الفصل السادس:كلمةالله أمام الديانات والحضارات.

الفصل السادس:

كلمةالله أمام الديانات والحضارات

يصعب علينا أمام موضوع بمثل هذا الاتّساع، أن نقول شيئاً موافقاً يتوخّى بعض الشموليّة، ويصل إلى قارئ كلمة الله، في مثل هذا الوضع الملموس، أي في ظروف تاريخيّة وحضاريّة كتلك التي نعرفها. إذن أُحسّ بالحاجة إلى أن أترك عموميّات كهذه، لأقول حالاً إن كلمة الله تدلّ على بشرى الخلاص في يسوع المسيح الذي مات وقام. ونفهم بالديانات، لا الديانات الكبرى الحيّة وحسب، مثل المسيحيّة، بل مختلف التديُّنات(1) العاطفيّة والتحرّكات التقويّة التي تعرف نجاحاً متنامياً في العالم الأول(2). أما في ما يتعلّق بالحضارات، فموضوع لقائنا يفترض أن نحسب حساب صدقيّة اللغة البيبليّة، ليس فقط على مستوى المدنيّات والحضارات التي ما زالت غريبة جدًا عن الوجه التاريخيّ المسيطر في المسيحيّة، بل أيضًا على مستوى الحضارات المتفرّعة التي تَبرز في قلب الحضارة الغربيّة نفسها، والتي ليست بعيدة عنا في العالم العربيّ.

وإذ أريد أن أساعدكم على إدراك وجهة مجهودي لأفهم فهماً لاهوتياً موضوعاً يصعب السيطرة عليه خلال وقت هذه المحاضرة، أودّ، بادئ ذي بدء، أن أقدّم بعضَ اليقينات:

1 - الانجيل، كبشرى خلاص في يسوع المسيح، يتوجّه إلى كل انسان. هو شامل في المعنى الحصري للكلمة، أي فوق الحضارات. هو يتجاوزها.

2 - كلمة الله الشاملة هذه، لا يمكن أن تُسمع إلا في وساطة، وبواسطة حضارة من الحضارات. وهذا صحيح منذ بداية البلاغ المسيحيّ نفسه، أي منذ الوقت الذي تكوّن ما نسمّيه الوحي.

3 - ما من حضارة إلاّ وتتوافق مع الوحي المسيحيّ، شرط أن لا تنغلق على نفسها، فتكون في خدمة نموّ الانسان نمواً حقيقياً.

4 - إن لقاء المسيحيّة بحضارة من الحضارات، يوافق في الطرق العاديّة، غنى متبادلاً للطرفين. غير أننا نبقى دومًا أمام لقاء بين حضارتين. فالمسيحيّة سبق لها وانثقفت، دخلت في حضارة من الحضارات. ومجمل الحضارات ترتبط بتقليد دينيّ عظيم لا ينفصم(3).

بعد أن وضعتُ هذه المسلّمات، أودّ أن أسير في اكتشاف هذا الموضوع في ثلاث مراحل. أبدأ بتذكير سريع حول جديد الخبرة الروحيّة، في الكنيسة، في بداية القرن الحادي والعشرين هذا. ثمّ أنتزع كل سطرة من هذا التجديد الذي يُدعى كلمة الله. وهذه الكلمة تصل دوماً بوساطة لغة بشريّة، سواء كانت اللغة البيبليّة أو مختلف لغات إيمان الكنيسة، في نقطة التقاء الكتب المقدّسة المؤسِّسة مع مختلف اللغات الحضارية التي توالت على مدّ التاريخ. وأخيرًا، يجب أن نفكّر في حاضر كلمة الله اليوم، أي في تأوينها والتعبير عنها في الحضارات. بأي تفسير تستطيع كلمةُ الله أن تكون معاصرة، أي تتوافق مع خبرة خلاص بالنسبة إلى الرجال والنساء في الألف الثالث.

1 - الخبرة الروحيّة الجديدة في الكنيسة

إن مفهوم الخبرة الروحيّة يُحيلنا إلى فكرة الحافظة(4) الحيّة. لا نستطيع أن نشعر بقوّة الحاضر إلاّ في نقطة التقاء خبرة الماضي وإسقاط على المستقبل. فحافظةُ الكنيسة مشدودة بين مساحة خبرة تصنعها جميعُ التقاليد (على المستوى التعليميّ والخلقيّ والحضاريّ) التي تؤثّر علينا اليوم أيضًا. وأخصّ انتظارَ أيِّ أوتوبيا(5) لمستقبل يتيح لنا أن نحتمل صدمة الحاضر. فالكنيسة تُقاسم، بالضرورة، الخبرةَ التاريخيّة، أي مخاوف وآمال بشريّة وصلت إلى عصر كونيّ(6). فان خاطرْنا وحلّلنا جديدَ خبرته الروحيّة، نكتفي بالكلام عن تحدّيات ثلاثة تؤثّر تأثيرًا خاصًا على وجدان الكنيسة: العولمة، التعدّدية الدينيّة التي لا يمكن تجاوزها بسهولة، وما نسميه تحدّي حضارة اللايقين.

أ - العولمة: فرصتها ومخاطرها

ان العولمة كامتداد، على سلّم العالم، للمرامي الاقتصاديّة والسياسيّة والحضاريّة، في الحياة البشرية، تتوافق مع ما لا يتردّد البعضُ أن ينظر إليه على أنه عصر البشريّة الرابع، العصر الكونيّ(7). فهي في حدّ ذاتها تمثّل فرصة، لا جدال فيها، بقدر ما تُبرز الفكرَ البشريّ وتُقويّ الوجدانَ المشترك لدى الناس بأنهم ينتمون إلى أسرة واحدة في هذه القرية الكونية التي هي الأرض. وهي تساعد بشكل خاص على ابراز خُلقيّةُ شاملة عبر الخاصيّات الإتنيّة والحضاريّة. وبالنسبة إلى الكنيسة، تشكّل وسائلُ الاتصال الجديدة التي ترافق العولمة حظاً كبيراً لنشر التعليم الانجيليّ إلى اقاصي الأرض. فالبيبليا قد تُرجمت حتى الآن إلى اللغات العديدة، وما زالت افضل كتاب يُباع في العالم. فبفضل الثورة المعلوماتيّة، سيعبر نشرُها العالمي والكونيّ، مرحلةً جديدة.

غير اننا لا نستطيع أن نذكر مرمى العولمة من أجل حياة الكنيسة، دون أن نوضح، في الحال، أن الكنيسة تعيش للمرّة الأولى، انقطاعًا تاريخيًا عن حضارة سائدة كانت حضارتَها من قرون من الزمن، أعني الحضارة الغربيّة. فالمجمع الفاتيكاني الثاني يمثّل العبور من مركزيّة حضاريّة أوروبيّة(8)، في داخل الكنيسة، إلى مركزيّة متعدّدة(9). غير أنه يجب أن نلاحظ أننا نشهد، ساعة تحرّرت رسالةُ الكنيسة من التباسات عصر الاستعمار، عولمة الحضارة التكنولوجيّة بتأثير من العقلانيّة الغربيّة التي تحاول أن تفرض نفسها في كل مكان. هذا يعني أن على الكنيسة، التي تطلب الحوار مع كبرى الحضارات اللاغربيّة وتقاليدها الدينيّة، أن تواجه صدمةَ حديثيّة(10) علميّة وتقنيّة تمرّ عبر جميع الحضارات وتقلب قلبًا عميقًا ممارساتِ وعقليات جميع سكّان الأرض.

على المستوى النظريّ، العولمة هي فرصة سانحة لمستقبل البشريّة. ولكن إن كانت، اليوم، موضوعَ جدال وخلاف شبه عام، فلأنها ما زالت في إطار البيع والشراء والربح الماديّ الأكبر. فالنهجُ العالميّ لحريّة السوق، يولّد فقراً متزايداً لثلاثة أرباع البشريّة. وإذا جعلنا خارجاً النتائج الفاسدة للعولمة في المجال الاقتصاديّ، فيجب أيضاً أن نعي مخاطرها في المجال الحضاريّ والانتروبولوجيّ. بفضل وسائل الاتصالات التي تتقدّم يوماً بعد يوم، فهي تسعى إلى نشر نموذج بشريّ ذات شكل واحد، يتحدّد أولاً على أنه مستهلِك ممكن. وهكذا تحمل العولمةُ خطرين: الاول، مسيرة على مستوى الكرة الأرضيّة قد تضحّي بالهويّات الحضاريّة والدينيّة الثمينة. والثاني يكون، كردّة فعل، ظاهرةَ تجزئة تقود إلى تشنّجات إتنيّة أو دينيّة على مستوى الهويّة.

ب - تحدّي التعدّدية الدينيّة

يبدو، يوماً بعد يوم، أن التعدديّة الدينيّة ستكون التحدّي الكبير لرسالة الكنيسة في مطلع القرن الحادي والعشرين(11). إلاّ أنه يجب أن نميّز تعدّدية التديُّنات الجديدة التي تتكاثر، بشكل خاص، في العالم الأول (أوروبا والولايات المتحدة)، وتعدّدية ديانات العالم الكبرى، التي تعرف، مراراً، هويّة جديدة. ما هو أكيد هو أن هذا الوعي الجديد للتعدّدية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمسيرة العولمة التي تؤثّر على كل مجتمعاتنا، كما لم تؤثّر من قبل.

فبفضل وسائل الاتصالات التي تتقدّم يوماً بعد يوم، نشهد هكذا بروزَ سوق كبيرة للغرض الدينيّ الذي يقدّم لمستهلكين يزداد عددهم يوماً بعد يوم، النتاجَ الكثير للديانات الحيّة، ومختلف التقاليد الباطنيّة(12)، على مستوى السطُرِ والمعتقدات والممارسات وأسرار المتدرّجين وتقنيّات شفاء الأنفس والأجساد. وهذا الحماس »للدينيّ« في كل حالاته يتلاقى مع عدم اعتبار للايديولوجيات والاوتوبيّات. فالحضارة العميقة لدى العديد من معاصرينا، تُساعد على دمج غريب بين معتقدات وممارسات انتُزعت من المكان الذي وُلدت فيه. فالمعتقدات سطحيّة، وحدودُها غير واضحة، بحيث تتواجد، مع أنها تختلف، بل تتماذج وتذوب الواحدة في الأخرى.

فنكتشف وراء هذا التلفيق(13) قاعدةَ اختيار سريعة، فنكون قبل كل شيء، أمام صدق خبرة ذاتيّة تطلب خلاصًا خاصًا بمعنى ارتياح النفس والعقل والجسم. يجب أن نفهم تجربة التلفيق الحاليّة، على أنها عملٌ متواصل نُعيد فيه تفسيرَ المعتقدات المتنوّعة في خدمة تحرّرٍ شخصيّ. لا تهمّ صدقيّةُ هذا المعتقد أو ذاك. لا يهمّ الرباطُ مع هذا النهج الدينيّ أو ذاك. المعيارُ الوحيد هو ارتياح أكبر أستقيه بحسب إمكانيّاتي الحميمة. والمسيحيّون أنفسهم ليسوا بمنأى عن هذه التجربة التلفيقيّة(14). ولا توجد هذه التجربة فقط في الغرب. فنحن نلاحظ، يوماً بعد يوم، في افريقيا وفي أميركا اللاتينيّة، ولادةَ كنائس جديدة، أو أقلّه جماعات جديدة، على هامش الكنيسة الكاثوليكيّة، والكنائس البروتستانتيّة. لا نستطيع أن نماهيها مع الشيع، وهي تكدِّس، بتناسق تام، معتقدات وممارسات تعود إلى تقاليد دينيّة مختلفة كل الاختلاف. ولكن المتشيّعين لهذه الجماعات الجديدة، قد اختلفوا عن تحرّكات الغرب الدينيّة، التي تشارك في تيّار العصر الجديد(15). ولم يكونوا فقط أشخاصاً ارتاحاً ارتياحوا مادياً وحضارياً. نحن أمام الفقراء والمهمّشين الذين يطلبون أن يُعترف بهم كأشخاص يطلبون الشفاء الجسديّ والروحيّ، ويطلبون في النهاية بعضَ السعادة يشاركون فيها الآخرين.

هذا البحث الدينيّ، والتلفيقيّ في أغلب الأحيان، لا يجد جوابه في الكنائس الرسميّة، فيسائلنا عن صدقيّة المسيحيّة كما انتشرت بين العامّة في الغرب، كما في سائر القارات. فنطرح السؤال بشكل جدّي: أما انقطع وجهٌ من وجوه المسيحيّة، من جذوره البيبليّة، فخسر القوّة الرمزيّة التي فيه، ومعها بُعدَه السريّ. وفي أي حال، ما عاد يقدّمُ جوابًا شافيًا لرغبات روحيّة لدى العديد من معاصرينا، فيطلبون في ردّة فعل على عالم معلمَن ومنظّم(16)، سحراً جديداً يقدّمه العالمُ والانسان، بل اللهُ ذاته. وهذا البروز لتديُّنات جديدة، يجب أن لا يُنسينا التحدّي المتواصل للايمان المسيحي الذي تشكّله الدياناتُ التاريخيّة الكبرى مثل الاسلام والهندوسية والبوذية، التي لا تكتفي بشدّ قبضتها على مؤمنيها، بل تستجلب أعضاء جدداً من أرض المسيحيّة القديمة. وسلطةُ وسائل الاتّصال وسرعتها، ومدّ الهجرة الجديد لسكان عديدين، حوّلت الخارطة القديمة لعمل المرسَلين في العالم. فأوروبا تعدّ اليوم أربعة عشر مليوناً من المسلمين. وبلد مثل فرنسا يعدّ أقلّه خمسمئة ألف من البوذيّين. وتكتشف أميركا الشماليّة بحرارة حكمةَ الديانات الكبرى الآتية من الشرق. وفي ساعة العولمة، صارت مجتمعاتُنا متعدّدة الحضارات ومتعدّدة الديانات.

قد نخاف ديانات ارتبطت في الماضي بجذورها الإثنيّة والحضاريّة، بأن تعتبر نفسها شاملة، وهذا أمرٌ جديد. ولكننا نجهل الفرصةَ الجديدة التي يشكّلها الحوارُ بين الديانات. نحن أمام ثورة حقيقيّة في تاريخ البشريّة الدينيّ. والكنيسة الكاثوليكيّة التي توقّفت عن حصريّة دينيّة متشدّدة، لعبت دورَ الريادة في هذا المضمار. إن فاتيكان الثاني يمثّل تحوّلاً تاريخياً لا سابق له في ما يخصّ موقفه تجاه الذين يسمّونهم باسم واحد: الوثنيين. فمنذ الآن يُشجَّع موقفُ احترام وتقدير. وفي تواصل مع انطلاقات المجمع، استعدَّ لاهوتُ الديانات الجديد للاقرار بسائر التقاليد الدينيّة على أنها وساطات ممكنة للخلاص. هذا ما يحوّل أشكال رسالة الكنيسة، كما سوف نرى، وإعلانَ كلمة الله لجميع الذي ينتمون إلى ديانات لامسيحيّة.

ج - حضارة اللايقين

أستعملُ هذه العبارةَ للدلالة على واقع يقول إن التحدّي الحاليّ للانفتاح على كلمة الله، في العالم الأول، ليس الإلحاد، ولا اللامبالاة الدينيّة، ولا المعارضة الاكليروسيّة، بل عقليّة جميعيّة(17) على المستوى الحضاريّ والدينيّ، في إطار اللايقين واحترام دقيق لتنوّع الخيارات الدينيّة والخلقيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. فيمكن القول إننا أمام إيديولوجيّة الجموعيّة(18) في اختلافها عمّا يمكن أن يكون جمعيّ(19) شرعيّ. فبحجّة احترام صدق كل انسان، صار لكل الأراء قيمتُها بحيث ننظر نظرة نسبيّة إلى كل قاعدة وإلى كل تراتبيّة على مستوى القيم.

إن حضارة اللايقين هذه هي علامة أزمة عامّة، أزمة الحقيقة. وهي تفسّر عدم اهتمام عدد كبير من المسيحيين بالتعليم العقائديّ في الكنيسة، ساعة يستعدّون لتقبّل غنى تقاليد دينيّة أخرى، شرط أن تكون في خدمة خبرة روحيّة أكثر لذّة. فرغم ما في الحوار بين الأديان من نتائج إيجابيّة، يجب أن نُقرّ بأنه يولّد نظرة نسبويّة لا تتيح للشخص بأن يتّخذ قراره في المجال الديني، بالنسبة إلى حقيقة مطلقة. فحين نعرف معرفة أفضل، الغنى الروحيّ لدى الديانات الأخرى، كيف نستطيع القول بأن المسيحية هي وحدها الديانة الحقّة؟ وفي النهاية، جميعُ الديانات هي طرق إلى الله. وبعد ذلك، كيف يمكن أيضاً أن نؤكّد وساطة المسيح الوحيدة في إطار الخلاص؟

وأبعد من هذه اللامبالاة الدينيّة في إطار الارتيابيّة، على الكنيسة، في بداية هذا القرن، أن تحسب حساب لامبالاة أخرى، هي لامبالاة مسؤولة تنتج عن وعي عميق للمسافة الصارخة بين مُثل الديانات الكبرى وعجزها عن أن تُخفّف شقاء ملايين الرجال والنساء الذين هم ضحيّة نظام عالمي جائر، وكوارث طبيعيّة ونزاعات إتنيّة وسياسيّة ودينيّة لا نهاية لها. هذه اللامبالاة هي الوجهُ الآخر لولعٍ حقيقيّ لمستقبل البشريّة واحترام ما في الانسان من صدق(20). فالقضيّة الكبرى التي ترتبط بما هو انسانيّ، تُحرّك عددًا من الدعوات السخيّة، بشكل خاص لدى الشبّان، وهذا هو التحدّي الحقيقيّ لديانة مثل المسيحيّة التي ترتبط بالمثال الانجيليّ.

2 - كلمة الله أو خبرة الخلاص في يسوع المسيح

حاولتُ أن أعود إلى مضمون الخبرة الروحيّة في الكنيسة، فشدّدتُ على التحديّات الآنيّة التي يمكن أن تكون حاجزاً لتقبّل كلمة الله. نحن نعرف أن كلمة الله شاملة ولا تتبع أيّة حضارة خاصّة، غير أن سامع كلام الله هو شخص فرد، يُقيم في مثل هذا السياق الحضاريّ والدينيّ والاقتصاديّ، الذي يُشرف على امكانيّات السماع. وبدلاً من أن نتخيّل كلمة الله متسامية تعلو على تنوّع الحضارات والسياقات التاريخيّة، يجب أن نعيد كلمة الله إلى موضوع ولادتها التاريخيّة. فالبلاغُ المسيحي ليس إيديولوجيا مجرّدة. إنه ترجمة لخبرة أساسيّة قامت بها مجموعةٌ من الناس منذ عشرين قرناً: هي خبرة يسوع المسيح كحدث خلاصٍ من قبل الله. والانثقاف الضروريّ للبلاغ المسيحيّ في تنوّع الحضارات، يجد نموذجَه في الحقبة التي فيها تكوّن الوحيُ نفسه. تلك هي الفكرة التي تشدّ انتباهنا في هذه المرحلة الجديدة من تفكيرنا.

أ- كلمة الله والخبرة

نوهم أنفسنا إن أردنا أن نُسقط على أصل المسيحيّة بلاغاً نقياً بنقاء الكيمياء، يكون منثقفاً انثقافاً متطوّراً في حضارات مختلفة. فيجب أن نُبرز مدلولَ الخبرة التي تفسّر حدثاً من الأحداث على يد الجماعة الأولى، جماعة تلاميذ يسوع، التي تجد ترجمتها في كتاب مقدس. فحسب مقال سكيلباكس، المسيحية ليست أولاً بلاغاً يجب أن نتعلّق به، بل »خبرة صارت بلاغاً«(21). ففي مسيرة بناء الكتب المقدّسة، هناك تقبّل عدد من العناصر الحضاريّة (على مستوى الفكر واللغة) لا تنفصل عن البلاغ المسيحيّ الأصليّ. ففي نقطة انطلاق الايمان المسيحيّ هناك خبرة أساسيّة لخلاص حصل في يسوع المسيح. وهذا الايمان بيسوع المسيح، هو دوماً إيمان مع الرسل. من أجل هذا، تكون لنا فرصةٌ لأن نختبر الخبرة عينها، في تواصل مع الرسل، في سياقات مختلفة. فالخبرةُ الرسوليّة الأولانيّة ستحرّك، على ضوء الفصح والقيامة، عدداً من الشهادات المفسِّرة بالنظر إلى رسمات فكريّة، ونماذج حضاريّة مختلفة، ومنافع خاصة بالكنيسة الفتيّة. كل هذا سيشكّل مجموعة العهد الجديد. ومهمّةُ المفسّرين والمؤرّخين للأصول المسيحيّة، ستقوم في تحرّي ما يحمله العهد الجديد من حضارة، لاكتشاف ما فيه من الساميّة(22) والهلينيّة(23) والرواقيّة(24) والفيلونيّة(25) التي استطاعت أن تُشرف على هذا النموذج التفسيري أو ذاك. ينتجُ عن كل هذا أن المسيحيّة هي دومًا منثقفة منذ ولادتها. وهكذا تقدّر الخطرُ الذي تشكّله مفرداتٌ مجرّدة كل التجريد تتحدّث طوعاً عن تجسّد المسيحيّة أو عن إيمان، وكأنه وُجد جوهرُ مسيحيّة يتجسّد تجسُّداً تدريجياً في حضارات متنوّعة(26). فلقاءُ المسيحيّة وحضارة جديدة هو دوماً لقاء بين حضارتين. نستطيع هنا أن نعود إلى الأجيال الحضاريّة في المسيحيّة. فنذكر بشكل خاص لقاء المسيحيّة بالهلينيّة، الذي كان حاسماً بالنسبة إلى مستقبل المسيحيّة. فتقبّلُ المقولات اليونانيّة للدلالة على الأسرار التأسيسيّة (الثالوث الأقدس، التجسّد)، ساعد على طبع البلاغ المسيحي بطابع الشمول. ولكنه تضمّن في الوقت عينه خطراً حين ماهى البلاغ المسيحيّ مع مجمل من الحقائق العقائديّة التي لا ترتبط ارتباطاً مباشراً بغنى الرموز في لغة العهد الجديد وبالبنية الاخباريّة في كرازة الكنيسة الأولى. ويبقى مع ذلك أن جديد الشهادة المؤدّاة ليسوع المسيح الذي مات وقام، حوّلت غنى مضامين الفكر اليوناني. لهذا لا نستطيع أن نتسرّع فنشجب انطباع المسيحيّة بالطابع الهلينيّ دون أن نؤكّد في الوقت عينه على انطباع الهلينيّة بالطابع المسيحيّ. فلا انثقاف في المسيحيّة إلاّ ويترافق، في الوقت عينه، مع حركة انطباع الحضارة بالطابع المسيحيّ. وهذا أمر سأعود إليه فيما بعد.

في أي حال، لا شك في أن الحضارة التي سيطرت على الكنيسة، منذ ولادة المسيحيّة حتى القرن الرابع، كانت حضارة أوروبا الغربيّة. نحن أمام حضارة متماسكة نسبياً، وإن وجب علينا، بلا شكّ، أن نميّز مسيحيّة شرقيّة ومسيحيّة لاتينيّة ومسيحيّة سلافيّة، ومسيحيّة أنغلوساكسونيّة. وقد ظلّت هذه الحضارة قائمة حتى عشيّة فاتيكان الثاني. سبق لي وأشرتُ إلى الفرصة الجديدة التي تمثّلها نهايةُ المركزيّة الأوروبيّة والعصرُ الجديد الذي جاء بعد الاستعمار وتميّز بالعولمة، من أجل حمل البشارة. وبما أنه لا توجد مسيحيّةٌ في حالة خالصة، نكون أمام فهم خاطئ لتأوين ضروريّ لكلمة الله، حين نتخيّل مسيحيّة تخلع ثوبَها الغربي لتلبس لباساً أفريقياً أو آسيوياً. فالواقع الواقع هو أن نسهّل تلاقياً خلاّقاً بين قيم المسيحيّة الغربيّة والغنى الخاص بكل حضارة لاغربيّة ارتبطت ارتباطاً حميماً بتقاليد دينيّة عريقةٍ. لهذا يحقّ لنا أن نأمل، في المستقبل، بمسيحيّة متعدّدة المراكز الحضاريّة، تحقّق شميلة جديدة بين التقاليد البيبليّة والأوروبيّة، والتقاليد الحضاريّة والدينيّة في افريقيا وآسيا. من المهمّ أن لا نعتبر بعض العناصر الثانويّة التي تنتمي إلى المتاع التاريخيّ في الايمان التقليديّ، وكأنها شيء مطلق. ولكننا نوهم نفوسنا إن أردنا العودة إلى نواةٍ مسيحيّة أصليّة تسبق التوسّعات العقائديّة اللاحقة. فهذه التوسّعات، وإن انطبعت بطابع هلينيّ مميّز، تنتمي إلى تقليد الكنيسة الحيّ بقيادة الروح القدس. إذن، لا نستطيع أن نرذلها. ولكننا لن نتوانى أبداً عن إعادة تفسيرها على ضوء قراءة نقديّة للكتب المقدّسة وبالنظر إلى مساحات حضاريّة جديدة يُعلَن فيها الانجيلُ.

ب - البيبليا المسيحيّة ككلمة الله

نقف في وجه كل أصوليّة، فنحافظ على المسافة بين البيبليا (العهد القديم والعهد الجديد معاً) وكلمة الله. فالمسيحيّة ليست ديانة كتاب، وكلمةُ الله لا تُوجدُ في ذاتها، خارج التاريخ، وخارج جماعة تعترف بإيمانها. فنستطيع القول إن كلمة الله لا توجد إلاّ متجسّدة وفي حالة المقاسمة. هي متجسّدة بمعنى أن الوحي تاريخٌ قبل أن يكون كلمة. فلا بدّ من تذكّر كبرى أحداث تاريخ اسرائيل كلها كما فسّرتها الكلمةُ النبويّة، وكما صارت كلمةَ الله لأجلنا. هذه الأحداثُ تجد كمالَها الأخير في حدث يسوع المسيح الذي هو الكلمة الذي صار بشراً. ثم توجد كلمةُ الله في حالة المقاسمة، كل مرّة تُقرأ البيبليا وتعلن في جماعة مؤمنة. فالكنيسة جماعة وُلدت من عطيّة روح المسيح القائم من الموت، يوم العنصرة. وحين تعلن موتَ المسيح »إلى أن يعود« (1 كور 11:26)، فهي تتعرّف إلى ربّها كل مرّة تُعلن كلمة الله. إذن، الكنيسة جماعة وُلدت في الوقت عينه، بعطيّة كلمة الله وتقبّلها. وأسفارُ البيبليا المسيحيّة هي الموضع الذي فيه تعي الجماعةُ المسيحيّة كيانَها العميق.

رغب بعضهم رغبة شرعيّة في تسهيل الحوار مع حضارات وتقاليد دينيّة غريبة كل الغربة عن تاريخ شعب اسرائيل، فحافظوا على تعليم يسوع، على عظة الجبل، وتركوا جانباً تربية الله الطويلة التي عملت على مدّ التاريخ المقدّس. فاذا كان لا بدّ من »استعدادات« للجديد المسيحيّ، فلماذا نُعطي امتيازاً لتاريخ اسرائيل الخاص، ولا نعود بالأحرى إلى تواريخ حضاريّة ودينيّة لدى سائر شعوب الأرض، وهي تستطيع أيضاً أن تكون استعدادات سريّة لملء الحقيقة، كما تجلّت في يسوع المسيح؟

قاومت الكنيسةُ دوماً، بحسّ أكيد، تجربةَ مرقيون التي تعود دوماً، فتحاول أن تلغي كلمة الله التي تشهد لها الشريعة والأنبياء، لتُبرز إبرازاً أفضل جديدَ العهد الجديد الذي دشّنه المسيح. فالمسيحيّون يتقبّلون الكتب المقدّسة كلها، على أنها كلمة الله. ويعرفون أن هناك علاقة عجيبة بين العهد الأول والعهد الجديد. قال القديس أوغسطينس: »العهد الجديد يختفي في العهد القديم، والعهد القديم يتجلّى في العهد الجديد«. فالأدب الآبائي كلُّه يشهد أن التفسير المسيحيّ يرتبط ارتباطاً وثيقاً بفهم الوحدة بين العهدين. وحدثُ يسوع المسيح هو في علاقة تأويليّة مع الشريعة والأنبياء: فهو يفسّرها. فقبل أن يكون هو نفسه الموضوع المميّز لتفسير الكنيسة، إنه ذاك الذي يفسّر العهدَ القديم كله. وسوف يستعمل آباء الكنيسة الانشداد البولسيّ بين الحرف والروح، لكي يُبرزوا هذه المسافةَ التي يمكن أن تحدَّد على أنها علاقة بين الوعد والتتميم. فالمسيح يقوم بتحويل معنى العهد القديم، ويُتمّه. فلا نستطيع أن نعتبر العهد القديم ككتابة ولّت ومضت، أو لا تُفيد إلاّ لأن تكون مفتاحاً لقراءة العهد الجديد. فالوحيُ الذي يشهد له العهد الأول، يبقى مميّزاً، لأنه أبجديّة(27) البلاغ الذي يوجّهه روحُ الله إلى جميع البشر، وإلى جميع شعوب الأرض في لغاتهم الخاصة. وهذا يصحّ، لا سيّما وأن فهمَ الانجيل لليوم الحاضر، يدعونا إلى أن نعيد تفسير نصوص العهد الجديد، ولا سيّما التعليم حول التحرّر على ضوء العهد القديم. هذا ما يقوم به مثلاً لاهوتيّو التحرير حين يُعيدون تفسير اسكاتولوجيّة العهد الجديد على ضوء المواعيد المسيحانيّة كما في العهد القديم.

لا نستطيع أن نفهم الفرق بين البيبليا المسيحيّة والبيبليا العبريّة، إلاّ إذا انطلقنا من تقدير صحيح لمقولة رئيسيّة هي مقولة التّتمّة. واللاهوت الجديد في اليهوديّة، كما يُصاغ في الكنيسة بعد فاتيكان الثاني، يُعيننا على فهم العلاقة الجدليّة بين العهدين(28). فالعلاقة بين اليهوديّة والمسيحيّة تتضمّن في الوقت عينه قطيعة وتواصلاً. فيجب أن نؤكّد في الوقت عينه، وبدون تضارب، أن مواعيد شعب الله تجد تمامها في شعب العهد الجديد، وأن الكنيسة، مع ذلك، لا تحلّ محلَّ اسرائيل.

كل هذا يدعونا إلى أن نعيد تفسير مدلول التتمّة في معنى جزئيّ(29). فالمسيحيون يعتبرون العهد الجديد كتتمّة العهد القديم. غير أن هذا لا يعني أبداً أن القديم لا معنى فيه خارج تتمّته. وإلاّ يبقى علينا أن نفسّر الحيويّة المستمرّة في اليهوديّة البعد مسيحيّة. وإن كان كل وحي العهد القديم يُوجد في العهد الجديد، يمكننا أن نتساءل لماذا يواصل المسيحيّون تقبّل العهد الأول ككلمة الله. في الواقع، لا يحلّ العهد الجديد محل العهد الأول بمعنى أنه يلغيه. بل يجب أن نفهم جدّة الانجيل كقطيعة تقيم معنى جديداً، ولا تلغي ما في الشريعة والأنبياء ما لا يمكن إلغاؤه. والكنيسة أيضاً، تُتمّ مواعيد العهد القديم، ولكنها لا تحلّ محلّ اسرائيل. واللاهوت المعاصر يتجنّب الكلام عن الكنيسة على أنها اسرائيل الجديد.

وهكذا، فالعلاقة الضروريّة والمتبادلة بين العهدين، ليست حاجزًا لتأوين كلمة الله وسط جميع الشعوب. بل نستطيع أن نؤكّد أن المواجهة المستمرّة بين اسرائيل والكنيسة، تُتيح لنا أن نفهم أصالة المسيحيّة كغيرٍ لا يُلغي بل يفتح علاقة مع الآخر ويمنحه صفة الشرعيّة. وهكذا يظهر شيئاً فشيئاً أن العلاقة بين الكنيسة الفتيّة واليهوديّة، لها قيمة نموذجيّة في ما يخصّ العلاقة الآنيّة بين المسيحيّة وسائر الديانات. فكما أن الكنيسة لا تضمّ إليها اسرائيل ولا تحلّ محلّه، كذلك هي لا تضمّ ما لا يُلغى في النظام الدينيّ الذي تحمله سائر التقاليد الدينيّة، ولا تحلّ محلّه.

ج - الخبر كوسيط التبادل بين الحضارات وبين الديانات

قد نظنّ أن أفضل وسيلة لتأمين شموليّة البلاغ المسيحيّ عبر تنوّع الشعوب وتاريخها الخاص، يقوم بأن نشدّد اولاً على بُعده الخلقيّ. فالمسيحيّة كديانة المحبّة هي شاملة شمول التعليم عن حقوق الانسان. ولكن يتهدّدنا خطرُ الوقوع سريعاً في الايديولوجيا، في مجموعة أفكار. فهو خطر مسيحيّة تسير في خطّ عقلانيّة غربيّة خسرت اتصالها بالبيبليا وتجاهلت ثمن البُعد السرديّ في الوحي البيبليّ.

على المستوى النظريّ، كلُّ حضارة هي شاملة بقدر ما تتوق إلى طبع الانسان بطابع انسانيّ فتجعله يتجاوز منافعه المباشرة. ولكن ما نلاحظ في الواقع، وعلى المستوى التاريخيّ، هو علاقة استبعاد وعنف بين الحضارات. فالحضارة الخاصة تصبح عنيفة حين تعتبر نفسها شاملة، كونيّة. ذاك كان وضع الغرب المسيحيّ حين احتلّ العالم الجديد (أميركا) والتقى بشعوب اعتبرها بلا حضارة. وعلى مستوى أكثر جذريّة، ذاك كان مصير شعب اسرائيل كشعب مختار بين جميع الأمم. ولكن يسوع، في موته، هدم الحائط الذي فصل اسرائيل عن الأمم (رج أف 2:14). وكان لموت المسيح قيمة نبويّة بقدر ما كشف العنفَ المخفيّ في كل حضارة.

وأودّ لكي أبيّن الرباط بين الانجيل وتاريخ اسرائيل من أجل شموليّة أفضل لكلمة الله في عالم اليوم، أودّ أن أبيّن في خط الأب بوشون، أن مواجهة الانجيل مع العهد القديم هي مفتاح علاقة الانجيل بكل حضارة. فقد دَوَّن في كتابه »الخبر، الحرف، الجسم(30)«: »إن الانجيل في علاقته المضاعفة مع الشريعة اليهوديّة كتتمّة وانقطاع، يدلّ منذ البداية على علاقته مع كل حضارة ممكنة«. ونظنّ أن أفضل وسيلة لتأمين التواصل بين تاريخ شعب اسرائيل وسائر الحضارات هو أن نُبرز في الأدب البيبليّ، الأسفارَ الحكميّة التي تحمل بُعد الشموليّة. ولكن مصالحة الأمم واسرائيل لا تأخذ تلك الطريق. فهي تمرّ في »خبر« اسرائيل. وموت الراوي (في خبر اسطفانس) هو شرط المصالحة بين شعبين وحضارتين. نحن نجد هنا قاعدة هامة جداً من أجل لقاء الحضارات. فالشرط من أجل حوار حقيقيّ بين الحضارات، هو خبر تاريخ خاص واعتراف بالعنف الملتصق بكل خاصيّة. فموتُ يسوع دلّ في الوقت عينه، على عنف مخفيّ في تاريخ اسرائيل، وعلى عنف مخفيّ في كل حضارة. والكرازة المسيحيّة، أي خبر يسوع وما فيه من خطر(31)، يحمل بُعداً كونياً بقدر ما لقاؤه مع حضارة أخرى يتوافق مع الوجه النسبيّ للخاصيّة الحضاريّة التي يرتبط بها الانجيل.

سبق وأشرتُ إلى التواصل والقطيعة بين العهد الأول والعهد الجديد. فإذا كان بولسُ انقطع عن الشريعة الموسويّة، فهو مع ذلك لم ينقطع عن الخبر البيبليّ وحافظة اسرائيل. وما يهمّنا في رسالتنا التبشيريّة هو أن تخلّي الكنيسة (الأولى) النسبيّ عن الحضارة اليهوديّة وعبورها إلى اليونان، كان نموذجاً من أجل علاقة الانجيل بجميع الحضارات. وموتُ المسيح الذي يختم بختمه جديدَ الخبر الانجيلي، قد أمّن العبور من اسرائيل إلى الأمم، من المختار إلى الشامل، من الواحد إلى الكلّ. ولكن يجب أن نتذكّر أيضاً طابع النموذج الذي يشكّله رفضُ اليهود للانجيل. فموت يسوع كان التعبير الدراماتيكي عن هذا الرفض. فقد جاء الانجيل بشكل دينونة تجاه حدود كل حضارة بشريّة. ومثَلُ اسرائيل يدلّ أن ما شكّل حاجزاً للانجيل في حضارة من الحضارات، ليس فقط خطيئتها وخاصيّتها وعنفها. ما يمكن أن يشكّل حاجزاً للانجيل هو ما يُبرز العظمة الدينيّة والروحيّة في حضارة من الحضارات واعتبار نفسها شاملة، كونيّة.

نستطيع أن نستنتج من كل هذا أن انثقاف المسيحيّة في تنوّع الحضارات، لا يتمّ حين نلغي تجذّرَها في الخبر البيبليّ. فإن أرادت كرازة الكنيسة أن تُبرز شموليّتَها، فهي لا تقدر أن تكتفي بالبُعد الحِكمَي في العهد الأول وبالأمثال الانجيليّة. فلا بدّ من الحفاظ على ضروريّة رجوع التعليم الانجيلي إلى خبر اسرائيل وإلى خبر الجليليّ، يسوع الناصريّ. فخبرُ اسرائيل وخبر خطاياه هو ما يحرّك خبر الأمم وخطاياها. وبشكل ملموس، خبر الكنيسة وخطاياها يحرّك خبرَ مختلف حضارات العالم ودياناته. فلفعل التوبة الذي تقوم به الكنيسة في بداية القرن الحادي والعشرين، بُعد تاريخيّ من أجل الحوار بين الديانات، ومن أجل الرسالة. فحين تقرّ الكنيسةُ بعنفها الماضي تجاه سائر الحضارات، ولاتسامحها تجاه اللامسيحيّ، يُطرح السؤالُ حول اكتفاء ذاتي تعلنه الحضارات والديانات.

3 - حاضر كلمة الله

بعد أن ذكرنا خبرة الكنيسة الروحيّة، حاولنا أن نُزيل الطابعَ السريّ عن نظرة مجرّدة إلى كلمة الله. ولكن مهما تكن الحالات التي فيها تتجسّد هذه الكلمةُ في تعليم أو ممارسة، فيجب أيضاً عليها أن تصل إلى وجدان الرجال والنساء، اليوم، عبر مختلف الحضارات والديانات. فكلمةُ الله التي لا تكون معاصرة لسامعها اليوم، لا تعودُ كلمة الله، بل هي حرف من الماضي. وليست »روحاً وحياة«. فأودّ، في هذه المرحلة الأخيرة، أن أبيّن أن ليس من »امتلاك«(32) وحيٍ دون ترجمة وتفسير.

أ - ترجمة وتفسير

يجب أن نعود دوماً إلى الخبرة المسيحيّة الأساسيّة، خبرة الخلاص الذي حصل في يسوع المسيح. فالعهدُ الجديد هو فعل التفسير الذي قامت به الجماعة المسيحيّة الأولى، وهذا النص يبقى القاعدة لشهادة الكنيسة، اليوم. ولكن يجب أن نترجمه(33) بالنظر إلى سياق تاريخيّ جديد، بحيث يُتيح خبرةَ خلاص تكون في الوقت عينه تحريراً للانسان ولقاءً بالله. ونقدر أن نكتشف مقابلة بين العهد الجديد والوظيفة التي مارسها هذا الكتاب في الكنيسة الأولى، وظهور شهادة جديدة في الأقوال والأعمال، والوظيفة التي يمارسُها اليوم في الكنيسة والمجتمعات المعاصرة. فبكفالة الروح عينه، روح المسيح القائم من الموت، لا نبحث عن التواصل في تكرار آليّ لذات البلاغ التعليمي الذي يبقى هو هو، بل في المقابلة بين فعلين من أفعال التفسير. فعلى مدّ التاريخ، وُجدت بالضرورة إعادةُ تفسير للبلاغ الأصليّ بالنظر إلى حضارات جديدة ونظام فكريّ آخر، وبالنظر أيضاً إلى حاجات الكنيسة. وكل هذا كان في اساس نصّ جديد بدا بشكل اعتراف إيماني ومقولات عقائديّة ولاهوتيّة، في الفقاهات وكتب التعليم المسيحيّ. نحن هنا أمام ظاهرة التقليد. ونحن نعرف أن لا تقليد حياً إلاّ إذا كان في إطار جدليّة لا يتوقّف فيها التواصلُ والتجديد. واليوم، لا أستطيع أن أستعيد الحقيقة - الينبوع في المسيحيّة، حين أمسح هذا التقليد مسحاً تاماً. فهذه الحقيقة نفسها تحتاج إلى إعادة تفسير لكي تكون كلمةُ الله كلاماً في حاضرنا، اليوم.

إذن، نرى أن لا نقْلَ حياً للايمان بدون إعادة تفسير. ونتوهّم إن ظننّا أننا نقدر على تجديد لغة الايمان التقليديّة حين نكتفي بأن نكيِّفها مع عقليّات جديدة دون أن نمسّ مضمونها(34). هذا يعني أننا نجهل طبيعة اللغة ومتطلّبات كل ترجمة. يجب أن نتعلّم أن نميّز التمييز الضروريّ بين مضمون البلاغ وفحواه(35)، والمحمل(36) الحضاري لهذا البلاغ الحامل الدلالة(37) الذي يمتلك نسبيّة كلِّ ما هو تاريخيّ، فلا يحمل مرمى البلاغ الدائم إلاّ شرط أن يكتشف أنه عابر. هذا يصحّ في لغة الوحي الكتابيّة كما في لغة الكنيسة العقائديّة. ما نلاحظه اليوم، هوّة متنامية بين اللغة المسيحيّة وأكثر اللغات استعمالاً لدى البشر، سواء لغة الحداثة داخل الحضارة الغربيّة، أو لغات ترتبط بمساحات حضاريّة غريبة عن الغرب. فكيف نترجم اللغة المسيحيّة لكي تحمل الوحي؟ فلا وحي لكلمة آتية من الخارج بدون وحي داخليّ يتوافق مع امكانيّة وجود جديدة. فالترجمة الصالحة ليست نقلاً حرفياً لذات المضمون في لغة مفهومة. يجب، في بعض المرات، أن لا نكون أمناء لماديّة النصّ لنكون أمناء لمرمى النصّ ومعناه. فهمُّ المترجم الحقيقيّ هو بحث لا يملّ عن التقابلات(38) بين عبقريّة خاصة للغة الانطلاق وعبقريّة خاصة للغة الوصول. فإذا أردنا أن ننجح في هذا الفنّ الصعب، يجب أن ندلّ على مخيّلة قياسيّة(38 مكرّر).

فاليوم نُقلت البيبليا إلى أكثر اللغات الحيّة والمستعملة في العالم. إنه لعمل صعب، ولا أقدر أن أحكم إن كان دوماً ناجحاً. وأظنّ أننا حين لا نستطيع أن نجد هذه التقابلات، يجب بعض المرات أن نخلق ألفاظاً جديدة. ذاك كان الوضع في البداية حين وجب على الكنيسة أن تنقل البلاغ المسيحيّ إلى لغة يونانيّة جاهزة. وقد يحصل، هرباً من سوء التفاهم، أن نفضّل الحفاظ على ذات الألفاظ في اللغة البيبليّة أو العقائديّة شرط أن نُرفقها بتفسير موافق. والمعيارُ الصالح للترجمة الصالحة وبالتالي للتفسير الصالح، هو أن يصبح النصّ حاملَ تفسير للقارئ أو السامع(39). حينئذ نقدر أن نتكلّم عن تأوين لكلمة الله في جميع لغات الكون وحضاراته. والمقابلة مع التفسير الموسيقي تُعلّمنا الكثير. فبين التفاسير العديدة، ما هو التفسير الصالح؟ ليس بالضرورة التقليد الحرفيّ لأول تنفيذ يقودُه المؤلّف نفسه، بل التفسير الأكثر أمانة لامكانيّةٍ توحي جمالاً مسجَّلاً في العمل نفسه. ونقول الشيء عينه، عن طريق القياس، عن لغة الايمان.

ب - علامات الأزمنة

إذن، ليس هناك من نقل للبلاغ المسيحيّ، دون إعادة تفسير وخلق. ويجب حالاً أن نُضيف أن هذا التفسير هو في خدمة امتلاك حقيقيّ للبلاغ في الوجود البشريّ بالنظر إلى ما سمّيتُه من قبل »الخبرة التاريخيّة«. فعبر كلمة الله التي تشهد لها كتبُنا المؤسّسة، يواصل الله فيكلّمنا عبر نداءات الوجدان البشريّ وكبرى الأحداث التاريخيّة أو الحضاريّة في كل حقبة. وها أنا أميّز حالات وجداننا الجديدة، وخبراتنا البشريّة الموحية، وبعض بنى العبوديّة.

اولاً: حالات الوجدان

حين أتكلّم عن حالات الوجدان، لا أشير إلى وضع الأخلاق، بل أعود إلى توضيح متنامٍ لما يتوق إليه الوجدان البشريّ توقاً مشروعاً، بعد أن وجد الترجمة في شرعة حقوق الانسان. يكفي هنا أن أذكر بعض ما اقتنته حداثتُنا اقتناء يصعب الجدال فيه: مساواة الرجل والمرأة. القيمة المطلقة للحياة البشريّة. احترام حريّة الضمير والحقّ بالحريّة الدينيّة. الفصل بين الجنس والايلاد. الحقّ بالرفاهيّة، لا بالصحّة فقط. العلمانيّة. استقلال الدين عن الدولة والدولة عن الدين.

نستطيع أن نعطي أمثلة عديدة عن هذه القراءة الجديدة للنصوص البيبليّة، بالنظر إلى حالات الوجدان الجديدة هذه. على سبيل المثال، لا شكّ في أن الأدب البيبليّ يدلّ على حضارة أربابيّة(40) ومركّزة على الذَكَر. فيجب أن نقرأه منطلقين من وجداننا الحديث الذي يعي مساواة الرجل والمرأة. وبالرغم ممّا في المسيحيّة من جديد (لا رجل ولا امرأة)، فنصوص العهد الجديد نفسه قد تأثّرت بالبُنى الاربابيّة التي عرفتها الحضاراتُ اليونانيّة. كما يجب علينا أن نُعيد تفسيرَ بعض النصوص المناوئة لليهوديّة في العهد الجديد آخذين بعين الاعتبار خبرةَ ما حصل لليهود في القرن العشرين، وإعادةَ النظر في اللاهوت المسيحيّ في دراسته لليهوديّة كما في المجمع الفاتيكاني الثاني. وأخيراً، لماذا لا نُعيد قراءة بعض النصوص الحربيّة في العهد القديم بالنظر إلى توافق الرأي حول المساواة الأساسيّة بين جميع البشر؟ فالاله الذي يكشف عن نفسه في العهد القديم، وبشكل خاص في العهد الجديد، لا ينفصل عن إله العدل والمحبّة. فباسم اختيار شعب والوعد بأرض مقدّسة، لا يستطيع الله أن يُسند الظلمَ بحيث يَسلب شعبٌ شعباً آخر. فهناك قاعدة تفسيريّة قديمة ما زالت سارية: يجب أن نفسّر مقطعاً خاصاً انطلاقاً من مجمل النصّ ومركزيّة التعليم. فينبغي، بعض المرات، أن نكرز في خط مغاير لنص قانون (لائحة) الأسفار المقدّسة لكي نعلن كلمة الله كبشرى خلاص وتحرير.

ثانياً: خبرات موحية

ليس هناك من كلمة الله إلاّ اذا توافقت مع وحي امكانية جديدة من الوجود في الشخص البشريّ. هذا يعني أن كرازة الكنيسة يجب أن تسبق الخبرات الموحية التي يستطيع معاصرونا أن يعرفوها منذ الآن في إطار وجودهم اليوميّ. فهي بشكل عام، في إطار المجانيّة. قد نكون أمام قوّة الحبّ في لقاء لامتوقّع، وأمام الشعور تجاه جمال العالم أو الخلق الفنيّ. ونكون أيضاً أمام خبرة نقص لا يُطاق تجاه لاشفافيّة المجتمعات الحديثة كمجتمعات حشود، وتجاه ذهول الوجدان أمام مشهد ألم الأبرياء. أعود، بشكل خاص هنا، إلى خبرات أساسيّة يستطيع الانسان الغربي أن يفعلها بالرغم من حضارة اللامبالاة الدينيّة. غير أن المهمّة تكون دوماً ناقصة، حين نأخذ بعين الاعتبار »الخبرات الموحية« التي يعرفها رجال ونساء يمتلكون رأس مال كبيراً من الرمزيّة نجده في حضارات وتقاليد دينيّة غريبة عن الغرب. ومهما يكن من أمر تنوّع الحضارات والعقليّات، فأنا أؤمن بشموليّة الانسان في أساسه. وكلمةُ الله لا يمكن أن تُقبل إلاّ إذا التقتْ مع جذريّة الانسان هذه. ولهذا، فعلى كرازة الانجيل أن تعود بشكل أكبر إلى غنى لا ينضب من الرمزيّة المسيحيّة حين تعبِّر هذه الرمزيّة عن طلب الماء الحيّ، عن فرح العطاء المجانيّ، عن القلق من الموت، عن الحاجة إلى الغفران، عن تأوّه الخليقة كلها، عن انتظار الملكوت والسماوات الجديدة.

ثالثاً: بُنى العبوديّة

إذن، ينبغي أن تكون كلمةُ الله ملتصقة بانتظار أساسيّ لدى كل انسان، حتى وإن لم يعرف أن يقول اسمها. فهي بالأحرى نداء قبل أن تكون جواباً على جميع تساؤلاتنا حول لغز الوجود. نحن هنا في إطار شخصيّ قد يقود إلى اكتشاف الله وإلى خبرة خلاص. ولكن الانجيل كنداء إلى التوبة وموهبة مجانيّة للتحرير، يُكرَز به دوماً في سياق تاريخيّ محدّد. أعني بكلامي، عبر الغربة التي ترتبط بحياتنا الشخصيّة، أن ديناميّة الانجيل يجب أن تصل إلى بُنى العبوديّة التي تَقهر، كل يوم، ملايينَ البشر. فبفضل وسائل الاتصالات الحديثة، نستطيع أن نعرف في الحال آلام ملايين الرجال والنساء الذين هم ضحيّة بُنى العبوديّة التي هي في الواقع »بُنى الخطيئة« لأنها ليست من حتميّات الطبيعة، بل نتيجة سلسلة معقّدة من المنافع والجشع. عندئذ نفهم آنيّة الانجيل الذي يُحرق، سواء كرزنا به أو عشناه. فهو ليس نداء إلى التوبة وحسب. بل يحمل سلطة نبويّة تعارض هذه الحضارة وتردّ عليها باسم ملكوت البرّ والسلام، الذي دشّنه المسيح. فالخلاص الذي تشهد له رسالةُ الكنيسة، هو خلاص الانسان كله: ما هو فقط تحرير من الخطيئة، وعطيّة الحياة الأبديّة، بل أيضاً تحرير يتمّ الآن من كل الغربات التي تشوّه وجه الانسان.

ج - الانجيل ودعوته الكونية

ان التحدّي لكرازة الانجيل على عتبة القرن الحادي والعشرين، ليس فقط استمراريّة وحيويّة الديانات الكبرى في العالم. فهو أيضاً وجود حضارات قديمة جداً، مثل الحضارة الآسيويّة، والحضارة الافريقيّة، والحضارة الأميركية، التي ما زالت غريبة على حضارة المسيحيّة التي تسيطر منذ عشرين قرناً. فمع أننا وعينا وعياً عميقا لخاصيّة المسيحيّة الحضاريّة، فنحن متيقّنون يوماً بعد يوم من الدعوة الكاثوليكيّة، دعوة الانجيل من أجل العالم: يجب أن يكون هذا الانجيل خيراً لكل رجل ولكل امرأة. سبق وقلت إن البلاغ المسيحيّ فُكّر فيه أجيالاً واجيالاً وعُبّر عنه في إطار الانشداد بين مدنيتين رمزيّتين هما أورشليم وأثينة. بما أننا شهود على ذلك، يوماً بعد يوم، فكنيسةُ العنصرة تحاول أن تأخذ بعين الاعتبار الآخر اللاغربيّ الذي ليس يهودياً ولا يونانياً. فكما أن الانجيل تجاوز ثنائيّة اليهوديّ واليونانيّ بفضل دعوته الشاملة، يجب عليه أن يتجاوز ثنائيّة الغربي واللاغربيّ. وللمرة الأولى، في عصر العولمة، قد لا يتوافق الانثقاف باسم شموليّة الانجيل، مع قبضة الحضارة المسيطرة.

مات يسوع الناصريّ عن خاصيّته ليولد بالقيامة بشكل شموليّة ملموسة. فيحقّ لنا، عن طريق القياس، أن نظنّ أن الكنيسة لا يمكنها أن تحقّق شموليّتها حسب ديناميّة الروح، إلاّ إذا نظرت نظرة نسبيّة، إلى الوجوه التاريخيّة المميَّزة التي ارتدتها على مدّ العصور. ولكن بفضل الرباط الذي لا ينقطع بين الحضارة والدين، يجب أن نعرف أنه سيصعب علينا يوماً بعد يوم، أن نحقّق انثقاف البلاغ المسيحي في حضارات أخرى غير حضارة الغرب دون الاشارة إلى لقاء مع تقليد دينيّ عظيم. هذا صحيح بشكل خاص في وضع آسيا الجنوبيّة الشرقيّة. وهكذا نكون بسطاء إن تخيّلنا أن عمل التبشير يقوم فقط بأخذ القيم الايجابيّة في حضارة معيّنة ورفض عناصرها الدينيّة. وعلى المستوى اللاهوتيّ، يكون هذا معارضاً للحكم الايجابيّ الذي نُصدره على ديانات العالم. لا شكّ في أن جديد الانجيل قد يَكون في قطيعة مع عناصر تقليد دينيّ لا تساعد على الطاعة لله. ولكن هذا التقليد الدينيّ قد يحمل، في النظام الدينيّ، عنصراً لا يُلغى، بالضرورة، بل يحوّله روحُ المسيح.

إذن، من الصعب جداً أن نقيم تمييزاً دقيقاً بين عناصر حضاريّة نستطيع الأخذ بها، وعناصر دينيّة يجب أن نرذلها. فالسؤال يكمن في أن نعرف إن كان الانجيل نفسه هو ما يرفضونه، أو عناصر حضاريّة ودينيّة غريبة كل الغربة عن رجال ونساء نحمل إليهم البشارة. فتجاه تحدّي حضارات وديانات مختلفة، لا تستطيع الكنيسةُ أن تكون أمينة لشموليّة الانجيل إلاّ إذا قامت بفعل اهتداء، وبتمييز بين عناصر تعليمها الأساسيّة، وعناصر جانبيّة ترتبط بحضارة ارتبط بها هذا التعليمُ. فالواقع الذي يقول إن الصورة المميّزة للمسيحيّة، كانت غربيّة خلال عشرين قرناً، لا يمنع مجيء وجوه أخرى للمسيحيّة في الالف الثالث. فمن النافل التأكيد على امكانيّة التوافق بين انتماء مسيحيّ وانتماء حضاريّ (يستطيع الانسان مثلاً أن يكون مسيحياً حقاً وصينياً حقاً). ويبقى السؤال مطروحاً للمستقبل: هل يمكن أن نتخيّل إنتماءين دينيين؟ أن يكون الواحد ذا هويّة مسيحيّة حقيقيّة، ويأخذ أيضاً بالقيم الايجابيّة لتقليد دينيّ عظيم(41).

إن الانجيل يبرهن على شموليّته إن كان كلمةَ خلاص لجميع البشر عبر انتماءاتهم الحضاريّة والدينيّة. أما رسالةُ الكنيسة فيجب أن تؤول أيضاً إلى حمل البشارة إلى الحضارات والمجتمعات. هي لا تعتبر أنها تقدّمُ نموذجاً آخر يجعل الأرض أهلاً لأن تُسكن، والجماعة البشريّة لأن تعيش معاً. ولكن، كما قلتُ، يستطيع الانجيلُ أن يقدّم حضارة معارِضة لحضارة تحرم الانسان من انسانيّته، ويلعب دور المنبّه تجاه الظلم الصارخ في مجتمعاتنا التي هي في إطار شريعة الربح والتي تضحّي بالاجتماعيّ للاقتصاديّ. فالانجيلُ يشهد لرجاء يتجاوز حدودَ هذا التاريخ، ولكن له مسؤوليّة تاريخيّة من أجل صورة هذا العالم. وهذا يعني، بطريقة ملموسة، أن الكنيسة لا يمكن أن تبرّر ادّعاءها بالشموليّة إلاّ إذا تبنّت قضايا الكون بالنسبة إلى البشريّة المعاصرة: كفاحٌ من أجل العدالة، مدافعة عن حقوق الانسان والعمل من أجلها، المحافظة على الخليقة، احترام الحياة، اهتمام أوليّ بالمحرومين.

فالكنيسة ليست فقط سرّ الملكوت الآتي. فهي منذ الآن »كسرّ(42)، أي هي علامة كل الجنس البشريّ ووسيلته«(43). ففي ساعة العولمة، لا يكون الانجيل أميناً لدعوته في العالم إلاّ إذا استطاعت الكنيسةُ أن تقدّم نموذجاً من أجل وحدة الأسرة البشريّة. فيجب أن نعمل لإقامة نمط من الوحدة يترك مكاناً لتعدّدية الحضارات والانماط الانتروبولوجية. تلك هي الوسيلة الوحيدة لكي نُفلت من خطرين: من عولمة تجعل الواحد مثل الآخر بدون شيء يميّزه(44)، أو مِن تفجّر يشتّت البشرية كما في برج بابل. فكنيسةُ العنصرة التي تروي عظائم الله في تعدّدية الحضارات والالسنة، قد تكون المثالَ لهذه البشريّة التي ننتظرها غداً.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM