الفصل الخامس: خواطر في الكتاب المقدس.

الفصل الخامس:

خواطر في الكتاب المقدس.

حين نقرأ الكتاب المقدس ونقابله مع النظرة التاريخيّة في العالم الحديث والتطلّع الدينيّ الذي يجد كماله في الأناجيل، نطرح على نفوسنا عددًا من الاسئلة. ولكن إن لبثنا على مستوى القراءة الحرفيّة فلن نصل إلى المعنى الذي توخّاه الكاتب الملهم. فالفنّ الأدبيّ الذي فيه كُتب نصّ من النصوص، يفرض علينا أن ندخل فيه ونقابله بما كُتب هنا أو هناك. فالكتاب المقدّس هو في النهاية كتاب تعليم يدعو المؤمن إلى اكتشاف ذاته الخاطئة، وإلى مسيرة مع المؤمنين تجعلهم يلتقون مع الربّ، ومع بعضهم البعض. من أجل هذا أردنا هذه الخواطر بشكل مقاطع متفرّقة تحمل الجواب على عدد من الاسئلة تُطرح اليوم، بعد أن تحرّر الفكر وبحثَ عن قيَم لا تتوقّف عند عصور ما قبل المسيح، بل تُوافق وضعَنا الحاليّ. فإذا كان كلام الله نورًا، فيجب أن نبحث عنه لئلاّ نسير في الظلام. وإن كان حياةً نطلبه بإلحاح وشغف، وإلاّ قادنا بحثُنا إلى الموت والضياع.

ونحن في هذا المقال نعالج الأمور التالية: آباء الشعب العبرانيّ، نوح وإبراهيم ولوط واسحق ويعقوب، وبرارتهم، ثمّ موضوع العنف والحرب في الكتاب المقدس، وأخيرًا قضيّة أرض الموعد وارتباطها بعالم كنعان وبفلسطين.

1- الآباء وبرارتهم

بدأ تاريخ الشعب العبرانيّ مع موسى. هو قاد خليطًا من الناس الذين عرفوا عبوديّة مصر، فوصل بهم إلى جبل سيناء حيث تسلّموا الوصايا العشر (خر 20: 1- 17)، وشرعةَ العهد بما فيها من فرائض دينيّة ومدنيّة (خر 20: 44- 23: 33). وساروا في برّيّة سيناء، ودخلوا إلى ما يُسمّى فلسطين فيما بعد، من جهة الشرق، من جهة هضاب موآب. ولكنّ جذورهم بدت قصيرة. فربطوها ببداية البشريّة، بخلق السماوات والأرض، بخلق الإنسان على صورة الله ومثاله. وأخذوا صورًا من الحاضر وجعلوها في الماضي السحيق ليؤكّدوا أنّ كلّ فريضة تعود إلى الإنسان الأوّل، لا إلى الشعب العبرانيّ وحسب. فالأخ الذي يقتل أخاه (تك 4) قد وجد صورة عنه في قبائل يسيطر فيها الانتقام فتُفني الواحدةُ الأخرى. والعنف الذي يسيطر على البشر يقودهم إلى الموت الجماعيّ كما فعل الطوفان في مدن وقرى غمرتها مياه دجلة والفرات فما أبقت إلاّ على قلّة قليلة.

وارتبط الشعب العبرانيّ بثلاثة وجوه قديمة. إبراهيم الذي عاش في حبرون (أي الخليل الحاليّة)، واسحق الذي أقام في بئر سبع في جنوبي فلسطين، ويعقوب الذي نظّم حياته حول بيت إيل (بيتين التي تبعد 17 كلم إلى الشمال من أورشليم القدس). في الأصل هم آباء قبائل ثلاث ارتبطوا بشكل خاصّ بحاران (حرّان في العربيّة وهي اليوم التينباصاق في تركيا). من حاران رحل أبرام (أو إبراهيم) كما قال له الربّ (تك 12: 4)، وإلى هناك أرسل كبير خدمه ليأتي بعروس لاسحق. أمّا يعقوب، فأقام مدّة من الزمن عند خاله لابان، في تلك المدينة. هل نستطيع القول إنّ هؤلاء الآباء الثلاثة، ارتبطوا بالآراميّين الذين أقاموا في شمال العراق وفي سورية مع عواصم مثل دمشق، وحماة، وحلب؟ كانوا في الأصل قبائل عُرفت في نهاية القرن الثالث عشر ق. م. في مدوّنات أشوريّة تركها تغلت فلاسرّ الأوّل (1114- 1076 ق م). وامتدت حتّى السنة 1000 ق م.

نشير هنا إلى أنّ الجِمال التي ذُكرت في خبر إبراهيم العائد من مصر (تك 12: 16)، دُجّنت في القرن العاشر. فهل نعود بتاريخ إبراهيم إلى ذلك الوقت؟ هذا أمر معقول جدًا. وقد يكون هؤلاء الآباء الثلاثة عاشوا في عصر واحد. ولمّا ارتبطت قبائلهم في حلف مقدّس، اعتُبر الواحدُ ابن الآخر، لأنّ العلاقة الأعمق هي علاقة الدم. أمّا سارة وهاجر وقطّورة اللواتي اعتُبرن نساء إبراهيم، فهنّ في الواقع قبائل من الدرجة الثانية. فسارة هي الأميرة، ورئيسة قبيلة. وهاجر قبيلة أقامت على حدود مصر، وقطّورة ارتبطت بالقبائل العربيّة: شبأ ودان... وكذا نقول عن راحيل التي كانت قبيلة قامت وسط أفرائيم قبل أن تصل إلى بيت لحم، وعنها قال إرميا: »صوت سُمع في الرامة، نَوحٌ وبكاء مرّ. راحيل تبكي بنيها وتأبى أن تتعزّى عنهم، لأنّهم زالوا عن الوجود« (31: 15). كانت راحيل أمّ قبائل الشمال الذين مضوا إلى المنفى في أيام سرجون الثاني، ملك الأشوريّين سنة 722 ق. م.، ودلّت في إنجيل متّى (2: 18) على الأمّهات اللواتي يبكين أولادهنّ بعد أن قتلهم هيرودس.

********

هذا ما يقول التاريخ من خلال النصوص التي وُجدت في أقطار الشرق. أمّا الكتاب المقدّس، فتوقّف عند كلّ شخص بمفرده، لا بارتباطه بقبيلة معيّنة أو بقبائل ستقيم بينها، كما كان الأمر مع يشوع حين جمع في شكيم »أسباط بني إسرائيل« (يش 24: 1). سنعود إلى الأسباط الاثني عشر، ولكننا نتطلّع الآن بشكل خاصّ إلى ثلاثة وجوه مشرقة: إبراهيم واسحق ويعقوب.

إبراهيم هو ذاك الذي سمع نداء الربّ وترك بيته وعشيرته وأرضه، ومضى إلى حيث قال له الله (تك 12: 1- 3). برهن عن إيمانه الكبير، فقال فيه العهد الجديد: »وآمن إبراهيم، راجيًا حيث لا رجاء« (روم 4: 18). وهكذا كان أبًا لأمم كثيرة. تأخّر الولدُ الذي وُعد به، فظلّ أبو الآباء مؤمنًا بالربّ راجيًا منه أن يحقّق له مواعيده. وكذا نقول عن اسحق الذي كان في البداية ولدًا يذبحه والده (تك 22) على عادة أهل البلاد، فصار في التقاليد اللاحقة شابٌّا يفتخر بأن يكون ذبيحة لله تفوق كلّ الذبائح التي تُقدّم في الهيكل. لهذا، سيكون صورة عن ذبيحة يسوع كما قالت الرسالة إلى العبرانيين: »دم الثيران والتيوس لا يقدر أن يزيل الخطايا. لذلك قال المسيح لله عند دخوله العالم: ''ما أردتَ ذبيحة وقربانًا، فقلت ها أنا أجيء لأعمل بمشيئتك يا الله« (عب 10: 4- 7). أمّا يعقوب، فبدأت مسيرته بلقاء الربّ في بيت إيل. »حلمَ أنّه رأى سلّماً منصوبة على الارض، رأسها إلى السماء وملائكة الله تصعد وتنزل عليها. وكان الله واقفًا على السلّم، يقول: أنا الربّ إله إبراهيم أبيك وإله اسحق« (تك 28: 12- 13). كان الله معه، فحفظه في الطريق، ورزقه خبزًا يأكله وثوبًا يلبسه، وأعاده سالمًا إلى بيت أبيه (تك 28: 20- 21). وسوف يكون معه في طريق العودة، في مجازة يبّوق. كان الصراع بين يعقوب والربّ: هل يبقى يعقوب رجل الحيلة والكذب، فيتّكل على مهارته البشريّة، أم إنّه يتّكل على الله فقط؟ في النهاية، اكتشف أنّه أعرج بحيث لا يقدر أن يمشي دون مساعدة الله (تك 32: 23-32).

هؤلاء الآباء اعتبرهم التقليد أنبياء عاشوا في حالة من البرارة. لا شكّ في أنّهم سمعوا نداء الربّ وأطاعوه في عدد من الامور، ولكنّنا لا نستطيع أن نعتبرهم بلا خطيئة. قال بولس الرسول: »جميعُ الناس خطئوا. إذن، جميعهم يموتون« (روم 5: 12 ي)؛ »ما من أحد بارّ، لا أحد. ما من أحد يفهم. ما من أحد يطلب الله. ضلّوا كلّهم وفسدوا معًا« (روم 3: 10- 12). فالذي بلا خطيئة لا يحتاج إلى الخلاص. أتُرى هؤلاء الآباء ما احتاجوا إلى خلاص؟ بل هم خطأة، شأنهم شأن جميع الناس. وسوف يبيّن الكتاب خطاياهم. ونبدأ مع إبراهيم.

إبراهيم (أو أبرام) الذي نال الوعد، نسيَ أن سارة حاملة الوعد. لهذا أنكر مرّة أولى في مصر أن تكون امرأته، فأخذها فرعون (تك 12: 10- 20). ومرّة ثانية في أرض الفلسطيّين، في جرار. »قال عن سارة امرأته: هي أختي« (تك 20: 2). وبعد ذلك، حاول أن يبرّر مقاله الأوّل: »وبالحقيقة هي أختي، ابنة أبي لا ابنة أمي، فصارت امرأة لي« (آ 12). اعتبر أنّ لا وجود لمخافة الله في جرار، فإذًا عنده لا وجود لهذه المخافة. باسم الأنانيّة والمحافظة على حياته، عرّض امرأته للخطر، كما عرّض نسله، بعد أن بدا وكأنّه يتنكّر لامرأته. أين هو الرجل الذي يضحّي ينفسه من أجل امرأته، على ما يقول بولس في الرسالة إلى أفسس (5: 25).

وتأخّر الوعد أن يتحقّق. لماذا لا نعود إلى الوسائل البشريّة، ونترك مشاريع الله، أقلّه موقّتًا؟ أخذت سارة امرأتُه بطريقة الأمم، ونسيَت أنّ ابن الوعد لا يُولد كما يُولد سائر الأولاد. جاءت بجاريتها هاجر. أحلّتها محلها في البيت الزوجيّ. وباسم الأنانيّة، قبِل إبراهيم ما عرضت عليه امرأته. بل مضى أبعد من ذلك، فاعتبر هاجر امرأته، شأنها شأن سارة. دعاها باسمها أكثر من مرّة، مع أنّ الكتاب واضح: الاثنان (لا الثلاثة) يصيران جسدًا واحدًا. ولمّا صاروا ثلاثة، عرفت سارة خطأها، وقالت لزوجها: »غضبي عليك، ظلمتَني« (تك 16: 5). مشت هي في درب »الزنى« وقبل إبراهيم. حين يُصبح الله بعيدًا، يقع الإنسان في الخطيئة. قدّمت سارة هاجر لإبراهيم فأخذها (آ 2) مع أنّه لا يحقّ له بحسب الإيمان. ثمّ طلبت منه إذلال هاجر، فوافقها (5: 6). فما حيلة جارية لا يحقّ لها أن تفعل ما تشاء؟ ولماذا عتبت عليها سارة لأنّها حبلت، وهي الأمة، والسيّدة لم تحبل؟

وكما أخذت سارة بعادات الأمم، كذلك أخذ إبراهيم بعادة الكنعانيّين الذين كان مقيمًا في وسطهم. ولكنّ الربّ كان حاضرًا، فقبِل نواياه الصالحة ومنعه من ذبح ابنه. أراد إبراهيم أن يقدّم ابنه لله، وهذا شيء ينبع من قلب باركه الربّ. ولكن ما هكذا يقدّم الأبُ ابنه للربّ فيقتله. الله هو ربّ الحياة، لا ربّ الموت. لهذا حين مدّ إبراهيم يده وأخذ السكين ليذبح ابنه، قال له الربّ: »لا تمدّ يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئًا« (تك 22: 10، 12). مخافة الربّ التي في قلب إبراهيم لا تتصرّف بهذا الشكل. فهي تفعل مثل أمّ صموئيل التي قدّمت ابنها للربّ، ليخدم في الهيكل. قالت:  »أيّها الربّ القدير، إذا نظرت إلى شقاء أمتك وذكرتني وما نسيتني بل رزقتني مولودًا ذكرًا، فأنا أكرّسه لك كلّ حياته« (ا صم 1: 11). وذلك كان نذرها. ولما فطمت الصبيّ، وفت بنذرها، فصعدت بابنها إلى الربّ في المعبد (1صم 1: 24).

*******

ونذكر يعقوب أبا القبائل الاثنتي عشرة، كما يقول التقليد. في الواقع، هو أبو يوسف وبنيامين، وامرأته هي راحيل. أمّا الكلام عن زواج مع ليئة فيدلّ على اتحاد قبيلة صغيرة بقبيلة كبيرة هي قبيلة يعقوب. وكذا نقول عن بلهة وزلفة. نشير إلى أنّ العدد اثني عشر هو مهمّ في كلّ تجمّع قديم. كذا كان الأمر بالنسبة إلى إسماعيل، وإلى عيسو: اثنتا عشرة قبيلة، وكلّ قبيلة تخدم المعبد شهرًا واحدًا في السنة. وكذا أيضًا بالنسبة إلى الجزيرة العربيّة، كما إلى عالم اليونان في معبد دلفوي، قرب أثينة.

ونقول الشيء عينه عن القبائل التي ارتبطت بيعقوب، في زمن الملوك، بعد داود وسليمان. هي نظرة إلى الوراء ضمّت إلى القبائل الأساسيّة التي جاءت من مصر، قبائلَ لم تترك أرض فلسطين كما نعرفها اليوم. ضمّت لاوي قبيلة موسى وهرون، ويهوذا قبيلة داود، وأفرائيم قبيلة يشوع، إلى قبيلة دان التي انتقلت من الجنوب إلى الشمال، إلى سفح جبل حرمون. وزبولون ونفتالي اللتين ارتبطتا بالعالم الفينيقيّ الذي امتدت أرضه على الساحل إلى عكّا.

أمّا أنّه كان ليعقوب امرأة واحدة، أعطته ولدين، وماتت وهي تضع الولد الثاني، بنيامين، فنستخلصه من قراءة النصوص في أصلها لا في تكوينها النهائيّ بعد العودة من المنفى. ما نعرفه بادئ ذي بدء هو أنّ يعقوب اشتغل سبع سنوات لدى خاله من أجل راحيل (تك 29: 18- 20). أمّا ليئة، فمع أنّها أعطت يعقوب الأولاد العديدين، إلاّ أنّها كانت مكروهة (تك 29-31). وتميّز يوسف عن إخوته. أحبّه أبوه، وصنع له قميصًا ملوّنًا. لهذا أبغضه إخوته حتّى لم يقدروا أن يكلّموه بمودّة« (تك 37: 3- 4)، بل باعوه كما يُباع العبيد (تك 37: 28). كان ليوسف أخ واحد، هو بنيامين، ما أراد يعقوب أن يرسله. قال: »افقدتموني بنيّ. يوسف مفقود... والآن تأخذون بنيامين« (تك 42: 36). ثمّ أضاف: »لا ينزل ابني معكم. إخوه مات وهو وحده بقيَ لي. فإن أصابه أذى في الطريق التي تسلكونها أنزلتم شيبتي بحسرة إلى عالم الاموات« (تك 42-38). كيف يقول يعقوب »وحده بقي لي« مع أنّ هناك عشرة إخوة آخرين، ما عدا البنات (تك 37: 35).

يعقوب هذا عُرف في مملكة الشمال التي عاصمتها السامرة ومعبدها بيت إيل. تحدّث عنه هوشع يوم هرب إلى بريّة أرام« (12: 13)، فمثّل مملكة الشمال كلّها. وذكره ابن سيراخ فقال: وأقام الربّ هذا العهد »مع يعقوب فنقل إليه بركته وأعطاه الأرض ميراثًا وقسّمها على أسباطه الاثني عشر« (سي 44: 23).

ومع ذلك، هذا الأب لم يكن بارٌّا. لم يكن مثال القداسة. غشّ أخاه مرّة أولى ومرّة ثانية. أَخذه في غفلة فجعله يبيع البكوريّة (تك 25: 29). يا ليته أفهم أخاه هذا الشرف الرفيع الذي لا يتنازل عنه الإنسان بصعوبة. ومرّة ثانية سلب بركة أبيه ومنعها عن أخيه (تك 27: 1). وكذب على أبيه أكثر من مرّة لينال البركة، وساعدته أمّه في ذلك. لبس ثوب أخيه (تك 27: 15)، وجعل جلد المعز على زنده ليكون أشعر مثل عيسو (27: 16). ثمّ سمّى نفسه »عيسو بكرك« (27: 19). وإذ سأله والده كيف أسرع فوجد صيدًا، »أدخل« الله في غشّه: »الربّ إلهك وفّقني« (آ 20). الحمد لله إنّه قال: »إلهك ولم يقل »إلهي«. فالله لا يرافق الكاذب وهو الحقّ بالذات. ودخل يعقوب في اللعبة إلى النهاية. جسّه أبوه (27: 22). شمّه وطلب قبلة: »تقدّم قبّلني يا ابني«. فتقدّم يعقوب وقبّله (27: 25- 26). فبدت هذه القبلة التعبير الأكبر عن الكذب. وكما تصرّف يعقوب مع والده وأخيه، تصرّف مع خاله لابان، وهكذا اغتنى، فقال فيه أبناء لابان: »أخذ يعقوب كلّ ما كان لأبينا، وممّا لأبينا جمع كلّ هذه الثروة« (تك 31: 1).

*********

أطلنا الكلام في هذا المجال لسببين. الأوّل، يعود البعض إلى التقليد اليهوديّ الذي يبرّر الآباء ممّا فعلوا ويجعلهم فوق سائر البشر، بل يريدهم خالدين. ومع ذلك قال المزمور 82: 7: »لكنّكم مثل البشر تموتون، ومثل أي عظيم تسقطون«. إنّهم خطأة شأنهم شأن جميع البشر، وقد احتاجوا إلى خلاص الله الذي أرسل ابنه كفّارة عن خطايانا. أنقول إنّ لوطًا كان بارٌّا مع أنّه تعدّى وصيّة هامّة على مستوى العلاقات الجنسيّة (لا 18: 6 ي) ؟ شرب خمرًا وضاجع ابنتيه. ونراه في خروجه من سدوم، مدينة الإثم، لا يريد أن يبتعد كثيرًا (تك 19: 20). ولمّا قُسّمت الأرض بينه وبين عمّه، اختار لوط »وادي الأردنّ باتجاه صوعر. فهو ريان كلّه كجنّة الربّ، كأرض مصر« (تك 13: 10). فالبارّ يفرح في رفقة البارّ، ولا سيّما إذا كان هذا البارّ هو إبراهيم. ولولا عمّه إبراهيم، لما كان نجا من غزوة الملوك (تك 14: 16).

أنقول إنّ نوحًا كان بارٌّا؟ هذا ما يقوله الربّ عنه. وسيقول التقليد القديم إنّه حفظ نفسه خلال السنوات العديدة. فقال له الله: »أدخل السفينة مع جميع أهل بيتك، لأنّي رأيت أنّك وحدك بارّ في هذا الجيل« (تك 7: 1). ولكنّه بعد ذلك خطئ. قال فيه الكتاب: »وشرب نوح من الخمر، فسكر وتعرّى« (تك 9: 21). وتصرّف حام مع والده تصرّفًا زانيًا وصل إلى كنعان والكنعانيّين الذين مارسوا البغاء المكرّس في ظلّ هياكلهم. أجل، نوح ليس خالدًا مثل بطل الطوفان في الأساطير البابليّة، هو خطئ، إذن هو يموت مثل سائر الناس. يطول عمره بلا شكّ كرامة لطاعته للربّ، ولكنّه يموت حسب القول الإلهي: »وأمّا شجرة معرفة الخير والشرّ فلا تأكل منها. فيوم تأكل منها موتًا تموت« (تك 2: 17). الشجرة سند ماديّ، مثل الإطار للصورة. أمّا الفكرة، فهي حين يريد الإنسان أن يعرف، أي يقرّر ما هو خير وما هو شرّ. أن يسنّ لنفسه وصايا، فيصير مثل الله. في ذلك قال الرسول: »فهُمْ (= البشر) كلّهم خطئوا وحُرموا مجد الله. ولكن الله برّرهم مجّانًا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم، والذي جعله الله كفّارة في دمه لكلّ من يؤمن به« (روم 3: 23- 25).

والسبب الثاني الذي جعلَنا نطرحُ هذا القول هو أنّ بعض الناس يرفضون العهد القديم، لأنّ ما فيه لا يشرّف المؤمن. فكيف يُجمَع مع العهد الجديد، مع كلام الربّ يسوع كما أورده الرسل والتلاميذ بعد موته؟ نسي هؤلاء أنّ مسيرة الانسان نحو الله هي مسيرة الخاطئ الذي يعود إلى ربّه. وهذا ما يعرفه الله، وهو الذي قال عنه الكتاب: »ورأى الربّ أنّ مساوئ الناس كثرت على الأرض وأنّهم يتصوّرون الشرّ في قلوبهم ويتهيّأون له نهارًا وليلاً« (تك 6: 5). ومع ذلك، فالله يدعو الإنسان ولا يتراجع عن دعوته له. خطئ آدم وصار عريانًا (تك 3: 7)، فشابه الحيوان. فأعاد إليه اللباس (تك 3: 21) الذي يحفظ له كرامته. وقتل قايين أخاه هابيل، فما سمح الله لأحد أن يقتل قايين. وضع عليه علامة (تك 4: 6). ما زال  قايين على صورة الله بعد أن كان »رزقة الربّ« (تك 4: 1).

فالإنسان لا يكون بارٌّا في الأساس، بل هو يفعل الشرّ الذي لا يريد، ولا يفعل الخير الذي يريد (روم 7: 9). ولكن حين يدعوه الله، يطلب منه حياة من البرارة. هذا ما قاله لإبراهيم: »أسلك أمامي وكن كاملاً« (تك 17: 2). ولمّا تقبّل يسوع الزانية، لم يتركها في زناها، بل استقبلها ورفض أن يرجمها. وفي النهاية، قال لها: »أنا لا أحكم عليك. إذهبي ولا تعودي إلى الخطيئة« (يو 8: 11).

الله يدعو المؤمن لأنّه يحتاج إليه، مهما كان ذاك المؤمن ضعيفًا، خاطئًا. فإذا كان لا يريد سوى الأبرار ليعملوا معه، فلن يجد أحدًا. ولكن يبقى أنّ هناك خبرة فريدة يعيشها المدّعو مع الربّ فيبدّل له حياته. ذاك كان وضع يعقوب في لقائه مع الربّ في مجاز يبّوق (تك 32: 23). حيث بدّل له اسمه، فأعطاه رسالة جديدة يستند فيها إلى مبادرة الله، لا إلى مهارته البشريّة. فحين أراد النزول إلى مصر، بدأ فاستشار الربّ: ذبح ذبائح... فقال الله له ليلاً في رؤيا (كما فعل مع إبراهيم، راجع تك 15: 12- 21): »يعقوب، يعقوب! قال: نعم، ها أنا. قال: أنا الله إله أبيك. لا تخف أن تنزل إلى مصر... أنا أنزل معك إلى مصر وأنا أصعدك منها« (تك 46: 1- 4).

نحن لا ننتظر أن يكون الذين دعاهم الله قدّيسين. فهم بشر ويحتاجون إلى مسيرة مع الربّ الذي يبرّرهم في نهاية حياتهم. فداود الملك الذي كان بحسب قلب الله، كما قال الكتاب، خطئ، تجاوز أكبر الوصايا: زنى مع بتشابع امرأة أوريّا، أحد قوّاده. ثمّ قتل ذاك القائد ليسلب منه امرأته. قتل مع أنّه قيل: لا تقتل. زنى مع أنّه قيل: لا تزنِ. سرق مع أنّه قيل: لا تسرق. ولكن لمّا جاءه النبي ناتان موبّخًا، لم يرفض توبيخ الرب بفم نبيّه، بل قال: »خطئتُ إلى الربّ«. فمن أطاع الوصايا أطاع الربّ. ومن تجاوز الوصايا أغاظ الربّ. فجاء جواب الربّ سريعًا: »الربّ غفر خطيئتك« (2صم 12: 13) وارتبط بداود المزمور 51: »إرحمني يا الله برحمتك، وبكثرة رأفتك امحُ معاصيّ. إغسلني جيّدًا من إثمي، ومن خطيئتي طهّرني... نجّني من الدماء يا الله، أيّها الاله مخلّصي، فيرنّم لساني ببرّك« (آ 3- 4- 16). ونقول الشيء عينه عن سليمان الحكيم. فبالرغم من حكمة منحه الله إيّاها (1 مل 3: 10- 13) فبانت في طريقة حكمه، فبنى الهيكل والقصور، ونظّم أمور البلاد. إلاّ إنّه في النهاية »أزاغت نساؤه قلبه... فلم يكن قلبه مُخلصًا للرب... وفعل الشرّ في عيني الرب« (1 مل 11: 3- 6). ولكنّ الكتاب يجعله يقول: »باطل الأباطيل، كلّ شيء باطل« (جا 1: 2). فمخافة الله وحفظ وصاياه فرضٌ على كلّ إنسان. والله سيحاسب كلّ إنسان على عمله خفيٌّا كان أم ظاهرًا، وخيرًا كان أم شرٌّا« (جا 12: 13- 14).

2- العنف وعالم الحرب

حين ترفض بعض الفئات العهد القديم، فهي تشدّد على العنف الذي فيه، ولا سيما حين تقرأ النصوص في الزمن الحاضر، في فلسطين. نحن لا نخلط السياسة بالدين، ولا الحزبيات بكلام الله. نحن نؤمن أنّ الكتاب المقدس مُلهم، أي إنّه كُتب على نور الله. لا شكّ في أنّ إنسانًا كتب هذا السفر أو ذاك، ولكنّ الله هو، في النهاية، مؤلّف الكتاب المقدس من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا. فإذا كان الأمر كذلك، فكيف نسمح لنفوسنا أن نفرض نظرتنا على نظرة الله؟ أن نختار من الكتاب ما يوافق نظرتنا البشرية بما فيها من تحيّز وميلٍ إلى هذا الفريق أو ذاك؟ نبدأ فنأخذ الكتاب المقدس كلّه، وإلاّ نصبح مثل مرقيون الذي جاء إلى رومة سنة 140. رفض العهد القديم برمّته، ثمّ ألغى أناجيل متّى ومرقس ويوحنّا، كما ألغى قسمًا من لوقا. إعتبر أنّ الإله الصالح يُقيم في السماء الثالثة، والإله العادل الذي يعاقب هو في موضع أدنى. هذا الأخير هو إله اليهود، إله الشريعة والانبياء. هو عادل ولكن عنده نزواته. إنّه يغضب وينتقم وهو أصل كلّ شرّ طبيعيّ وخلقيّ. لهذا يحرّض على كلّ الحروب.

أ- العنف

يبدأ سفر التكوين بخبر العنف. قايين يمثّل الحضر الذين يعيشون في الريف وفي المدينة. وهابيل يمثّل الرعاة. وهكذا قتل ابنُ المدينة المسلّح الرعاةَ الذين اقتربوا من مزروعاتهم. قال الكتاب: »وبينما هما في الحقل، هجم قايين على أخيه هابيل فقتله« (تك 3: 8). ذاك هو الوضع البشريّ الذي يرسمه الكتاب، مع ما فيه من عنف. لذا نتصرّف وكأنّه غير موجود، فندلّ على كذبنا. ولكنّ الله لا يرضى به. قال لقايين: »دمُ أخيك يصرخ إليّ من الارض. والآن، فملعون أنتَ من الارض التي فتحت فمها لتقبل دم أخيك من يدك« (آ 10- 11). نلاحظ، قوله: »يدك أنت«. مثل هذا العنف لا يرضى به الله مهما كانت الظروف. وأراد الربّ إيقاف مسلسل العنف، فمنع أحدًا من »القبيلة الثانية« أن يقتله إن هو وجده (آ 15- 16). ويتواصل العنف مع لامك بن قايين: عنف ضدّ امرأته الأولى حين تزوّج امرأة ثانية. عنف ضدّ امرأتيه حين أجبرهما أن يسمعا كلامه، لا كلام الربّ. عنفٌ في القتل لسبب تافه. عنف في انتقام لا حدود له (تك 4: 23- 24). لا يرضى الكاتب بتصرّف لامك. ولهذا يتوقّف نسله، فلا يُذكر له ولد، كما كان الامر بالنسبة إلى شيت »الذي دعا باسم الرب« (تك 4: 26)، فكان له نسلٌ وصل إلى إبراهيم وإلى جميع المؤمنين.

وكانت نهاية العنف طوفانًا حلّ بالأرض. تحدّث الكتاب عن المياه وما تحمل من شرّ. ونستطيع أن نتحدّث عن حروب تقتل الملايين وتدمّر المساحات الشاسعة والمدن الكبيرة. مثل هذا العنف لا بدّ أن ينتقل إلى صاحبه، كما كان الأمر في قبيلة بنيامين وما صنعت من شرّ »بذلك اللاويّ الذي مرّ بها« (قض 19: 26). وكذا نقول بالنسبة إلى داود الذي قتل أوريّا وأخذ له زوجته. ضاجع أمنون تامار، فقتل أبشالوم، أخو تامار، أخاه أمنون. ثمّ ثار أبشالوم على أبيه، فقتله قائد الجيش. وسوف يكمّل سليمان مسيرة القتل مع أدونيّا، بحيث يصبح سيّد البلاد. ويرهق الشعب بالضرائب فتنقسم المملكة حالاً بعد موته، ولا سيّما حين سمع يربعام، بن سليمان، نصيحة الفتيان: »أبي أدّبكم بالسياط. وأنا أؤدّبكم بالسياط والشوك« (1 مل 12: 11).

قال ناتان لداود: »والآن، جيلاً بعد جيل لن يموت أحدٌ من نسلك إلاّ قتلاً. ها أنا أثير عليك الشرّ من أجل بيتك. أنت فعلتَ ذلك سرٌّا، وأنا أفعله على عيون جميع بني إسرائيل وفي وضح النهار« (2 صم 12: 10-12). يبدو الله وكأنّه هو الذي يفعل. هو السبب الأوّل، لأنّه خالق الإنسان، وسيّدُ الكون كلّه. فلا شيء يتمّ من دون إرادته. هكذا اعتاد الكتاب أن يعيد كلّ شيء إلى الله، وينسى الإنسان. أخذ الشعب أريحا أو غيرها من المدن الصغيرة، فاعتبر الكاتب أنّ كلّ هذا هديّة من الله. هو يعطي وهو يأخذ، كما قال عنه سفر أيّوب (1: 21). وهجم يشوع بغتة على (الأعداء) فهزمهم، وضربهم ضربة عظيمة، ولحق بهم وطاردهم. ذاك هو الواقع »التاريخيّ«. أمّا الكتاب فجعل الرب يقول ليشوع: »أنا سلّمتهم إلى يدك فلا يثبت منهم أحد أمامك...«. فأمضى يشوع الليل كلّه صاعدًا من الجلجال وهجم عليهم بغتة، فهزمهم الربّ... ورماهم الربّ بحجارة (أي البرَد) عظيمة من السماء فهلكوا، وكان الذين هلكوا بحجارة البرَد (التي أرسلها الله) أكثر من الذين قتلهم بنو إسرائيل بالسيف« (قض 10: 6-11). دور الربّ يلغي دور الإنسان، لأنّه وحده سيّد التاريخ. فيُخرج من الشرّ (الذي يفعله الإنسان) خيرًا، ويفتدي الجماعة الكثيرة. هذا ما قاله يوسف لإخوته، بعد موت يعقوب والده (تك 50: 20). يوسف هو مثال الغفران. اعتنى بإخوته، لا كرامة والده وحسب، بل كرامة الله. جاؤوه خائفين، فقال لهم: »لا تخافوا، هل أنا مكان الله« (آ 19). ثمّ أضاف: »أنا أعولكم أنتم وعيالكم« (آ 21)، كما في الماضي.

ب- عالم الحرب

هذا ما يقودنا إلى عالم الحرب الذي نجده في الكتاب المقدس. ونبدأ فنتأمّل في نصّ يروي حرب إبراهيم مع الملوك الأربعة. إذا قرأنا النصّ حرفيٌّا، لا نقتنع إطلاقًا من انتصار إبراهيم مع 318 رجلاً على أقوى ممالك العالم في القرنين الثامن والسابع ق. م.: الحثّيّون مع تدعال، والبابليّون مع شنعار، والاشوريّون والمصريّون. هم شعوب قهروا الشعب العبرانيّ على مدّ تاريخه وسيطروا عليه، بقوّة السلاح وشنّ الحرب. ولكنّ إبراهيم غلبهم (استرجع الأسلاب »بمساعدة الله«. هذا معنى اسم اليعازر، وحروفه تعني 318). آمن بالله. ومن يؤمن لا يخاف. ولا يمكن أن يُغلب، وهو القائل مع مز 124: 8: »معونتنا باسم الربّ الذي صنع السماوات والأرض«. هكذا يجب أن نقرأ النصوص التي تذكر الحرب في العهد القديم. ونشير هنا، بشكل عابر، إلى نصّ ورد في لو 19: 27، فتحدّث عن أرخيلاوس. أقول لكم: »أمّا أعدائي الذين لا يريدون أن أملك عليهم، فجيئوا بهم إلى هنا واقتلوهم أمامي«. كيف يستطيع يسوع أن يقول مثل هذا الكلام القاسي، مع أن لوقا أظهره لنا مليئًا بالحنان والرحمة؟ ولكن نطرح السؤال: من هم أعداء يسوع؟ ليسوا البشر بدون شك، مهما فعلوا به ورفضوه. فهو من غفر لهم من أعلى صليبه: »إغفر لهم يا أبي، لأنّهم لا يعرفون ما يعملون« (لو 23: 34). غفر لليهود الذين أسلموه وهزئوا به، وللرومان الذين أمروا بصلبه. فأين هم أعداؤه؟ هنا يجيبنا الرسول: »الموت آخر عدوّ يبيده« الرب (1 كور 15: 26). ويفهمنا لوقا في خطّ متّى حيث قال يسوع للذين على شماله: »أمضوا عنّي يا ملاعين إلى نار الأبد المعدّة لإبليس وأعوانه« (25: 41). هذا هو الموت الثاني الذي يتحدّث عنه سفر الرؤيا (2: 11). وأعداء يسوع هنا، هم أولئك الذين يرفضونه فيكون لهم الموت الثاني، في جهنم، جزاء أعمالهم على الارض.

ونقابل هذا النصّ القاسي، بنبوءة من العهد القديم، نقرأها في هوشع. إعتبر هذا النبيّ أنّ الشعب زانٍ، أي خائن لله في تعبّده للآلهة ولا سيما بعل. ولكنّ تصرّف الله غير تصرف الإنسان: »أنا الله، لا إنسان، وقدّوس بينكم، فلا أعود أغضب عليكم« (هو 11: 9) فأعاقبكم. »يوم كان إسرائيل فتى أحببتُه«. هي كلمة الحب ترافق الشعب في بداية مسيرته، من أرض مصر. هذا الشعب هو ابن الله، والله يعامله كما يعامل الأب (أو بالأحرى الأم) »ابنه«. »دعوته فهرب من وجهي«. ولكنّ الربّ لم يتراجع. ويروي هنا كيف عامل »ابنه«. »علّمهم المشي كما تعلّم الأم ابنها. »حملهم على ذراعه« كما تفعل الوالدة فيلامس وجهُ ابنها وجهَها. وكيف اجتذب الله شعبه؟ لا بالقوّة، ولا بالعنف، ولا بالغضب والعقاب. »جذبتهم إليّ بحبال الرحمة، وروابط المحبّة، وكنت لهم كأب (وكأم) يرفع طفلاً على ذراعه ويحنو عليهم ويطعمهم« (هو 11: 1- 4). تلك هي الرحمة التي يفضّلها الله على ذبيحة يقدّمها الغنيّ فيرتاح ضميره ممّا صنعه للفقير والغريب، لليتيم والأرملة. ومع ذلك، لبث الشعب يرى في ما يصيبه عقابًا من الربّ. ما زال الفكر الوثنيّ مسيطرًا على شعب العهد القديم، بل تلاميذ يسوع الذين سألوه عن الأعمى منذ مولده: »من خطئ هو أم والده لكي يُولد أعمى« (يو 9: 2)؟ بل علينا نحن اليوم أمام ابننا الذي مات في حادث سيارة،  ففُجعنا بموته، أن لا نعتبر وكأنّ الله أخذه منّا.

ونعود إلى الحروب المذكورة في العهد القديم. ليست كثيرة كما يظنّ البعض. تُذكر في سفر يشوع مع »سقوط« أريحا، وفي مساندة جماعة جبعون (يش 10)، وفي احتلال مدينة عاي. أولاً نودّ القول إنّ العبرانيّين الذين جاؤوا من الشرق، عبر فيافي موآب، كانوا قبيلة وبعض القبيلة: قبيلة أفرائيم وهي تعدّ بين ألفين وثلاثة آلاف نفس. أتراهم يستطيعون أن يحتلّوا أريحا، تلك المدينة التي تتحكّم بغور الأردنّ كلّه؟ ثمّ إنّ الدراسات بيّنت أنّ أريحا، كانت مدمّرة يوم جاء العبرانيّون حوالي سنة 1200. ومعركة جبعون كانت هجمة ليليّة، وقبل طلوع الصباح انتهت المعركة. ما مات أحد، ولكن سُلب المخيّم المعادي.

ولكنّنا نقرأ كلامًا يشكّك: الرب يساعد شعبه فيضرب الأعداء بالحجارة أي بالبرَد. فنطرح السؤال: أتُرى البرَد اختار العدوّ وما اختار أحدًا من بني إسرائيل؟ أما نرى هنا بطريقة رمزيّة عقاب الله من الأوثان؟ فمتى ستفهم البشريّة عمل الله في الكون؟ الشمس وقفت على جبل جبعون فشهدت. والقمر ثبت في وادي إيلون فأخبر ما صنع الربّ وما يصنع لمحبّيه. قال المزمور: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يخبر بعمل يديه« (19: 2). صارت السماوات شخصًا يُنشد، كما صار القمر والشمس شخصان يشهدان، كما في محكمة، فيرويان حقيقة ما حصل، لا بيد البشريّة، بل بيد الله.

هنا نودّ أن نورد نصوصاً تتحدّث عن »حرب مقدسة«، عن حرب يقاتل فيها الربّ مع شعبه ويدعو شعبه إلى إفناء الأعداء. نقرأ ف 20 من سفر التثنية، وعنوانه الحرب المقدسة. يكلّم الكاهن الشعب: »لا تخافوا لأنّ الربّ سائر معكم ليحارب أعداءكم عنكم ويخلّصكم« (آ 5- 7). في مقطع ثانٍ، يسرّح من الجيش من بنى بيتًا، أو غرس كرمة، أو خطب امرأة. ليدشّن البيت. ليقطف الثمر. ليرجع إلى بيته لئلاّ يموت في الحرب فيتزوّجها غيره. نلاحظ هنا الصفة الإنسانيّة في ما يتعلّق بالمجنّدين. بل يدعو الخائفين إلى الذهاب لئلاّ ينتشر الخوف في المعسكر.

في مقطع ثالث، تحدّث النصّ عن »محاربة مدينة«. في البداية نعرض السلم عليها. إن رفضت تكون الحرب: يُقتل الذكور، وتُغنم النساء والاطفال وسائر الأمتعة. هكذا لا تبقى مقاومة من قبل العدوّ. أمّا المقطع الرابع فهو الأقوى: تفنون الشعوب الذين يمكن أن يعلّموكم عبادة الآلهة الكاذبة (آ 18). نبدأ فنتذكّر متى كُتب هذا النصّ: بعد المنفى ساعة لم يعد من شعب مستقلّ، بل خضعت جميعُ شعوب المنطقة للحكم الفارسيّ. ساعة لم يعد مَلك في البلاد، فحلّ محله رئيس كهنة يحاور الدولة الغريبة التي تحكم البلاد. إذن، لا حرب إلاّ التي يفرضها الحكم الاجنبيّ. ومنذ سفر الخروج وبداية القبائل العبرانيّة، تُذكر هذه الشعوب التي كانت في فلسطين قبل مجيء يشوع ورجاله. وقد لبثت في تلك الارض، إلى أن صارت جزءًا من السكّان. ما فني شعبٌ منها. وإذ نقرأ آ 17 نجد ستّة شعوب. وحين ينضمّ إليها العبرانيّون، يصبحون سبعة شعوب. هو رقم الكمال حيث يعيش الناس من فئات مختلفة وطوائف متنوّعة في مكان واحد.

ونلاحظ وجود الكنعانيّين مع الحويّين، ومع اليبوسيّين الذين كانوا في أورشليم ولبثوا فيها مع كاهنهم صادوق الذي سيُصبح جدّ السلالة الكهنوتيّة في هيكل أورشليم حتّى دمار المدينة سنة 70 ب م. هذا يعني أن الكنعانيّين كانوا قبائل بين القبائل. امتدّوا إلى لبنان، فكانت صيدون أعظم مدنهم (تك 10: 15)، بل وصلوا إلى راس شمرا، في الشمال، فحاذوا القبائل الحثيّة التي أقامت في ما يُسمى تركيا الحديثة. وحين نقول كنعان، نتحدّث عن لغة تفرّعت منها العبريّة والفينيقيّة والأوغارتيّة... كما نتحدّث عن حضارة سيطرت على شاطىء البحر المتوسّط من مصر إلى تركيا، وامتدّت إلى الداخل، فوصلت إلى بعلبك في لبنان، وسيطرت على فلسطين. حسب الكتاب المقدّس، أقام الكنعانيّون في فلسطين قبل مجيء الحثّيّين وغيرهم، فتسمّت فلسطين باسمهم. نقرأ في تك 11: 31 عن إبراهيم: »فخرج معهم من أور الكلدانيّين ليذهبوا إلى أرض كنعان«. وحين دعاه الربّ، »خرجوا جميعًا قاصدين أرض كنعان« (12: 5). وحين يقول النصّ »الأرض« فهو يعني أرضًا محدّدة أخذت اسم كنعان في حقبة متأخّرة (يه 5: 9، سفر دوّن في القرن الثاني ق. م.) قبل أن تصير فلسطين في بداية المسيحيّة.

3- أرض الميعاد وفلسطين

أ) فلسطين والفلسطيّون

وهكذا ندخل في المحور الثالث من خواطر في الكتاب المقدس. نبدأ الكلام عن فلسطين والفلسطيّين. لا نجد اسم فلسطين في الكتاب المقدس كلّه، لا في العهد القديم، ولا في العهد الجديد. فهذا الاسم يعود إلى سنة 135 ب. م. بعد الثورة اليهوديّة الثانية، بقيادة ابن الكوكب. دعا الرومان مقاطعة اليهوديّة في أيّام هيرودس (لو 3: 1) سورية فلسطين Syria Palaestina. هذا ما يقابل سورية الفينيقيّة التي منها جاءت امرأة وثنيّة تطلب شفاء ابنتها من يسوع (مر 7: 26). عنها قال متّى: »امرأة كنعانيّة« تقيم في »نواحي صور وصيدا« (15: 21-22).

هي أرض الفلسطيّين بحسب هيرودوتُس وقد كانت محصورة في السهل الساحليّ الذي يضمّ المدن الخمس: غزّة، عسقلان، أشدود، جتّ، عقرون. أمّا الرومان فوسّعوا التسمية على كلّ ما هو واقع بين نهر الاردنّ والبحر المتوسّط. وقالوا: فلسطين. وأخذ الانتداب الإنكليزيّ بهذه التسمية (1919- 1948).

من هم الفلسطيّون؟ شعب جاء مع »شعوب البحر« الذين هاجموا ساحل البحر المتوسّط من مصر إلى تركيا. هاجموا مصر، فردّهم منفتاح (1212- 1202) ورعمسيس الثالث (1182- 1151)، وسمح لهم بالإقامة على شاطىء ما يُسمى اليوم فلسطين. ودمّروا المدن العديدة، ولا سيما أوغاريت. ذُكروا أوّل ما ذكروا في لويحات تلّ العمارنة (38: 10)، حوالي سنة 1345. غير أنّ تأثيرهم لم يظهر إلاّ في نهاية القرن الثالث عشر. هم جاؤوا من بلاد اليونان، وعرفوا صناعة الحديد، لهذا كانوا أقوى من مدن الشرق التي كان سلاحها النحاس والبرونز فقط. ويقول الكتاب في هذا الصدد: »ما كان في كلّ أرض إسرائيل (تسمية متأخّرة لأمكنة أقامت فيها قبائل العبرانيّين) حدّاد، لأنّ الفلسطيّين ما أرادوا أن يصنع العبرانيّون سيفًا أو رمحًا. فكان على كلّ واحد من بني إسرائيل أن ينزل إلى الفلسطيّين ليحدّد سكّينته أو منجله. وكانت كلفة التحديد ثلثي مثقال للسكك والمناجل، وثلث للفؤوس والمناخس« (1 صم 13: 19- 12). ونقول بشكل عابر للذين يرون في قبائل العبرانيّين الذين جاؤوا متسلّلين إلى فلسطين، فأقاموا في الجبل وما تجرأوا أن ينزلوا إلى السهول، نقول لهم بأن لا يعتبروا هؤلاء الآتين من البريّة »مدجّجين بالسلاح« بحيث يقتلون الآلاف. ونتابع قراءة النص: »فلمّا جاء يومُ الحرب لم يكن سيفٌ ولا رمحٌ في أيدي جميع الذين يحاربون مع شاول وناتان، ماعدا شاول ويوناتان« (آ 22). أجل، في يد الملك شاول سيف ورمح وفي يد ابنه يوناتان. أمّا الآخرون فلا سلاح في أيديهم، بل عصا وسكين وساطور وفأس. لهذا »حين خرجت طلائع الفلسطيّين« (آ 23) انتصرت على شاول فقتلته، وقتلت ابنه يوناتان في جبل جلبوع (في سهل يزرعيل).

هؤلاء الفلسطيّون كانوا محاربين أشدّاء فوضعوا مهارتهم الحربيّة في خدمة ملوك الشرق. خدموا الفراعنة، كما قالت رسائل تلّ العمارنة، وسائر الامراء مثل داود. نقرأ في 2 صم 15: 18: »فعبر أمام الملك (داود) كلّ عبيده؛ كلّ الكريتيّين (جاؤوا من كريت الجزيرة اليونانيّة في البحر المتوسط) والفلاتيّين (الذين هم الفلسطيّون) وكلّ الجتّيّين (من جتّ، إحدى المدن الفلسطيّة الخمس)«.

إسم الأرض التي أقاموا فيها هي »ف ل ش ت« (خر 15: 14). وفي الاشورية: »ف ل ش ت و«. واسم الشعب »ف ل ش ت ي م« أو الفلسطيّون. وفي اليونانية  Phylistim. وهكذا صارت »الشين« »سين« فقلنا »فلسطية« في العهد القديم، وفي التاريخ الحديث: فلسطين. ولكنّنا لا نخلط إطلاقًا بين قبائل جاءت من بلاد اليونان، وشعب ارتبط بأرض فلسطين، وقد تكوَّن من شعوب عديدة أقامت هناك على مدّ التاريخ.

ب) أرض الموعد

نبدأ فنقول إنّنا لا نجد عبارة »أرض الموعد« في العهد القديم. بل الأرض التي أقسم الله عليها (16 مرة في تث) أو الأرض التي يعطيها (تك 12: 7). هذه الأرض ستُدعى »أرض إسرائيل« في الحقبة المتأخّرة، وبعد المنفى. نقرأها مثلاً 17 مرّة في حز 7: 2- 8: 39. وأُعيدت قراءة النصوص، فدخل اسم إسرائيل في الكتاب المقدس 2721 مرّة. أمّا التسميات القديمة فهي: يعقوب، أفرائيم، يوسف. نقرأ مثلاً في سفر اللاويّين: »أَذكر عهدي مع يعقوب« (26: 42). وفي سفر العدد: »ما أجمل خيامك، يا يعقوب« (24: 5). وعن أفرائيم نقرأ في قض 1: 29: »ولم يقدر أفرائيم أن يطرد الكنعانيّين، فبقي الكنعانيّون في وسط أفرائيم«. وفي أش 7: 2 يتحدّث النبيّ عن مملكة الشمال، فلا يدعوها مملكة إسرائيل، بل يقول: »أرام مع أفرائيم«، أي دمشق والسامرة التي هي عاصمة أفرائيم (أش 7: 9). وفي يوسف الذي يمثّل قبائل الشمال، نقرأ عا 5: 15: »فلعلّ الربّ الإله القدير يتحنّن على بقيّة يوسف«. وفي 6: 6: »لا تذوبون حزنًا على دمار يوسف«. وقال النبيّ زكريّا مقابلاً بين مملكة الجنوب، يهوذا، ومملكة الشمال، يوسف: »سأقويّ بيت يهوذا وأخلّص بيت يوسف« (زك 10: 6).

هذه الارض التي اعتبر العبرانيّون، بعد المنفى، أنّها أُعطيت لإبراهيم واسحق ويعقوب، في وعد للآباء، أخذت وجهين في العهد القديم. وجه أقرب إلى المثال منه إلى الواقع، ووجه آخر هو في الواقع أرض فلسطين الحاليّة التي سُمّيت للمرّة الأولى »الارض المقدّسة« في زك 2: 16. وسترد هذه العبارة أيضًا في سفر المكابيّين الثاني (1: 7: المملكة في الأرض المقدّسة) وفي سفر الحكمة (12: 3: الآباء الذين سكنوا الأرض المقدّسة).

هي حدود أولى من الفرات إلى النيل. نقرأ في 1 مل 5: 1: »ومدّ سليمان سلطانه على جميع الممالك، من النهر (الفرات) إلى أرض الفلسطيّين وحدود مصر«. أمّا حدود مصر فهي العريش. وفي يش 1: 4 يقول الربّ ليشوع: »تمتدّ حدودكم عبر جميع أرض الحثّيّين (تقابل منطقة سورية وفلسطين) من البرّيّة جنوبًا إلى جبال لبنان شمالاً، ومن نهر الفرات الكبير شرقًا إلى البحر«. وكان قد قال في خر 23: 31- 33: »وأجعل حدود أرضكم من البحر الاحمر جنوبًا إلى البحر المتوسّط غربًا. ومن الصحراء شرقًا إلى نهر الفرات شمالاً وأسلّم إلى أيديكم سكّان الأرض فتطردونهم من أمام وجوهكم. لا تقطعوا لهم ولا لآلهتهم عهدًا. ولا يقيموا في أرضكم لئلاّ يجعلوكم تخطأون إليّ، فتعبدون آلهتهم ويكون ذلك لكم شركًا«.

هذه الحدود هي المكان التي تشتّت فيها الشعب العبرانيّ. هي الأرض المعروفة في ذلك الوقت. هناك تكون عبادة الله الواحد. ولا يُسمح لوثنيّ بأن يكون شرَكًا لشعب تعبّد لله، فيجعله مشركًا. فحيث يكون »شعب الله« هناك يُعبد الله العبادة الحقّة. وفي الواقع، قام اليهود بعمل جبّار، فنشروا الإيمان بالله الواحد في كلّ حوض البحر المتوسّط. بل امتدوا إلى الشرق، فكانت ممالك تدين بالديانة اليهوديّة«. ولمّا وصلت الرسالة المسيحيّة إلى المدن اليونانيّة والرومانيّة، وجدت عددًا من المجامع يلتئم فيها اليهود وخائفو الله. هؤلاء هم الذين آمنوا بالله الواحد وبشريعته، ولكنّه لم يقبلوا الختان.

الحدود الثانية »للأرض المقدسة« جاءت أكثر واقعيّة: من دان في الشمال، وعلى الحدود اللبنانيّة (في سفح جبل حرمون). إلى بئر سبع، في الجنوب وعلى حدود شبه جزيرة سيناء. نقرأ مثلاً في سفر القضاة: »فخرج بنو إسرائيل كلّهم، واجتمعوا كرجل واحد من دان إلى بئر سبع«. وحين يقوم داود بإحصاء شعبه، مع أنّه سيطر على شعوب مجاورة، أمر يوآب، قائد جيشه قال: »طُفْ مع أعوانك في جميع أسباط إسرائيل من دان إلى بئر سبع، وعدّوا الشعب لأعلم كم عددهم« (2 صم 24: 2).

نشير هنا إلى أنّه وُجدت قبائل عديدة في فلسطين القديمة. تسلّلت كلّ قبيلة بطريقتها فحلّت في موضع صار لها. هذا ما يقوله سفر القضاة في البداية. تحالفت قبيلة يهوذا مع قبيلة شمعون (1: 3). وصعد القينيّون (أبناء قايين الذين سيُصبحون فيما بعد في مملكة يهوذا) من مدينة النخل (آ 16). أمّا »بنو منسّى فلم يقدروا أن يطردوا أهل بيت شان وتوابعها« (آ 27). وتكلّم النصّ عن أفرائيم (آ 29) وزبولون (آ 30) وأشير (آ 31) ونفتالي (آ 33) ودان (آ 34). هذه القبائل دخلت في حلف مقدّس حول معبد تخدمه. فاجتمع بعضها في فترة، واختلفوا في فترة أخرى، كما فعل بنو أفرائيم مع يفتاح (قض 12: 1 ي).

أمّا تجمّع القبائل في كلّ فلسطين فحصل في زمن داود، مع فئتين كبيرتين: قبائل الشمال وقبائل الجنوب. ولكنّ الوحدة لم تكن تامّة حتّى في ذلك الوقت. نقرأ في سفر الملوك الأوّل عن يوآب: »بطش برجلين بريئين خير منه وقتلهما بالسيف، وهما إبنير بن نير قائد جيش إسرائيل، وعماسا بن يتر قائد جيش يهوذا« (2: 32). وفي أيّ حال، بعد موت سليمان، سينقسم الشمال عن الجنوب، ستنقسم مملكة إسرائيل عن مملكة يهوذا، ويكون لكلّ مملكة ملك يتحالف مع جاره أو يختلف فتكون الحرب. فمملكة إسرائيل أقامت حلفًا وثيقًا مع صيدا الفينيقيّة وأدارت ظهرها لمملكة يهوذا التي تطلّعت إلى مصر. أمّا من وحّد فلسطين للمرّة الأولى فهو هيرودُس الكبير الذي توفّي سنة 4 ق. م. وفي زمن المسيح كانت ثلاث مقاطعات: يهوديّة مع عاصمتها أورشليم. سامريّة مع جبل جرزيم حيث ما زالوا يذبحون الفصح إلى أيّامنا. وأخيرًا جليل الأمم الذي امتزج فيه العنصر اليهوديّ بالأمم الوثنيّة، فشكّ الفريسيّون باستقامة إيمانهم، كما احتقروا السامريّين احتقارًا. وانتقلت أرض فلسطين من حكم إلى حكم من الرومان إلى البيزنطيّين والعرب. ثمّ إلى بني طولون والمماليك والعثمانيّين وصولاً إلى الانتداب سنة 1919.

خاتمة

تلك كانت خواطر في الكتاب المقدّس. طُرحت على المؤمنين في لبنان وأبعد من لبنان، في العالم المسيحيّ وفي العالم الإسلاميّ، فحاولنا الإضاءة عليها قدر المستطاع، منطلقين من الكتاب المقدّس وما وصل إلينا من نصوص من الشرق القديم. بدأنا فرفضنا المقولة التي تتحدّث عن »إسرائيل« منذ القديم. لا شكّ في أنّ النصوص المصريّة تحدّثت عن قبيلة »إسرائيل« القويّة ولكنها زالت من الوجود ولم تعد تُذكر فيما بعد. حاربها الفرعون مرنفتاح سنة 1207 ق. م. »فأفنى زرعها«. وصوّر المعركة معها على جدار هيكل أمون في الكرنك (الأقصُر). وكان كلامٌ عن العنف في الكتاب المقدس، وعالم الحرب. فحروب السلب والنهب ما زالت حاضرة في أيّامنا، وفي شرقنا. وحروب الاحتلال ليست بعيدة عنا منذ الحثّيّين والأشوريّين والبابليّين  والمصريّين. انطلق منها الكاتب ليقرأ عمل الله من خلال الأحداث الأليمة التي عاشها الشرق القديم.

لهذا، نحن لا نستطيع أن نتكلّم عن أشخاص كاملين، فالله وحده كامل. ولا عن أشخاص أبرار، فالله وحده بارّ. وهو يمنح البرارة مجّانًا، ويدعو الجميع إلى الكمال. لا شكّ في أن أشخاصًا مثل إبراهيم واسحق ويعقوب لبّوا نداء الربّ. ومثلهم فعل موسى ويشوع وصموئيل وداود. ولكنّ حياتهم لم تخلُ من الخطأ. فلو امتلكوا الكمال في البرارة، لكانوا خالدين وما عرفوا الموت. ولكنّهم جميعهم ماتوا. هذا يعني أنّهم خطئوا. فأرضُ الربّ في النهاية هي التي يرثها الودعاء (متى 5: 5). بعد أن عرفنا أن ليس لنا هنا مدينة باقية، بل ننتظر الأخرى (عب 13: 14). والعنف هو العنف على الذات من أجل امتلاك الملكوت (لو 16: 16). والحروب هي على الشرّ والخطيئة والموت. أمّا السلاح فهو ترس الإيمان، وخوذة الخلاص (أف 6: 16- 17). والسيف هو كلمة الله التي تنفذ إلى الأعماق (عب 4: 12). هذا ما يقودنا إلى المسيح الذي فيه اكتمل العهد القديم. »ما حصل هؤلاء (الآباء) على الوعد، مع أنّه مشهودٌ لهم بالإيمان، لأنّ الله أعدّ لنا مصيرًا أفضل من مصيرهم وشاء أن لا يصيروا كاملين إلاّ معنا« (عب 13: 39- 40). مع يوحنا المعمدان وصل العهد إلى قمّته، ولكنّ الصغير في الملكوت هو أعظم منه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM