الفصل العاشر: تاريخ البنتاتوكس أو أسفار موسى.

الفصل العاشر:

تاريخ البنتاتوكس أو أسفار موسى

في إطار التطوّرات الرئيسيّة في القرن العشرين، لدراسة العهد القديم، والتطلّعات المستقبليّة من أجل القرن الحادي والعشرين، نتوقّف في محطّة أولى عند البنتاتوكس أو أسفار موسى الخمسة. وهي: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، تثنية الاشتراع. ونبدأ بملاحظات:

1- ملاحظات أولى

منذ نهاية القرن السابع عشر، وصلت الفرضيّات النقديّة إلى الطرح المراجعيّ كما عند ولهاوزن(1)، وعملت تدريجياً على التخلّي عن التقليد اليهوديّ والمسيحيّ الذي اعتبر أن نسبة البنتاتوكس إلى موسى أمر صحيح. منذ سنة 1970، جاءت فرضيّات جديدة فزعزعت الفرضيّة المراجعيّة المعروفة.

فمسألة تاريخ تكوين البنتاتوكس بدت وكأنها وجدتْ جوابَها في تعبير ولهاوزن. فالنموذج التفسيري الذي تدقّق بيد فون راد(2) ونوت(3)، لم يشكّ فيه أحدٌ شكوكاً جدياً إلاّ في العقود الأخيرة من القرن العشرين. واليوم، هذه الفرضيّة في صياغتها المعروفة مع أربعة مراجع (يهوهيّ، الوهيميّ، اشتراعيّ، كهنوتي) صارت مردودة. وإعادةُ تكوين تاريخ تأليف البنتاتوكس حسب هذه الرسمة، لم تعد مقبولة(4).

حتى سنة 1970، ظنّ المتعلّقون بهذه النظريّة أنهم يستطيعون أن يميّزوا أربعة مصادر مستقلّة: اليهوهيّ الذي ارتبط بداود وسليمان، بالملكية في مملكة يهوذا، في الجنوب مع العاصمة أورشليم. الالوهيميّ الذي يعود إلى القرن الثامن. خرج من مملكة الشمال بعاصمتها السامرة. فبدا معارضاً للملكيّة وجاء قريباً من الأنبياء الأولين مثل هوشع وعاموس، والأخبار المتعلّقة بإيليا (1 مل 17 - 21). الاشتراعيّ الذي وُلد مع إصلاح يوشيا الذي ركّز شعائر العبادة سنة 622. الكهنوتيّ الذي وجد جذوره في المنفى أو بعد المنفى. في نظره، الشرائع والنظم العباديّة نفترض تركيز العبادة كما في الاشتراعيّ.

وتكوين البنتاتوكس، بحسب هذه الرسمة، تمَّ على مراحل، وامتدّ خمسة أو ستة قرون من الزمن. فالتقاليد الشفهيّة القديمة، القبل منفاويّة، دُوّنت بيد اليهوهيّ في القرنين 10 - 9 ق م. وبيد الالوهيمي في القرنين 9 - 8. في القرن الثامن دُمج التقليدان اليهوهي والالوهيميّ، رغم اختلافهما ليكوّنا اليهولوهي. وتكوّن الاشتراعي في نهاية القرن السابع. وأضيف إلى النصّ الإخباريّ الكهنوتيّ(5) المنفاويّ، ملحقاتٌ تشريعيّة كهنوتيّة، بعد المنفى. ودُمج الكهنوتيّ مع اليهوهي ليكوّن التتراتوكس أو الادراج الأربعة (التكوين، الخروج، اللاويين، العدد). وعبَر الباحثون المرحلةَ الكبرى الأخيرة في هذا التاريخ، حين ارتبط سفر التثنية بهذه المجموعة ليكوّن البنتاتوكس أو الأدراج الخمسة. هذه المراجع الأربعة (يهوهي، الوهيمي، اشتراعي، كهنوتيّ) قد لامستها يدٌ تدوينيّة في زمن المنفى وما بعد المنفى. وتمّت صياغة البنتاتوكس النهائيّة في إطار اصلاح عزرا في القرن الخامس أو بعد ذلك الوقت.

مرّ قرنٌ من الزمن فيه تركّز الاهتمام التاريخيّ النقديّ على البحث عن تكوين نصوص البنتاتوكس. وبعد سنة 1970، بدأ الميزان يُميل إلى دراسة النصوص في شكلها الأخير أو الحالي، سواء في مجموعات أدبيّة، أو كتب كاملة، أو مجموعة أسفار هي البنتاتوكس في شكله القانونيّ.

هذا الانقلاب على مستوى النهج ارتبط بسؤال اساسيّ: أين نُمسك النصّ لكي نتعرّف إلى مركّبات البنتاتوكس ومسيرة تكوينه؟ هل ننطلق من المراجع أي من بداية التدوين كمسيرة؟ أو من الشكل النهائيّ الذي وصل إليه النصّ؟ بالنسبة إلى المقاربة الدياكرونيّة (التفصيليّة)، نجد الجوابات في اختلافات الأسلوب واللاهوت، وفي التقصّفات(6) والتوتّرات الأدبيّة. هي مفاتيح قراءة تتيح لنا لا أن نحدّد الوثائق والطبقات التدوينيّة وحسب، بل أيضاً علاقةَ هذه النصوص مع تاريخ شعب اسرائيل. مقابل هذا، اعتبر اليوم عددٌ كبير من الشرّاح أن النصّ يجب أن يُدرس في شكله النهائيّ لكي نكتشف بنيته وتماسكه. بعد ذلك، نعود إلى أصوله وتوسّعاته. حسب هذه المسيرة، القراءة السنكرونيّة تسبق القراءة الدياكرونيّة. نقرأ النصّ بشكل إجماليّ ثم نعود إلى التفاصيل.

جاءت الجردة بسيطة. فقد أردنا أن نكتشف بعض المحطات في الأبحاث المعاصرة. فهذه الأبحاث تنطلق من نهوج مختلفة، بشكل عام، فتؤول كلها إلى إلقاء الضوء على تاريخ جديد لمسيرة تأليف البنتاتوكس وتدوينه. ومع أن اليهوهي والالوهيمي والاشتراعي والكهنوتيّ تبقى حاضرة في الأبحاث الحاليّة، إلاّ أنها لا تدلّ بعدُ على المراجع التي تحدّث عنها الباحثون في الماضي. فهذه المراجع، ولا سيّما اليهوهيّ والالوهيميّ، خسرت حدودها عند البعض، ووجودها لدى البعض الآخر على حساب وحدات أدبيّة أو سلسلة طبقات تدوينيّة، اشتراعيّة وكهنوتيّة.

2 - القراءة الدياكرونيّة (التفصيليّة) وتحوّلاتها

أ - الالوهيميّ

الالوهيميّ الذي استصعب الشرّاح تحديد نصوصه، كان دوماً مرجعاً ذا أهميّة ضئيلة. فالنصوص التي لم يستطع النقّاد أن يجعلوها مع اليهوهيّ ولا مع الوثيقة الكهنوتيّة، وُضعت في ملفّ الالوهيميّ. والنصوص الرئيسيّة التي دخلت في هذه الخانة، قدّمت العهد مع ابرام (تك 15)، وابراهيم في جرار حيث يوصف بالنبي (تك 20)، مولد اسحق وذبيحته (تك 21 - 22)، سلّم يعقوب (تك 28:10 - 22)، دعوة موسى (خر 3 - 4)، بعض الأجزاء في خبر سيناء (خر 19 - 24)، خبر بلعام (عد 22 - 24). وولهاوزن نفسه فضّل الكلام عن مرجعٍ دَمجَ الالوهيمي واليهوهي، لأن إعادة تكوين الالوهيمي، انطلاقاً من النصوص، بدت غير ممكنة. وظنّ الباحثون أن حالته الأجزائيّة عادت إلى أنه، يوم دُمج الالوهيمي واليهوهيّ، استعمل اليهولوهي اليهوهي، في درجة أولى، ثمّ كمّله بالألوهيمي. وبما أن هذا المصدر شُوّه، فما عاد يكوّن لحمة أخباريّة متواصلة ومتماسكة.

بما أن هذه النصوص بدت مبعثرة، وبما أن بعضها يستعمل الاسم الالهي يهوه، لا إلوهيم، صار الشرّاح الذين يتحدّثون اليوم عن الالوهيمي، قلّة قليلة. أمّا وسترمان(7) فتخلّى عن الالوهيمي، شأنه شأن عدد من النقّاد. بل نحن بالأحرى أمام اختلافة في اليهوهيّ أو لمسات تدوينيّة جاءت من التيّار الاشتراعيّ. لهذا، فوضعُ تاريخ لهذه النصوص التي اعتبرت سابقة للمنفى، يُحدَّد في زمن المنفى أو بعد ذلك الزمن.

ب - اليهوهي

إذا كان الالوهيمي صار في عالم الاهمال فنساه النقّاد، فاليهوهي طُرد من القصر الملكي، فما عاد مركزُه عالمَ داود وسليمان. اعتُبر اليهوهي، في الماضي، شأنه شأن الالوهيمي، مصدراً رئيسياً. ولكنه بدأ يخسر أولويّته لدى عدد من الشرّاح. هو ما زال موجوداً، هذا ما لا شكّ فيه. ولكن النقّاد يرون عدم تماسكه. فإن نوت وفون راد(8) نسبا إلى اليهوهي، كلّ بطريقته، الدور الأوّلي في تأليف البنتاتوكس. هذا الرأي سيطر على النقد الأدبيّ خلال نصف قرنٍ من الزمن.

هناك نقّاد قليلون، وبعضهم مشهورون مثل شميدت(9) ما زالوا يدافعون عن يهوهي يعود إلى بداية الملكيّة. أما رندتورف(10)، خلفُ فون راد في جامعة هايدلبرغ، وبلوم(11) تلميذ رندتورف، فيقولان بأنه ما وُجد يوماً مرجع يهوهي، كما لم تُوجد مراجع أخرى.

يرى معظم الشرّاح أن اليهوهي يبقى، ويبدو غامضاً، وما هو ذاك المؤرّخَ الكبير ولا ذاك اللاهـوتـيّ الذي تحدّث عنه الطــرحُ الكلاســيكي. حافظ فرمايلن(12) على وجود يهوهي أولاني سليمانيّ، ولكن هناك إعادة نظر أساسيّة في العمل التدوينيّ. فقد أعيد تأليفه وأكمِل نصّه في حقبات مختلفة. وهذه الإضافات التدوينيّة المتأخّرة التي أغنت اليهوهي، تحتلّ مكانة هامّة في التأويل النقديّ الحاليّ.

واعتبر فان ساترز(13) أن التدوين الرئيسيّ لليهوهيّ قد تمّ في الحقبة المنفاويّة أو بعد المنفاويّة. ولكن لسنا أمام مرجع مستقلّ، بل أمام سلسلة من قراءات وإعادة قراءات، إنطلاقاً من تقاليد قديمة. مثلاً، الأخبار الثلاثة التي تجعل كل من ابراهيم واسحق يقولا إن زوجته هي أخته (تك 12؛20؛ 26). هي إعادة تفسير واحد، لا مراجع متوازية. فخبرُ اليهوهيّ الذي يبدأ بتاريخ البشريّة (تك 2:4 ب) يشكّل مقدّمة لعمل الكاتب الاشتراعيّ الذي يبدأ بخبر ابراهيم مع تك 12. هو يعارض الروح الوطنيّة وما تحمل من شريعانيّة، ويُبرز لاهوتاً انسانياً شاملاً. انتقد اليهوهي تشاؤم الاشتراعيّ لكي يُعيد الرجاء إلى المنفيّين. وتجد هذه الأفكار امتداداً لها، فيما تجد، لدى شميد(14)، روزي(15)، لافين(16). فإله اليهوهي هو مع شعبه، وهو يباركه حتّى في المنفى، كما بارك الآباء والشعب في مصر وفي البريّة، وكان معهم. وهذه البركة لا تكون فقط في هيكل أورشليم، كما يقول التقليد الاشتراعيّ.

ينتج عن هذه النظريات أن اليهوهي دُوّن بعد سفر تثنية الاشتراع والتاريخ الاشتراعي، من سفر يشوع إلى الملوك الثاني. فإن وُجد اليهوهي القديم، فقد نقصت نصوصُهُ لحساب عدد متنامٍ من النصوص القريبة من التيّار الاشتراعيّ. فاليهوهيّ يعبّر تعبيراً لاهوتياً عن التقليد الاشتراعيّ حاسباً حساب الاختلافات الدقيقة. هو يفترض الاشتراعيّ، وبالتالي يأتي بعده في تكوين البنتاتوكس. اختلف النقّاد حول مسألة استقلاليّة اليهوهي، ولكنهم توافقوا في مجملهم على أن القسم الأكبر منه لا يعود إلى بداية الملكيّة، بل إلى حقبة المنفى البابليّ أو بعد ذلك(17). بما أن الأسس القديمة التي وضعها اليهوهيّ قد تزعزعت، فهذا يعني سقوط كل بناء الفرضيّة المراجعيّة.

ج - الشعب الاسرائيليّ قبل الملكيّة

حين نجعل تدوين اليهوهي قبل أربعة أو خمسة قرون من الزمان، يكون لقولنا نتائج لفرضيّات رئيسيّة مرتبطة بظهور شعب اسرائيل قبل الملكيّة. فالوثيقة التي صاغها اليهوهي، اعتُبرت فيما مضى أكمل وأقدم المراجع، فكانت حجر الغلقة لتكوين تاريخ اسرائيل قبل الملكيّة. من هذا القبيل، سيطر طرح نوت وفون راد(18) على الأبحاث خلال خمسين سنة. مع أنهما حدّدا البنتاتوكس تحديداً مختلفاً، إلاّ أنهما شاركا في وجهات قريبة حول تاريخ تأليف النصّ والدور الرئيسيّ لليهوهي. فاليهوهي هو الذي كان أول من دوّن التقاليد الشفهيّة القديمة في اسرائيل، وألّف اللحمة الاخباريّة في التتراتوكس (أربعة أسفار)، من التكوين إلى العدد (نوت)، أو الهكساتوكس (ستة اسفار)، من التكوين إلى يشوع (فون راد)(19).

بعد سقوط التكوينات النقديّة لبداية شعب اسرائيل، التي انطلقت بشكل رئيسيّ من اليهوهي، صار من الصعب أن نُعيد التقاليد القديمة (وعدٌ أعطيَ للآباء، النزول إلى مصر والصعود منها، سيناء، المسيرة في البرية والدخول إلى كنعان) إلى حقبة سابقة للملكيّة. فتقاليد حقبة اسرائيل السابقة للملكيّة تدخل بالأحرى في بناء أدبيّ ينتمي إلى الملكيّة المتأخّرة أو المنفى، لا إلى تاريخ اسرائيل أو إلى ما قبل هذا التاريخ(20).

د - المؤلّف الكهنوتيّ

ولعب المقصّ أيضاً في المؤلّف الكهنوتيّ. فقد أعلن الطرحُ الكلاسيكيّ أن الخبر (أو التاريخ) الكهنوتيّ هو مؤلّف مستقلّ. في نظر نوت، هذا الخبر الذي يدور حول محورين اثنين، التاريخ الشامل وتاريخ الشعب، كوّن إطارَ البنتاتوكس. وقد استعمله المدوّنون من أجل بناء مواد قديمة (جاءت من اليهوهي والالوهيمي) أدرجوها فيه.

يرى بعض الشرّاح منذ كروس(21) أن الكهنوتيّ ليس وثيقة كاملة، مستقلّة، بل طبقة تدوينيّة أعادت النظر في تقاليد قديمة، أو مصادر سابقة (اليهوهي، الالوهيمي) فكوّنت لها إطاراً ونظّمتها وكمّلتها. حسب فان ساترز(22) كانت النصوص الكهنوتيّة طبقة تدوينيّة انطلقت من تك 1 فوصلت إلى قض 2:5. وظنّ روزي(23) أن الكهنوتيّ هو مقدّمة ثانية للمؤلّف الاشتراعي، وقد توخّى أن يصحّح اليهوهي. كما أراد أن يعارضه مصلِحاً اللاهوت الاشتراعي.

استند أوليفيه ارتوس(24) على أبحاث نوربير لوهفينك(25). منطلقاً من قراءة سنكرونيّة، فأبرز المحاور الرئيسيّة في النصوص الكهنوتيّة الكبرى، التي تشكّل، في رأيه، لمحة إخباريّة متماسكة: خبر البدايات (تك 1:1 - 2:4 أ)، الخطيئة وعقاب البشريّة والعهد المعقود مع نوح (تك 6:5 - 9:17)، العهد مع ابراهيم (تك 17)، كشف الاسم الالهيّ لموسى (خر 6 - 7)، الخروج من مصر (خر 14)، عطيّة الطعام (خر 16)، عصيان الشعب في البريّة (عد 13 - 14؛ 20:1 - 13)، الوصول إلى عتبة أرض الموعد، وربّما الدخول إلى كنعان (بداية يش). فالأخبار تكمن في دورتين متوازيتين: من جهة، عطيّة الله وعصيان الانسان. ومن جهة ثانية، تجديد العهد بين الله والمختارين (تك 1 - 9 ثم تك 12 ي). إن تماسك النصوص الاخباريّة وتوزُّعَها في توازيات، يشيران إلى وجود مؤلّف كهنوتيّ مستقلّ. تلك كانت فكرة أرتوس.

وحين ننظر هكذا إلى التتراتوكس (أربع لفائف)، يبدو في جوهره تأليفاً كهنوتياً. من جهة، يتكوّن من أخبار قبل منفاويّة لا كهنوتيّة. ومن جهة ثانية، من الخبر والشرائع الكهنوتيّة وإعادة قراءة نصوص لا كهنوتيّة متأخّرة. وانطبع التتراتوكس أيضاً باعادة قراءة نصوص لا كهنوتيّة متأخرّة، فعارضت اللاهوت الكهنوتيّ. وفي حقبة متأخّرة من تأليف البنتاتوكس، دُمج الخبرُ الكهنوتيّ والتقاليد القديمة. ثم جاء تأليف كهنوتيّ فربط الأخبار والشرائع. ومجموعات الشرائع الكهنوتيّة التي ضُمّت إلى التتراتوكس، عكست تأثيراً مسيطراً من قبل الوسط الكهنوتيّ.

هـ - التقليد الاشتراعيّ

أولاً: تثنية الاشتراع والاشتراعي

منذ ده واتي(26)، سنة 1805، سفر التثنية هو نقطة الثقل في النقد الأدبيّ للبنتاتوكس. هذا المصدر ارتبط ارتباطاً نهائياً بحدث تاريخيّ، في تواصل بين نواة التثنية التشريعية القديمة (تث 12 - 26 أو 12 - 18) و»كتاب الشريعة«، فحرّك إصلاحات يوشيا في القرن السابع ق. م. (2 مل 22 - 23).

حسب نوت(27)، خرج الكاتب الاشتراعي من محيط علماني، لا كهنوتيّ، فأضاف خطباً إخباريّة من موسى على النواة التشريعيّة القديمة. وجسّد أيضاً التاريخَ الاشتراعيّ من يش إلى 2 مل. ما استطاع نوت يوماً أن يبيّن تماسك المؤلّف الاشتراعيّ (تث 2 مل)، وتلك كانت نقطة الضعف في طرحه. فاللاتماسكات والتوتّرات جُعلت في الحواشي، في أسفل الصفحة، ونُسبت إلى مراجع أعيدت صياغتُها أو إلى إضافات بعداشتراعيّة. إن عدم الوحدة في قلب هذه الوحدة، وصل بنا إلى فرضيّة تقول بوجود أكثر من تقليد اشتراعيّ.

صاغ كروس(28) طرحاً يتحدّث عن مؤلّف اشتراعيّ قبل منفاوي. ملكي، حماسيّ (اشتراعيّ أول)، دُوّن في زمن الملكيّة. وانتهى التاريخ مع يوشيا. تضمّن هذا التدوينُ موضوعين بارزين: من جهة، خطيئة يربعام النموذجيّة التي استعادها ملوك اسرائيل، مع نتيجتها التي هي سقوط مملكة الشمال وتشتّت الشعب في أشوريّة، ومن جهة أخرى، الأمل المقيم في اختيار الله لداود ولأورشليم. أعيد نشرُ هذا »المؤلّف« (الاشتراعي الثاني) من أجل المنفيّين الذين ما عادوا يتذكّرون يربعام ويوشيا. في هذه المرة، نحن أمام خطيئة منسّى النموذجيّة التي قادت الشعب إلى منفى بابل (تث 12:29 - 31؛ 29:21 - 27). رافقها أيضاً بلاغ أمل هو العودة من المنفى (تث 4:27 - 31؛ 30:1 - 10). واعتبر لوهفينك(29) أن لا بدّ من هذه القسمة في جزئين: التاريخ القبل منفاوي (اشتراعي أول) والتاريخ المنفاوي (اشتراعي ثانٍ).

رأى سماند(30) أن المؤلّف التاريخيّ الاشتراعيّ الأول، رأى النور في المنفى وأعيد نشره أكثر من مرّة. واعتبر وجود ثلاث طبقات تدوينيّة ارتبطت بالاشتراعي المؤرّخ، والاشتراعي النبي، ثم أكثر من اشتراعيّ. وبيّن هوفمان(31) بنية المؤلَّف ووحدته، فاعتبره متماسكاً ومتأخراً. أما التوتّرات فهي تميّز كتابة التاريخ في ما بعد المنفى.

ثانياً: سفر التثنية والتتراتوكس (أسفار أربعة، تك - عد)

إن شريعة تث، في شكل خطبة موسى، تمتزج مع الخلاصات التاريخيّة التي تدلّ على المسيرة من حوريب إلى الأردن. فالخبر الذي يرويه موسى، يتضمّن عناصر قديمة مثل الخروج والكلام إلى ابراهيم واسحق ويعقوب حول الأرض. ورأى الشرّاح أن الاشتراعيّ عرف المصادر القديمة (يهوهي، الوهيمي) في البنتاتوكس، فصاغ خطبَ موسى التاريخيّة.

وحسب بعض النقّاد، تألف هذا الخبر »القديم« في تث، من طبقات اشتراعيّة نظرت إلى الوراء. ففي نظر فان ساترز وشميد وروزي(32)، هذه الخطب الاشتراعيّة التي تلاها موسى، هي بداية التاريخ الأدبيّ في البنتاتوكس. بعد ذلك، أُسقط التقديمُ الاشتراعيّ على خلفيّة الزوج والآباء والخلق، وهي نصوص نُسبت في الماضي إلى اليهوهيّ والالوهيمي.

مقابل هذا، وحسب بلوم(33)، تأليفُ الاشتراعي الذي ورث المؤلّف الاشتراعيّ، سبق تأليفَ الكهنوتيّ، والاثنان كانا امتداداً لتقاليد قديمة. فالعمل الاشتراعي ليس إذن بداية التاريخ الأدبيّ، لأن مراجعه موجودة في التتراتوكس. فبعد ذلك، ربط تدوينُ كل من الاشتراعي والكهنوتيّ، للمرة الأولى، خبرَ الآباء بسائر البنتاتوكس.

ثالثاً: حوار بين اللاهوت الاشتراعيّ واللاهوت الكهنوتيّ

اعتُبر اللاهوتُ الكهنوتيّ ابنَ الكهنة وقد وُلد في زمن المنفى البابليّ. وقد قام أملُهم في النظام الكهنوتيّ، في إعادة بناء الهيكل وهويّة الشعب حول شعائر العبادة، وهي هويّة تجذّرت، في الماضي، في النظام الملكي، ولكنها انهارت الآن. فوساطة العلاقة بين الله وشعبه، تبقى محصورة في مجال النظام الكهنوتيّ. ووحدهم الكهنة الهارونيّون هم وسطاء تقديس الشعب.

أما اللاهوت الاشتراعي الذي خرج من أوساط العوام، فتأسّس على العهد والتزام الله تجاه شعبه وحبّ الشعب لإلهه. فكانت هويّةُ الشعب في تاريخِ لقاءٍ يوحّده بالله. هناك مملكة كهنة (يذبحون الذبائح): إذن مُنحت القداسة للشعب كله، وليس فقط لكهنوت تراتبيّ حسب مقياس قداسة. فالقداسة هي نتيجة اختيار الله لشعبه من بين جميع الأمم وثمر اختيار الجماعة كلها.

بيّنت الأخبار الكهنوتيّة أن كل محاولة عصيان لها عقابها: الطرد من عدن، الطوفان، موت اللاويّين الذين عارضوا سلطة موسى وهارون (عد 16 - 17)، موت الجيل المتمرّد في الخروج (عد 14)، عقاب موسى نفسه الذي خطئ فما استطاع الدخول إلى كنعان (عد 20). وتحدّثت الشرائع الكهنوتيّة عن عقاب هو الاستبعاد أو الاعدام للخطايا الإراديّة. فالمذنبون لا يستطيعون بعدُ أن يقيموا في الجماعة المقدّسة. والأخبار والشرائع لها مرمى واحد: طاعة الشعب والمحافظة على الطهارة الضروريّة لكي تبقى الجماعة حيّة ولا تموت.

وترابطُ الأخبار والشرائع يُبرز هو أيضاً ضرورة الطاعة. فإلى خبر العهد مع نوح (تك 9)، ضُمّت شريعتان تمنعان القتل وأكل دم الحيوان. وخبرُ العهد الذي قُطع مع ابراهيم (تك 17)، تضمّن شريعة الختان. وعطيّة المن رافقها تذكير بشريعة السبت (خر 16). وعصيان هذه الشريعة يكون له العقاب القاسي.

إذا كان الكتاب الكهنوتيّ يشدّد على الخطيئة والعقاب، فالاشتراعيّ يشدّد على الغفران. ويقولون إن هذا التوتّر حاضرٌ، مثلاً، في خبر عبادة الأوثان، في سيناء (خر 32)، وخبر رفض الدخول إلى كنعان (عد 14). فالخطيئة الاراديّة في هاتين الحالتين الكهنوتيّتين، تجد عقابها في قصاصٍ قاسٍ (خر 32:9، 33؛ عد 14:12، 23). هذان الخبران قد أعاد قراءتَهما الاشتراعيّ فأدخل حنان الله (خر 32:7 - 14؛ عد 14:13 - 20). فالربّ رحيم ويتجاوب مع تشفّع موسى من أجل الشعب المتمرّد.

3 - قراءات سنكرونيّة (تفصيليّة)

أ - نظرة شاملة، سريعة

إن تكاثر النظريات المتصارعة، والمتعلّقة بالمراجع والطبقات التدوينيّة، حرّكت مللاً عاماً، وفتحت مقارباتٍ سنكرونيّة إلى البنتاتوكس. فبين الكتّاب الذين طبّقوا هذه النهوج المختلفة، نورد أسماء كلاينس(34) في ما يخصّ البنتاتوكس، وراندسبورغ(35) في سفر التكوين، وسكا(36) في سفر الخروج، ولوهفينك(37) في سفر التثنية، وبولزين(38) في سفر التثنية والتاريخ الاشتراعي، ورندتورف(39) وتلاميذه في ما يخصّ الوحدات الكبرى في البنتاتوكس. هؤلاء عارضوا المقاربة التاريخيّة النقديّة، واعتبروا أن كل بحث في النصّ يجب أن يبدأ في شكله النهائيّ، وذلك قبل الدخول في البحث عن تاريخه. وفي شكل خاص، راندتورف وتلميذه بلوم(40) قدَّما فرضيّات جديدة أثّرت تأثيراً كبيراً على المقاربة الأدبيّة للبنتاتوكس، وقدّمت عناصر جوابيّة لتاريخ تأليف البنتاتوكس.

حين يبرز تماسُك أخبار البنتاتوكس وترابطها على المستوى الأدبيّ، تظهر أسئلة جديدة. مثلاً، لماذا لا تفترض أخبارُ الآباء (تك 12 - 50) تاريخ البدايات (تك 1 -11)، على المستوى الأدبيّ. ومع ذلك، فالمجموعتان الأدبيّتان تتوحّدان بسلسلة نسب (تك 11:10 - 32) تجعل من شخص ابراهيم نقطة الوصل. ونقول الشيء عينه عن الهوّة بين نهاية تك وبداية خر: تردمها إجمالةٌ تاريخيّة (خر 1:1 - 7). إذا كانت اللمحة الاخباريّة في البنتاتوكس قد تألّفت من عدد من الأخبار الموحّدة، ولكن المستقلّة بعضها عن بعض، فالفرائضيّة المراجعيّة لا تأخذ هذا في الحسبان.

حسب رندتورف(41)، تألّف البنتاتوكس من وحدات أدبيّة كبرى. تماسكت كل وحدة، ولكنها استقلّت عن أختها: تاريخ البدايات (تك 1 - 11). الآباء (تك 12 - 50). الخروج وموسى (خر 1 - 15). متتالية سيناء (خر 19 - 24). اسرائيل في البريّة (خر 16 - 18؛ عد 11 - 20). الدخول إلى كنعان (يشوع). وارتبطت الوحدات بعضها ببعض في مرحلتين تدوينيّتين بتأليفات بعد منفاويّة. والتدوين الأكمل الذي يربط جميع الوحدات ويغطّيها هو اشتراعيّ. والطبقة التدوينيّة الثانية هي كهنوتيّة، ولكننا لسنا أمام التدوين النهائيّ للبنتاتوكس. فتكوين البنتاتوكس الحالي يرتبط بعمل تدوينيّ لدى المجموعتين: الاشتراعيّة والكهنوتيّة.

ودرس بلوم(42) تاريخ الآباء والمسيرة التدوينيّة التي ربطت هذه المجموعة بسائر الوحدات الكبيرة. فحسب بلوم، تك 12 - 50 هو نتيجة مسيرة طويلة من التدوين قبل أن ترتبط المجموعات بسائر الوحدات. هناك تدوينان متعاقبان. الأول الذي نصوصه الكبرى هي تك 15 (نُسب في الماضي إلى الالوهيمي) وتك 24 (نُسب في الماضي الى اليهوهي)، قد نُسبت إلى التيّار اللاهوتيّ الاشتراعي. أما تاريخ هذه الطبقة فالحقبة الفارسيّة. والتدوين الثاني (بعد منفاوي) هو طبقة كهنوتيّة تنقسم اثنتين: واحدة تستعمل شداي (تك 17). وأخرى المواليد (توليدوت). هذه الطبقة الأخيرة تكمّل وتحوّل التأليف الأول. وبعد الحقبة البعدمنفاويّة، ارتبط تاريخ الآباء (بواسطة الطبقتين التدوينيّتين) بباقي البنتاتوكس. وأضيفت أيضاً بعضُ النصوص المتأخّرة، فتجاوبت مع حاجات الشتات في الحقبة الهلنستيّة(43). ولازمةُ ولادة الشعب والأرض، تتكرّر على مدّ طبقات أخبار الآباء، فتجد قاعدتها في الحقبة المنفاويّة والبعدمنفاويّة.

ب - نظرة جديدة إلى البنتاتوكس القانونيّ

واختلفت الآراء شيئاً فشيئاً حول طبيعة النصّ النهائيّ في البنتاتوكس كمجموعة موحّدة. يجب أن ننسب تكوينها النهائيّ إلى تدخّل أوساط مختلفة (اشتراعيّ، كهنوتيّ)، ونفترض عدداً من قراءات متأخرة، جاءت بعد الاشتراعي وبعد الكهنوتيّ. واختلفت الآراء أيضاً حول الأوساط التي خرجت منها النصوص الاشتراعيّة والكهنوتيّة (حلقات، مدارس، كتبة منفردون)، وحول زمن تدخّل هذه الأوساط (في الوقت عينه أو على التوالي) التي دوّنت هذه الكتابات.

فالتتراتوكس، في شكله الأخير، يضم لاهوتَين مختلفَين، الواحد تجاه الآخر. في هذا التوتّر تعبّر النصوص عن وحدة إيمان الشعب الذي يتجاوز الفرق بين الاشتراعيّ والكهنوتيّ. ففي نصّي الدكالوغ (أو الوصايا العشر)، في الكهنوتيّ (خر 20:2 - 17) والاشتراعيّ (تث 5:6 - 12)، يتداخل اللاهوتان في إيجاز، مع العلم أن السبت يرتبط في خر 20، بلاهوت كهنوتيّ لكون مرتّب ترتيباً، وفي تث 5 بلاهوت اشتراعي، لاهوت التحرير من مصر. فلاهوت الدكالوغ يربط هكذا التتراتوكس بسفر التثنية، ويُبرز وحدة البنتاتوكس كشريعة (ت و ر ه) نهائيّة للشعب كله.

فالتلاصُق، في قلب البنتاتوكس، بين التتراتوكس الذي يدلّ لاهوته على اهتمامات كهنوتيّة، وبين سفر التثنية الذي انطبع بلاهوت خاص، يَسمحُ بوجود اتجاهات لاهوتيّة مختلفة في نصّ قانونيّ واحد. إنها تصدر من مجموعات مختلفة، تطلب ذات العلاقة العهديّة مع ذات الإله. فهذان الوسطان الرئيسيّان (الكهنوتيّ والاشتراعيّ) قد أعادا قراءة وتفسير التقاليد القديمة حسب اعتبارات لاهوتيّة من حقبة المنفى وحقبة البناء بعد المنفى، لدعوة الشعب إلى طاعة إله العهد.

وهناك عامل خارجيّ، هو قرار المملكة الفارسيّة، الذي سمح لسكّان يهوذا بممارسة حقّهم حسب تشريعهم الخاص. هذا العامل كان الحافز على تجميع التقاليد الإخباريّة والتشريعيّة القديمة في شريعة (ت و ر ه) واحدة. فإقامة شريعة مشتركة كانت أمراً ضرورياً لتُكفَل استقلاليّةُ الجماعة الجديدة على المستوى السياسيّ. وهكذا صاغت تاريخاً وارثاً مشتركين لدى الشعب، كما صاغت الحقّ السياسيّ والدينيّ. ولكن هذا الحقّ الذي تُشرف عليه السلطات الفارسيّة، فرض توافقاً بين مختلف التيّارات اللاهوتيّة(44).

ج - تقييم ونقد

الرهاناتُ التفسيريّة التي تظهر في طريقة النظر إلى البنتاتوكس في طبقات تدوينيّة متعاقبة، لا في مصادر، مهمّةٌ جداً. فمختلف العناصر التي تكوّن البنتاتوكس تُعتبر متأخّرة، اشتراعيّة أو كهنوتيّة. فكما رأينا في بعض الأمثلة التي أعطيناها من قبل، معظم النصوص ذات المعنى اللاهوتيّ اللافت، تعود إلى زمن المنفى أو بعد هذا الزمن (مثلاً، تك 12؛ 15؛ 17).

يتبع ذلك أن كلّ محاولة لقراءة أخبار الآباء، مثلاً، في سياق النصف الأول من الألف الثاني ق م، يشوّه هدف النصّ. حسب هذا المنظور، النداء والوعد لابرام (تك 12:1 - 3)، يجب أن يُقرأا في سياق بعدمنفاويّ، كنداء للذين لبثوا في أور الكلدانيّين أن يعودوا إلى الأرض(45). في الماضي، أتاح اليهوهي »صاحب« هذا النصّ القديم، قراءةً ملكيّة للبركة، فكان فضله أنه قرّب القارئ من حقبة الآباء أكثر ممّا فعله الكهنوتيّ الذي أراد أن يضع يده عليه.

ثم إن التشديد على أن بنية تث توافق شكل المعاهدات بين ملك وملك، في الشرق الأدنى القديم، في الألف الثاني، لا في الألف الأول، يخون تكوينَ المصدر الاشتراعيّ المتأخّر. وبنية تث حسب نموذج قديم، هي علامة تعديل تدوينيّ متأخّر. وهي تتوخّى أن تُسقط الكتاب كلّه على خلفيّة بعيدة، لتبيّن التواصلَ عبر تاريخ علاقة الله بشعبه، حتى يوم كان ذاك الشعب في المنفى. وحسب هذه الفرضيّة الجديدة، العودةُ إلى تماسك نصّ وبنيته كبرهان لا يُردّ لوحدته ولأسبقيّته، لا تفيد سوى أن تبيّن المرحلة التدوينيّة المتأخرّة. فالفرضيّة المراجعيّة صوّرت موضع التدوين الاشتراعي في زمن إصلاح يوشيا. أما ما قدّمته المقاربة النقديّة الجديدة، فهي أنها أبعدت تث عن السياق الذي جعل نفسَه فيه.

إن ذاتيّة البرهان التي تُسند اختلاف الطبقات التدوينيّة واضحة. ننطلق من مفهوم حول الأفق اللاهوتيّ لنصّ من النصوص، لنحدّد نصوصاً أخرى تنتمي إلى هذا الأفق. ونعمّق هذا المفهوم بهذه النصوص عينها. وهكذا نبقى داخل الدائرة ولا نخرج منها. ثم نبحث عن كرونولوجيا لتوسّع مختلفِ الاتجاهات اللاهوتيّة، لكي نربط هذه العناصرَ مع بعض فترات في تاريخ الشعب.

ويجب أن نتكلّم أخيراً عن توتّر بين اللاهوت الاشتراعيّ واللاهوت الكهنوتيّ. مثلاً، الذنب والعقاب في الكهنوتيّ، والغفران في الاشتراعي، كل هذا يرتبط بتيّار من الحوار الداخليّ. يعود هذا التوتّر إلى طبيعة العهد الذي يفترض النعمة، كما يفترض عوامل تفرض العهد: الخطيئة والفداء. من الطبيعيّ أن يُوجَد داخل مفهوم العهد، الحوارُ والتوتّرُ بين حنان الله وقساوته من جهة، وبين طاعة الشعب وعصيانه من جهة أخرى. أو بين التشجيع بشكل بركة من جهة، وبين التحذير بشكل تهديد ولعنة من جهة أخرى. هذه العناصر الجوهريّة في الوعد تسير بحسب الظروف.

4 - تطلّعٌ آخر إلى تدوين البنتاتوكس

حين نؤكّد صحّة نسبة  البنتاتوكس إلى موسى، لا نستبعد النقل الشفهيّ أو الخطّي لتقاليد قديمة أو لمصادر سابقة لموسى. ذُكر مصدر للبنتاتوكس في عد 21:14: »كتاب حروب الربّ«. أما تقاليد بدايات الكون وتاريخ البشريّة (تك 1 - 11)، ووصول الآباء وإقامتهم في كنعان والنزول إلى مصر (تك 12 - 50)، فقد انتقلت شفهياً، خلال حقبة طويلة، قبل أن تُدوّن. وقد يكون تمّ هذا التدوين، قبل (أو: في وقت) أن ترتبط هذه التقاليد بتقاليد لاحقة مثل الخروج من مصر وسيناء وعبور الصحراء والوصول إلى عتبة أرض كنعان. وتكوّنت شميلة التقاليد السابقة واللاحقة، بواسطة لائحة أسماء استُعملت كجسر أدبيّ بين المجموعتين (تك 11: 10 - 32 وخر 1:1 - 6).

والتقاليد القديمة التي سبقت سفر التكوين، لامستها يدٌ تدوينيّة. مثلاً التفسير »لهذا يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم امرأته ويصيران جسداً واحداً« (تك 2:24)، يفترض حقبة كان فيها الزوجان أو العائلة الخليّة الأساسيّة في المجتمع. وعبارة »كان الكنعانيّون حينئذ في الأرض« (تك 12:6) تدلّ على أنه ساعة دوّن هذا النصّ، أو ارتبط التقليد الابراهيميّ بسائر المجموعات الأدبيّة، لم يعد الكنعانيّون موجودين هناك. وفي السياق عينه نتحدّث عن »أور في كلداي« (تك 11:28، 31؛ رج 10:7)، فإنّ »في كلداي«، تفترض وجود الكلدانيّين الذين احتلّوا أور في الألف الأول، وحين نكتب أن ابراهيم طارد ملوك بلاد الرافدين إلى مدينة »دان« (تك 14:14)، فهذا يعكس أقلّه حقبة القضاة التي فيها هاجرت قبيلة دان إلى الشمال (قض 18:29). ونقول الشيء عينه عن ترتيب هذه القبيلة بين عشيرتَيْ الشمال، أشير ونفتالي (عد 2:25 - 31). وذكرُ اسرائيل في تك 34:7 يتضمّن أن اسرائيل كان مقيماً آنذاك في أرض الموعد. والتفسير »قبل أن يملك ملك على اسرائيل« في تك 36:31، يفترض الملكيّة. كلّ هذه الأمثلة أخِذت من تقاليد سابقة لموسى. وقد تمّت هذه التحويلات في حقبة النقل الشفهيّ أو ساعة دُوّنت هذه التقاليد.

ونجد التحويلات التدوينيّة عينها في التقاليد المتعلّقة بموسى. فخبرُ موت موسى دُوّن بعد وفاته (تث 34). هذا أمر لا شكّ فيه. ونشيد موسى في خر 15 يشير إلى »الجبل«، إلى »المقام«، إلى »المعبد« (آ 17) الذي أقامه الربّ. هذا ما يعود بنا إلى حقبة جاءت بعد بناء الهيكل. وذكرُ أجاج في عد 24:7 يفترض زمنَ صموئيل (1 صم 15:8). والتفسير »كما فعل اسرائيل بأرض ميراثهم التي أعطاهم الرب« (تث 2:12)، يُشير إلى حقبة لاحقة للاحتلال. وأخيراً الكلام عن الشعب »الذي طُرد إلى أرض غريبة حيث ما زال اليوم يعيش« (تث 29:27) يفترض المنفى إلى بابل.

على مستوى اللغة، نلاحظ توضيحات تنتهي في حقبة ما بعد المنفى. فالكتابة المربّعة التي هي توسّع في الكتابة الأراميّة، حلّت شيئاً فشيئاً محلّ الكتابة العبريّة القديمة (المأخوذة عن الفينيقيّة)، وألغتها بعد العودة من سبي بابل. ومع الاملاء، عرفت اللغة توسّعات أخرى خلال حقبة نقل تقاليد البنتاتوكس: زوال التاء من نهاية المؤنّث وحلول الهاء مكانها (ت و ر ت. صارت: ت و ر ه). وهناك ترتيب الكلام داخل الجملة. كل هذا دخل تدريجياً في النصّ. وقد توقّف تطوّر اللغة المكتوبة في البنتاتوكس خلال الحقبة الفارسيّة، ساعة تثبّت النصّ. إذن، هناك توازٍ بين اللمحات التدوينية التاريخيّة والتوضيحات اللغويّة.

وأهم سؤال في هذه التدخّلات التدوينيّة، قبل موسى وبعده، هو طبيعتها. هي لا تمسّ صحّة النصّ في شكل من الأشكال. ولسنا أمام قراءة جديدة وتفسير جديد وصياغة جديدة قلبت تقاليد البنتاتوكس رأساً على عقب. فهي لا تحوّل التاريخ الذي أوردته التقاليد. بل تُوضِحُ معنى النصوص من أجل سامعين في حقبات وُجّهت إليهم. هذا الاهتمام بتوضيح النص كان له بعدان تفسيريان. من جهة، هي دعوة للمؤمن لكي يسمع البلاغ في سياق بعيد. ومن جهة ثانية، هي دعوة لكي يفهمه ككلمة تتوجّه إليه الآن.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM