الفصل الحادي عشر: الأنبياءوتأليف كتبهم

الفصل الحادي عشر:

الأنبياءوتأليف كتبهم

حقل الدراسات النبويّة واسع جداً. لهذا نشير فقط إلى بعض المحطات التي لها مدلولها في تاريخ تفسير الأنبياء. فالمقاربة النقديّة الأولى مع ممثِّلها الرئيسيّ دوهم(1) تستلهم شميلة ولهاوزن(2) فتُبرز استقلاليّةَ النبوءة بالنسبة إلى الشريعة. فالنبوءة في أساسها ترتبط بوجهات من عبادة الطبيعة التي اشتهرت في كنعان. في الواقع، وُلد عالمُ الأنبياء في حقبة من الاتصال والصراع مع المحيطات الثقافيّة المجاورة. وبما أن الشريعة لم تتّخذ شكلها النهائي إلاّ بعد المنفى، فسّرت هذه المدرسةُ النبوءة بحسب نظرة حديثة: الاستقلاليّة الروحيّة. أو: الحدس الدينيّ. وهكذا صار عالمُ النبوءة معارضاً، في طبيعته، للشريعة. النبي هو انسان لا سيرة له. ينتصب ويسقط مع رسالته. فتبع هذا وجهاتٌ عديدة من التفاسير. وأهتمّ المؤوّلون بالتأوين فتحدّثوا عن أنبياء »اشتراكيّين« أو »سياسيّين« أو »رؤساء أحزاب المعارضة. ومع اشعيا وارميا، عن عملاء يعملون لفئتين: بعد أشورية بابلونية.

هذا المنظور يفترض نظرة تطوّر في ديانة اسرائيل. وحين ننظر إلى تاريخ النبوءة من هذه الزاوية، نفهمها على أنها تنقية. وسوف ننتظر القرن الثامن مع عاموس وهوشع، واشعيا وميخا، لتزدهر المونوتاويّة (عبادة الله (الواحد) الخلقيّة، وتَثبت السيادةُ المطلقة للرب ثباتاً مطلقاً ذا طابع خلقيّ. قبل هذا، يهوه هو إله وطنيّ، وديانة اسرائيل قريبة من المونولستريا التي تعني عبادة إله خاص بشعب تجاه آلهة تعبدها شعوب أخرى. فحين حلّت الكارثة بمملكة اسرائيل ثم بمملكة يهوذا، تمّ التحوّلُ والعبورُ من المونولستريا إلى المونوتاويّة الخلقيّة. وباختصار، إذ أردنا أن »ننقذ« يهوه، وجب أن نضحّي باسرائيل.

ورافق هذا التحوّلَ نظرةٌ روحانيّة: فالله، الكائن الخلقيّ، هو أيضاً كائن روحيّ. وهكذا يبتعد عالم النبوءة، في خطوة أولى، عن الوجهات العباديّة والانتروبومورفيّة (تشبّه الله بالانسان) في ديانة اسرائيل، ويتّجه إلى الفرديّة ولاسيّما مع إرميا وحزقيال. غير أن النبوءة ستقدّم، تدريجياً، تنازلات إلى العبادة التي ستحمل حقائق خلقيّة وروحيّة. فتشريعُ البنتاتوكس (أو الأسفار الخمسة) الذي مزج كتب الطقس بالشرائع الخلقية، عكس هذا التنازل. يتبع هذا أن التناقض بين شعائر العبادة وعلم النبوءة امّحى شيئاً فشيئاً ليزول بشكل نهائي، في الحقبة البعدمنفادية وولادة العالم اليهوديّ بعد العودة من المنفى. وبحسب هذه النظرة، جاء عالم النبوءة جذرياً، وتنقّى شيئاً فشيئاً فولد مونوتاويّة خلقيّة وشاملة، لا تتوجّه إلى شعب واحد، بل إلى شعوب العالم كله.

1- تطوّر أول

وظهر تطورٌ أول، ولاسيّما منذ بداية القرن العشرين. فشدّد الشرّاح على أن الأنبياء ليسوا مستقلّين كل الاستقلال بالنسبة إلى المحيط الثقافيّ والعباديّ، وليسوا محدثين كما ظنّ كثيرون، بل يرتبطون بنظرة نفسانيّة إلى الخبرة الدينيّة(3).

أ- عالم النبوءة والشريعة

يرى فون راد أن الأنبياء يتجذّرون في تقاليد اسرائيل، ويعودون إليها لكي يؤوّنوها. يقول: »إحدى المهمات الرئيسيّة في الطرح الحاضر، هو البرهان بأن الأنبياء تجذّروا تجذّراً عميقاً في تقاليد اسرائيل، بل في أقدمها«(4). وأوجز مويلنبرغ(5)، بشكل خاص، مسألةَ العلاقات بين عالم النبوءة والشريعة أو (ليذكر الوجهة النقديّة)، مشاركةَ الأنبياء في صياغة الشريعة فكتب: »الفصلُ القاسي بين الأنبياء والشريعة، الذي ميّز زمنَ ولهاوزن وخلفائه، يعتبره الجميع اليوم من عالم الخطأ. فنحن نرى الآن، كما لم نرَ من قبل، إلى أي حدٍّ أثّرت النبوءة على تعابير الشريعة، وبشكل خاص على جميع التقاليد الاجتماعيّة التي انضمّت إلى سفر التثنية. وبأي قدر كبير كان الأنبياء، بدورهم، مدينين لتقاليد الشريعة في اسرائيل، في معنى ما أعلنوا وفي مبناه«.

وما قاله مونولوبو(6) يحافظ على قيمته. فمن الوجهة الدينيّة، يحدَّد موقعُ الانبياء في تاريخ الوحي كما يلي: »لفت التأويل المعاصر نظرَه تواصلٌ واضح يربط اهتمامات زمن موسى بنقاط أساسيّة في البلاغ النبويّ: مدلول عميق لشعائر العبادة، أولويّة القيم الخلقيّة. لهذا، لن يندهش أحد حين يرى التقليد البيبليّ يتطلّع إلى موسى على أنه أكبر الأنبياء ونموذجهم«.

هذه الطريقة في تحديد موقع الحركة النبويّة بالنظر إلى موسى، قريبةٌ من المنظور البيبليّ كما يتحدّث عنه فوس(7) مثلاً. فهذا الكاتب يشدّد في لاهوته البيبليّ على العلاقة بين الحدث والوحي. فهناك أوقات في التاريخ تُحرّك وحياً إلهياً جديداً. ذلك هو وضعُ الخروج الذي يهيّئ مجيء اسرائيل »أمّة مقدّسة« (إش 19:6)، والوحي الذي يشرح ولادته ويقدّم له دستوره. غير أن فوس يُبرز، بحقٍّ، أن الخروج يهيّئ أيضاً ظهور العالم النبويّ كنظام ووحي يشرحه ويرافقه (عا 2:9 - 12). هكذا كشف الله لاسرائيل، في الحقبة الموسويّة، طبيعة ديانة الفداء في سياق خلق »الأمّة المقدّسة«. أمّا في حقبة الأنبياء، فكشف الله طبيعة ديانة الفداء كما تتجسّد في حياة هذه »الأمّة المقدّسة«. فالحركة النبويّة وحيٌ شارحٌ يعطيه الله اسرائيل بعد الخروج وفي توازٍ مع حياة الأمّة، ولا سيّما منذ الوقت الذي تنظّم فيه الشعبُ كمملكة (أع 3:21 - 25).

ب - العالم النبويّ الأول والأخير

أتاح لنا هذا التطوّر أن نرى التمييز بين العالم النبويّ الأوّل (انخطافي، ويرتبط بعناصر وثنيّة) والعالم النبويّ الأخير (يقابل المونوتاويّة المنقّاة أو الخلقيّة). فقد بيّنت الدراساتُ اللاحقة أن الاختلافات ضُخِّمت. فإن كان هناك من اختلاف، فعلى مستوى الدرجة والتشديد. فشكل العالم النبويّ هو هو تقريباً. ويتحدّد موقع الاختلاف، بشكل خاص، على مستوى المضمون. ذاك هو مثلاً رأي لندبلوم(8). قال: يقع الاختلاف على مستوى عمق الخبرة الواردة وطريقة وجودها. في الحقبة الأولى، الانخطاف القويّ والجماعيّ هو الذي سيطر. أما في الحقبة المتأخّرة، فالانسان ينفعل ولا يفعل كما لا يتحرّك. غير أننا نلاحظ أن هناك اختلافاً بين حالة انخطاف النبيّ البيبليّ الذي يبقى واعياً، وإن منفعلاً، وبين حالة الشعوب المجاورة القريبة من اندماج مع الاله تحرّكها نهوجٌ ووسائلُ مصطنعة. وقد بيّن يونغ(9) هذا الأمر في دراسة مكرّسة لهذا الموضوع.

ج - تحوّل في الاستمراريّة

هذه التحوّلات لا تعني عودةً إلى مواقف سابقة لدوهم وولهاوزن. فالدراسات النقديّة ركّزت بعض العالم النبويّ في تاريخ الوحي. والمنظور البارز يقترب بعضَ الشيء من ذاك الذي يقدّمه المنظور البيبليّ. غير أن النقد يواصل، خلال قرن من الزمن، تشييد البناء على الأسس الموضوعة. وهذا يصحّ لنقد الفنون الأدبيّة كما لنقد التقليد والمصادر. كل هذه المقاربة لها طابع دوياكروني، وتحاول أن تصوّر تكوين وتوسُّع النصوص النبويّة، فتميّز بين أقوال النبي التاريخيّة وبين كل ما يرتبط بتاريخ التدوين اللاحق (أمين سر، تلاميذ، مدوّنون متتابعون). نحن لا نحدّد فقط موقع البلاغ الأصليّ في السياق التاريخيّ والحضاريّ في عصره، بل أيضاً كلّ ما أضيف فانتمى إلى حقبات لاحقة. هذه القراءات المتوالية التي هي تأوين بعد تأوين، تتمُّ بشكل رئيسيّ في أوقات الأزمة: نهاية القرن الثامن وزوال مملكة اسرائيل. القرنان السابع والسادس وزوال يهوذا في المنفى. الحقبة الفارسيّة وزمن العودة وبناء شعب العهد بما في هذا البناء من صعوبات.

أولاً: نقد الفنون الأدبيّة

اهتمّ الشرّاح بتوضيح شكل أخبار الدعوة، والرؤية، والفعل الرمزي. وكان كلام عن جدال، عن محاكمة في إطار العهد. كلاوس وسترمان(10) الذي هو مرجع في هذا المجال، يعتبر أن الكلمة النبويّة الحقّة هي »قول الويل والتحريض«. وقد رأى مؤخّراً أهميّة أقوال الخلاص في خطبة الأنبياء على أنها ظاهرة بعدمنفاويّة.

ثانياً: نقد التقليد والمصادر

أراد أن يلقي الضوء على التاريخ المتشعّب لتدوين الكتب البيبليّة، فأبرز مسيرة التجميع والتأليف ونشر الكتابات النبويّة، بشكل خاص. لاحظ باكر(11) بحقّ أنه من الصعب أن تتميّز هذه المقاربة لنقد الفنون، »لأن البلاغات النبويّة تمثّل تطبيقاً لشكل آخر أصيل استُعمل في سياق آخر لانبويّ«. هذا يعني أن الأنبياء يؤوّنون تقاليد قديمة وقعت بين أيديهم. هم يستقون من مصادر البنتاتوكس أو يستعملون نصوصاً قديمة قد تكون أقوالاً نبويّة أخرى.

وتواصلت هذه الأعمال الدياكرونيّة (= التفصيليّة) إلى يومنا، ولكنها حرَّكت التحفّظات يوماً بعد يوم. من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن نتعرّف إلى »النبيّ التاريخيّ« وبالتالي إلى بلاغه الأول. فإعادة تكوين تاريخ التدوين تتّصف بالفرضيّة والتناقض. في هذا المجال قال فوغلس(12): »كل البناءات المرتبطة بتأليف الكتب النبويّة تتعلّق بالفرضيّة، وهي تختلف من كاتب إلى آخر، وتسقط مع أول تفسير جديد«. ثم، بقدر ما نُفتّت النصّ، لا نعود نرى تماسكَه الأدبي واللاهوتيّ.

2- مقاربة جديدة

أ - التحليل السنكروني أو الاجمالي

لاحظ هذا الأمرَ عددٌ من الشرّاح فخاب أملُهم. فركّزوا جهودهم على النصّ كما وصل إلينا. فالسياق التاريخيّ الأصليّ تغطّيه ضبابيّة لا يمكن أن نلجها. فتبقى الكتاباتُ في شكلها النهائيّ والقانونيّ، كما نقلها التقليد. هي المقاربة أو النقد القانونيّ. وكان شايلدس(13) أشهر ممثّل لهذا النهج. فالاهتمام ينصبّ شيئاً فشيئاً على الوحدات الصغيرة والكبيرة في سياق الكتاب الذي نستخرجها منه، على المستوى الأدبيّ كما على المستوى اللاهوتيّ. ومدلولُ كل وحدة يستضيء بشكل مختلف حسب السياق التاريخيّ لسفر من الأسفار أو البيبليا إجمالاً (العهد القديم والعهد الجديد). هذه النهوج الجديدة سوف تهتمّ بالشكل الأدبيّ والأسلوبيّ في النصّ القانونيّ. وقد شدّد مويلنبرغ(14) منذ سنة 1960 على النقد الأسلوبيّ والبلاغيّ. أما لاك(15) فأبرز سنة 1970 نهجاً يستند إلى التحليل السيميائيّ. وأوجز مرتين أشار(16) مقاربته بهذه الكلمات: »... أعتبر النصّ كوحدة مغلقة على ذاتها، ككليّة منظّمة. يجب أن نُبرز نظام العلاقات مستعنين بأعمال حول بُنى المخيّلة البشريّة...«(17). وكان اهتمام آخر بالرموز والاستعارات(18). هذه المقاربات مهمّة لأنها تأخذ بعين الاعتبار تماسك النصّ كما وصل إلينا. وهي تُبرز الغنى الأدبيّ واللاهوتيّ في الأسفار البيبليّة. ولكن لها ضعفها.

فالمدافعون عنها لا يثقون بالتماميّة التاريخيّة للتقليد النبويّ البيبليّ. كما ينسبون الكثير من المخيّلة الخلاّقة والمهارة الأدبيّة »لمدوّن« الشكل القانونيّ للنصّ، على حساب النبيّ البيبليّ، هذا إن وُجد! من ارتبط بهذه النظرة، اعتبر الأسفار النبويّة على أنها خدعة أدبيّة لا نستطيع أن نتحقّق من تجذّرها التاريخيّ. ولكن هناك وجهة أساسيّة في البلاغ البيبليّ: تقديمُ الله كذاك الذي يفعل ويتدخّل في التاريخ، ولا سيّما في تاريخ شعبه كما في تاريخ الأمم المجاورة. فالبيبليا ليست كتاب فلسفة دينيّة دوّنه عباقرة، بل وحي ونقل إلهيّ يتجسّد في المكان والزمان فتتحدّث عنه التقاليد البيبليّة. فلا بدّ من التمسّك بالبُعد الالهي والبُعد البشريّ في الكتابات النبويّة.

ب - تحليل سوسيولوجيّ

هذا لا يستبعد تجذّر النبيّ في الجماعة. غير أن هذا التجذّر هو ثانويّ بالنسبة إلى الدعوة الالهيّة. هذه الوجهة السوسيولوجيّة في العالم النبويّ، قد أبرزها عددٌ من الكتّاب. والتطرّق إليها كظاهرة اجتماعيّة يدعونا إلى التساؤل عن علاقة متبادلة:

- الطريقة التي بها يدخل النبيّ ويلعب دوراً في إطار البنى الاجتماعيّة. فالتفكير بالعلاقة بين النبي والجماعة ليس بالجديد. والتعرّف إلى البنى الاجتماعيّة والمكانة التي يحتلّها النبي في الجماعة، يساعد على فهم أفضل للأسفار النبويّة.

- تأثير المجتمع على النبيّ وعلى تعليمه. فقد لاحظ فوغلس(19)، أحد ممثّلي هذه المقاربة، أن الدراسات الأخيرة »في إطار الشرق الأدنى القديم، كظاهرة دينيّة شاملة، تسير أبعد ممّا سادته الدراسات السابقة«. استعان هؤلاء الكتّاب بالسوسيولوجيا والانتربولوجيا والسيكولوجيا، فشدّدوا على تجذّر الأنبياء في الجماعة، وإن كان هذا التجذّر متشعّباً. من جهة، يجب إبرازُه مع مراعاة النصّ في ذاته وفي رؤيته الدينيّة الاجماليّة التي تُلقي ضوءاً على كل وجهات التفكير والحياة. ومن جهة ثانية، نتجنّب إدخال كلَّ نظرة إيديولوجيّة غريبة عن عالم الأنبياء وتعليمهم. وهذا ضروريّ لأن معلوماتنا في هذا المجال محدودة وبالتالي ترتبط بالفرضيّة.

3 - سفر اشعيا

نأخذ سفر اشعيا مثالاً فنرى التطوّر الذي رسمنا بعضَ خطوطه.

أ - التحليل الدياكرونيّ

منذ بداية القرن الثامن عشر(20) طُرح سؤال حول وحدة التأليف في كتاب اشعيا. وكان كلام عن قسمين. ألّف القسمَ الأول (ف 1 - 39) اشعيا نفسه، والقسمَ الثاني (ف 40 - 66) كاتبٌ نجهل اسمه، وقد عاش في زمن المنفى. وفي نهاية القرن التاسع عشر، توسّع التحليل الدياكرونيّ مع ظهور ثلاثة أقسام. وهكذا قُسم ف 40 - 66 إلى قسمين. ف 40 - 55 تعود إلى زمن المنفى. و56 - 66 إلى ما بعد المنفى. أما البراهين من أجل هذا التقسيم، فهي تاريخيّة ولغويّة وأسلوبيّة ولاهوتيّة. وكان كلام عن »برهان النبوءة« وهو مبدأ بحسبه يقول الأنبياء أقوالهم إلى معاصريهم. والحال أن ف 40 - 55 تتوجّه بشكل جوهريّ إلى المنفيّين، وف 56 - 66 تجد خلفيّتها في فلسطين ما بعد المنفى، وتتوجّه إلى جماعة اسرائيل العائدة من المنفى البابليّ. هذا التقسيم في ثلاثة أقسام، ما زال حاضراً في تفاسير تتوقّف عند هذا القسم أو ذاك. في الواقع، راح المؤوّلون الذين يمارسون التحليل الدياكرونيّ، يقسمون النصوص بشكل أوسع. ولهذا فثلثُ القسم الأول (ف 1 - 39) هو عمل »تلاميذ« يعودون إلى حقبات لاحقة ومختلفة. مثلاً يعود ف 13 - 14 إلى زمن المنفى البابليّ (القرن 6 ق م). وتعود ف 24 - 27 إلى زمن الحكم الفارسيّ (القرن 4 ق م)(21). أمّا ف 56 - 66، فالشرّاح لا يتّفقون على بداية هذا الجزء (أو مع ف 56 أو ف 58)، لأن فيه بعض التقارب مع ما سبق. وبما أن ف 56 - 66 لا تَحملْ ذات التماسك الأدبيّ واللاهوتيّ مثل اشعيا الثاني، فقد قُسمت إلى مصادر عديدة تعكس أوضاعاً تاريخيّة مختلفة، وقد دوّنها تلاميذ الكاتب المجهول الذي عاش في زمن المنفى. وكما يقول كيدنر(22): حين نقبل بالمعايير الأولى للتقسيم، ينفتح أمامنا عددٌ من الكتّاب والمدوّنين وتنوّعٌ في الآراء المتناقضة. فالفرضيّة البسيطة التي تتحدّث عن كاتبين أو ثلاثة هي في الواقع أكثر تشعّباً ولا يتّفق عليها الشرّاح. وأضاف كيدنر: الخيار الوحيد الممكن والمقبول تجاه كاتب واحد، ليس كاتبين أو ثلاثة، بل اثنا عشر كاتباً. يفترض هذا المنظور تاريخاً تدوينياً طويلاً أو قصيراً بالنسبة إلى أجزاء اشعيا الثلاثة. أما جاك فرمايلن، فرأى سبع مراحل من التدوين المتتالي في ف 1 - 35، وهي تدلّ على خبرة دينيّة تمتدّ على خمس مئة سنة(23).

لا شكّ في أن المقاربة الدياكرونيّة كشفت وجودَ مواضيع ومفردات مشتركة بين الأجزاء الثلاثة المستقلّة في كتاب أشعيا. وإذ أراد الشرّاح أن يشيروا إليها، عادوا إلى تلاميذ النبيّ أو إلى مدرسة تلاميذه الذين توسّعوا في تعليم اشعيا ونقلوه إلى الأجيال التالية بعد أن أوّنوه. ولكن لاحظ فوغل: ليس من المعقول أن تكون مثلُ هذه المدرسة قد وُجدت واستمرّت خلال قرون عديدة من الزمن(24).

2 - التحليل السنكرونيّ أو الاجماليّ

تجاه النتائج التي بدت في فرضيّات متناقضة، والتي قدّمها التحليلُ الدياكرونيّ الذي اعتبر أن سفر اشعيا هو في النتيجة حصيلة توسّع تاريخيّ عرضيّ واعتباطيّ، أخذ المؤوّلون شيئاً فشيئاً بالمقاربة السنكرونيّة. اعتبروا أن هذا الكتاب هو ثمرة عمل تدوينيّ، وله تماسكه الأدبي واللاهوتيّ الذي لم يأتِ عن طريق الصدفة. وترتدي هذه المقاربة عدّة وجهات.

* اللغويّة والسيميائيّة. قدّم لنا راداي(25) تحليلاً دقيقاً، لغوياً، وسيميائياً، وأدخل الحاسوب. فالتقت نتائج أعماله مع بعض فرضيّات النقد (3 كتّاب)، كما ابتعدت (الفصول التي ترتبط باشعيا).

أما لاك(26) فاستند في دراسته اللافتة إلى مقاربة سيميائيّة، فأبرز وحدة اشعيا الرمزيّة. انطلق من رسمات وتقارب بين الصور واكتشاف البنى والتوازيات والتقابلات، فوصل إلى الخاتمة التالية: »رتّب المدوّنُ كل شيء، وحاول أن يعطي تماسكاً ووحدة لسفر أشعيا«.

* الأدبيّة، سعى عددٌ من الكتّاب أن يبرهنوا أن الشكل الأخير لاشعيا يكشف بنية أدبيّة متوازية. تحدّث براونلي(27) سنة 1950 عن وجود قسمين (ف 1 - 33، ف 34 - 66) يتكوّن كل منهما من سبعة أجزاء متقابلة. فرضيّةٌ شيّقة وتستند إلى براهين متينة، ولكنها ليست بمأمن من النقد. فقد رأى يونغ(28) أن الفصل الذي نجده بشكل خاص في مخطوط قمران، هو هنا ليدلّ على منتصف النبوءة وعلى وجود لفيفتين ذات طول مماثل. وتابع تفكيره فبيّن أن ف 33 - 34 ينتميان إلى ذات الوحدة الأدبيّة.

* النقد القانونيّ. ظلّ شايلدس(29) أميناً لمقاربته، فنظر إلى سفر اشعيا في شكله الأخير أي القانونيّ. ومهما يكن تاريخ تأليفه، فهو يبدو في وحدة أدبيّة ولاهوتيّة واستنتج أن الكتاب، كما هو، يعتبر أن ف 40 - 66 هي كلمات نبيّ من القرن الثامن يستشفّ المستقبل ويُصوّره. حين نجعل من هذا »السياق الأدبيّ« »خدعة تاريخيّة«، نسيء إلى فهم صحيح وتفسير مجمل أقوال هذا الكتاب.

شدّدت هذه المقاربةُ السنكرونيّة على التقابلات اللغوية والموضوعيّة واللاهوتيّة، فأكّدت أن سفر اشعيا هو مؤلّف أدبيّ ولاهوتيّ تكوّن باعتناء. ويقولون أيضاً إن قسماً واحداً لم يوجد بمعزل عن الباقي. وهكذا تقترب من طروحات الذين ظلّوا يقولون إن اشعيا هو صاحب الكتاب الذي يحمل اسمه. والبراهين هي هي(30)، غير أن هناك اختلافاً كبيراً. فصاحبُ هذا المؤلّف الرفيع ليس النبيّ اشعيا بل مدوّن مجهول وعبقريّ(31). وهكذا تكلّموا عن »مسيرة تدوينيّة متشعّبة« دُوّنت بحسبها ف 40 - 66 على ضوء الأقوال التي قيلت في القرن الثامن(32). وهكذا تصالح المفسّرون مع وحدة تأليف سفر اشعيا! ومع ذلك، لماذا الكلام عن مسيرة تدوينيّة متشعّبة أو مدوّن متأخّر؟ ولماذا لا نقول مع الشهادة البيبليّة والتقليد إن صاحب هذا الكتاب الذي تمتّع بمخيّلة لافتة هو اشعيا نبيّ الربّ في القرن الثامن؟

خاتمة

إن الأبحاث التوراتيّة في هذه العقود الأخيرة قد فتحت طرقاً رائعة. شدّدت على المقاربة السنكرونيّة للنصوص النبويّة، فأتاحت لنا أن نُبرز تماسكَها الأدبيّ واللاهوتيّ. لا شك في أن الفائدة مهمّة جداً. ولكنها محدودة، لأن النقد يصطدم بنظرة ضيّقة إلى النبوءة، وهي نظرة »برهان النبوءة«. لا شك في أن النبيّ يوجّه كلامه إلى معاصريه. غير أن موقعه يتحدّد في قلب تاريخ له بداية وله نهاية. وهذا التاريخ الذي يفترض صورة خطوطيّة للزمن، الله هو الذي يقوده. وحين ينقل النبيّ كلمة الله إلى معاصريه، فهو يوبّخهم أو يعزّيهم بالنظر إلى الماضي ومن أجل المستقبل. فالوحي الالهي له بُعدان اثنان: بُعد تاريخيّ وبُعد اسكاتولوجيّ، ومركزه البُعد المسيحاني. فقد أبرز أشعيا هذا المنظور النبويّ فما جاراه نبيّ آخر(*).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM