الفصل الثالث: صلاة الغفران وجذورها الكتابيَّة.

الفصل الثالث:

صلاة الغفران وجذورها الكتابيَّة

حين نتذكّر كنيسة أنطاكية وارتباطها بكنيسة أورشليم مع صلواتها المضمَّخة بالعهد القديم والعبادات اليهوديّة؛ وحين نتذكَّر كنيسة الرها التي عرفت في بداية انطلاقتها سبعة أساقفة من أصل يهوديّ؛ وحين نتذكَّر أنّ القراءات الكتابيّة في الكنيسة السريانيّة انطلقت من القراءات اليهوديّة الثلاث، المأخوذة من أسفار موسى الخمسة ومن أسفار الأنبياء، ومن أسفار الحكماء، وأُضيفت إليها ثلاث قراءات من العهد الجديد؛ وحين نتذكَّر اللباس الأسقفيّ والكهنوتيّ وارتباطه بما نقرأ في سفر اللاويّين مثلاً؛ حين نتذكَّر كلَّ هذا لن نُدهش إن نحن تحدَّثنا عن صلاة الغفران في الطقس المارونيّ وربطناها بالكتاب المقدَّس في عهده القديم، ولا سيّما في الحقبة المتأخِّرة مع أسفار عزرا ونحميا ودانيال.

ذاك هو موضوع كلامنا في هذا المقال. بعد كلام على الغفران في مفهومه اللاهوتيّ، نتوقَّف، بشكل خاصّ، عند صلاة الغفران في الطقس المارونيّ بشكل خاصّ دون أن ننسى الطقس السريانيّ. وفي النهاية، نكتشف جذور هذه الصلاة في الكتاب المقدَّس.

1- الغفران ومسامحة خطايانا

الغفران حاجة يتوق إليها الإنسان منذ القديم. وقد عبَّر عنها ميخا فقال في نهاية نبوءته: »مَن مثلك ينسى ذنوبنا ويعفو عن كلِّ معاصينا، نحن بقيّة ميراثك، لأنَّك يا ربُّ، تحبُّ الرحمة ولا تحفظ إلى الأبد غضبك. الربُّ يرجع ويرحمنا، ويستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا« (7: 18-19).

كيف يبدو الغفران في العالم المسيحيّ؟ في العهد القديم؟ في العالم اليهوديّ؟ بهذه الطريقة نستعدُّ لكلامنا على صلاة الغفران.

أ- الغفران في العالم المسيحيّ

في العالم المسيحيّ، يرتبط الغفران ارتباطًا حميمًا بالغفران الذي أتمَّه يسوع المسيح وابنُ الله حين مات على الصليب(1). هذا ما يقوله التقليد في خطى القدّيس بولس إلى أهل رومة: »أُسلم لأجل خطايانا وأُقيم من بين الأموات لأجل تبريرنا« (4: 25). سار بولس في طريق طويلة وصعبة قبل أن يتقبَّل مثل هذا التعليم. فقد فُهم الكلام على الخلاص، في الإطار اليهوديّ، شكٌّا لليهود وجهالة للوثنيّين (1كور 1: 23). في هذا الإطار نجعل الجدال الذي انطلق من الرسالة إلى غلاطية ليدلّ على مسيحانيّة يسوع في قراءة جديدة لسفر التثنية: »ملعون مَن عُلِّق على خشبة« (تث 21: 23). فهنيئًا لنا ما تحمَّله يسوع على الصليب: حين عُلِّق يسوع على خشبة نال لنا البركة التي وُعدنا بها، نال لنا غفران خطايانا. وبعد أن دعانا بولس إلى المصالحة مع الله، قال إنّ يسوع »الذي ما عرف الخطيئة جعله الله خطيئة (أي ذبيحة عن الخطيئة) من أجلنا لنصير به أبرارًا عند الله« (2كور 21: 5).

شدَّد بولس على الفدية والفداء فقال عن المسيح إنّه »ضحّى بنفسه فدى لجميع الناس« (1تم 6: 2)، فالتقى بالقدِّيس مرقس الذي أورد كلام يسوع: »لأنَّ ابن الإنسان جاء، لا ليخدمه الناس، بل ليخدمهم ويفدي بحياته كثيرًا منهم« (10: 45). وكلام يسوع في العشاء الأخير جاء في هذا المعنى: »هذا هو دمي، دم العهد الذي يُسفك من أجل أُناس كثيرين لغفران الخطايا« (مت 26: 28). وقالت الرسالة إلى العبرانيّين: »فما أولى دم المسيح الذي قدَّم نفسه إلى الله بالروح الأزليّ قربانًا لا عيب فيه أن يطهِّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحيّ. لذلك هو الوسيط لعهد جديد ينال فيه المدعوّون الميراث الموعود به، لأنَّه مات كفّارة للمعاصي« (9: 14-15).

ويحدِّثنا الإنجيل عن يسوع الذي يغفر الخطايا. غفر للمخلَّع وأمره بأن يقوم من مرض النفس والجسد، ويحمل رحمة الله وسريره، ويمضي إلى بيته (مر 2: 1-12). وغفر للخاطئة التي جاءت إلى بيت سمعان الفرّيسيّ: أحبَّت كثيرًا فغُفرت لها خطاياها الكثيرة. وهكذا خلَّصها إيمانها (لو 7: 50). وسامح الزانية (يو 1: 8-11) التي جاؤوا ليرجموها »ببركة« منه وتمشِّيًا مع فريضة قديمة (تث 22: 24). كما سامح زكّا العشّار، ومنحه الخلاص، لأنَّ هذا الخاطئ التائب هو أيضًا ابن إبراهيم (لو 9: 19).

وأمثال يسوع في رحمة الله وغفرانه معروفة: هو يفرح بخاطئ يعود أكثر من فرحه بتسعة وتسعين لا يحتاجون إلى توبة. ويعتبر أنّه بغفرانه يعيد الحياة إلى مَن كان ميتًا (لو 15: 24). في هذا المعنى نتذكَّر تحديد الله في سفر الخروج: »أرحمُ أُلوف الأجيال ممَّن يحبّونني ويعملون بوصاياي« (20: 6).

ب- الغفران في العهد القديم

وهكذا نعود إلى العهد القديم لنكتشف جذور غفران الله(2). يبدو الله في عواطف بشريّة: خطئ الإنسان، فندم لأنّه خلقه، وتأسَّف في قلبه (تك 6: 5). فالذي خلق الكون حسنًا وجميلاً، وجعل الإنسان على صورته ومثاله، يتألَّم حين يرانا نرفض خلاصه ونشوِّه العالم. لهذا، حين يعلن الله أنّه يغفر فهو يدلّ على رحمته، كما يدلّ على أنّ إرادته تقوم في إعطاء الحياة. لهذا يطلب منه المرتِّل: »ألا تعود تحيينا فيفرح بك شعبك«!

حين عبَدَ الشعبُ العجل الذهبيّ في البرّيّة، استحقَّ العقاب. ولكنَّ موسى توسَّل إلى الله، طالبًا الغفران ولو كلَّفه هذا الطلب حياته. فأجاب الله محدِّدًا شخصه: الإله الرحيم والحنون، الكثير المراحم والوفاء، حافظ الرحمة لأُلوف الأجيال (خر 34: 6-7).

هذا الإله صوَّره النبيّ هوشع في حياته. تزوَّج امرأة زانية وطلب منها الأمانة. ولكنَّها مارست الخيانة وعادت إلى زناها. فطلب منه الله أن يغفر لها، ويعيدها إليه. وهكذا صار النبيُّ مثالاً عن الربّ حين يغفر. فغفرانه لا يكتفي بأن يلغي الخطيئة، بل يحوِّلها إلى حبّ. معه يصبح كلُّ شيء جديدًا. قال لشعبه ما يقوله العريس لعروسه: »أتزوَّجك إلى الأبد. أتزوِّجكِ بالصدق والعدل والرأفة والرحمة. أتزوَّجكِ بكلِّ أمانة، فتعرفين أنّي أنا الربّ« (هو 2: 21). وتواصلت مسيرة هوشع، فأفهمت المؤمنين أنّ غفران الله هو لقاء به، وولادة جديدة. من أجل هذا قال الخاطئ في مز 51: 12: »قلبًا نقيٌّا أخلق فيّ يا ألله، وروحًا جديدًا كوِّن في داخلي«. وقال إرميا باسم الربّ: »أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا« (إر 31: 33).

ولماذا يغفر الله؟ ألأنَّ الخاطئ يستحقّ؟ كلاّ. فإن غفر الله، فمن أجل اسمه يغفر (حز 36: 22-23). وهو إذ يغفر يدلُّ على هويَّته. سمّاه أشعيا: الأوّل والآخِر (44: 6)، والخالق والفادي (أش 44: 24). ذاك الذي يمحو كالسحاب معاصينا، وكالغمام جميع خطايانا. يكفي أن نرجع إليه لكي يفتدينا (أش 44: 22). مثل هذه النصوص تنطلق من خبرة عاشها الشعب حين ذهب إلى المنفى وعرف ذلّ العبوديّة. وهو إذ يقول ما يقول يعيش اعترافًا فوق اعتراف. من جهة، يعترف برحمة الله وقدرته. ومن جهة ثانية، يعترف بخطاياه ويستعدّ للرجوع إلى الله وتسليم حياته بين يديه. هذا ما سنقرأه في الاعترافات الوطنيّة التي تجمع الشعب كلَّه، في وقت الضيق، من أجل الإقرار بخطاياه.

ج- الغفران في العالم اليهوديّ

في أساس الخطيئة وغفران الخطايا(3) نجد الإرادة الحرّة، مع صوت الله كما في سفر التثنية: »وضعتُ أمامك الحياة والموت، البركة واللعنة. فاختر الحياة لتحيا أنت ونسلك« (30: 19). فالإنسان حرّ، وليس خليقة لا إرادة لها، تحرِّكها قوى غريبة وتحدِّد وجهتها. الإنسان يقدر أن يقرِّر من أجل الخير أو الشرّ فيكون سيِّد مصيره، لهذا، فهو مسؤول عن أعماله.

ولكن في الإنسان مَيلان، ميل إلى الشرّ وميل إلى الخير. هذا ما قاله التلمود حين فكَّك لفظ »ي ص ر« الذي يعني »جبل«(4). شرح سمعان: في الآية البيبليّة »حينئذٍ جبل الربّ الإله الإنسان« (تك 2: 7). كُتبت لفظة »و ي ي ص ر« بياءين. لأنّ العليّ خلق مَيلين: ميلاً صالحًا وميلاً شرّيرًا. يجب أن لا نستخفَّ بالميل الشرّير. ولكن حين يفشل تنمو قوَّته. غير أنّ الميل الشرّير ليس شرّيرًا في حدِّ ذاته، بل بفعل الإنسان. ونحن نقرأ في تك ربا 9: »قال رابّي صموئيل: »وكان هذا حسنًا« (تك 1: 31). هذا هو الميل الصالح. »كان هذا حسنًا جدٌّا. هذا هو الميل الشرِّير. ولكن هل هذا الميل هو حقٌّا حسن جدٌّا؟ هنا أتعجَّب. ولكن هذا يريد أن يعلِّمك أنَّه، بدون ميل شرّير، لا يبني إنسان بيتًا، ولا يتزوَّج امرأة، ولا يلد ولدًا، ولا يتاجر تجارة. فنحن لا نلغي الميول، بل نسيطر عليها. كما قال الآباء(5).

مثل هذا الكلام يفهمنا فكرة أساسيّة في اللاهوت اليهوديّ: ليست الخطيئة مصيرًا لا يمكن أن نتجنَّبه. ليس هناك الخطيئة بشكل مطلق، بل خطيئة هذا الإنسان أو ذاك. لا شكَّ في أنَّ حظَّ البشر جميعًا هو أن يسقطوا في جهل الخطيئة (جا 7: 20)، بمن فيهم الآباء. غير أنّ الله يطلب الخاطئ ويمنحه حياة جديدة (عا 5: 4). »الله يقود الإنسان في طريق يريد أن يتبعه«(6). هي مبادرة الله التي تفعل، وتنتظر تجاوبًا من الإنسان بالتوبة. فالله لا يرفض أحدًا، إلاّ إذا قسّى قلبَه كما فعل فرعون (خر 7: 13، 22). »الله لا يرفض أيّة خليقة، بل يقبل كلَّ واحد منّا« (خر ربا 19). نقرأ في تك ربا 22، حول تك 4: 16 ما يلي: »ابتعدَ قايين من حضرة الربّ. قال رابّي هونا: »ابتعدَ بفرح فالتقى به آدم وسأله: كيف سقط الحكم عليك؟ فأجاب قايين: تُبت وتصالحت (مع الله). حينئذٍ لامس آدم وجهه وقال له: ما أعظم قدرة التوبة. وأنا لم أكن أعرفها«. فحتّى أوّل جريمة قتلَ فيها الأخُ أخاه، لا تفصله عن الله إلى الأبد، ولا تستبعده على الدوام من الجماعة البشريّة. هذا ما فهمه حكماء التلمود فقالوا: مهما يكن الذنب عظيمًا، فقيمة التوبة أعظم. قال رابّي أباهو: »حيث يقف التائبون، لا يستطيع أن يقف الأبرار»(7). هنا نتذكَّر بولس الرسول في الرسالة إلى رومة: »حيث كثُرت الخطيئة فاضت النعمة«.

فإن تاب الإنسان عن أعماله الشرّيرة توبة صادقة، يمكنه أن يرجو غفران الله. فالتوبة ترتبط بالكفّارة، كما قال ملا 3: 7: »عودوا إليَّ فأعود إليكم«. وقال رابّي لاوي: »ما أعظم التوبة، فهي تبلغ إلى عرش المجد«(8). في الحقيقة، حين تكون التوبة صادقة، يتحوَّل القلب: لن يعود قلبًا من حجر، بل من لحم ودم (حز 11: 19). ويقول التلمود: »عظيمة هي التوبة لأنَّها تحمل الفداء للعالم« (يوما 86ب).

2- صلاة الغفران

بعد هذا الأساس الكتابيّ في العهد القديم والعهد الجديد والإشارة إلى التقليد اليهوديّ، نعود إلى صلاة الغفران كما نقرأها في الطقس السريانيّ. نبدأ فنتعرَّف إلى تسميتها، ونحلِّل أقسامها، قبل أن نعطي بعض نصوصها.

أ- تسمية هذه الصلاة

أوّلاً: الحسّاية

ذاك هو الاسم المعروف في العالم المارونيّ(9)، وهو يرتبط بلفظة »ح و س ي ا« التي تتوسَّع فيها القواميس الأجنبيّة(10): الطهارة، النقاوة، القداسة، الغفران، الرحمة. ويتحدَّث قاموس اللُّباب عن »صلاة الغفران«.

هنا نودُّ أن نذكر أنَّ هذه الصلاة كانت في الطقس السريانيّ الأوَّل، جزءًا من ثلاث: الفروميون، السرد أو الترتيب، الحسّاية أو حوسيا. ولكن في الطقس المارونيّ سقطت »الحسّاية« أو صلاة الغفران، فبقي لنا العنصران الأوّل والثاني.

في هذا المجال قال الخوري (اليوم المطران) يوسف ملكي: »عقب الفراغ من المزامير والعنيانات، يتقدَّم الكاهن ويقف أمام المذبح لتلاوة السرد أي »الحسّاي«. يبدأه بالفرميون أي المقدِّمة. في إثرهما يبدأ المترئِّس صلاة الاستغفار »كن أيّها الربّ غافرًا«، وهي ثابتة لا تتبدَّل في المناسبات. أثناءَها يُحرق البخور تمجيدًا للمغفرة الإلهيّة وطلبًا للغفران«(11).

من هذا الكلام نفهم أنَّ مَن يقول »الحسّاية« في الأصل هو المترئِّس أو كاهن يعيِّنه، وذلك كما في الطقس القبطيّ. هناك حلّ من الخطايا تجاوبًا مع توبة المؤمنين(12). ولكن حين سقطت صلاة الغفران في المعنى الحصريّ للكلمة، استطاع أحد المؤمنين أن ينشد »الحسّاية«، بعد أن تألَّفت فقط من عنصرين: الفروميون والسِدر.

ثانيًا: الفروميون

الفروميون(13) لفظة يونانيّة تعني المقدِّمة والمطلع وبداية الخطبة. وهو في وضعه الحاليّ يتألَّف من قسمين: قسم ثابت يذكِّرنا ببعض الصلوات اليهوديّة التي نجد آثارها في سفر الرؤيا: »الحمل المذبوح يحقّ له أن ينال القدرة والغنى والحكمة والجبروت والمجد والحمد« (5: 12). أو: »للجالس على العرش وللحمل الحمد والإكرام والمجد والجبروت إلى أبد الدهور« (آ13). أمّا القسم المتحرِّك، فهو يشير إلى الموضوع الذي لأجله يُرفع المجد لله«(14).

يبدو أنَّ الفروميون هو في الأصل توسُّع في »المجد لله في العلى« الذي به تبدأ صلاة الفرض الإلهيّ(15). قد يبدأ هذا التوسُّع حالاً بعد »المجد للآب والابن والروح القدس«، وهكذا يحلّ محلّ المجد لله في العلى، أو هو يأتي بعد المجدلة مع كلام على الأقانيم الثلاثة. ولكنَّ نصوصًا قليلة توقَّفت عند شخص المسيح(16).

ثالثًا: السِرد

تعود كلمة السِرد إلى السريانيّة (سدرو) فتعني: صفَّ الشيء، نضَّدهُ، رتَّبه(17). وهي ترتبط بالعربيّة فتعني سَرد الكلام ونظَّمه.

يتألَّف السِرد بشكل عامّ من عنصرين مميَّزين تفصلهما عبارة أو لفظة: لهذا، والآن، من أجل هذا...(18) العنصر الأوّل هو صلاة مديح أو شكر. يذكر صفات الله ولاسيّما تلك التي ترتبط بالعيد. كما يذكر حسنات الله على خليقته، والنِعم التي منحها للإنسان في ظرف معيَّن. أمّا العنصر الثاني، فهو صلاة توسُّل تأتي الدعاءات فيها بشكل سرد منظَّم. وهكذا يكون العنصر الثاني نتيجة منطقيّة للعنصر الأوّل. فالإله الذي منح نعمه في الماضي، هو يمنحها اليوم. هو الإله الأمين. ونحن نذكِّره بأمانته(19).

إنَّ هذا النمط من الصلاة الذي يمكن أن يكون نموذجًا وصيغة مثاليّة(20)، تعود جذوره إلى القرن الأوّل مع رسالة إكلمنضُس إلى الكورنثيّين(21)، أو القرن الثاني مع الشهيد يوستينُس(22)، ابن نابلس في فلسطين. ونحن نجده في الليتورجيّات السريانيّة والمارونيّة والملكيّة(23).

تحدَّثت إيجاريا عن مثل هذه الصلاة في رحلتها إلى الأراضي المقدَّسة(24)، ولاسيّما في »ليتورجيّا الأحد«(25). وهذا ما يربطنا بكنيسة أورشليم. وقد تكون انتقلت عادةُ مثل هذه الصلاة التي توزَّعت طلبات يجيب عليها المؤمنون بـ»آمين« أو »كيرياليسون«، إلى كنيسة أنطاكية في القرن الرابع أو بداية القرن الخامس. هذا ما يشهد له الكتاب الثامن في »القوانين الرسوليّة«(26).

لن نتوقّف هنا عند النظرة التي تعتبر صلاةَ العطر مُضافة إلى السرد، وكذلك البداية والختام، بل نحصر كلامنا في صلاة الغفران (الحسّاية) وما يرتبط بها من مقدِّمة وسدر، وكلّ هذا يعود إلى أفرام (+373) ويعقوب (+578) ويوحنّا الأوّل بطريرك أنطاكية (631-648) الذي سُمِّي صاحب السدرات. ونورد بعض الأمثلة دون أن نتساءل عن أصلها السوريّ أو البيزنطيّ(27).

ب- نصوص صلاة الغفران

نذكر أوّلاً النصوص القديمة، ثمّ نعود إلى نصوص الطقوس السريانيّة.

أوّلاً: من الرسالة إلى الكورنثيّين

نورد هنا الصلاة الكبرى: »أنت الذي بعملك أظهرت الترتيب الأبديّ للعالم. أنت يا ربُّ خلقتَ الأرض. أنت الأمين في كلِّ الأجيال، والعادل في الأحكام، والعجيب في القدرة والعظمة. أنت الحكيم حين تخلق الكائنات والعاقل لكي تثبِّتها. أنت الصالح في ما هو منظور، والعطوف تجاه الذين يثقون بك، والرحيم والحنون. فاغفر ذنوبنا وشرورنا، وخطايانا وإهمالاتنا. لا تحسب خطيئة عبيدك وجواريك، بل نقِّنا تنقية حبِّك، ووجِّه خطانا لكي نسير في قداسة القلب ونفعل ما يرضيك وما هو صالح في عينيك وفي عين الذين يسوسونا.

»أجل أيّها المعلِّم، أنر علينا وجهك لخير السلام، لكي تحمينا بيدك القديرة، وتنجّينا من كلِّ خطيئة بذراعك الرفيعة، وتنقذنا من جميع الذين يبغضوننا بدون حقّ. أعطنا الوئام والسلام، لنا ولجميع سكَّان الأرض، كما أعطيتها لآبائنا حين دعوك بالقداسة في الإيمان والحقّ. وهكذا نخضع لاسمك القدير والجليل ولرؤسائنا ولحكَّامنا على الأرض«(28).

ثانيًا: من القوانين الرسوليّة

»حينئذٍ يصلّي الأسقف قائلاً: أنت يا مَن قيَّدت الإنسان القويّ وأخذت كلَّ سلاحه. أنت الذي أعطيتنا سلطانًا به ندوس بأرجلنا الحيّات والعقارب وكلَّ قوّة العدوّ. أنت الذي سلَّمتنا الحيّة القاتلة مقيَّدة، كما يسلَّم الدوري إلى الأطفال. أنت الذي يخافك الكون كلُّه ويرتعب أمام قدرتك. أنت الذي أسقطتَ الشرّير كالبرق من أعلى السماء إلى الأرض، لا بسقطة محدَّدة في المكان، بل من قمَّة الكرامة إلى الذلِّ بسبب إرادته الشرّيرة. أنت الذي جفَّفت الغمر، أنت الذي تهديداتُك تذوّب الجبال، والذي حقيقته تدوم إلى أجيال. أنت الذي يمدحك الأطفال ويباركك الرضَّع ويُنشدك الملائكة ويعبدونك. أنت الذي تنظر إلى الأرض فتجعلها ترتجف، وتمسّ الجبال فتدخِّن، وتهدِّد البحر وتجفِّفه وتنشِّف الأنهار. أنت الذي صارت الغيوم غبارًا تحت قدميك. أنت الذي تمشي على البحر كما على اليابسة. أيّها الإله الوحيد، يا ابن الآب العظيم، أُزجر أرواح الشرّ، وحرِّر عمل يديك من الروح المعادي، لأنَّ لك المجد والكرامة والوقار، وبك لأبيك في الروح القدس، إلى الأبد، آمين«(29).

ثالثًا: الفروميون

نورد نموذجين من مخطوط يعود إلى القرن 9-10.

الأوّل: »المجد للآب والابن والروح القدس. لذلك الذي هو الواحد والوحيد بطبعه وسيادته. الذي هو في الحقيقة السيِّد الإله، والخالق ومبرِّر الكلّ. الذي له تنحني كلُّ ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض، ويعترف كلُّ لسان من الذين جاءت بهم يده من العدم إلى الوجود، الذي نعقله فوق كلِّ قوّة عقليّة وفهم روحيّ في وحدته، وندركه بثالوثه الآن...«.

والنموذج الثاني: »المجد للآب والابن والروح القدس، ذاك الذي هو وحده الإله السماويّ وملك العالمين، وسيِّد الذين في الوجود، الذي بالمساواة في الجوهر وبالقوّة الخلاّقة وبالمجد الواحد والأزليّة والملك يعظَّم، الذي يُكرز به وحده بالمجد وفوق كلِّ عقل، وهو هو يُدرك ثالوثًا ويؤمَن به«(30).

نلاحظ أنَّ هذين النموذجين يتوسّعان في المجدلة. هو توسُّع ثالوثيّ يفسِّر الوحدة في الله والثالوث. غير أنَّ هناك توسُّعًا في معنى العيد. كما هو الحال في عدد من الفروميون التي هي قيد الاستعمال في الليتورجيّا السريانيّة أو المارونيّة.

رابعًا: السدر

نقدِّم هنا نصّ الفروميون والسدر الذي يُنشَد في صباح عيد الميلاد، في الفرض السريانيّ: »المجد والأكرام... إلى الطفل الذي هو وحيد الآب المجيد، إلى الابن الخفيّ والرفيع في أزليَّته، الذي نجّى الجنس البشريّ من السقطة ومن فخاخ الخطيئة بولادته في الجسد من البتول النقيّة. هو ذلك الذي نعبده ونسجد له في وقت الصباح هذا وفي كلِّ الأوقات والأزمنة والساعات وكلِّ أيّام حياتنا إلى الأبد. آمين«.

ويبدأ السدر:

»لك المديح والشكر، أيّها الطفل، والابن الحقيقيُّ للآب الأزليّ. بنعمتك صرتَ ابنًا من نسل آدم. أنت وحيد أبيك، صرتَ بكر إخوة كثيرين. أنت الكلمة الإلهيّ، صرت إنسانًا حين حللت في البتول القدِّيسة. بشَّر الملاكُ بالحبل بك، والأجواق السماويّة بميلادك. بالحبل بك قدَّستَ البشر الذين حُبل بهم مثلك، وبولادتك خلَّصت البشريّة التي وُلدت تحت اللعنة المُرَّة التي ملكت على جنسنا البشريّ لأنَّه تجاوز أمرك الإلهيّ...«.

ويتواصل السدر في قسمه الأوّل قائلاً: »اليوم نبت من فرعُ يسّى، غصن حلَّت ثمرتُه مرارتَنا. اليوم، صُحِّحت حاسَّة الذوق في نفوسنا بطعم حلو جاءنا من الثمرة اللذيذة التي نبتت من مريم«. وبعد ذلك، يبدأ القسم الثاني الذي هو قسم الدعاء في المعنى الحصريّ للكلمة:

»والآن، يا ربَّنا، بما أنَّ مراحمك الطبيعيّة والأزليّة توجَّهت نحو خليقتك، فنحن ننتظر من سخائك أن تُبعد عن كنيستك ورعيَّتك، عنفَ العداوة الشرّيرة، وتسكب علينا جميعًا مراحم سيادتك ومراحم أبيك المبارك الذي أرسلك لخلاصنا وروحك القدّوس...«(31).

ونورد أيضًا سدر أحد العنصرة، الذي يُتلى في صلاة الساعة الثالثة:

»المجد لك، أيّها الربّ القدير، والروح المعزّي، والمعطي السخيّ صاحب المواهب الغنيّة. أنت المساوي للآب والابن. ولك العظمة والسلطان. فما أنت قبل الآب، ولا بعد الابن. فأنت متَّحد بهما ومساوٍ لهما. لك كلُّ ما للآب سوى الأبوَّة، ولك ما للابن سوى البنوَّة والتجسُّد. أنت الروح الطاهر المنزَّه عن كلِّ مكان وزمان وكيف وكمّ. يستحيل علينا أن ندركك ونستقصيك. أنت الروح الذي يجعل لنفسه هياكل... أنت الروح الذي يكوِّن الأنبياء ويكمِّل الرسل...

»لهذا، نتوسَّل إليك، أيُّها الروح البارقليط، إنزل في هيكل نفوسنا كما نزلت في العلّيّة السرّيّة. أحينا بمواهبك الإلهيّة وخيراتك. أشعل قلوبنا بنار حبِّك. امنحنا الحكمة الأبديّة وليطهِّر نورُك البهيُّ قلوبنا. حينئذ نعرفك المعرفة الحقّة...«(32).

خامسًا: صلاة الحسّاية أو الحلّ من الخطايا

هناك صلوات عديدة تعود إلى القرن 7-9. وقد دخلت في صلاة الفرض حسب طقس الكنيسة السريانيّة(33). نقرأ مثلاً في مخطوط بريطانيّ حلاٌّ من الخطيئة العاديّة: »أرسل يا ربُّ مراحمك إلى دعاء ضعفي، واقبل دعائي الذي يتوسَّل إليك الآن على فلان الخاطئ الذي خطئ وأغضب روحك القدُّوس واستهان بكلمة وصيَّتك العظيمة. ولكنّي أتَّكل عليك، ويستند ضعفي إلى مواعيدك الإلهيّة التي سلَّمتها للرسل المجتمعين في العلّيّة وقلت لهم: كلُّ ما تحلُّونه على الأرض يكون محلولاً في السماء...«(34).

ثمّ نقدِّم حلاٌّ آخر لشخص ضلَّ عن الإيمان القويم: »يا إلهنا العظيم ومخلِّصنا يسوع المسيح، أمامك حنى عبيدك رؤوسهم في هذا الوقت. فالتفت إليهم يا ربّ بنعمتك، وتقبَّلهم بمراحمك، وعدَّهم في عداد قدّيسيك، واخلطهم بجموع مسبّحيك، وليكونوا أبناء لأبيك في رمزيَّتهم السابقة، وليقبلوا من أمامك مسامحة الذنوب وغفران الخطايا، كما اعتادت نعمتك أن تفعل، يا مسامح الجميع برحمته إلى الأبد. آمين«(35).

3- الجذور الكتابيّة

ما أردنا أن نشدِّد على وجهة واحدة دون الأخرى، في صلاة الغفران هذه. توقّفنا عند المقدِّمة (فروميون)، ثمّ عند طلب الغفران بشكل حصريّ، وأخيرًا عند السدر. وبدا النشيد الذي يلي ما نسمّيه اليوم »صلاة الحسّاية« التي تتضمَّن الفروميون والسدر، امتدادًا للسدر. فنحن لا ننسى أنّ السدر كان نثرًا أو شعرًا. وأخيرًا، كانت صلاة العطر خاتمة لرتبة تبدأ بصلاة البدء (أهِّلنا أيّها الربّ الإله)، وتتواصل في مديح الله عبر »المجد لله في العلى« والفروميون. ونذكر غنى العيد قبل أن يُحمل الغفرانُ إلى التائبين استعدادًا لسماع كلام الله والمشاركة في أسراره المقدَّسة.

ويبدو أنَّ كلَّ هذا يتجذَّر في الكتاب المقدَّس، كما في الصلوات اليهوديّة التي كانت تُتلى يوم السبت في المجامع. أمّا نحن فنتوقَّف عند رتبة يوم التكفير التي يذكرها سفر اللاويّين في عيد سُمِّي »الغفران العظيم«(36) وحُدِّد في العاشر من تشري (أيلول - تشرين)، بعد عشرة أيّام من التوبة تبدأ في رأس السنة(37). كما نتوقَّف عند أناشيد المديح. ونُنهي بصلوات التوبة التي اعتادت جماعة المنفى أن تتلوها في الأوقات العصيبة من تاريخها.

أ- يوم التكفير

يوم التكفير أو يوم كيبور، هو يوم الغفران العظيم. هو عيد مهمّ جدٌّا، وأهمِّيَّته جعلت التقليد اليهوديّ يسمّيه فقط »اليوم«. غير أنّه عيد جاء متأخِّرًا في كلندار بني إسرائيل. والشاهد على ذلك أنّ سفر نحميا لا يذكره في معرض حديثه عن النشاط الليتورجيّ خلال الشهر السابع(38).

أوّلاً: سفر اللاويّين

في سفر اللاويّين (ف 16) جاء الكلام على هذا اليوم في نهاية التعليمات حول الطاهر والنجس. وهكذا بدا الاحتفال في الأصل تطهيرًا كبيرًا يمنح للشعب وسيلة تخلِّصه من كلِّ أنواع النجاسات التي حلَّت به بسبب ضرورات الحياة أو الجهل. وتطوَّر الاحتفال شيئًا فشيئًا فصار ليتورجيّا الغفران بشكل حصريّ، وفيها يعبِّر الشعب، في الوقت عينه، عن وعيه لخطيئته وعن إيمانه بإله يغفر(39).

يبدو لا16 وكأنّه يمزج أمرين تقف بينهما مسافة في الزمن: طقوس حول »كبش المحرقة« (آ8-10، 20-22) تعود إلى عادات محلّيّة قديمة احتفظ بها كهنةُ أورشليم، وتنظيمات ذبائحيّة توافق روح سفر اللاويّين في ف 1-4. وإذا قرأنا هذا الفصل على المستوى الأدبيّ، نرى أنّه يتركَّب من قسمين. فما قيل في آ11-28 هو إعادة لما في آ6-10، مع إضافة تفاصيل عديدة. يُذكر عزازيل في القسم الأوّل، ولا يُذكر في القسم الثاني. أمّا آ29-34 فهي قطعة مستقلّة.

نحن لا نتعجَّب من ذلك، لأنّ طقوس اليوم العاشر من الشهر السابع، أي طقوس يوم التكفير، تحدَّدت بشكل نهائيّ في حقبة ما بعد المنفى. فأُضيفت أمور وتوضَّحت أمور أخرى بحيث صار خباءُ البرّيّة، قدسَ الأقداس في الهيكل، الذي يدخله رئيس الكهنة مرّة واحدة في السنة، ويدخله من وراء الحجاب(40).

ماذا يتضمَّن لا16؟ بعد المقدِّمة (آ1-2) نقرأ عن لباس الكهنة وعن الحيوانَين (آ3-5)، ثمّ عن الخطوط الكبرى للاحتفال (آ6-10). في آ11-28، يرد وصفٌ مفصَّل للاحتفال، وهذا ما يهمُّنا بشكل خاصّ من أجل حديثنا: البخور ورشّ الدم (آ11-19). إرسال التيس الحيّ إلى البرّيّة (آ20-22). تطهير المشاركين (آ23-28). وينتهي ف 16 بما يجب على رئيس الكهنة ومساعديه أن يفعلوه في ذاك اليوم المقدَّس (آ29-34). فما فعلوه، ليس فقط لأجلهم، بل لأجل الأمَّه كلِّها، حسب ما قيل في آ17: يكفِّر الكاهن عن نفسه، عن بيته، عن جماعة إسرائيل كلِّها(41).

عادت الرسالة إلى العبرانيّين إلى يوم التكفير في الفصل التاسع، واعتبرته صورة مسبقة عن صلب المسيح. فالمسيح أتمّ، على الصليب، ما حاول عظيمُ الكهنة أن يفعله يوم الكتفير. المسيح »دخل قدس الأقداس مرّة واحدة، لا بدم التيوس والعجول، بل بدمه، فكسب لنا الخلاص الأبديّ« (عب 9: 12). في موت المسيح تمزَّق حجابُ الهيكل، فاستطاع المؤمنون (لا عظيم الكهنة وحده) أن يدخلوا إلى قدس الأقداس، لا مرّة واحدة في السنة، بل على الدوام: »لنا طريق إلى قدس الأقداس بدم يسوع، طريق جديد، حيّ، فتحه لنا في الحجاب، أي في جسده« (عب 10: 19).

وفي الحياة المسيحيّة، ماذا بقي لنا من يوم التفكير بعد الذي فعله يسوع يوم الجمعة العظيمة؟ نحن خطأة، شأننا شأن الشعب العبرانيّ، خلال مسيرته في البرِّيّة، أو إقامته في أرض كنعان، كما في الشتات. ونحن نحتاج إلى التوبة وإلى التكفير عن خطايانا. لا شكّ في أنَّ دم المسيح هو الذي يفعل. ولكنَّنا في الطقوس، نؤوِّن ما فعل يسوع على الصليب. نجعل نفوسنا، لا مشاهدين وحسب، بل فاعلين، في الليتورجيّا التي تواصل عملَ يسوع لأجلنا وعملنا مع يسوع. لا يذكر سفر اللاويّين الصلاة التي يتلوها عظيم الكهنة، بل سوف نقرأها في كتابات ما بعد المنفى. ولكنَّه يشير إلى البخور الذي يدلُّ من جهة على تكريم الله وعبادته، كما يدلّ على تنقية المؤمنين قبل اللقاء بالربّ.

في هذا الإطار، دخل البخور في صلاة الغفران، أو »الحسّاية« كعنصر أساسيّ. يبخِّر الكاهن المذبح الذي يدلّ على المسيح، ويبخِّر المؤمنين. ففي صلاة الفرض، نجد نشيد البخور وصلاة البخور (أو العطر) والنشيد الذي بعد البخور:

»إقبل، يا ربّ، من أيدينا هذا البخور، كما قبلت بخور هارون الذي صدَّ الموت عن الشعب. ليكن البخور الذي نقدِّمه لك نحن عبيدك، لمحْوِ ذنوبنا وغفران خطايانا. لك المجد يا ربّ. السماويّون والأرضيّون يمجِّدون اسمك، فإنَّ مجدك عمَّ السماوات والأرض. كما قبلت بخور هارون ودعاءه، هكذا اقبل، يا ربُّ البخور، الذي يقدِّمه الساجدون لك«. وبعد ذكر والدة الله والقدّيسين، نعود إلى صلوات التوبة: »وعدتنا، أللهمَّ، فقلتَ بفمك المقدَّس: إسألوا فأجيب. واقرعوا فأفتح لكم. دعوناك كما علَّمتنا، يا ربّ فجاوبْنا كما وعدتنا، واستجب برحمتك سؤلنا. اللهمَّ، لتطب لك صلاتنا، ولتدخل أمامك طلبتنا. ألا اقبلها كعطر بخور«.

بعد هذا النشيد، نجد صلاة البخور (إقبل يا ربُّ بعطفك بخور عبيدك)، ثمّ نشيدًا يطلب محو الذنوب وغفران الخطايا لأنَّ قلوب المؤمنين انكسرت بالخطيئة(42).

وفي عودة إلى النصوص القديمة، نرى أنَّ السرد يترافق مع ذكر البخور: »إذ نذكر يا ربّ معجزات وعظائم تدبيرك في الجسد، على عطر هذه البخورات النقيّة التي نقدِّمها أمامك...«(43).

وفي سدر آخر، يُذكر البخور في قلب القطعة، لا في بدايتها، ولا في نهايتها: »كما أنّ الكاهن الإبراهيميّ وقف داخل قدس الأقداس، أمام المذبح الملوكيّ، بأفكار عفيفة وروحيّة، بنقاوة وقداسة، نستطيع نحن أيضًا، كخدّام قريبين وعابدين لوقارك، بعد أن ارتدينا القداسة كأفود من البزّ المختار، وتزيّنّا بالأخلاق الحميدة على مثال هارون العفيف والقدِّيس... ساعة ترتفع صلواتنا أمام عرشك المجيد كرائحة بخور ثمين ومُرّ مختار... نستطيع أن نقف أمامك في هذا المكان المقدَّس...«(44).

ثانيًا: أبعد من سفر اللاويّين

إذا تركنا نصّ الكتاب المقدَّس، ورافقنا الاحتفال بعيد التكفير، نجد تقاربًا غريبًا بين »صلاة الغفران« وعناصر الاحتفال بهذا اليوم العظيم في العالم اليهوديّ. فهناك خمس ليتورجيّات تتوزَّع العيد: كلّ النذور(45) في البداية. وفي النهاية: إقفال الأبواب. دلَّت هذه الليتورجيّا، في الأصل، على إغلاق أبواب الهيكل. وهنا، صارت: إقفال أبواب السماء. هي المناسبة الأخيرة لطلب الغفران. بعد ذلك، تُقفَل أبواب السماء. بعدها ننشد أناشيد التوبة. وبين الاثنين، نجد صلاة الوقوف(46): »إكرامًا لاسمك. قدّستَ اليوم السابع الذي هو تتويج لخلق السماوات والأرض. وباركتَه بين جميع الأيّام، وقدَّستَه بين جميع الأزمنة... فيا إلهنا وإله آبائنا، تقبَّل راحتنا، وقدِّسنا بوصاياك، وأشركنا في توراتك. أشبعنا من صلاحك وأبهجنا بخلاصك. نقِّ قلبنا ليخدمك في الحقّ، وأعطنا، أيّها الربُّ إلهنا بحبِّك وحنانك ميراث سبتك المقدَّس...«(47). ونجد في هذا اليوم أيضًا الاعتراف بالخطايا. جُعل النصّ في صيغة المتكلِّم الجمع ليدلَّ على مسؤوليّة الجماعة تجاه الفرد، ومسؤوليّة الفرد تجاه الجماعة. والطِلبة التي ترافق هذا الاعتراف في يوم التوبة تبدأ كما يلي: »يا أبانا وملكنا، خطئنا أمامك. يا أبانا وملكنا، لا ملك لنا سواك. يا أبانا وملكنا، عاملنا بحسب اسمك. يا أبانا وملكنا، ألغِ كلَّ قرارات الشرِّ ضدَّنا. يا أبانا وملكنا، أفسد نوايا مبغضينا الشرّيرة«(48).

ب- أناشيد المديح والشكر

أوّلاً: أناشيد المديح

في أناشيد المديح، نحمد الله ونسبِّحه(49)، وهي تتلخَّص في هذه الطلبة: »أيّها الربُّ ربُّنا، ما أعظم اسمك في كلِّ الأرض« (مز 8: 1). نقول مثلاً في مز 19: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه«. وفي مز 33: »رنّموا للربّ أيّها الصدّيقون... لأنَّ كلام الربّ مستقيم، وكلَّ أفعاله حقٌّ... بكلمته صُنعت السماوات، وبنسمة من فمه كلُّ أفلاكها«. وفي مز 65، يتوجّه المرنِّم إلى الربّ فيقول له: »يا مثبِّت الجبال بقدرته، والمتَّزر بالجبروت وحدك، والمهدِّئ عجيج البحار، عجيج أمواجها وضجيج الأمم... تعهَّدتَ الأرض وسقيتها... تروي أتلامها وتسّوي أخاديدها، وبالأمطار تطرّيها وتبارك نبتها«.

كيف تتوزَّع هذه المزامير؟ تبدأ بدعوة إلى الجماعة: تعالوا نسبِّح الربّ. »ما أحسن الحمد للربّ، والترتيل لاسمك أيّها العليّ«، (مز 92: 1). »باركي يا نفسي الربّ. أيّها الربّ إلهي ما أعظمك« (104: 1). »هلِّلوا يا عبيد الربّ، هلِّلوا لاسم الربّ. ليكن اسم الربّ مباركًا من الآن وإلى الأبد« (113: 1-2). ويمكننا أن نطيل اللائحة، فنكتشف جذور الفروميون في ليتورجيّا »الحسّاية«: »لنرفعنّ التسبيح والمجد والإكرام«. هنا نورد ابتهال التوبة في الليتورجيّا السريانيّة: »أهِّلنا لنرفع باستمرار وفي كلِّ وقت وحين، المجد والشكر والتعظيم والثناء والتبجيل الدائم، إلى السامي المتعالي بأزليَّته، الذي تُجلُّه القوّات العلويّة، ويسجد له ويُسبِّحه الأرضيّون«(50).

وبعد هذه الدعوة إلى المديح، يأتي السبب مع لفظة »الآن«(51). يُمدَح الربّ لأنَّه صنع المعجزات، صنعَ السماء، بسطَ الأرض على المياه. نقرأ مثلاً مز 17: »هلِّلوا للربّ يا جميع الأمم، سبِّحوه يا جميع الشعوب، لأنّ رحمته عظمت علينا وحقَّه يدوم إلى الأبد«. ومز 138: »أحمدك من كلِّ قلبي... لأنَّك عظّمتَ كلمتك«، ومز 147: »سبّحوا الربّ، لأنّ الترنيم لإلهنا صالح«.

هذه المزامير تمدح الله من أجل عمل الخلق، ومن أجل معجزاته في التاريخ. هي قدرة الله التي تتجلّى من خلال حبِّه ورحمته. ولكن في الليتورجيّا، يُمتدَح الابنُ بشكل خاصّ لِما أتمّ من فداء. نقرأ مثلاً في صلاة الأحد: »إلى الربِّ الرحيم الذي نزل إلى التجسُّد بنعمته، وذاق الموت طوعًا عن المائتين، وأبهج التلاميذ بقيامته، وأظهر خلاصه لجميع الشعوب. الذي به يليق المجد والإكرام...«(52).

ثانيًا: مزامير الشكر(53)

بما أنَّ الله أغدق خيراته علينا، نرفع إليه الشكر: في العهد القديم، في ذبيحة تُحمَل إلى الهيكل. وفي العهد الجديد، في الذبيحة الوحيدة التي تُسمّى إفخارستيّا أو صلاة الشكر. فالمزمور الثامن عشر هو مزمور شكر ينشده الملك بعد نصر أعطاه الله إيّاه(54). ويستطيع أيّ مؤمن أن يتلوه. كما تستطيع الكنيسة باسم أبنائها أن تقول: »أرسلَ من العلى وأخذني، وانتشلني من مياه كثيرة. أنقذني من عدوّي القويّ ومن مبغضيَّ لأنَّهم أقوى منّي« (آ16-17). والمزمور الثلاثون، ينشده المرتِّل ليشكر الله الذي نجّاه من خطر الموت بسبب مرض أو غيره: »أُعظِّمُك يا ربّ، لأنَّك انتشلتني ولم تُشمت بي أعدائي... احمدوا ذكر قداسته: غضبه لحظة ورضاه إلى الأبد«. والمزمور 103 يوسّع نشيد الشكر من المستوى الفرديّ إلى المستوى الجماعيّ: »لا يصنع معنا حسب خطايانا، ولا يجازينا حسب آثامنا. مثل ارتفاع السماوات عن الأرض، قويَتْ رحمتُه على خائفيه. كبُعد المشرق عن المغرب أبعد عنّا معاصينا. كما يترأَّف الأب بالبنين، يترأَّف الربُّ بخائفيه« (آ10-13).

تبدأ مزامير الشكر بالدعوة إلى النشيد: »أُعظِّمك يا ربُّ... أُبارك الربَّ في كلِّ حين«. وبعد ذلك، يأتي خبر التدخُّل الإلهيّ. يروي المرتِّل ما حدث له، وكيف صرخ إلى الله فاستجاب له الله. وفي النهاية، يستنتج العبرة: »اتَّقوا الربَّ يا قدّيسيه«. في هذه المزامير، نقرُّ بعظمة الربِّ وتساميه. إنّه فوق جميع الآلهة. نقرُّ بأنَّ كلَّ خير يأتينا منه، بعاطفة من الامتنان وعرفان الجميل. نقرُّ بخطايانا وجهالاتنا، فنعلن أنّنا خطأة أمام القدُّوس.

ذاك هو موضوع ما يُسمّى السدر في صلاة الغفران. هناك صلوات تتوجَّه إلى الآب، وأخرى تتوجَّه إلى الابن. والنهاية تتوقَّف عند وساطة الابن: »ونحن أيضًا، أهِّلنا أن نعظِّمك... أيُّها الربُّ إلهنا، أيُّها المسيح وملك المجد، وبك ومعك(55) نعظِّم أباك وروحك القدّوس...« أو: »برأفة ورحمة وحنان ربِّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح الذي معك يليق المجد«(56).

ونقدِّم من مخطوط بريطانيّ(57) يعود إلى القرن الثامن، صلاة ''بخور'' تتوجّه إلى المسيح:

»نشكر رأفتك يا ربَّ المراحم، يا مَن في رحمته ظهر في موضع السفليّين، وقدَّم نفسه لأبيه كذبيحة مصالحة. يا ملك الحياة الذي صار لنا ذبيحة غفران (ح و س ي ا)، والذي بدمه المراق على الصليب غسل لعنة نسل المائتين. يا إكسير غفران الخطايا الذي أرسله الآب دواء لجراحنا، فشفانا، بآلامه، من آلامنا. يا ابن العظمة الذي رُفع على الصليب لأجلنا. لقد صار عطرُ موتك ذبيحة لغفران (م ح س ي ن ا) ذنوبنا. يا بهاء الآب وصورة جوهره الذي أضاء برأفته على الضالّين، وأعاد إليه المالكين، بتجلّيه.

»فيا أيّها المسيح، أنت باب الغفران (ح و س ي ا) وكنز مسامحة (ش و ب ق ن ا) الخطايا. ليرتفع بك، يا ربُّ، عطر بخورنا إلى هيكل قدس مشيئتك، فننال منك وبك غفران الزلاّت ومسامحة الخطايا، ونؤهَّل للرحمة في يوم تجلّيك، ونرفع المجد لك مع أبيك وروحك القدّوس إلى الأبد. آمين«(58).

نلاحظ الكلام على التدبير الخلاصيّ الذي تمّ بالمسيح. كما نلاحظ التشديد على الغفران بواسطة الاسم »ح و س ي ا« أو الفعل »مْ حَ سْ يُ ن ا«، وبواسطة »ش و ب ق ن ا« التي تعني الغفران والمسامحة. كلُّ هذا يترافق مع البخور، مع عطر البخور.

ونُنهي هذا المقطعَ عن أناشيد المديح والشكر، بسدر يتضمَّن قسمين سوف نعود إليهما في المقطع الثالث: كلام عن التدبير الخلاصيّ. ثمّ صلاة تبدأ بعبارة »والآن أيضًا«.

»أيُّها الربّ، يا إله الجيوش المقدَّسة، يا مَن، في البدء، خلقَ الإنسان على صورته وألبسه مجد الملائكة القدِّيسين. وبعد تمرُّده وابتعاده من الفردوس، أخذه أيضًا مرّة أخرى، على كتفيه وحمله. قبلتَه أيّها الربّ بحبِّك ورحمتك، وهو الذي كان قريبًا من الهلاك.

»لهذا الآن، أيّها الربُّ البطيء عن الغضب والصالح وناسي الشرّ، ارتضِ بصلواتنا، نحن الضعفاء الخطأة، كما ارتضيتَ بذبائح نوح التي لذّت لك. واغفر كلَّ خطيئة وذنب وإهمال اقترفناه نحن، أبناء اللحم والدم، أمامك يا ربّ. أمحها، أتركها، لا تحسب حسابها. لا تُبعد عنّا رحمتك ونعمتك، أيّها الربُّ، ولا تمنع خطايانا وذنوبُنا نعمةَ رأفتك، بل أعطنا أيُّها الربُّ الإله، قلبًا يعرفك، ونفسًا تخدمك حتّى الرمق الأخير، في الإيمان المستقيم والأعمال الصالحة. وأهِّلنا أيّها الربّ لأن نُصعد إليك مع جميع القدِّيسين الذين أرضوك في القديم، المجدَ والنعمة مع أبيك وروحك القدّوس، الآن...(59)

ج- صلاة الحسّاية بالمعنى الحصريّ

تبدو صلاة »الحسّاية« في الطقس المارونيّ، مؤلَّفة من قسمَين رئيسين: قسم يتحدَّث عن موضوع العيد أو المناسبة، وقسم يتضمَّن صلاة طلب: قد يكون القسم الثاني طلبات عامّة، أو التماسة لمغفرة الخطايا. فإذا عدنا مثلاً إلى مساء الأحد في الشحيمة، نكتشف المديح أوّلاً: »من يستطيع أن يمدح بحر حنوِّك، يا كلمة الله... نهتف مع داود المرتِّل قائلين: هذا هو اليوم الذي صنعه الربّ...«. وفي القسم الثاني، الطلب: »والآن نطلب إليك، أيّها المسيح إلهنا، أن تمنحنا غفران خطايانا، بعطر هذا البخور الذي نقدِّمه أمامك. أرحِ المتضايقين...«(60).

هذه البنية، سوف نحاول أن نكتشف جذورها في الكتاب المقدّس بعهده القديم، فنعود إلى نصوص جاءت بشكل خاصّ بعد العودة من المنفى. ونبدأ أوّل ما نبدأ، بسفر عزرا في فصله التاسع(61).

اجتمع الشعب في الساعة الثالثة بعد الظهر، أي ساعة ذبيحة المساء. بدأ عزرا بصلاة شخصيّة أفرغ فيها قلبه. ولما انتهى، ركع على ركبتيه وبسط يديه (عز 9: 5). وفي آ6، بدأ عزرا صلاته: تذكَّرَ تاريخ شعبه، فدلّ على أنَّ آلامهم كانت عقابًا على خطاياهم. والآن، بيّن الله لهم مشروعه المجّانيّ الذي يخونونه متجاوزين أقوال الأنبياء. وتنتهي الصلاة بصرخة تعلن أنَّ الشعب لا يستطيع أن يقف أمام إله أغاظه. أمّا بنية النصّ فجاءت كما يلي:

في آ6-9، ذكر عزرا عصيانَ الشعب في الماضي، منذ زمن الآباء حتّى هذا اليوم. ثمّ ذكر غضب الله الذي عاقب شعبه، ورحمته حين ترك بقيّة تعود إلى أورشليم.

في آ10-12، يبدأ قسم جديد مع »والآن«. يتحدَّث الكاهن عن الوضع الحاضر: لم يكن الأبناء أفضل من الآباء. فكيف يحقُّ لهم أن ينالوا الغفران(62).

بدأ عزرا صلاته في صيغة المتكلِّم المفرد (يا إلهي، أنا أخجل). ثمّ انتقل إلى صيغة المتكلِّم الجمع: إنَّ ذنوبنا تكاثرت... وهكذا تضامن الكاهنُ مع شعبه، فصارت صلاةُ الشعب صلاتَه، وصلاتُه صلاةَ الشعب. أراد عزرا أن يؤثِّر على السامعين، لا على الله، كما في كلِّ صلاة علنيّة، وحثَّهم لكي يتركوا سلوكهم الشرّير(63).

ثمّ نتوقّف، بشكل خاصّ، عند سفر نحميا في فصله التاسع. الوضع هو هو: خطيئة الشعب، ولاسيّما الزواجات المختلطة. أمّا الإطار فعيد المظالّ الذي يمتدّ على سبعة أيّام، بحيث يُختتم الاحتفالُ في اليوم الثامن (لا23: 34، 39). صام الشعب وجعلوا على نفوسهم المسوح والرماد (نح 9: 1). وبعد أن تخلّوا عن خطيئتهم، اعترفوا بذنوبهم وذنوب آبائهم (آ2-5). بدأت الصلاة (آ6-37) على مثال صلاة عزرا: دلّ الله على خيراته تجاه شعبه، ولكنَّ الشعب لم يتجاوب. نحن هنا في إطار نبويّ أكثر منه كهنوتيّ(64).

وقد جاءت بنية الصلاة كما يلي:

* 9: 5، نداء اللاويّين إلى الصلاة: »قوموا باركوا الربّ. نادوا: تبارك اسمك المجيد«. بدأ اللاويّون الصلاة، على مثال ما في الفروميّون، وقدَّم عزرا صلاة التوبة. نشير إلى أنّ آ6 تبدأ حالاً بعد كلام اللاويّين: »أنت يا ربّ«. ولكنّ النصّ اليونانيّ بدأ التضرُّع بعبارة: »وقال عزرا«. نحن نفهم أن يكون العبريّ ألغى هذه العبارة. فعزرا كاهن، لا عظيم كهنة. وعظيم الكهنة يحقّ له وحده أن يتلو صلاة الاعتراف بالخطايا.

* 9: 6-8، هنا تبدأ صلاة طويلة تورد تاريخ بني إسرائيل منذ البدايات، منذ الخلق، وخبر إبراهيم (تك 12: 1ي؛ 15: 1ي، 17: 1ي).

* 9: 9-15، يذكر الخروج من مصر، عبور البحر الأحمر، المسيرة في البرّيّة (خر 1-15). كما تُذكر الوصايا لموسى على سيناء والمنّ في البرّيّة والماء الخارج من الصخر (خر 16-24).

* 9: 16-31. وتتواصل عطايا الله، من الدخول إلى كنعان، حتّى زمن القضاة والملوك. وفي النهاية، ورغم كلام الأنبياء، رفض الشعب أن يسمع فأُسلم إلى السبي. وينتهي هذا القسم بتعلُّق بمراحم الربّ: »ولكنَّك لكثرة مراحمك لم تقتلعهم ولم تهملهم، لأنَّك إله حنون رحيم« (9: 31).

* 9: 32، مع هذه الآية يبدأ القسم الثاني من الصلاة الذي هو تأوين لتاريخ الشعب أو قراءة الماضي في الحاضر، قراءته الآن، على ما قال المزمور: »اليوم، إن أنتم سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم«. مع أنّ الربَّ أحاط آباءنا بكلِّ خير مجّانيّ، فآباؤنا تجبَّروا على الربّ، وعاندوه، ولم يطيعوا أوامره (9: 16). كما أنّهم صنعوا عجلاً مسبوكًا (آ18)، ناسين الوصيّة الأولى من وصايا الله، التي هي في أساس سائر الوصايا. هذا ما يقابل السدر في صلاة الغفران، حيث تُذكر أعمال الله من أجل شعبه. فيبقى القسم الأخير الذي هو التوبة وطلب الغفران. هذا ما فعله الآباء. والآن، ماذا يفعل الأبناء؟

*  9: 33-37، الضيق ما زال يحيق بنا اليوم، لأنّنا ما زلنا خطأة. ما نقرأ في آ37 يدلّ على أنّ الأرض ما زالت عرضة للاحتلال. ومع ذلك، فعلى الشعب أن يعيد بناء بيوته ومدنه. وتنتهي الصلاة فجأة. كنّا ننتظر طلبًا أو خاتمة. ولكنَّنا لا نجد شيئًا من ذلك. هل سقطت نهاية هذه الصلاة، أم أسقطها الناشر؟ بهذه الطريقة يتابع كلُّ مؤمن في قلبه ما تلته الجماعة باسم إمامها من صلاة عامّة.

هي صلاة غنيّة جدٌّا، وقد جاءت في صيغة شعريّة. رسم المصلّي تاريخ الشعب في عاطفة من التوبة والسجود تجاه إله الرحمة، الأمين لكلمته رغم لا أمانة شعبه. منذ الخلق ودعوة إبراهيم، حتّى الضيق الحاضر. هي صلاة تودّ أن تقود الشعب إلى توبة جماعيّة بسبب خطايا الماضي والخطايا الحاضــرة(65).

وفي النهاية، نعود إلى سفر دانيال في نسخته اليونانيّة، فنقرأ صلاة عزريا من قلب اللهيب. هي صلاة ليتورجيّة (دا 3: 26-54) جُعلت هنا فأعطت الإطار الروحيّ لما يعانيه هؤلاء المؤمنون في زمن الاضطهاد. وقد جاءت في ثلاثة أقسام: فروميون، سدر، تأوين الصلاة في قصد يتَّخذه المؤمن بأن يتبع الربّ(67).

آ26: مبارك أنت يا ربّ إله آبائنا...

آ27: لأنَّك... هنا يبدأ مديح الله: عادل أنت يا ربّ... أعمالك صادقة... أثِمنا... وضعُنا ميؤوسٌ منه.

خطئ الشعب، فعاقبهم الربّ بسبب خطاياهم، وأسلمهم إلى أيدي الأمم (آ29-33). ولكنّ الربّ لا يتخلّى عن شعبه لئلاّ ينقض عهده، منذ إبراهيم خليل الله وإسحق ويعقوب... (آ34-37). فأين عهد الربّ الآن، والشعبُ لا مَلِك له ولا نبيّ، والهيكل لا ذبائح فيه. الخراب قام في البلاد (آ38-40). مع آ41، تتحوَّل الصلاة إلى قصد صالح: يتطهَّر بنو إسرائيل فيتبعون الربّ. وينتهي هذا »المزمور« (آ42-45) بتوسُّل حارّ: أن لا يخزَوا أمام الوثنيّين، أن يتحرَّروا من الظلم، فيقرّ الأعداء بأنّ يهوه هو الإله الحقيقيّ.

الخاتمة

مسيرة طويلة سرناها عائدين إلى الوراء: من صلوات نتلوها اليوم، إلى الكتاب المقدَّس في عهد القديم حتّى زمن منفى شعب إسرائيل سنة 587 ق.م. وقد كان بالإمكان أن نخرج من التوراة فنصل إلى العالم الفارسيّ، وربّما إلى العالم الهنديّ. فالصلاة في هذا الشرق الذي يصل إلى الهند، عميقة الجذور. ينطلق المؤمن من واقعه الأليم، من الشرّ الذي يصيبه، فيعود إلى ربِّه. يتذكَّر حسناته الماضية ويتطلَّع إلى حسنات حاضرة. هو خاطئ فلا يستحقّ. ولكنّ آباءه خطئوا أيضًا، ومع ذلك عاملهم الإله بالرحمة وما أفناهم. تلك هي مسيرة الغفران التي عاشها المؤمنون منذ العصور ولا يزالون. وفي المسيرة التي نعيشها اليوم في صلاة الغفران. أو في ما تسمّيه العامّة منطلقة من السريانيّة: صلاة الحسّاية، نبدأ فنرفع المجد إلى الله، إلى الآب والابن والروح، إلى الابن الذي صار إنسانًا ومات على الصليب ليفتدينا. هذا هو الفروميون، أو مقدِّمة صلاة الغفران، بعد ذلك، نسرد أعمال الله بترتيب في ما يُسّمى السدر، فنذكر التدبير الخلاصيّ. وفي النهاية، نرفع بخور حياتنا وصلاتنا طالبين المغفرة عن خطايانا، قاصدين سلوكًا جديدًا. ولكن، بما أنّنا ضعفاء، تنتهي صلاة الغفران بطلب من الله لكي يسندنا ونحن معرَّضون لذلك: عاملنا بحسب رأفتك وكثرة رحمتك. هذا ما قاله عزرا في صلاته. ونقول في صلواتنا الليتورجيّة: أقم برحمتك الساقطين، وثبِّت القائمين لئلاّ يتراخوا.

مسيرة طويلة ولا شكّ ربطت صلاتنا بالكتاب المقدَّس، فكلَّمنا الله بكلام الله. وربطت كنيستنا الأنطاكيّة بكنيسة أورشليم وما تحمل من تقاليد عريقة انتقلت من العهد القديم إلى العهد الجديد. وربطت أخيرًا شعبَنا بوحي بدأ مع الآباء والآنبياء، ووجد كماله في الابن الذي هو بهاء مجد الله وصورة جوهره.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM