئوا ضدّ الملائكة(61)، فهؤلاء تجرّأوا فقتلوا الرب الإله، ملك كلّ شيء وسيّد الملائكة. لم يفهموا أنّ هذا المسيح الذي قتلوه، هو حيّ. وأنّ هؤلاء اليهود الذين تأمروا على الربّ قد ماتوا: ابتهجوا بعض الوقت قليلاً، ثمّ سقطوا إلى الأبد.

»وأخطأوا(62) أيضًا حين ظنّوا أنّ الوعد الذي يبقى ثابتًا، لا ينطبق على الملذّات الزمنيّة، بل على رجاء الخيرات الأبديّة(63). فبمضايق عديدة وأتعاب وعذابات، يدخل القدّيس إلى ملكوت السماوات. وحين يبلغ إلى حيث لا يعود ألم ولا ضيق ولا بكاء، يجد عندذاك الراحة(64). هكذا صار أيّوب خليلَ الله، بعد أن جُرّب. أمّا الذي يحبّ الملذّات، فيحيا حياة البهجة بعض الوقت، ولكنّ حياته تصير بعد ذلك حزينة، على مثال عيسو الذي خسر كلّ شيء، بعد أن أخذ طعامًا عابرًا(65). لا شكّ في أنّه يقال إنّ هناك صورة تصوّر هذا الموضوع: خروج بني إسرائيل والمصريّين من مصر.

»ابتهج المصريّون بعض الوقت بما أجرموا ضدّ إسرائيل، ولكن حين خرج هؤلاء، سقط (المصريّون) في عمق اللجج. أمّا شعب إسرائيل، فحين خرج من مصر(66)، بعد أن ضربه الخدّام وجرّحوه، مع أنّهم كانوا يقومون بعملهم، فقد عبر البحر بدون ضرر(67) وعبر البريّة(68) كما في أرض مأهولة. ومع أنّ الموضع حُرم من بشر يقيمون فيه، إلاّ أنّه لم يُحرَم من طيّبات الشريعة، ولا من الألفة مع الملائكة(69)، بل كان أفضل من أرض مأهولة: فأليشع تخيّل هو أيضًا أنّه وحده في البريّة، فإذا هو في رفقة الملائكة(70). عرف الشعب أوّلاً الضيق، وأقام في البريّة، والذين تمسّكوا بالرجاء، دخلوا إلى أرض الوعد. ونقول أيضًا الشيء عينه عن الذين يكتئبون هنا زمنا يسيرًا. فإن ثبتوا، بلغوا إلى النهاية، إلى الراحة. أمّا الذين يضطهدون (الآخرين) هنا، فيُسحقون ولا يعرفون نهاية سعيدة.

»فهكذا(71) قبلَ ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح الألم، حين أراد أن يعلّم البشر: ضُرب فتحمّل بصبر(72). شُتم فما ردّ على الشتيمة بالشتيمة(73). تألّم وما هدّد أحدًا، بل قدّم ظهره للضرب ووجهه للطم، وما مال عن البصاق(74)، وفي النهاية، اقتيد بإرادته إلى الموت(75). فبقدر ما نحيّي فيه صورة الكمال التام والخالد، وحين يسلك كلّ واحد منّا بحسب هذا المثال، ندوس حقٌّا الحيّات والعقارب وكلّ قوّة العدو(76). وإذ سلك بولس على مثال الربّ، حثّنا نحن أيضًا فقال: ''اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح''(77). وهكذا تغلّب على ما يحمله المفتري من شكوك فكتب: ''وأنا على يقين أنّ لا الموت ولا الحياة، ولا الملائكة ولا الرؤساء، ولا الحاضر ولا المستقبل، ولا القوى، ولا العلوّ ولا العمق، ولا أيّة خليقة تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح''(78).

»ففي المضايق والمحن والأتعاب، يقترب العدو، فيجدّ ويعجّل في تدميرنا. ولكن الإنسان الذي في المسيح، وإن واجهته الشدائد، يقابل الغضبَ بالصبر، والشتيمة بالتواضع، والشرّ بالفضيلة، فينتصر في ما يعمل ويقول: ''أنا قادر على كلّ شيء بالمسيح الذي يقوّيني''(79). ويقول: ''انتصرنا على الجميع بمعونة المسيح الذي أحبّنا''(80): تلك هي نعمة الربّ، وتلك هي أعمال الربّ العادلة وسط البشر.

»فقد تألّم ليعدّ اللازم لهذا الإنسان الذي تألّم فيه. ونزل لكي يُصعدنا. واختبر برضاه الولادة لكي نحبّ ذاك الذي لم يُولد (كما يولد البشر). وتنازل حتّى الفساد ليلبس الفاسدُ عدمَ الموت. وصار ضعيفًا لأجلنا لكي يثبّتنا في القوّة، ونزل إلى الموت لكي يهبنا الخلود ويُحيي الموتى. وفي النهاية، صار إنسانًا، لكي نحيا نحن البشر المائتين، ولا يكون الموت سائدًا علينا كما من قبل. فالموت لا يتسلّط علينا، كما أعلن الرسول في كلامه(81)«.

وبعد أن يهاجم أثناسيوس الهراطقة(82)، يرفع المجد لله قائلاً: »إذن نحتفل بهذا الطريق الذي أصلحه لأجلنا للخلاص، وبهذا اليوم المقدّس، يوم الفصح، نحتفل مع الملائكة بهذا العيد في السماء.

»فبعد أن عبر الشعب اليهوديّ، في الماضي، من الضيق إلى الخلاص، أقام عيدًا وأنشد نشيد الظفر(83). فهذا الشعب الذي نجا من موت محتّم، في زمن الخروج، وضع عيدًا إكرامًا للربّ، عيدًا يليق به... ونحن أيضًا حين نُصعد إلى الربّ طلباتنا ونعترف بخطايانا، نعيّد للربّ كما يجب ويليق، ونمجّد الربّ الذي عاقبنا قليلاً، ولكنّه لم يتركْنا ولم يتخلّ عنّا... أخرجنا نحن أيضًا من مصر المليئة بالكذب والرامزة إلى أعداء المسيح، واقتادنا عبر المحن العديدة والمضايقات، كما في بريّة، إلى كنيسته المقدّسة. فنحن هنا، وحسب العرف، أرسل إليكم أيضًا رسائل وأتسلّم منكم. لهذا، فوق كلّ شيء(84)، أتوسّل إليكم وأنا أمدح إلهي، أن تمدحوه أيضًا معي، وتمدحوه لأجلي: حاول الذين يقتلون المسيح ويمزّقونه(85) أن يحطّموا التقليد الرسوليّ، وينفوه ويحرموه، ولكنّ الربّ لم يسمح بذلك. إنّما أعاد الاعتبار إلى ذلك الذي أقامه بواسطة رسول، وحفظه، لكي نحتفل معًا ونعيّد معًا، بعضنا مع بعض، حسب تقليد الآباء ووصيّتهم.

»إذن(86)، نبدأ صوم الأربعين يومًا في التاسع من شهر مشير، وصوم الفصح المقدّس في الرابع والعشرين من شهر فاريموت. يتوقّف الصوم في التاسع والعشرين من شهر فمينوت هذا، في نهاية مساء السبت. وهكذا نحتفل بهذا الأحد الذي فيه قام، في الثلاثين من شهر فمينوت هذا(87). وبعد سبعة أسابيع كاملة، نعيّد العنصرة. وإذ نتأمّل منذ الآن هذا، نكون أهلاً لما في الأبد في المسيح يسوع ربّنا، الذي به المجد والإكرام للآب، إلى أبد الدهور. آمين. سلِّموا بعضكم على بعض بقبلة مقدّسة(88)، واذكرونا في صلواتكم المقدّسة. جميع الإخوة الذين معي، يسلّمون عليكم ويذكرونكم دائمًا. وأطلب إليكم أيّها الأخوة الأحبّاء، الذين أودّهم كلّ المودّة أن تكونوا معافين«.

نهاية رسالة أثناسيوس العاشرة(89).

ب- ماذا نقول في هذه الرسالة؟

بما أنّ الرسالة حُدّد زمنُها، سنة 338، نتوقّف بعض الشيء عند سيرة أثناسيوس خلال تلك السنوات المضطربة. فأسقف الإسكندريّة مضى إلى المنفى، في غالية، بعد مجمع صور، في تموز-أيلول سنة 335(90). ولمّا مات الإمبراطور قسطنطين في 22 أيّار سنة 337، استعاد الأسقف حرّيّته في 9 أيلول، وعاد إلى الإسكندريّة في 23 تشرين الثاني من السنة نفسها. ولكنّه لم يقضِ في مدينته سوى سنة واحدة. بعدها هرب من جديد، في أيّار سنة 339، والتجأ إلى رومة.

هذه التفاصيل وغيرها في رسائل العيد(91)، توخّت قبل كلّ شيء أن تحدّد يوم عيد الفصح كلّ سنة. وصلت إلينا الرسالة السابعة التي كُتبت في الإسكندريّة، في بداية سنة 335، وفُقدت الرسالتان الثامنة والتاسعة لسنتَي 336-337، أمّا الرسالة العاشرة فقرأناها في السريانيّة فقط، وهي تلقي بعض الضوء على تلك الحقبة من حياة أثناسيوس. ونسارع إلى القول بأنّنا لسنا أمام رسالة واحدة، بل أمام أربعة أجزاء ضُمّت بعضها إلى بعض في وقت لاحق.

هناك العنوان الذي يؤرّخ الرسالة: سنة 338. أمّا القسم الأوّل الذي يبدأ: »في الحقيقة، يا أخوتي«، ويضمّ مقطعين كبيرين، فيشدّد على أمرين رئيسيّين. في الأوّل، يشتكي أثناسيوس بمرارة بسبب بُعده، من الضيقات وكلّ المحن التي يحتملها في أقاصي الأرض. وفي الثاني، يؤكّد على وحدة روحيّة مع كنيسة الإسكندريّة، وحدة عميقة يريد أن يحافظ عليها، وحدة يختمها حضورُ المسيح وسط الذين يجتمعون باسمه. والقسم الثاني يتضمّن أيضًا مقطعين. يشكر فيهما الأسقفُ الرب لأنّه أعاده إلى كنيسته. لهذا جاءت اللهجة صادقة، بعد أن زالت العاصفة(92).

وجاء القسم الأخير أطول الأقسام، فانتهى بكلام عن الوحدة بين أثناسيوس وكنيسته. ولكن قبل ذلك جاءت اللهجة قاسية جدٌّا مع عاطفتين متضاربتين في قلب الأسقف: أوّلها العنف ضدّ خصومه الذين يسمّيهم عقارب وحيّات وعميانًا لا يفهمون نبوءات الله القدير. لهذا يجب أن يُسحَقوا. وهكذا، ينقسم العالم قسمين، قسم الخير وقسم الشرّ. فالأخيار هم الذين يساندون أثناسيوس، والأشرار هم خصومه الذين لن تكون لهم نهاية سعيدة. والعاطفة الثانية تبحث عن تعزية في قلب المحنة، وتعبّر عن حنين إلى أرض مصر. وفي كلّ هذا، يثق الأسقف أنّه سينتصر على خصومه، وعلى الموت، بعون المسيح.

كلّ هذا بدا بشكل تاريخيّ. ولكن سيأتي دور الهراطقة(93)، الذين يجعل أثناسيوس أقوالهم في لائحة الهرطقات، كما اعتاد الآباء أن يفعلوا. ذكر نظرات أريوس التعليميّة ودعاه المفتري. وهاجم الخصوم »الذين يصرّون بأسنانهم علينا«. ثمّ تأتي العقيدة في خطّ ما نقرأه في »تجسّد الكلمة« الذي دوّنه أثناسيوس حوالي سنة 336، فبرهن فيه أنّ لا دواء لفساد البشريّة، ولا إصلاح للإنسان إلاّ بالتجسّد. وبعد أن علّل التجسّد وموت المسيح وقيامته، دافع عن الإيمان المسيحيّ في هذا المجال. وردّ على اليهود والوثنيّين(94). وتحدّث عن المسيح الذي هو قدرة الله وحكمته، الذي هو المخلّص والخلاص. وأضاف هنا لقبين لا نجدهما في »تجسّد الكلمة«، هو المدافع والمحرّر.

هنا نطرح تساؤلاً حول هذه الرسالة العاشرة التي أشرنا إلى أنّها تألّفت من أجزاء دُوّنت في أوقات مختلفة. أما يجب أن يعود كلّ جزء إلى الرسالة التي ورد فيها؟ كلّ ما نجده من إشارة زمنيّة هو عيد الفصح الذي يقع في 30 فمينوت أي 26 آذار. نقرأ هذه الحاشية فنفهم أنّنا حقٌّا أمام الرسالة العاشرة حسب لوائح الرسائل الأثناسيّة وأزمنة العيد في كلّ سنة(95).

تلك نهاية الرسالة. أمّا القسم الأوّل فيها، فهو رسالة منفى، ويمكن أن تكون أُرسلت سنة 336 أو 337، إذا عدنا إلى اللائحة(96) التي تسبق رسالة من الرسائل(97). نعرف عن سنة 336 أنّ أثناسيوس لم يكتب في ذلك الوقت رسالة العيد(98) وفي السنة 337، احتفلوا بالعيد في 3 نيسان. ولكن بما أنّ أثناسيوس كان في المنفى: لم يقدر أن يكتب رسالة العيد(99).

تحدّث هذا القسم الأوّل عن المنفى، فبان أنّه يعود إلى سنة 336 أو 337. القسم الثاني الذي أبرز فرَح العيد، يعود بنا إلى سنة 338 حيث عاد أثناسيوس إلى أحبّائه، أو هو في طريق العودة. تقول اللائحة: »فيها (=في تلك السنة) توفّي قسطنطين في 27 باخوت (= 22 أيّار). فسُمح له (= أثناسيوس) فعاد من غالية في 27 أتير (=23 تشرين الثاني) بمجد كبير (م ش ب ي ح ا ي ت، في السريانيّة)(100).

والقسم الأخير يعود، على ما يبدو، إلى سنة 338، حيث تتوالى أقوال العنف ضدّ الخصوم وكلام الإرشاد. فالصعوبات ما زالت حاضرة، والنصر الذي ناله الأسقف سريعُ العطب. فالمؤامرات تُحاك عليه. وسيعود إلى المنفى قريبًا، ويحلّ محلّه على كرسيّ الإسكندريّة أسقف من كبادوكية، اسمه غريغوريوس(101). وهكذا تكون هذه الرسالة التي حُفظت لنا في اللغة السريانيّة، قد ضمّت عناصر من رسالتين على الأقلّ. ولو وصلت إلينا كاملة، لكانت قدّمت لنا عناصر إضافيّة أخرى.

3- رسائل أثناسيوس في القبطيّة

وصلت إلينا رسائل أثناسيوس، رسائل العيد والرسائل الرعويّة، بعد أن نُقلت عن اليونانيّة إلى القبطيّة(102). ولكن نسارع إلى القول إنّنا لم نجد بينها نصّ الرسالة العاشرة. كما نودّ أن نتحدّث، قبل عرض هذه الرسائل »القبطيّة«، عن دور أثناسيوس في تطوير الطريقة التي بها يُعلم أسقفُ الإسكندريّة المدنَ والأديرة بزمن العيد.

مع أثناسيوس تكاثرت رسائل العيد خلال خمس وأربعين سنة من أسقفيّته. إن كان لم يصلنا مخطوط كامل في اليونانيّة، إلاّ أنّ التقاليد السريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة قد عوّضت. كيف بدت هذه الرسائل؟ قبل أثناسيوس، كانوا يعلنون عيد الفصح والأسبوع الذي يسبق العيد. ولكنّ مع أثناسيوس، ومنذ الرسالة الثانية، سنة 330، رُبط بالاحتفال الفصحيّ الصومُ الأربعينيّ الذي كان يمارَس حتّى ذلك، بعد الدنح، حسب التقليد المصريّ(103). وهكذا دخل الصوم الأربعينيّ في دورة الفصح. نلاحظ أنّ تاريخ الفصح يعطى أوّلاً حسب الكلندار اللاتينيّ أو اليوليانيّ(104) ثمّ حسب الكلندار القبطيّ. هذا يعني أنّ رسائل الإسكندريّة لم تتوجّه فقط إلى ما يرتبط بها من أبرشيّات وأديرة، بل إلى جميع الكنائس(105).

أ- مضمون الرسائل القبطيّة

بعد هذا الاستطراد السريع، نتحدّث عن هذه الرسائل التي ضاعت في اليونانيّة، وذلك لعدم الذوق عند الكتبة البيزنطيّين وكسلهم وإهمالهم(106). ولكنّها وُجدت في القبطيّة ونُشرت منذ سنة 1898 حتّى 1935. جاءت المخطوطات من برلين وباريس وفيينا وأوكسفورد ولندن. فرتّبها النقّاد ترتيبًا وصل بهم إلى الرسائل الفصحيّة التالية(107): الأولى تعود إلى سنة 329 وهي تبدأ: »يا أحبّائي، يدعونا الزمن لأن نعيّد. فقد أشرقت لنا شمسُ البرّ (ملا 4: 2)«(108)، والسادسة إلى سنة 334، والرابعة والعشرون إلى سنة 352، والخامسة والعشرون إلى سنة 353، ثمّ السادسة والعشرون (354) والسابعة والعشرون (355) والثامنة والعشرون (356)، والتاسعة والعشرون (357).

لم يصلنا شيء من سنة 358 إلى سنة 363. في السنة 364، وصلت الرسالة السادسة والثلاثون التي ضاعت بدايتُها وفيها يقول أثناسيوس: »كُتبت هذه إليكم من إنطاكية، بعد أن عدتُ من البلاط الملكيّ وشاهدتُ الإمبراطور الرحيم«(109). وتحدّثت الرسالة السابعة والثلاثون (سنة 365) عن الأريوسيّين وتبّاعهم الميليتيّين، فربطت شرّهم بتعجرف اليهود(110). واحتفظت لنا اللغة القبطيّة بالرسالة الثامنة والثلاثين (سنة 366)، ثمّ التاسعة والثلاثين (سنة 367) التي سوف نعود إليها لما فيها من كلام عن لائحة الأسفار القانونيّة(111). في الرسالة الأربعين (368) يتحدّث عن خلافات تجعل الأساقفة يَرسمون قسسًا. يقول أثناسيوس: »إن لم نتوقّف عن مثل هذه الأعمال، نكون وكأنّنا نأكل بعضُنا بعضًا، ونفني بعضنا بعضًا«(112). بعد الرسالة الحادية والأربعين (369) التي ارتبطت بالسنة الخامسة والثلاثين لعهد ديوقليطيانُس(113)، الرسالة الثانية والأربعين (كان العيد في 28 آذار 370)، انتهى النصّ القبطيّ مع الرسالة الثالثة والأربعين التي تحدّثت عن عيد وقع في 17 نيسان سنة 371. وانطلقت من رسالة بولس الأولى إلى الكورنثيين. فنقلتنا من العهد القديم إلى العهد الجديد: الفصح فصحنا، ودعوتنا في الصلاة، ومدينتنا في السماوات(114).

بعد أن ذكرنا هذه الرسائل، هل نستطيع القول أنّه وُجدت مجموعة تضمّ رسائل أثناسيوس الفصحيّة، حسب الترتيب الكرونولوجيّ؟ لا شك في ذلك. فالقدّيس إيرونيمُس الذي توفي سنة 419-420، يورد بعض أعمال أثناسيوس في »الرجال العظام«(115) ويذكر »الرسائل العيديّة«(116). وعاد تيموتاوس إيلورس(117) إلى الرسائل فاستقى منها ما استقى. واستعمل سويريوس الإنطاكيّ(118) (+538) مجموعة تدلّ بدقّة على بداية الرسالة وعلى رقمها في السلسلة. وأشار كوسماس إنديكوبلوستيس(119)، في منتصف القرن السادس في إيراد نصوص رسائل العيد هذه الى رقم الرسالة.

هل عاد سويريوس إلى المجموعة السريانيّة، أم نقل ما ورد عن النّص اليوناني؟ هذا ما لا نقدر أن نقوله. ولكن في أي حال، وُجد النقل السريانيّ الذي نشره كيورتون(120) عن المتحف البريطانيّ، رقم 14569، قبل القرن الثامن. ولا شيء يمنع من أن نكون أمام نسخة لنصّ نُقل قبل ذلك الوقت. وإذا كان السريان اهتموا باكرًا بهذه »الرسائل«، فكم يكون اهتمام الأقباط كبيرًا، لا سيما وأن هذه الرسائل كُتبت لأجلهم، فتسلّمتها كنائسُ مصر وأديرتها، وتلتها تلاوة علنيّة أمام المؤمنين لتعلن لهم بداية الصوم وزمن عيد الفصح. وبما أنّ مجمل شعب مصر لم يكن يفهم اليونانيّة(121)، وجب ربّما على أثناسيوس أن ينقل رسائله الفصحيّة إلى القبطيّة(122).

بعد هذه الإطلالة على رسائل أثناسيوس كما وصلت في اللغة القبطيّة، نقدّم رسالتين هامّتين. الأولى تورد قانون (أو اللائحة القانونيّة) الأسفار المقدّسة. والثانية تقدّم شرحًا عن عيد الفصح في إطار الكتاب المقدّس.

ب - الرسالتان 39، 42

أوّلاً: الرسالة التاسعة والثلاثون(123)

في تلك السنة، كان العيد في الأوّل من نيسان سنة 367. يوم كان لوفيفينيقُس ويوبينُس قنصلين وفروقليانُس حاكمًا في مصر... حين كان أثناسيوس في رومة، طلب منه الإمبراطور قونسطانس أن يقدّم لائحة بالأسفار المقدّسة، بسبب تكاثر الكتب المنحولة التي نشرها الميليتيّون في كلّ مكان.

»أمّا الآن، فنحتفل أيضًا بالعيد حسب تقاليد آبائنا. نحن نمتلك الكتب المقدّسة التي تكفينا وتعلّمنا العلم الكامل. فإن قرأناها بتمعّن ونيّة صادقة، نكون مثل ''هذه الشجرة التي تنمي على مجرى المياه، وتعطي ثمارها في وقته، ولا تذبل أوراقها'' (مز 1: 3).

»ولكن بما أنّ الهراطقة بلداء، وبما أننا نحن نمتلك الكتب التي هي نعمة الله من أجل خلاصنا، أضاف بسبب شرّ البشر، فضلّ البسطاءُ عن البراءة والخلوص الذي يقود إلى المسيح (2 كور 11:3)، كما كتب بولس إلى الكورنثيّين، ويشرعون في قراءة الكتب المنحولة، فيضلّون بالتسمية فيعتبرون هذه (= المنحولة) أسفارًا حقيقيّة. فأناشدكم أن تمتنعوا عنها. وانظروا إن كانت الكتب التي تعرفونها هي التي أوردها من أجل حاجة الكنيسة وحبٌّا لها.

»وإذ عزمتُ أن أذكرها، أعود إلى عبارة الإنجيليّ لوقا، فأتجرّأ، تحت حمايته، وأقول أنا أيضًا: ''بما أنّ البعض أخذوا يكتبون لأنفسهم كتبًا منحولة ومزجوها بكتب هي نفحة الله، ونؤمن أنّها سُلّمت إلى آبائنا على يد الذين كانوا منذ البدء شهود عيان وصاروا خدّام الكلمة، استحسنتُ أنا أيضًا العالم بهذا منذ البدء بأن أعلمكم، بناء على دعوة إخوة حكماء، بكتب قانونيّة نُقلت إلينا وآمنّا بأصلها الإلهيّ. فمن ضلّ يردّ على الذي أضلّه. والذي ظلّ معافى، يبتهج حين تُذكر أمامه الأسفار القانونيّة.

»كتب العهد القديم اثنان وعشرون(124). نُقلت إلينا كما كانت عند العبرانيّين وإليك ترتيب قراءتها وأسمائها: الأوّل التكوين. وبعده، الخروج(125)... وكتُبُ العهد الجديد التي لا نغفلها. الأناجيل الأربعة حسب متّى، حسب مرقس، حسب لوقا، حسب يوحنّا. ثمّ أعمال الرسل والرسائل الكاثوليكيّة السبع... تلك هي ينابيع. فمن عطش ينعم بالكلمات التي فيها، لأنّها تكرز بتعليم التقوى الذي فيها. فلا يُضِف عليها أحد ولا ينقّص. ففي شأنها وجّه الربّ توبيخه إلى الصادوقيّين قائلاً: ''ضللتم وما عرفتم الكتب ولا قدرة الله'' (مت 22: 29). ونبّه اليهود أيضًا قائلاً: ''ابحثوا في الكتب لأنّها تشهد لي« (يو 5: 39)(126).

ثانيًا: الرسالة الثانية والأربعون

»لم يحضّ الرسول الكورنثيّين وحدهم على الاحتفال بالعيد قائلاً: ''لا نعيّد بالخمر العتيق« (1 كور 5: 8)، فهذه الكرازة هي لفائدتنا العامّة وفائدة جميع القدّيسين. هذه الكرازة أعلنها موسى: ''هذا الشهر هو لكم بداية الشهور. هو الشهر الأوّل في السنة'' (خر 12: 2). والنبيّ أوصى أيضًا كيف يجب أن نعيّد، قال: ''يا يهوذا، احتفل بأعيادك وأوفِ نذورك'' (نا 1: 15). فإذا وجب علينا في كلّ وقت، كما يقول القدّيسون (هكذا أنشد لاسمك؟ يا إلهي، إلى دهر الدهور، وأوفي نذوري، يومًا بعد يوم، مز 61: 9)، فبالأحرى يجب علينا خلال الأعياد أن نعرض لله طلباتنا وندفع ديوننا بسخاء. فحين نسمع ''أنذروا وأوفوا للربّ إلهكم'' (مز 76: 12)، نجيب حالاً مع الذين قالوا في المزامير: ''أدخل بيتَك بالمحرقات'' (مز 66: 13). فنفّذ هؤلاء بدون تردّد، لأنّهم هتفوا بعد أن دخلوا: ''أذبح لك ذبيحة الحمد، وأوفي نذوري للربّ، في ديار بيت إلهنا، أمام شعبه كلّه، في وسطك يا أورشليم'' (مز 116: 17-18).

»تلك هي الطريقة التي بها نذر أبو الآباء يعقوب فقال: ''إن كان الربّ الإله معي، وإن حفظني في الطريق الذي أسير فيه، وإن أعطاني خبزًا آكله ولباسًا ألبسه، إن أعادني سالمًا إلى بيت أبي، يكون الربّ لي إلهًا وهذا الحجر الذي رفعته ذِكرًا يكون بيت الله، وأعطيكُ عشر كلّ الخيرات التي تعطيني'' (تك 28: 20-22)، وما تهامل. وحنّة أيضًا أعطت عن صموئيل ما نذرت به (1 صم 1: 12)(127)«.

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا في رسائل العيد كما وصلت إلينا من أثناسيوس، بطريرك الإسكندريّة في القرن الرابع. توقّفنا عند لائحة تتحدّث عنه منذ سنة ارتقائه السدّة الأسقفيّة حتّى وفاته سنة 373. وقرأنا الرسالة العاشرة التي ضاعت من كلّ النصوص سوى من السريانيّة. وانتهينا مع رسائل العيد كما حفظتها لنا اللغة القبطيّة. لا شكّ في أنّ الموضوع الأوّل هو عيد الفصح وتحديد تاريخه وكيفيّة الاحتفال به. ولكن من خلال هذه الرسائل الظرفيّة، نعرف الكثير عن أثناسيوس المدافع عن الأريوسيّة، عن أحوال كنيسة مصر. كما نكتشف أسماء القناصل والحكّام الذين دبّروا أمور مصر وليبيا والنوبة في ذلك الزمان. ولن تتوقّف رسائل العيد مع أثناسيوس، بل تتعدّاه إلى تيوفلُس، فتصل بشكل خاصّ إلى كيرلّس الذي احتفظ لنا التاريخ بتسع وعشرين رسالة قدّمت لنا هي أيضًا صورة عن كنيسة مصر في القرن الخامس، في خضمّ المجادلات الكريستولوجيّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM