الفصل الثاني عشر:الأسفار الحكمية.

الفصل الثاني عشر:

الأسفار الحكمية

في نهاية القرن التاسع عشر، وخلال القرن العشرين، عاد المسيحيّون بشكل واسع إلى الأسفار الحكميّة، لأنهم رأوا فيها تعليماً من أجل زماننا الحاضر، لا سيّما وأنها لا ترتبط بالشعب العبراني بحيث تنحصر فيه، بل تتوجّه إلى كل انسان.

1 - العودة إلى الأسفار الحكميّة

هناك سبب أول للعودة إلى حكمة العهد القديم، هو أن هذا القسم من البيبليا لم يلفت انتباه المؤمنين إلاّ منذ وقت قصير. مع العالم اليهوديّ، كانت القراءةُ الأولى والهامة من الأسفار الخمسة. أما المسيحيّون فشدّدوا على قراءة الأنبياء، لأنها تدلّ على المسيح. وآباء الكنيسة، فما شرحوا كثيراً هذه الأسفار الحكميّة. فتوقّفوا عند سفر التكوين والمزامير والأنبياء. واليوم، نحن نكتشف هذه الكتب ونعتبر أنه يجب أن نعوّض عمّا فاتنا من كلام الله، في الماضي.

والسبب الثاني الذي حدا بنا للعودة إلى الأسفار الحكميّة، هو تجدّد معرفتنا لها. حتّى منتصف القرن التاسع عشر، كنا نظنّ أن الحكمة البيبليّة هي أقدم حكمة في الشرق. وبدا سليمان، كما في الكتاب المقدّس، الدرَّة النموذجيّة للحكماء. ولكن حين قرأ شمبوليون، الباحثُ الفرنسي، سنة 1828، اللغة المصريّة القديمة، في الحرف الهيروغليفي، أدخلَنا في عدد من النصوص الحكميّة تعود إلى الحقبة الفرعونيّة. وبعضُ هذه النصوص رجع بنا إلى منتصف الألف الثالث ق م، ساعة الحكمةُ جاءت متأخّرة لدى الشعب العبرانيّ.

واكتشف العلماء أيضاً، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لغات بلاد الرافدين وحضاراتها. وحين أشعّت دائرة الأدب الحكميّ في البيبليا، في الألف الأول ق م، كانت حكمة مصر وبلاد الرافدينَ بعدُ حيّة، مُبدعة وخلاّقة. إذن بانت اليوم الحكمة البيبليّة في وجه جديد جداً. فاندرجت في إطار حضاريّ واسع عرفه الشرقُ الأدنى القديم. وهكذا لم تعد الحكمة البيبليّة أقدم الحكمات، بل مشاركةَ الكتاب المقدّس في تيار فكريّ سبقه واستفاد منه أقلّه بشكل جزئيّ.

ومنذ سنة 1947، قُرئت نصوص وُجدت في مغاور قمران، على الشاطئ الغربي للبحر الميت. فكشفت وثائق حكميّة كانت مجهولة، وبيّنت أن هذا التيّار الحكميّ لبث حاضراً في العالم اليهوديّ على عتبة ظهور المسيحيّة. يُضاف إلى هذا نمطٌ آخر من الاكتشافات توصّل إليه الشرّاح في النصف الثاني من القرن الفائت: هناك عدد من نصوص الأناجيل والكتابات البولسيّة، رأت في يسوع معلّم حكمة، وتحدّثت عنه فوصفته بصفات خاصة بالحكمة الالهيّة كما ظهرت في العهد القديم.

فجميعُ هذه الاكتشافات قادتنا إلى نصوص تتسجّل في تقليد واحد. فالكتابات الحكميّة في كل الشرق الأدنى القديم، نُسخت ونُسخت مدى قرون عديدة، فأثرت تأثيراً هامّة على الحضارة. وبما أن الحكمة الشرقيّة القديمة دُوّنت وحُفظت كتابة، بدا هذا الوضعُ فريداً في التاريخ العالميّ. هذا إذا جعلنا جانباً كتاب كونفوشيوس (فيلسوف صيني، 551 - 479)، الذي جاء بعد كتابات مصر الأولى وبلاد الرافدين، بأجيال وأجيال. فالكتاب الحكميّ يُتيح للبشريّة أن تنقل أدباً يساعد على تكوين الشبيبة، كما على التبادل بين الثقافات. فنصّ أحيقار الأراميّ أثر في إيسوفوس (شاعر يوناني من القرن 7 - 6 ق م. كتب الحكايات) وطوبيا. وحكمة اميسنيمو في المصريّة تركت صدى في مجموعة الحكماء كما نقرأها في أم 22:17 - 23:4. وما يؤسف له هو أن عدداً من هذه الحكمات ضاع قبل ظهور المسيحيّة، وما بقي منه سوى ما احتفظ به الكتاب المقدّس بعهده القديم.

وحين اكتشف القرن العشرون حكماء الشرق الأدنى القديم، لاحظ في الوقت عينه أن افريقيا تزخر بحكمة بدا دورُها رئيسياً في المجتمع. لهذا بدأ الباحثون يجمعون الأمثال وسائر تعابير الحكمة الافريقيّة التي ما زالت شفهيّة، قبل أن تضيع في العالم الحديث. وحين قوبلت حكمة افريقيا مع حكمة العهد القديم، برزت تشابهاتٌ مدهشة. وشرع الغرب ينشر الأمثال الشعبيّة حسب المناطق، حسب اللغات واللهجات.

كل هذا جديد. وبدا حاضراً حتّى في الحضارة اليونانيّة واللاتينيّة. فكتاب هيسيودوس »الأشغال والأيام« لا يُفهَم إلاّ على ضوء هذه الحكمات الشرقيّة القديمة. والتقت حكمةُ اليونان مع غنى الشرق فاستفادت منه الكنيسة في جدالها اللاهوتيّ والتعبير عن غناها الإيمانيّ.

2 - مجموعة الأسفار الحكميّة

هل تقدّم البيبليا مجموعة من الكتابات الحكميّة؟ الجواب هو نعم ولا. ففي البيبليا، عددٌ من الكتب تنظّمت في مجموعة. ذاك هو الوضع بالنسبة إلى البنتاتوكس، الذي نسبه التقليد إلى موسى. والأنبياء جُمعوا في أربعة أسفار نُسبت إلى اشعيا وإرميا وحزقيال والاثني عشر (الأنبياء الصغار، لأن ما بقي من كتاباتهم كان قليلاً). وذاك هو الوضع بالنسبة إلى المزامير الذي نُسب إلى داود. ونقول الشيء عينه عن الأناجيل، عن الرسائل البولسيّة. غير أن الأمر يصحّ جزئياً بالنسبة إلى كتابات الحكمة. فإذا أردنا أن نفهم هذا الوضع، نتبع بتسلسل الزمن، تاريخَ تكوين أسفار العهد القديم كما تمّ على مراحل.

نحدّد موقعنا في الحقبة الفارسيّة، وبعد العودة من المنفى البابليّ في القرن السادس ق م. شرع العائدون من السبي يُنقذون من الضياع، جوهرَ الارث الديني والأدبيّ في تقاليدهم. وحوالي سنة 400 ق م، تكوّن البنتاتوكس بشكل نهائي في الصورة التي نعرفها اليوم، وتواصلت عمليّة الانقاذ لتنطبق على كتابات الأنبياء الذين كاد صوتُهم يخمد، وعلى ما دعاهم العالمُ اليهوديّ كتاباتٍ تبيّن الدور الأول الذي لعبه الأنبياء الأولون، في الحقبة الملكيّة (ناتان، جاد، إيليا، اليشع). هم ما كتبوا. ولكن جُمعت أقوالهم وأعيد النظر فيها مع بعض اللمسات. ونقول الشيء عينه عن كتاب المزامير الذي ضمّ مجموعات جاءت من هنا وهناك.

في هذا السياق نستطيع أن نحدّد موقع إضمامة المجموعات الحكميّة التي تكوّن سفر الأمثال. جُعل هذا الكتاب على اسم سليمان، مع أن بعض الأقسام لا تعود إلى هذا الملك الذي صارت حكمته مضرب مثل. مثلاً قول آجور (أم 30:1 - 4). ولموئيل (أم 31:1-9). وبُنية هذا السفر تبدّلت فيما بعد، فقدّمت النسخة اليونانيّة السبعينيّة ترتيباً لعناصر »الأمثال«، يختلف عمّا نعرف في النصّ العبريّ. وسبق كلّ هذا مقدّمةٌ طويلة امتدّت على تسعة فصول (ف 1 - 9). وجُعلت الخاتمة في صورة »المرأة القديرة« (أم 31:10 - 31). كل هذا يكوّن أول مجموعة حكميّة في التوراة العبريّة.

وكان توسّع لاحق ضمّ في التوراة هذه كتابين حكميّين آخرين: أيوب والجامعة. ولكن السياق التاريخيّ الذي كُتب فيه هذا وذاك يختلف. فمجمل الأمثال التي احتفظ بها سفرُ الأمثال، تعود إلى ما قبل الحقبة الفارسيّة، وإن كانت اللمسات الأخيرة حصلت في تلك الحقبة. فالمقدّمة حيث يَبان تأثيرُ سفر التثنية والنبي إرميا، جاءت بعد المنفى. وكذا نقول عن الخاتمة. أما سفر أيوب، فجوهر ما فيه هو عمل شاعر مبدعٍ عاش في القسم الأول من القرن الخامس، في قلب الحقبة الفارسيّة. وسفرُ الجامعة الذي دخل بصعوبة في »قانون« (= لائحة) البيبليا العبريّة، ألِّف على ما يبدو في منتصف القرن الثالث، في زمن الاسكندر المقدونيّ أو اللاجيين البطالسة المصريين الذين حكموا فلسطين حتى سنة 200 تقريباً ق م.

وهكذا احتوت البيبليا العبريّة ثلاثة أسفار حكميّة، بين سائر الكتب التي تكوّن القسم الثالث من التوراة (البنتاتوكس، الأنبياء، الكتب). وجاء كل سفر في مكانه.

غير أن الترجمة اليونانيّة التي قام بها »سبعون« عالماً من أورشليم، ضمّت أيضاً مؤلّفين حكميّين: حكمة ابن سيراخ وحكمة سليمان. كتبَ ابنُ سيراخ في اللغة العبريّة، في أورشليم، في الربع الأول من القرن الثاني ق م (حوالي سنة 180). ووُجد ثُلثا النصّ العبريّ في نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين. ولكن بقيت لنا ترجمةٌ إلى اليونانيّة قام بها حفيدُ الكاتب وهي التي ننقلها اليوم في ما يُسمّى الأسفار القانونيّة الثانية. لأن النصّ الرسميّ هو اليونانيّة. في أي حال، كَتب ابن سيراخ في أورشليم، ساعة كانت أورشليم تنتقل من يد البطالسة (مصر) إلى يد السلوقيين (انطاكية في سورية) ولبثت أقواله في خط حكمة الشرق الأدنى. أما حكمة سليمان فنتاجٌ يهوديّ دوِّن في شتات الاسكندريّة. دوَّن كاتبُ نجهل اسمه، ما دوَّنَ مباشرة في اللغة اليونانيّة فاستعمل البلاغة اليونانيّة التي نسّقها الفيلسوف أرسطو. تشرّب الحضارة اليونانيّة الهلنستيّة (كما وصلت إلى الشرق مع الاسكندر الكبير)، ولبث على اتصال وثيق مع تقليده اليهوديّ. مع سفر الحكمة نترك التيّار الحكميّ كما عرفه الشرق الأدنى القديم وندخل في الحضارة اليونانيّة، ربّما في زمن الامبراطور أوغسطس قيصر الذي بدأ حكمه سنة 31 ق م، أي بعد معركة أكسيوم في اليونان وانتصاره على انطونيوس.

ما دخلَ هذان السفران الأخيران في القانون العبريّ. الأمر واضح بالنسبة إلى سفر الحكمة الذي دُوّن في اليونانيّة وما نُقل من العبريّة. ولكن اختلف الأمر في ما يخص ابن سيراخ. فالعالم اليهوديّ الفلسطينيّ عرف النصّ العبريّ وقدّره حقّ قدره قبل أن يتخلّى عنه. فحُفظت حكمة ابن سيراخ في السبعينيّة التي ورثها المسيحيّون فاحتفظوا بها.

والمسيحيّون منقسمون اليوم حول هذين السفرين. فالبروتستانت والانغليكان لا يجعلونهما في اللائحة القانونيّة. أما الكاثوليك والأرثوذكس فجعلوهما جزءاً من الكتاب المقدّس. كان تردّد في بدايات المسيحيّة من أجل الحوار مع اليهود، بحيث احتفظ عددٌ من الآباء بالبيبليا العبريّة وتركوا ما انضمّ إليها من أسفار وصلت إلينا في اليونانيّة. ولكن كيف ننظر إلى الحكمة التوراتيّة إلاّ بالاقرار أنها انتهت في فشل مع أيوب والجامعة، بل في فشل واستسلام كما قال أحدهم. في هذه الحال، كيف نفهم أن يكون العهد الجديد (وكتابات قمران) عاد إلى الإطار الحكمي؟ لا يكون لنا جواب إن نحن تركنا جانباً حكمة سليمان وحكمة ابن سيراخ.

فالذين يقولون بقانونيّة هذين السفرين اللذين وصلا إلينا في السبعينيّة، توسّعَ العهدُ القديم بالنسبة إليهم، فتجاوز حدود البيبليا العبريّة. هي  اتسعت أولاً فأضافت إلى سفر الأمثال سفري أيوب والجامعة. وكان توسّع آخر مع ابن سيراخ وسفر الحكمة. كل هذا قادنا إلى عتبة العهد الجديد.

حين نفهم كيف يتحدّد موقع هذه الأسفار الخمسة، نستطيع القول إننا أمام مجموعة حكميّة في الكتاب المقدّس. ارتبطت بسليمان، كما ارتبطت الأسفار الخمسة بموسى، والمزامير بداود.

3 - لماذا الكلام عن مجموعة حكميّة

جواب أول: نلاحظ أن ما من سفر من أسفار التوراة يستعمل لفظ »حكمة« ولفظ »حكيم« بالقدر الذي تستعمله هذه المجموعة. فالموضوع الرئيسيّ في هذه الأسفار الخمسة هو الحكمة وكيفيّة اقتنائها لدى الانسان.

جواب ثان. هو يلامس الموقف الأساسيّ للذين دَوّنوا هذه الأسفار. هم لا يروون تاريخ الماضي، ولا يُعلنون شرائع من أجل الشعب، ولا يتنبّأون باسم الرب، ولا ينشدون مدائحه في العمل الليتورجيّ. انتمى هؤلاء الكتّاب إلى شعب واحد واقتسموا إيمانه، ولكن مرماهم اختلف عن مرمى »موسى« أو »داود« أو الأنبياء، فبدوا قريـبـين من حكماء الشرق الأدنى القديم.

تنبّه البنتاتوكس والأسفار التاريخيّة والكتب النبويّة إلى وحي الله كما تمّ في تاريخ شعب اختاره، وإلى الطريقة التي بها قُبل هذا الوحي. أما الحكماء في التوراة، فتجاوزوا هذا المنظار التاريخيّ من أجل مرمى يشمل الكون. وتوقّفوا بشكل خاص عند الواقع اليوميّ في حياة الانسان. ما عادوا يتكلّمون عن أمانة للعهد، بل عن تفتّح تام لقوى تزخر بها الطبيعة البشريّة. وأساسُ تعليمهم ليس لاهوت العهد، بل لاهوت الخلق، والنظرة إلى المخلوقات، ولا سيّما الانسان. ففي كل حياة بشريّة، عددٌ من الأمور الملموسة، من الوقائع اليوميّة، من خيارات نقوم بها وقرارات نتخذها، ومن تصرّفات نتصرّفها. هناك خبرات نحسّ بها في الحياة اليوميّة ما عالجتها سائرُ الأسفار البيبليّة، فحاول الحكماء إلقاء الضوء عليها.

ليس كلامُهم بلاغاً يَنقل، كما فعل موسى والأنبياء، قولاً إلهياً تلقّوه من الله. وإن افترضت شرائع البنتاتوكس والأقوال النبويّة، في تعبيرها، مشاركة العقلِ البشريّ، فعند الحكماء يلعبُ العقلُ البشريّ ملء دوره. فالكلمة التي يقولون، ليست نتيجة بلاغ يحملونه من عند الله، بل نتاج تفكيرهم الخاص.

وأوردت الشرائع أو الكتابات النبويّة أوامر تفرض على الانسان كيف يتصرّف. وأعلن الأنبياء تدخّل الله في مسيرة التاريخ. أما الحكماء فقدّموا لنا مواقف انسانيّة نأخذ بها: فالكلمة نصيحةٌ تُعطى مع التحفّظ المطلوب من ذاك الذي يقدّم خبرته الخاصّة.

توخّت جميعُ النصوص البيبليّة توجيهَ البشر إلى السعادة. وتطلّعت أسفارُ الحكمة إلى هذه السعادة على أنها نجاح الحياة في أبعادها المباشرة والملموسة. علّمت الفطنة والمهارة في كل مجالات الحياة حيث لا تصل الشريعةُ ولا الأنبياء.

وكان للحكماء تلاميذ، شأنهم شأن الأنبياء. كان تلاميذ الأنبياء أصحاب مواهب فما احتاجوا إلى »مدرسة«. أما تلاميذ الحكماء فالتحقوا بمدارس معلّمين، كما قال ابن سيراخ (51:23)، وفيها تلقّوا التربية الصالحة. وكما في كل مجتمع منظّم، كان في فلسطين أماكن يستعدّ فيها الشبّان لتحمّل مسؤولياتهم في الجماعات، وفي المجتمع. وكان الحكماءُ المعلّمين في هذه المدارس. فربّوا شبان العائلات المرموقة، الذين نالوا أيضاً ثقافة جاءت من العالم، لا من بلد واحد. كما تعلّموا كيف يتصرّف بالحقّ الانسانُ الذي نال تربية صالحة، ولا سيّما أمام معطيات تستغربها حياتُنا اليوميّة.

ونضيف إلى كلّ هذا أمرين اثنين. الأول، كان الحكماء علماء أخلاق. إن هم دلّوا على طرق الفطنة في العمل والمهارة في الحياة، فهم لا ينسون بأن هذه الطرق عرفت معالم أخلاقيّة دلّت على قيمتها خبرتُهم وتفكيرُهم في طريق لا تقلّ سموّاً عمّا عند الأنبياء. لقد ندّد الحكماء باللاأخلاقيّة وباللاعدالة، كما فعلت الشريعةُ والأنبياء. ولكن أساسهم كان النظرة إلى الانسان كانسان.

والحكماء ما أعلنوا متطلّبات العهد كما قدّمتها الشريعة والأنبياء. ومع ذلك، فهم مؤمنون حقيقيّون. قالوا: هذه الحكمة لا خلقيّة فيها، ولا ديانة خاصة بها. هذا خطأ. وقالوا: هي توافق هذا العالم ورغباته اليوميّة وحسب. وهذا خطأ أيضاً. فالله له مكانته في هذه الأسفار الحكميّة التي أخذت بلا شك الكثير من حكمات الشرق، ولكنها طبعَتْها بالطابع اليهوي. نستطيع أن نطرح الأسئلة العديدة، كما فعل أيوب. ولكن في النهاية، يصمتُ المؤمنُ أمام سرّ الله في خلقه، في حكمته، في عنايته بالخلائق كلها، ولا سيّما بالانسان. كما استطاع سفرُ الجامعة أن يدلّ على بطلان الحياة ولامعناها. ولكنه يُنهي كلامه بالدعوة إلى حياة يوميّة مع الله، في مخافة الله التي هي رأس الحكمة.

ساعة بلغت الحكمة البيبليّة مرحلة النص المكتوب، أدرك الأنبياء، ولا سيّما اشعيا الثاني، من هو إله العهد في الحقيقة. ودوّن الكهنة الصفحة الأولى من سفر التكوين فرأوا في الاله الواحد خالق السماء والأرض. ذاك هو الأساس اللاهوتي الذي عليه بنى الحكماء. فحين تصبح طريقة عمل الله في الوجود البشريّ (مع أيوب والجامعة) سريّة، لامفهومة، لا معروفة لدى العقل المفكّر، تدلّ الحكمة البيبليّة على ضياعها. ولكنها لا تنكر أبداً الله الذي صمت أو بدا بعيداً، ولا تستبعده من تفكيرها. وحين تستعبدُ هذه الحكمة سنونها مع ابن سيراخ وسفر الحكمة، فهذا يكون لأن عمل الربّ في تاريخ شعبه يبدو للحكيم المؤمنين مطبوعاً بطابع الانسان العميق. هي حكمة من نظام أسمى حيث التاريخ المقدّس ينكشفُ في بُعده المسكوني، الشامل.

وهكذا نجد في هذه الأسفار الخمسة تناسقاً تبرّر كلامنا عن وحدة هذه المجموعة الحكميّة.

وإذ أرادت الحكمة البيبليّة أن تقدّم تعليمها، فعلت كما فعلت حكمةُ الشرق القديم وحكمة جميع الشعوب الذين ينقلون تقليدهم نقلاً شفهياً. لجأت إلى أشكال أدييّة خاصة تُدعى »الفنون الأدبيّة«. غير أن هذه الأسفار الحكميّة الخمسة، تبدو مختلفة بشكل يستحيل علينا أن نجد فيها ذات الفنون الأدبيّة. وسفر الحكمة، بشكل خاص، نضعه جانباً بسبب التأثير الهلنستيّ وفن البلاغة اليونانيّة الذي أخذ به. هناك تقارب بين سفر الأمثال وحكمة ابن سيراخ، وعنهما يختلف اختلافاً كبيراً سفرا أيوب والجامعة. اذن، لا فن أدبياً واحداً يدعونا لكي نرى في هذه الأسفار مجموعةً حكميّة.

ولكن الحكميّ الأساسيّ هو المثل أو القول المأثور. هو قصير كما في أم 10 - 29 مع تنوّع كبير من التعابير النمطيّة التي لا تنحصر في فئة محدّدة ولا في بلد معيّن، بل تصل إلى المسكونة: من يعمل هذا. أو الانسان الذي يفعل هذا. خيرٌ من. هناك أقوال وصفيّة تقدّم تشبيهاً مع عالم الحيوان. وأخرى تدعو الانسان لكي يتصرّف بهذا الشكل. أو تحذّره من موقف لا يقود إلى السعادة.

وهناك فنون أدبيّة أخرى: الخبر المحاكي Fable. الأسئلة الألغاز. الأمثال العدديّة (أم 30:15- 31؛ سي 25:7 - 11)، اللوائح المشابهة. ينطلق الحكيم من عالم النبات أو الحيوان (1 مل 5:12 - 13). أو من نهج يساعد على الحفظ في الذاكرة (أم 38:2 ي؛ سي 42:15 ي). والخير هو أيضاً حكميّ (أي 1 - 2؛ 42:7 - 17). وأخيراً، فالحوار الذي يدعو إلى التفكير ينتمي أيضاً إلى الفن الحكميّ.

ونتعرّف في النهاية إلى الفنّ الحكميّ في هذه الأسفار التي تتأمّل في الحكمة الالهيّة (أم 1:30 - 33:8: أي؛ 9:1 - 6). وعاد أي 28: 1ي إلى الموضوع. ومثله فعل ابن سيراخ، وسفر الحكمة (ف 7 - 9). نحن هنا أمام سلسلة من النصوص نستطيع أن نقابلها بعضها ببعض، دون أن ننسى أصالة كلّ نص بمفرده.

4 - عالم الحكمة في التوراة وخارجها

إذا كان الحكماء هم المربّون، فلا ندهش إن وجدنا آثار الحكمة في الكتاب المقدس كله. فكل انسان مثقّف، ولو كان نبياً، يقدر أن يعبّر عن فكره على طريقة الحكماء، في بعض الظروف. ونحن نستطيع أن نميّز نمطين من اللجوء إلى الأسلوب الحكميّ، وذلك بحسب التسلسل الزمنيّ. ولكن قبل ذلك، نعود إلى النصوص القديمة في الأسفار التاريخيّة: المثل (1 صم 24:24؛ 1 مل 20:11)، الأحجيّة (قض 14:14)، الخبر المحاكي fable (قض 9:7 - 15؛ 2 مل 14:9). الخبر الشِبهيّ parabole (2 صم 12:1 - 4).

في النمط الأول نجد مجموعة من النصوص التي تعارض نظرة خاصة إلى سلطة تعتبر نفسها حكيمة دون أن تتبع حقاً تعليم معلّمي الحكمة. في تك 2 - 3، نكتشف نقداً لحكمة ملكيّة تحسب نفسها قادرة على أن تحلّ محلّ الحكمة الالهيّة. ونقول الشيء عينه عن حكمة يوسف في مصر وما يختفي وراءها من أزمة (تك 40 - 44). وجاء خبرُ خلافة داود يحكم على محاولات سياسيّة دنيئة سوف تبوء بالفشل (2 صم 9:1ي؛ 1 مل 2:1ي). واشعيا الذي كان أول من أعلن حكمة الله في شعبه (اش 31:2). والذي جعل أمله في ملك حكيم، في الحقيقة (اش 11:1 - 5)، انتقد بقساوة حكمة مزعومة امتلكها السياسيّون في أيامه (اش 10:13؛ 19:11 - 15؛ 29:14). ولن يكون إرميا أقلّ قساوة من إشعيا تجاه هؤلاء »الحكماء« (إر 9:22 - 23). وهاجم حزقيال المشاريع التجاريّة لدى ملك صور الذي اعتبر نفسه إلهاً (حز 28:1 - 19). ولكن حين قدّرت هذه النصوص بهذه الحكمة الكاذبة، احتفظت بفنّها الأدبيّ، كخبر أو قول نبويّ.

أما مجموعة النصوص الثانية فجاءت متأخّرة في الزمن. وما يميّزها هي أنها تُقيم مقابلة بين الحكمة والشريعة. فشريعة موسى التي نقرأها في البنتاتوكس، هي حكمة حقيقيّة، صادقة (تث 4:6). في هذا الخط نقرأ بعض المزامير التي نجد فيها عناصر حكميّة (مز 1:1 ي؛ 19:1 ي؛ 119: 1ي). وهناك مزامير أخرى لامست الحكمة، فاكتفت بتقديم التعليم (مز 37:1 ي؛ 91: 1ي؛ 112: 1 ي؛ 127: 1ي) أو توقّفت عند مصير الانسان، أمام الله (مز 49: 1ي؛ 73: 1ي؛ 90:1ي؛ 139:1 ي).

وأوضح نصّ با 3:9 - 4:4 الرباط بين الحكمة والشريعة. ونقل طوبيا (الذي أخذ بعض حكمته عن احيقار الأراميّ) تعليمين حكميّين مميّزين (طو 4:3 - 19؛ 14:8 - 11). غير أن هذا الخبر النقديّ توخّى أن يبيّن أن الأمانة لما تطلبه الشريعة على مستوى الميراث، يكون لها جزاؤها. وبدا دانيال هو أيضاً حكيماً، شأنه شأن يوسف. وبدت حكمته في تعلّقه بالله وبشريعته (دا 1:1 ي؛ 2:1 ي؛ ف 4 - 5).

خاتمة

وهكذا اكتشفنا مناحي عديدة في الحياة اليوميّة لم تلامسها التوراة، لولا وجود الحكماء. ويسوع نفسه حدّث الجموع مراراً بأسلوب حكميّ يفهمونه دون البحث عن براهين. لهذا، نستطيع اليوم أن نستفيد، كما استفادوا في الماضي من هذه الحكمة البيبليّة. ونحن الخاسرون أن اعتبرناها شهادة عالم قديم مضى وعفّاه الزمن. فعالمُ الشرق ما زال يرى في الأمثال التعبير الأفضل لكي يبتعد عن الفكر المجرّد، ويصل إلى الانسان في قلب شعوره وإحساسه. ثمّ إذا كانت كلُّ حكمة غير محدودة في الزمان والمكان، فحكمة الأجيال السابقة هي حكمتي اليوم، والحقيقة التي تحملها تبقى حقيقة، بالنسبة إليّ. وحكمة مصر هي لي. وكذلك حكمة بلاد الرافدين. في الماضي، وفي الحاضر لي حكمة الصين والهند وافريقيا. نحن نستمع إلى كل هذه الحكمات. ونتوقّف بشكل خاص عند حكمة قدّمها لنا الكتاب المقدّس. فهي إلى اليوم تجعل النور في طريقنا وتكون سراجاً لخطواتنا(*).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM