الفصل الثالث عشر:دراسات العهد الجديد خلال القرن العشرين.

الفصل الثالث عشر:

دراسات العهد الجديد خلال القرن العشرين

نحاول في هذا المقال أن نقدّم ما وصلت إليه الدراسات في العهد الجديد، مع نظرة إلى المستقبل. ولكن كيف الإحاطة بما صدر من نتاج تفسيري وتأويلي خلال القرن العشرين؟ هناك عدد من الدراسات المختصّة بهذا المجال أو ذاك من الأبحاث. فإن أردنا أن نجمعها، كانت أمامنا دائرةُ معارف واسعة. لهذا، فالمهمّة التي أمامي فيها بعضُ التهوّر والجسارة، وقد يعتبرني بعضُهم غيرَ واع للأمور. ففي مجال الطبّ، يعودون إلى طبيب عام من أجل فحص إجماليّ للمريض، قبل الوصول إلى الأخصائيّين. في هذه الروح، أخاطر وأكتب. وأحاول أن أكون رجل حوار فلا أنسى ما قالته الكنائس المتعدّدة في هذا المجال الذي عرف الصراعات العديدة خلال القرن العشرين.

1- قمة النهج النقدي التاريخيّ

كانت بداية القرن العشرين قمّة ديانة التطوّر التي ألهمت الحقبة السابقة، و»الزمنَ الحلو« الذي ظنّ فيه الإنسان أن العالم يقدر أن يحلّ جميع المسائل، والذي فيه اعتبرت بلدانُ أوروبا أنها تحمل فضائل المدنيّة إلى الشعوب. في هذا الزمن، نعمت العلومُ التأويليّة بهذا المناخ الذي »يحمل السعادة« حسب اعتبار الكنائس البروتستانتيّة. فكما سيطرت سيطرة تامّة نظريةُ المراجع الأربعة(1) في البنتاتوكس(2) مع غراف وولهاوزن(3)، سيطرت نظريّةُ الينبوعين(4) في دراسة الاناجيل الإزائيّة.بدا إنجيلُ مرقس الأساس الأقوى لكتابة »سيرة يسوع«. ولكن هارناك(5) عاد إلى »عظة الجبل« وكما وردت في انجيل متّى (ف 5-7) ليكتشف جوهر المسيحيّة. هي ديانة تعلّق نبويّ بالله الآب المملوء رحمة. هي ديانة الصلاة في الروح والحقّ، بعيدًا عن العقائد المهلنية(6) في الكنيسة الكبيرة، وعن الطقوس الليتورجيّة التي عفّاها الزمن. في هذه الرسمة السريعة، ظلّ التفكير حول البُعد اللاهوتيّ للعهد القديم غير مدروس بما فيه الكفاية. فالعهد القديم إرث ثقيل يجب أن نتخلّى عنه، في خطى مرقيون(7)، وهذا ما فعله هارناك(8).

ولكن جاء من يضع البلبلة. فالتيّار الاسكتولوجيّ الذي يشدّد على زمن النهاية، مثَّله فايس(9) وتوسّع فيه بشكل خاص شوايتزر(10). انطلق هذا المفسّر الالزاسي من قول مت 10:23 حول مجيء ابن الإنسان، قبل نهاية الرسالة في الجليل، فعارض كلَّ المعارضة موقفَ التأويل المتحرّر(11). ففي نظره، أراد يسوع أن يتحدّى عَجَلة القدر، فقدّم نفسه للموت. ولكنه فشل. ففي دراسة طويلة حول »تاريخ« سيَر يسوع، لاحظ هذا الكاتب، في الوقت عينه، ضعف هذه المحاولة حيث جاء كل مؤلِّف يعيد »تكوين« يسوع حسب نظرته الخاصّة، بحيث يفرض فكرَه على الانجيل.

وستبقى المسألة الاسكاتولوجيّة مثارَ جدل طوال القرن العشرين(12). فأصحاب الاسكاتولوجيا »اللاحقة«(13) يرون في يسوع، كما في يوحنا المعمدان، النبيَّ الذي يُعلن النهاية القريبة جداً. تجاه هؤلاء، دافع دود(14) عن الاسكاتولوجيا »المحقَّقة«(15): إن الملكوت الذي حقّقه يسوع هو حاضر هنا منذ الآن، بفعل كرازته وانتصاره على الشيطان. وتحدّث كتّاب آخرون مثل يرامياس وكولمان(16) عن اسكاتولوجيا هي »في طريق التحقّق«(17). هذه العبارة الأخيرة، تتيح لنا أن نُبرز بُعدين اثنين: ما هو حاضر وقد تحقّق منذ الآن، وما لم يتحقّق بعد(18). كل هذا يميِّز التعليمَ الاجماليّ في العهد الجديد.

تلك كانت الوجهة البروتستانتيّة. ومن الجهة الكاثوليكيّة، كان لهذه النظرات الجديدة صدى كبير. فالتأويل الكاثوليكيّ الذي تحجَّر مدّة طويلة في التفسير التقليديّ، استيقظ من سباته بدفع من الأب لاغرانج(19)، مؤسِّس المدرسة البيبليّة في أورشليم سنة 1890. لقد بَعُد الزمنُ الذي كان المعلم يستطيع فيه أن ينتقل، دون أن يتعقّد، من العهد القديم إلى العهد الجديد، وينفتح على جميع المسائل التي يطرحها تقدّمُ العلوم الاركيولوجيّة ودراسة الآثار، والنقد الأدبي، انطلاقًا من نصوص لابيبليّة عرفتها الشعوبُ القديمة(20). سوف نعود إلى الدور الرئيسيّ الذي لعبته أولى المدارس البيبليّة المؤسّسة في فلسطين، والباقية قريبةً من الأزمنة القديمة بقاءً نسبياً. وما يدلّ على ذلك، هو الدراسات حول الجغرافيا والاتنولوجيا(21)، والصور الفوتوغرافيّة التي أخذت في ذلك العصر. فحدْسُ الأب لاغرانج كان واضحًا: يجب أن يُدرس الكتابُ المقدس في المكان الذي كُتب فيه، لكي نفهمه فهماً أفضل(22).

أما في باريس، فسيطرت شخصيّة ألفرِد لوازي(23). بدأ كأستاذ في المعهد الكاثوليكي. ولكنه أبعِد بسبب طروحاته وما فيها من مغامرات خطرة. أراد لوازي أن يردّ على هارناك، فنشر هذا الكتيّب الأحمر الذي كان بمثابة قنبلة في العالم الكاثوليكي: »أعلن يسوعُ الملكوت، فكانت الكنيسة«(24). وبرزت الأزمة العصرانيّة(25)، فجعلت التأويل الكاثوليكيّي يتحجّر خلال عشرات من السنين(26).

وفي عالم التأويل الإلمانيّ الذي سيطر في ذلك الوقت، توسّعت مدرسةُ ترتكز على تاريخ الديانات(27) مع بحّاثة كبار مثل رايتزانشتاين(28). المطلوب معرفة لديانات الشرق معرفة أفضل، ولاسيّما ديانات إيران، والأبحاث حول الغنوصيّة(29)، لكي نرسم لوحة واسعة تُتيح لنا أن نفهم التطوّر العام في الديانات القديمة، ونشرح أصول المسيحيّة في ارتباطاتها بالتيّارات المتعدّدة. ونورد مثلاً بوسيه »الربّ المسيح« (1913)(30)، الذي أراد أن يشرح عبارة يسوع كالربّ، فعاد إلى تأثير العبادات الهلنستيّة التي تُرفع إلى الملوك(31). هذا من جهة. ومن جهة ثانية، جاءت العبادات السّرانيّة(32) تشرح أصل الأسرار المسيحيّة، ولا سيّما المعموديّة والافخارستيا. ونورد مثلاً آخر: إن اكتشاف الكتابات المندائيّة(33)، التي هي بدعة عماديّة في بلاد الرافدين، أتاحت لبولتمان(34) نقطة ينطلق منها لكي يُلقي الضوء على خطب الوحي(35) التي عزلها من قلب الانجيل الرابع. عندئذ كان كلامٌ عن »الحمّى المندائيّة«. وسنحتاج إلى وقت طويل لنعود عن هذه المقارنات(36) المفرطة، التي استندت إلى مبدأ بسيط يصل بنا إلى السذاجة القائلة: بعد ذلك، إذن بسبب ذلك(37).

2- بين الحربين: المدرسة التكوينيّة(38) والتجديد اللاهوتيّ

قبل سنة 1920 بقليل، ظهر نهجٌ جديد لقراءة النصوص الازائيّة (متّى، مرقس، لوقا): نهج تاريخ الاشكال الأدبيّة(39). انطلق هذا النهجُ من نظريّة الينبوعين، فاهتمّ بما سبق تاريخَ الوحدات الصغيرة التي يمكن أن نعزلها من قلب الأناجيل، وأولها انجيل مرقس ومجموعة القولات(40). فالتحليل الأدبيّ يُتيح لنا أن نكتشف شكل (أو: الفن الأدبي) مختلف أقوال يسوع (أقوال اسكاتولوجيّة تحكي عن النهاية، أقوال حكميّة...) والأخبار الاولانيّة: قولٌ يُجعل في خبر يشكّل له إطارًا، ليُبرز كلام المعلّم، أو، خبر أوسع يدلّ على اهتمام سيرويّ أو أخبار معجزات. أو رواية مثل العماد والتجلّي وأخبار الظهور.

أما الكاتب الذي قدّم أكثر النظرات شموليّة في هذا المضمار، والذي أثَّر تأثيرًا حاسمًا على عدد من الأجيال الباحثة، فهو رودولف بولتمان(41). أما ديباليوس(42) فأبرز أهميّةَ الكرازة كمولِّدة لمختلف الفنون الأدبيّة في الأناجيل وفي أعمال الرسل. ولكن كتابه لم ينتشر، شأنه شأن كتاب بولتمان، وهذا أمرٌ يُؤسف له. ما طُلب هو الترتيب الأدبيّ للأشكال الأولانيّة، وفي الوقت عينه اكتشاف تجذّرها في حياة الجماعات الأولى، وموقعها في الحياة اليوميّة(43): هي جدالات، أقوال للبناء، صلوات...وهكذا دعتْنا دراسةُ النصوص إلى معرفة الجماعات، على أنها انتجت نصوصَ العهد الجديد. وبدا أن معرفة تعليم يسوع وعمله، غابا في الضباب. وهناك كتاب يدلّ دلالة ساطعة على هذه الأزمة: يسوع بولتمان(44) الذي نُقل إلى الفرنسيّة بعد ستين سنة على تدوينه، مع مقدّمة ملحوظة.

ولكن كان أوسكار كولمان أول من قدّم للقرّاء الفرنسيّين أبحاث المدرسة التكوينيّة في وجهها الايجابيّ(45). رأى فيها، بشكل خاص، اكتشافًا جديدًا للتقليد. ولكنه ما عتّم أن انفصل عن هذه المدرسة الجديدة انفصالاً جذريًا، فراح يبحث في تاريخ الخلاص ونهية الزمن عند يسوع، عن انتظار نهاية قريبة يتضمّن إرادتَه بأن يكوِّن كنيسة.

وجاءت المعارضة اللافتة، في المانيا، لطروحات بولتمان، من يرامياس الذي عرف المحيط الفلسطيني في زمن يسوع معرفةً كبيرة. ففي أبحاثه، حاول أن يكتشف الأقوال التي تفوّه بها يسوع(46) بفمه ووصلت إلينا كذلك. تكرّس جزءٌ كبير من عمله لدراسة الأمثال، وأقوال يسوع بعد العشاء السريّ، ولاهوت العهد الجديد. في انكلترا، استلهم تايلور(47) النهجَ الجديد باعتدال في تفسيره لمرقس الذي كان له أثر كبير. ومن الجهة الكاثوليكيّة، يجب أن ننتظر مقالات بانوا(48) في المجلة البيبليّة(49) لنكون أمام عرض إجماليّ ونقد متوازن لهذه المدرسة الجديدة. وفي كتاب ترك أثراً كبيرًا جدًا، عمل ليون ديفور(50) على جعل جمهور واسع يتعوّد على النظرة الجديدة دون أن يُهمل المعطى التاريخيّ.

ولكن لا بدّ من العودة إلى الوراء لكي نلاحظ تحولاً عميقًا في النظرات، غداة الحرب العالميّة الأولى (1914-1918). فهو يعود جزئيًا إلى تأثير فلسفة هايدغر: ماذا يعني النصّ بالنسبة إليّ، أنا الذي يقرأه اليوم؟ فالفسار(51) بدأ يدخل بقوّة في حقل الدراسات التأويليّة، في اتجاهين متعارضين كلَّ التعارض. فسارٌ وجوديّ(52) بحسب بولتمان، يتوخّى أن يُبرز جذريّة الإيمان كمجرّد قبول لكرازة الصليب، وهي كرازة تفرض على الانسان أن يتخلّى عن كل اكتفاء ذاتيّ، عن الكبرياء(53) اتي ندّد بها بولس مرارًا واعتبرها الخطيئة الرئيسيّة، وأن يستسلم كليًا للكلمة التي تَدين وتخلّص. إن المواضيع الكبرى في المعتقدات اللوتريّة هي حاضرة هنا ضمنًا، مع اختلاف رئيسيّ وهو أن لوتر لم يشكّ يومًا بتاريخيّة الأناجيل، ساعة رأى بولتمان أن الايمان المجرَّد، يجب أن لا يرتكز على شيء إلاّ على الكلمة. وهكذا كان الطلاقُ تامًا بين التاريخ والايمان.

وبيان كارل بارت(54) في مقدّمة الطبعة الثانية لشرح الرسالة إلى الرومانيين، يستحقّ أن يرِدُ هنا، لأنه سبّبَ تحوّلاً في النظرة لدى عدد من الشرّاح: »إذ أتتبّعُ بانتباه وعرفان جميل المؤرخّين ما داموا يهتمّون بهذه المحاولة الاولانيّة من الشرح... يأخذني العجبُ دومًا أمام تواضع تأكيداتهم، حين أتطلع إلى محاولاتهم لكي يُدركوا فهمًا وشرحًا في كل معنى الكلمة«(55).

التعلّق بالغرض(56) أي المضمون الوضعيّ للايمان، كان التوجّهَ الجديدَ الذي يفسّر ازدهار محاولات لاهوتيّة للعهدين القديم والجديد، بين الحربين العالميّتين(57). في هذا الإطار، وُلد القاموس اللاهوتيّ(58) الذي نشره كيتال(59)، فكان له الأثرُ الكبير، ولا سيّما حين نُقل إلى الانكليزيّة والايطاليّة، إلى يوم أطلق بار(60) نقدًا لاذعًا لنهجٍ استند بشكل مفرَط إلى علم الألفاظ(61). وشهدنا في الوقت عينه، أقلّه عند بعض الشرّاح، لأن بولتمان ظلّ في خطّ هرناك، إعادةَ الاعتبار إلى العهد القديم والعالم اليهوديّ، وذلك في تعارض تامّ مع الدعاوة الهتلريّة. فالتعارض العقائديّ بين الشريعة والانجيل، منع البحّاثةَ من تقدير العالم اليهوديّ تقديرًا صحيحًا.

ونورد في هذا السياق الأزمة اللاهوتيّة حول نزع السطر(62)، كما حاول أن يفعل بولتمان في الاربعينات. ونحن نجعل في مقولة السطرة إعلانات الايمان الجوهريّة، مثل نزول الكلمة بيننا، الكلمة الذي صار بشرًا، القيمة الفدائيّة لموت المسيح وقيامته(63). فوراء العبارات الصادمة لدى بولتمان، نقصَ تفكيرٌ أساسيّ حول قيمة الرمز الذي يوجّهنا إلى ملء المعنى الذي يجب دومًا أن نتعمّق فيه، عبر واقعيّة(64) خام لا نستطيع مرارًا أن نُدركها. في هذا المجال، جاءت مؤلّفات غادامر وريكور(65) تحمل تطوّرًا حاسمًا من أجل تأويل مسيحيّ حقيقيّ.

والرسالة حول »الفيض الالهيّ«(66) التي بعث بها البابا بيوس الثاني عشر، في قلب الحرب العالميّة الثانية (سنة 1943)، دلّت على تحوّل لافت لدى السلطة التعليميّة الكاثوليكيّة بالنسبة إلى التفسير التاريخيّ النقديّ(67). فبعد الشجب والاحكام القاسية مع العصرانيّة، كان تشجيعٌ للمفسّرين، كما كان وصفٌ منفتح للمهام التي يجب أن يقوموا بها: عودة إلى النصّ الأصليّ، دراسة المحيط التاريخيّ، تحديد الفنون الأدبيّة باللجوء إلى نصوص الشرق القديم. وهكذا انتصر الأب لاغرانج بعد موته! أما المدى الذي غطّته الرسالة البابويّة، فقابل بشكل رئيسيّ، دراسة العهد القديم. ولكن لم تتطرّق الوثيقةُ إلى أسئلة جديدة طرحتها القيمة التاريخيّة للأناجيل ومحاولة نزع السطر. ومع ذلك يبقى أنه يجب أن نشدّد كثيرًا على أهميّة هذه الرسالة التي حرّرت المفسّرين الكاثوليك، وفتحت الطريق أمام سلسلة من الأعمال القيّمة في البلدان اللاتينيّة ذات التقليد الكاثوليكيّ، وفي الولايات المتّحدة، وفي كندا... هنا نتذكّر بيبليا أورشليم(68) التي تُرجمت إلى لغات عديدة، واستفاد منها المترجمون للكتاب المقدّس في اللغة العربيّة.

وهكذا فالاختلاف بين المفسّرين لن يرتبط بعدُ بأسس طائفيّة (كاثوليك، بروتستانت)، بل باختيار النهج الذي يأخذُ به الباحث. ونودّ هنا أن نسبِّق بعض الشيء على ما سوف نقوله، فنذكر الاهمية الكبيرة للدستور العقائديّ حول الوحي الالهيّ(69) كما ورد في المجمع الفاتيكاني الثاني. من جهة، ترك المجمعُ نظريّة مصدرَي الوحي، وأخذ بنظرة ديناميكيّة إلى التقليد كوديعة وحيدة لكلام الله، تتضمّن الأحداث والأقوال التي ارتبطت بعضُها ببعض ارتباطًا وثيقًا، وسُلّمت إلى الكنيسة(70). ومن جهة ثانية، دعا المجمعُ المؤمنين إلى أن يتجاوزوا المفهوم السلبيّ لعصمة الكتب المقدّسة، ويأخذوا بنظرة إيجابيّة إلى حقيقة الكتاب المقدس من أجل خلاصنا(71): نحن هنا أمام تعبير ناجح يُتيح لنا أن نتفلّت من فخّ التوافقيّة(72) وفخّ الاصوليّة.

3- اكتشافات هامّة وتجديد الأساليب

وجاءت السنوات 1950-1960 غنيّة جدًا. نشير أولاً إلى اكتشاف مخطوطات البحر الميت، مع التعرّف إلى جماعة من النمط الرهبانيّ، اهتمّت بتهيئة طريق الربّ في حفظ الشريعة حفظًا ورعًا، حسب تعليم معلّم البرّ، وبانتظار تدخّل الله العظيم. ومع اكتشافات لفائف كاملة أو أجزاء بسيطة، ومع تنقيبات تمّت بقيادة الأب ده فو(73)، رئيس المدرسة البيبليّة، تكاثرت الأبحاثُ مع تواجهات عنيفة بين الباحثين. في العالم الفرنسي نذكر دوبون سومر(74) الذي تعرّف إلى الاسيانيّين(75) من خلال جماعة قمران مستندًا بشكل خاص إلى نظام الجماعة(76). غير أنه خاطر حين رأى في معلّم البرّ صورةً أولى عن المسيح. ولكن بعد الحماس الذي رافق البدايات، صار النقد أكثر فطنة والمواقف أكثر اعتدالاً(77).

لا نستطيع أن نقلّل من أهميّة ما نُشر عن قمران بالنسبة إلى التأويل البيبليّ. أولاً، من جهة النقد النصوصيّ في العهد القديم، مع مخطوطات سبقت المخطوطات الماسوريّة(78) بعشرة قرون من الزمن(79). بين هذه النصوص لفت تفسيرُ(80) حبقوق الانتباهَ بشكل خاصّ. فبعد أن ترد الآية، يُعطى تفسيرٌ يؤوّنها على ضوء تاريخ الحركة الاسيانيّة في صراعها بين الكاهن الكافر ومعلّم البرّ. وكانت مخطوطات أخرى من النوع عينه، ولكنها تشوّهت كثيرًا، وهذا أمرٌ يُؤسف له. هذا الاسلوب ساعد على فهم الطريقة التي بها فسَّر كتّابُ العهد الجديد نصوصَ العهد القديم. ثم إن هناك عددًا من عبارات العهد الجديد، مثل »أبناء النور وأبناء الظلمة«، »روح الحقّ وروح الكذب«، »صنع الحقّ«، »بليعال«... نقرأها في هذه النصوص التي اكتشفناها في قمران. وهكذا لم نعد بحاجة لعودة إلى المندائيّة حتّى نُلقي الضوء على الانجيل الرابع(81).

وارتبط كلُّ هذا بدراسات أخرى، بحيث برز طرحٌ يتحدّث عن أكثر من فكر يهوديّ، قبل دمار الهيكل سنة 70، وسيطرةِ الاتجاه الفريسي بعد أن زالت سائرُ الاتجاهات. لهذا، لا بدّ من إعادة النظر في دراسات مفصّلة(82) على ضوء هذه المعطيات الجديدة. ولكننا لا نستطيع أن نُسقط(83) نظرات العالم الرابيني، في المشناة والتلمود، على حقبة العهد الجديد، دون جدال دقيق(84).

وبرز حقلٌ جديدٌ للدراسة: الترجوم الذي هو ترجمة موسّعة في الاراميّة، تتوخّى شرح النصّ المقدّس في المجامع. كانت نقطةُ الانطلاق من ظهور مخطوط نيوفيتي(85): تاريخه المتأخّر لا يمنع أن يقدّم لنا كامل الترجوم الفلسطيني للبنتاتوكس، الذي لم نكن نعرف منه حتّى الآن سوى مقاطع نشرها كاهلي(86). وقد درس مخطوطَ نيوفيتي ديازماشو(87) وتلاميذُه في اسبانيا، وروجيه لوديو(88)، الاستاذ في المعهد البيبليّ في رومة.

وهناك اكتشاف لا يقلّ أهميّة عن اكتشاف قمران، وإن لم يُعرَف مثله، هو اكتشاف لفائف المكتبة الغنوصيّة في نجع حمادي(89). تأخّر نشرُ هذه النصوص، مع أنها كانت مهمّة. كنّا قد عرفنا الغنوصيّين بشكل رئيسي، في ردّ آباء الكنيسة عليهم. ولكن بعد اليوم، نستطيع أن نقرأ مؤلّفاتهم بما فيها من تنوّع عجيب. هذا يعني أن الجدال حول مسألة العلاقات بين الغنوصيّة والمسيحيّة، يجب أن يُعاد النظر فيه من جديد، وهذا يعني أن العمل لم يتمّ بعد. واكتشاف »انجيل توما« بشكل خاص، وهو مجموعة من 117 قولاً سريًا ليسوع، جاء يُطلق من جديد مسألة البحث عن يسوع التاريخيّ.

قبل أن نتطرّق إلى هذه النقطة، يجب أن نلاحظ التوجّهَ الجديد في دراسة الأناجيل الإزائيّة. جعلت المدرسةُ التكوينيّة من الانجيليّين مجرّد جمّاعيّ(90) وحداتٍ صُنعت قبلهم. ولكن التأويل انطلق مع ماركسن(91) بالنسبة إلى انجيل مرقس، ومع بورنكام(92) بالنسبة إلى انجيل متّى، ومع كونزلمان(93) بالنسبة إلى انجيل لوقا. توجّه شيئاً فشيئاً نحو تاريخ »التدوين«(94) أي الطريقة الخاصة بكل انجيليّ والتعليم المحدّد في إعادة كتابة المعطى التقليديّ(95). وكشف ليون ديفور(96) للقرّاء الفرنسيين خصبَ هذا النمط من الدراسات. وإبرازُ عمل لوقا الأدبي (لو + أع) كان بشكل خاص موضوع أبحاث رفيعة(97). واليوم، أخذ الشرّاح ينكبّون على لاهوت كل من الانجيليّين، وما عادوا يهتمّون بما فيه الكفاية، بالشهادة حول يسوع التاريخيّ.

ومع ذلك، فالمسألة كانت قد انطلقت من جديد سنة 1953، مع محاضرة كازمان(98)، تلميذ بولتمان، الذي تجرّأ أمام شيوخ ماربورغ(99) فشكّ في مبادئ المعلّم. كان ذلك بداية ما يُسمّى »البحث الثاني عن يسوع التاريخيّ«(100). قال كازمان: المسيحيّة الأولى »تشهد أن التاريخ(101) الماضي هو حيّ وآنيّ، فتنطلق من خبرتها الشخصيّة، وتفسّر ما صار اليوم لها تاريخاً(102)، فتستفيد، لأجل ذلك، من التاريخ على أنه وسيط«. لا شك في أن لا وجود لأمور خام، بل هي تفسيرات. غير أن هذه التفسيرات تدفعنا إلى العودة إلى الينبوع.

حين أراد كازمان أن يعود إلى يسوع التاريخيّ، طرح معيار عدم التواصل كطرْح جوهريّ. يمكن أن نعتبر معطى انجيلياً من المعطيات صحيحاً حين لا يمكن أن نحصره في نظرات العالم اليهوديّ أو نظرات الكنيسة الأولى. غير أن هذا المعيار وحده، لا يترك سوى ما يجعل من يسوع شخصاً منعزلاً، ومنقطعاً عن اصله وعمّا يتبعه. وخلال ما يُسمّى البحث الثاني عن يسوع التاريخيّ، لا بدّ من تصحيح معايير الصحّة وتوسيعها. ومن اللافت أن نلاحظ في هذا المجال الاتّفاق العميق بين كتّاب معاصرين مثل براون، فوسكو، مارغارا(103). فيجب أن نضيف على معيار اللاتواصل، في ما نضيف، معاييرَ الشهادات العديدة والمعقوليّة التاريخيّة. ونضيف أنه في العالم البولسيّ، أثّر كازمان تأثيراً عميقاً بدراسة حول جسد المسيح، ففتح الطريق إلى نظرة جماعيّة وكونيّة إلى الخلاص. وكان رفدٌ آخر حمله هذا الكاتب: أهميّة الإطار الجليانيّ(104) على أنه »والد اللاهوت«. هذه العبارة تفترض تحديداً لما نعنيه بالجليانيّ. فمن الأفضل أن نحتفظ بالعبارة كفن أدبيّ، ذات حدود واسعة، كما قال كولينس(105) وغيره.

وبدا كازمان جريئاً في نقطة أخرى، فاكتشف آثار المسيحيّة الاولانيّة(106) داخل العهد الجديد نفسه(107). فميزاتُ »الكنيسة الكبرى« التي لا تُعرف قبل القرن الثاني، حسب هارناك، هي حاضرة منذ الآن في العهد الجديد. مثلُ إعادة النظرة هذه إلى التاريخ، فرضت حكماً لاهوتياً، وهو تثبيت قانون(108) داخل العهد الجديد نفسه. أمّا المعيار الحاسم للتعرّف إلى الإنجيل الحقيقيّ، فهو تبرير الكافر(109). ما خاف كازمان يوماً من المفارقات، فأكدّ أن انجيل يوحنا، ذات اللاهوت الظاهريّ(110)، أدخِل في القانون بخطأ بشريّ، ولكن عناية الله(111) هي التي فعلت.

عرفت مؤلّفات كازمان انتشاراً واسعاً، حتى خارج عالم التفسير الكتابيّ، وهذا ما نلاحظه في تكاثر الكرستولوجيات(112) في النصف الثاني من القرن العشرين. نكتفي هنا بالإشارة إلى ما كتبه باننبرغ وسكيلابكس(113).

وشهدنا في الخمسينات إعادةَ الاعتبار للانجيل الرابع على مستوى التاريخ(114). فالبُعدان الرمزيّ واللاهوتيّ للمؤلَّف الذي نُسب إلى يوحنا الرسول، ألغياه على أنه ينبوع ممكن من أجل تاريخ يسوع(115). ولكن بعد سنة 1960، جاءت اعتبارات أكثر تفصيلاً ودقّة، بتأثير خاص من دود ومن بوامار(116). اختلف هذا عن دود الذي قرأ النصّ كما يبدو في وضعه الحاضر، فاستلهم أعمال النقد الأدبيّ(117) الذي برز في بداية القرن العشرين، فطرح توزيع النصّ في أربع طبقات(118)، حسب مبادئ تختلف عن مبادئ بولتمان. فنسب إلى الوثيقة الأقدم، ذات المعطيات الطوبوغرافيّة(119) والكرونولوجيّة(120)، أصلاً فلسطينياً وقيمة تاريخيّة. وفي خطى أعمال بحّاثة أميركان(121) بدا تاريخُ الجماعة اليوحناويّة، شيئاً فشيئاً، مفتاحَ تفسير للكتابات التي ترتبط بها(122)، هذا مع العلم أن سفر الرؤيا يشكّل عالماً خاصاً يفتحنا عليه، في ما يفتحنا، دراساتٌ معاصرة تركها فوييه، فاني، بريجان(123).

واغتنى النقدُ النصوصيّ(124) ببرديّات عديدة، ولا سيّما برديات بودمر(125). فنشْرُ البردية 66 والبردية 75، بشكل خاص، دلّ على وجود نصّ سُميّ »الاسكندرانيّ«(126)، منذ سنة 200، في مصر. والمدافعون عن النصّ الغربيّ(127)، الذي نجده بشكل خاص في الكودكس البازي(128)، ولا سيّما في ما يتعلّق بأعمال الرسل(129)، لم يرموا سلاحهم، رغم كل ذلك، لأن القرن الثاني بدا، شيئاً فشيئاً، على أنه الحقبة المفتاح حيث يتداخل نقلُ النصّ المكتوب والتقليد الشفهيّ. لقد كان النص »في حريّة مراقَبة«، كما قال فاغاناي(130) فنجح في ما قال.

4- تفرّق النهوج(131)

كما في المجال الأدبيّ والتاريخ، بشكل عام، شهدنا تخصيصاً راح يندفع شيئاً فشيئاً، وتفرّقت النهوجُ، بحيث صار من شبه المستحيلات أن نقدّم نظرة عامة إلى الوضع. فبين اعادات طرح الأمور اللافتة، نلاحظ رفض النقد الأدبيّ الكلاسيكيّ، من أجل إبراز النصّ كنصّ. فبعد البحث الميأوس عن نصّ أولانيّ(132) تكون له وحدَه قيمةٌ من الوجهة التاريخيّة واللاهوتيّة، أراد النقد الجديد أن يرتبط بعلم دراسة اللغات(133) في خطى سوسير(134) والدارسين الروس للمبنى، ويتوقّف عند النصّ في ذاته، فقال: »لا خلاص خارج النصّ«(135). هذا الاتّجاه الجديد ازدهر ازدهاراً خاصاً مع الدراسات السيميائيّة(136) أو الرموزيّة التي انطلقت في فرنسا، حسب نظرة غرايماس(137)، ولا سيّما في ليون (فرنسا) مع مركز تحليل الخطبة الدينيّة(138) الذي ينشر مجلّة اسمها »السيميائيّة والبيبليا«(139). وفي بلدان أخرى، مثل المانيا والولايات المتّحدة(140)، كانت أبحاثٌ مماثلة، مع نهوج مختلفة. وبمختصر الكلام، سيطرت السنكرونية، منذ الآن، على الدياكرونيّة(141).

وإذا أردنا أن نعطي لمحة عن وضع المسائل المطروحة في نهاية القرن العشرين، نستطيع أن ننطلق من وثيقة أصدرتها اللجنة البيبليّة الحبرية بعنوان: تفسير البيبليا في الكنيسة(142). عرضت هذه الوثيقةُ مختلف حقول البحث الحاليّ، وقدّمت توجّهات سوف تقودنا في اعتباراتنا في نهاية المقال. ميّزت »اللجنة« بين »النهوج« و »المقاربات«. فالنهج يضع موضع العمل مجموعة من المحاولات حسب ترتيب منهجيّ وقواعد يقبل بها المفسّرون الذين يمارسونها. مثلاً، النهج التاريخيّ النقديّ(143) برهن عن جدّيته وإن ظلّت بعضُ النتائج مثار جدل. مثلاً، الجدال حول نسبة الرسالة الكولوسية إلى بولس الرسول يبقى مفتوحاً. أما الرسائل الرعائية، فهناك توافق يجعلها في السنوات 80-90. هذا النهج الذي يختلف كل الاختلاف عن الاصوليّة(144) التي ما زالت حيّة في العالم الاميركيّ، يتوافق مع ما يطلبه الفكرُ المعاصر الذي يهتمّ باحتمالات(145) التاريخ أكثر ممّا يهتمّ بالتأكيدات التقليديّة. وفي الوقت عينه يتوافق مع ميزة الوحي البيبليّ الذي يقول إن كلمة الله لا تكون خارج الزمن. هذا ما تعبّر عنه الرسالةُ إلى العبرانيين فتقول: كلّم الله البشر مرّات كثيرة وبأشكال متنوّعة قبل أن يتفوّه بكلمته النهائيّة في شخص المسيح.

فالتحليل الأدبيّ الذي هو تقليديّ في حدّ ذاته، قد اغتنى بأدوات عديدة. فالبلاغة التي من النمط اليوناني واللاتيني كانت مفيدة لدراسة رسائل القديس بولس وبعض مقاطع من أعمال الرسل. والبلاغة البيبليّة تنبّهت إلى الأشكال الشعريّة للمزامير والتأليف بشكل تصالب أو تعاكس(146). والتحليل السيميائيّ عرف عزّه في السبعينات(147). وفي منظار العودة إلى النصّ كنصّ، توسّع التحليل السرديّ أولاً في الولايات المتحدة قبل أن يعرف نجاحاً متنامياً. فأهميّته تقوم في أنه يعيد الاعتبار للنصّ على أنه حاملُ معنى(148)، شرط أن لا نُهمل المرجع(149) التاريخي.

وجاءت »المقاربات« في »تفسير البيبليا في الكنيسة« أقلّ نهجيّة، فتوخّت أن تقيم تبادلاً واتصالاً بين النصّ البيبليّ وبعض العلوم الانسانيّة: التحليل النفسي حسب نظرة فرويد مع فرنسواز دولتو(150)، حسب نظرة يونغ مع اوجين دراورمان(151)، السوسيولوجيا أو علم الاجتماع مع تايسن(152)، الانتروبولوجيا الحضاريّة... وارتبطت مقارباتٌ أخرى بمراكز اهتمام تُشرف على قراءة البيبليا: مثلاً، مكانة المرأة، التوق إلى التحرّر. هذه الأنماط المقاربيّة تتجدّد باستمرار، ولكنها تحمل خطراً يقوم في أن طريقة طرح السؤال على النصّ تتحكّم مسبقاً بالجواب. وقد تنسى المعطى البيبليّ بعض الشيء، وتنسى أننا أمام الآخر الآخر، أي الله.

وتكرّس القسمُ الثاني من هذه الوثيقة (تفسير البيبليا) لمسألة الفسار التي هي آنيّة حارة. نلاحظ المديح الذي ناله بول ريكور على عمله(153): »نحتفظ أولاً من فكر ريكور الفساري، إبراز وظيفة التبعيد(154) كمقدّمة ضروريّة لاحتياز(155) النصّ وامتلاكه«. فبعد عمل التحليل الأدبيّ والتاريخيّ، »لا يمكن لمعنى النصّ أن يُعطى في ملئه إلاّ إذا تأوّن  في عيش القارئ الذي يحتازه. هكذا تجعلنا اللغةُ البيبليّة نفكّر، وهذا التفكير يقودنا بشكل طبيعيّ لنستعيد بأسلوب جديدة مسألة »معاني الكتاب المقدّس«. وهكذا نعارض الوضعيّة(156) التي تريد أن تسجن المعنى في أغلال نظرة تاريخيّة مغلقة على ذاتها(157)، فتستعيد فتْحَ النصّ على حياة الجماعة المؤمنة، وعلى المستقبل.

5- نظرات مستقبليّة

يشكّل البحثُ البيبليّ أمتن أساس من أجل نموّ الحركة المسكونيّة. فظهورُ تفسير حول الرسالة إلى رومة سنة 1967 كمحاولة أولى في الترجمة المسكونية للبيبليا يُعطي أفضل صورة عن ذلك(158).

أما المسائل التي ما زالت ساخنة حتّى اليوم، فهي أولاً ما يتعلّق بشخص يسوع نفسه. هناك مفكرون يهود(159) ربطوا يسوع بتقاليد شعبه. وقد قال بن خورين: »إيمان يسوع يوحّدنا، الايمان بيسوع يفصلنا«... ونشر كاتب يهوديّ آخر (مالكا) كتاباً بعنوان »يسوع كما أعيد إلى أخصّائه«(160). فوجهُ يسوع اليهوديّ يفرض نفسه كسمة مسيطرة في »البحث الثالث عن يسوع التاريخيّ«(161). والجدال بين يسوع التاريخ ومسيح الايمان يعود باستمرار(162). لسنا هنا فقط أمام مسألة تاريخيّة كُتب عنها الكثير، بل أمام مسألة لاهوتيّة(163). هل نستطيع القول مع بولتمان إن إعادة تكوين تعليم يسوع إعادة نقديّة هي مقدّمة، ولا تشكّل جزءاً من لاهوت العهد الجديد الذي أساسُه الكرازة(164) الفصحيّة، أم نرافق كولمان ويريمياس وغيرهما، فنجعل من تعليم يسوع أساسَ اللاهوت المسيحيّ؟ هل يستطيع اللاهوتي أن يكتفي بـ »ما«؟ أما يعنيه »ماذا«(165)؟ وبعبارة أخرى، هل يكفي أن نعترف أن المسيح مات لأجلنا؟ أما يجب أن نقول لماذا مات وكيف مات، لكي يُلزم تذكّرُ يسوع(166) التلاميذَ ويدفعهم إلى عمل شجاع(167)؟

ومسألة العلاقات مع العالم اليهوديّ اتّخذت أهميّة جديدة بعد الاضطهاد الهتلريّ: هل نستطيع أن نتّهم العهد الجديد بأنه مسؤول عن معارضة دينيّة لليهود، مميّزة عن عداء للسامية يعرفه العالم الحديث(168)؟ يجب قبل كل شيء أن نعيد النظر في أحكامنا حول العالم اليهوديّ في زمن يسوع، بعد أن توقّفنا عند التعارض بين الشريعة والانجيل. فجميعُ الدراسات التي سبق وأشرنا إليها تساعدنا. في الولايات المتحدة، بادر ساندرز(169) وقام بإعادة النظر هذه. هذا يعني أن  نظرة لوتر إلى موقف بولس من الشريعة، وُضعت من جديد على بساط البحث، ممّا يُشكّل نقطة حسّاسة في الدراسات حول تعليم بولس(170). غير أن هناك توافقاً حول توسّع ضروريّ في نظرات بولس حول السرّ كما نقرأه في روم 11، لكي نفهم استمراريّة العهد الأول وقيمة العالم اليهوديّ كشاهد لمواعيد الله، مع ما يجب أن نضيف لكي نكمّل(171).

وتُطرح مسألة ثانية هي مسألة العنف، ولا سيّما في معرض الكلام عن العهد القديم. وندهش كذلك ممّا يقوله سفر الرؤيا عن غضب الله(172). فهمه بعضُ القرّاء فهماً خاطئاً فاعتبروا نفوسهم أداة الله ضد »الكافرين«.

وتشكّل دراسة سفر الأعمال موضوعاً  آنيّاً. ما قيمة هذا الكتاب من أجل كتابة تاريخ الكنيسة الأولى؟ ما قيمة لاهوت يعتبره البعض لاهوتَ المجد، لا لاهوت الصليب(173)؟ ولكن عدداً من الكتّاب(174) أبرزوا قيمة ما كتبه لوقا في هذا المجال(175).

والحوار بين الديانات، كما نعرفه اليوم، يدعونا للرجوع إلى قول مركزيّ في العهد الجديد: المسيح هو الوسيط الوحيد. فإن كان هو الألف والياء، فكيف نتصوَّر عملَه خلال كل تاريخ البشريّة؟ هنا، لا بدّ من استعادة لاهوت الحكمة(176) لدراسة هذا الموضوع الذي يجب أن يقوم به دارسو العهدين القديم والجديد.

والعلاقة بين العهدين تشكِّل موضوعاً آخر من الجدالات الحامية. إن التعليم الجامعيّ وزّع الاساتذة مع خطر تخصّصٍ يجعلنا نجهل الوحدة الأساسيّة في البيبليا. فبشكل عام، لا يقدر أستاذ العهد الجديد أن يصرف النظر عن عمق العهد القديم، في دراسته لنصوص العهد الجديد. ولكن أساتذة العهد القديم يرفضون أن يتوسّعوا في نصوص العهد القديم بحيث تصل إلى العهد الجديد. من خلال هذا الوضع الذي نلاحظُ، يُطرح السؤال الأساسيّ حول القراءة المسيحيّة للعهد القديم. من هذا القبيل، نذكر طرح غوبلت(177) حول النمطيّة(178)، وما كتبه الأب غرالو(179) أو الأب بوشان اليسوعي(180) فلفتَ انتباهَ ريكور(181).

في مقال أحدث بعضَ الضجّة، تساءل درايفوس عن »التأويل في السوربون والتأويل في الكنيسة«(182). ففي مجتمعنا المُعلمَن(183)، أخذت أهميّة السؤال تتزايد شيئاً فشيئاً. هنا نشير إلى البلبلة الاعلاميّة التي أثارتها في الولايات المتّحدة »حلقة يسوع«(184). انتشرت هذه المجموعة بقوّة سنة 1985 مع فونك وكروسان(185)، وقدّمت اقتراحات نقديّة، واعتُبرت فرضيّاتها كأنها حقائق(186). وهكذا صارت البيبليا موضوعاً حضارياً وعالماً ثقافياً له أكثر من رنّة، ولكن لا بُعد وجودياً له(187). فالقارئ يهتمّ بفنّ الخبر أو بمعطيات تاريخيّة تأخذ مكانها في حقل معارفنا عن الشرق القديم، ولكنه لا يرى نفسه معنياً ببلاغ (بتعليم) يمكن أن تقدّمه البيبليا إلى كل انسان. فالقارئ لا يمكنه أن يرمي وراءه كلَّ ما اكتنزه البحثُ البيبليّ، كما لا يستطيع أن يكتفي به. هل يقول كما قال بيلاطس بلهجة متحرّرة من الوهم: »وما هي الحقيقة«؟

فحين يجهد المؤمن ليكتشف حقيقة النصّ الكتابيّ، لا يكون وحده. فحسب التقليد، تتمّ قراءةُ البيبليا في الجماعة، كما فعل آباء الكنيسة، الذين بدأ التأويلُ الكتابي يعودُ إليهم. ففي فرنسا، وبدفع من فونتان(188)، عادت الجامعة وفتحت ملفّ المسيحيّة الأولى. وفي هولندا، »فتحت« مورمان(189) مدرسة لدراسة »اللاتينيّ المسيحيّ«. وفي ستراسبورغ، نجد فريقاً كاملاً يعمل في »البيبليا الآبائيّة(190)«، فيجمع استشهادات الكتاب المقدّس التي وردت عند الآباء. كل هذا يقوم به مركزُ التحليل الآبائيّ والتوثيق. ومجموعة الينابيع المسيحيّة(191) التي انطلقت خلال الحرب العالميّة الثانية، تجاوزت 450 كتاباً. من وُجهة فسارِ الآباء، نذكُر ما ألّفه الأب ده لوباك عن اوريجانس ومعاني الكتاب الأربع(192). لا يُطلب من القارئ المعاصر أن يقبل، دون نقاش، تفاسيرَ الآباء الاستعارية(193)، ولكن يمكن أن نستفيد من حسّ حادٍّ لوحدة الكتب المقدّسة ولبحث عن الله الحيّ الذي يريد أن يقيم حواراً مع الانسان. لا يقدر أحد أن يظنّ أنه يصل إلى النصّ البيبليّ، بشكل مباشر، ويقفز فوق قرونٍ من الزمن. فسواء وعَيْنا الأمر أو ما وعيناه، هناك تقليد قراءة يقيم فينا فيحرّك فينا انجذاباً إلى الكتاب أو رفضاً له. لهذا ظهر اليوم عددٌ من الدراسات حول تاريخ تأثير النصّ على القارئ(194). في هذا المعنى، عمل التفسيرُ الانجيليَّ - الكاثوليكي في العهد الجديد(195)، وقدَّم بوفون تفسير انجيل لوقا(196).

ويمكننا أن نربط بهذا المجال الأعمالَ الجديدة حول السبعينيّة(197). فحسب طرح برتيليمي »نضجت البيبليا في الاسكندريّة«(198). وحول مرغريت هارل(199)، هناك فريق يعمل في ترجمة بيبليا الاسكندريّة، فيقدّم الحواشي مع إشارات مستفيضة حول استعمال فيلون وآباء الكنيسة لهذه النصوص.

وهناك مجال آخر يعرف انطلاقة رائعة: دراسة منحولات العهد القديم والعهد الجديد(200). لم تعد البيبليا القانونيّة منفصلة عن عدد من النصوص المختلفة التي وُلدت في العالم اليهودي وقبل حقبة الرابينيين، أو في الجماعات المسيحيّة التي ظلّت مكتومة. في هذه الظروف، تتّخذ دراسةُ قانون الكتب المقدّسة بُعداً خاصاً، لتُثبت، من جهة، لائحةَ الكتب التي اعتبرتها الكنيسةُ الأولى ملهمة، ولتُقيِّم، من جهة ثانية، المدلول اللاهوتي للقانون، أو لائحة الأسفار المقدّسة. مثلُ هذا الجدال له قيمته في إطار الحوار المسكونيّ(201).

وبعبارة أخرى، هي المسائل المعروفة، مسائل معنى (أو: معاني) الكتاب(202)، وقيمته كقاعدة إيمان وحياة، التي ستبقى موضوع بحث لمدّة طويلة. فيجب على المفسّر أن لا ينحصر في اختصاصه ليترك اللاهوتيّ وحده يناقش هذا الموضوع. فالموضوع خطير، وكلُّ باحث معنيّ به.

بعد هذه اللمحة الواسعة والسريعة، هل لنا أن نقول بعض تمنّيات من أجل المستقبل؟ إن نموّ المعارف وتحسّن النهوج والمقاربات، يجعل الاخصّائيّين يندفعون أكثر فأكثر في تخصّصهم. وفي الوقت عينه، وسائلُ الاتصال الجديدة واستعمال الكومبيوتر تُنمي كل يوم أكثر مدى التوثيق. فمن لا يحسّ أنه مسحوق! فهل نتشجّع ونمسك القلم ولا نكتفي بأن نجمع في مونوغرافيّات(203) ضخمة مجملَ ما كُتب عن الموضوع؟ وهل يستقيل الفكر الشخصيّ؟ ألا يتجرّأ الايمان بعدُ فيقدّم كلمةً تستند إلى البيبليا فتجيب على نداءات عصرنا؟

هذا يعني، أنه بقدر ما التخصّص يبدو ضرورياً، بالقدر عينه نحسّ بالحاجة إلى »باحث عام« ينطلق من وثائق موثوقة، فيربط الخيوط المتقطّعة والمتناثرة. وفي النهاية، إذا كانت البيبليا أكثر من كتاب أدب أو تاريخ، فيجب على المفسّر أن يقدّم للقارئ وللواعظ أساساً متيناً ليفكّر في إيمانه ويربطه بالمسائل المطروحة اليوم. وفي النهاية نورد قولاً قاله القديس غريغوريوس الكبير: الكتاب المقدس »ينمو مع الذين يقرأونه«(204).

وفي النهاية، ماذا نقول عن العالم الشرقيّ، العالم العربيّ؟ لا فكر أصيلاً عنده. فالجميع يعودون إلى ما أنتجه الغرب الفرنسي والانكليزي، ثم الايطاليّ والالمانيّ. أما البحث، فتوقّف مع الآباء في القرنين الرابع والخامس. ومن جاء بعدهم ظلّ يردّد ما قالوا. أما ندهش أن يكون ايشوعداد المروزي (القرن التاسع) ظلّ يقول ما قاله تيودورس، أسقف المصيصة، الذي سُمِّي المفسّر وكأن تفسيره كتاب مقدّس. وفي أي حال، في عصرنا، هناك من يعتبر ترجمة الكتاب التي يستعملها، مساويةً للنصّ الأصليّ. وهكذا يتحجّر البحثُ وتسيطر الاصوليّةُ التي تكرّر نصوص الكتاب، وتبقى في الخارج، كما قال يسوع في أمثاله (مر 4:11).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM