الفصل الثاني والعشرون: تيودور المصيصي وقراءته لسفر التكوين

الفصل الثاني والعشرون

تيودور المصّيصيّ وقراءته لسفر التكوين

غريب مصير هذا المفكِّر الكبير في أنطاكية. معاصروه اعتبروه من »أهمِّ« العلماء في عصره. ذاك الخصم العنيد لكلِّ الهرطقات التي انغرست في الكنائس الشرقيّة. ذاك الذي دافع محبّوه عنه بحرارة بعد موته، لأنَّ الذين هاجموه لم يكن اهتمامهم المدافعة عن الإيمان القويم.

ومع ذلك، فالشرق والغرب جعل هذا الأسقف بين الهراطقة. حُرمت مؤلَّفاته وأُتلفت. بل صار اسمه مرادفًا للكره في العالم المسيحيّ، وما تبدَّل هذا الحكم كثيرًا، بعد اجتماعات »من أجل الشرق« بيَّنت أنَّ ما دُعي هرطقات في الشرق من نسطوريّة وغيرها، كانت اختلافات على مستوى الكلمات، لا على مستوى العقيدة.

شرقيّ الفرات يعتبرونه »المفسِّر« بدون منازع، ولبث يسيطر على الفكر البيبليّ حتى القرن العاشر وما بعده. أمّا غربيّ الفرات فانتقدوا أيَّ انتقاد ذاك الذي فسَّر المزامير وأوَّلَها وهو بعمر عشرين سنة. وعلى سبيل المثال، نستطيع أن نقرأ حكم فوتيوس على تفاسيره، لكي نفهم كم لبث ذكر تيودور مرفوضًا في العالم البيزنطيّ وبالتالي في العالم اللاتينيّ. أمّا نحن وبعد نقلنا »العظات التعليميّة«(1)، وكتبنا مؤلَّفًا عن تيودور حول سيرته(2) وآثاره، فنعتبر هذا المفسِّر من كبار المفسِّرين، ونتوقَّف بشكل خاصّ لدى ما بقي عنده من قراءته لسفر التكوين. مع كلام حول نظرته التفسيريّة.

 

1- سيرة تيودور ومؤلَّفاته

 

أ- سيرة تيودور

وُلد تيودور في أنطاكية، في عائلة ميسورة، حوالى سنة 350. ودُعي المصِّيصيّ، على اسم المدينة التي كان أسقفها. كان زميل الذهبيّ الفم في دراسة البلاغة، لدى ليبانيوس، ذاك الوثنيّ الذي ارتبط بعلاقات حلوة مع المسيحيّين. مثلاً، مع باسيل، أسقف قيصريّة(3). تأثَّر بيوحنّا، فدخل في مجموعة نسكيّة(4) تلتئم في ضواحي أنطاكية، وتعيش حياة مشتركة بقيادة ديودور الذي سيصبح أسقف طرسوس، ورفقة كارتيريوس. مارست هذه المجموعةُ، النسك والصلاة ودراسة الكتب المقدَّسة، فخرج منها مفسِّرون كبار شكَّلوا ما يُدعى »مدرسة أنطاكية«. بعد ثلاثة أشهر من الحياة النسكيّة، عزم تيودور أن يتخلّى عن الرفاق، فيدرس الحقوق ويتزوَّج. حضَّه صديقه يوحنّا مرَّتين(5) فجعله يترك قراره ويعود إلى الحياة النسكيّة(6).

هنا نورد بداية الرسالة التي بعث بها الذهبيّ الفم إلى تيودور: »لو استطاعت الدموعُ والتنهُّدات أن تعبِّر بالحروف المكتوبة، لكنتُ ملأتُ الرسالة التي أبعثُ بها. أنا أبكي. لا لأنَّني أراك تهتمُّ بالأمور الوالديّة، بل لأنَّني أفكِّر أنَّك محوتَ اسمَك من لائحة الإخوة المجنَّدين (في جيش المسيح، مع الرهبان). وأنَّك دُستَ بقدميك العهد المعقود مع المسيح. أرتجفُ، أتألَّم، أقشعرُّ وبحقّ. فما من أحد يتَّهم بالهرب شخصًا عاديٌّا. ولكن إذا كان هذا جندّيٌّا وأُخذ في الجرم المشهود فترك موضعه، فهو يتعرَّض لأكبر الأخطار. والشرّ كلُّ الشرّ، يا عزيزي تيودور، ليس في أن تسقط في القتال، بل أن تبقى ملقىً على الأرض. فمن المؤسف لا أن تُجرَح في الحرب، بل أن تهمل ضربةً نلتها، وتهمل الجرحَ يأسًا. ما من تاجر انكسرت السفينة به مرَّة واحدة، وخسر الحمولة، يتخلّى عن الإبحار. بل هو يعبر البحر مرَّة أخرى، الأمواجَ والمحيطات الواسعة، ويسعى إلى استعادة ماله السابق. ونرى أيضًا عددًا من المقاتلين المكلَّلين بالغار، بعد سقطات كثيرة. في الماضي، كم من جنديّ هرب، ثمّ تميَّز بطلاً وانتصر على الذين انتصروا عليه. كثيرون أنكروا المسيح تُكرههم العذابات، وعادوا إلى القتال، وتركوا الحلبة بعد أن اعتمروا إكليل الاستشهاد. فلو أنَّ كلَّ واحد من هؤلاء يئس منذ الضربة الأولى، لما كان نعمَ بخيرات جاءت فيما بعد.

»فيا عزيزي! إذا كان العدوُّ هزَّك بعض الشيء، فلا تلقِ اليوم نفسك في الهوَّة. إبقَ واقفًا، تشجَّع، عُد بسرعة إلى موضعك الذي تركت. ولا تحسب هذا الجرح الموقَّت عارًا. فلو رأيتَ جنديٌّا مثخنًا بالجراح يعود إلى القتال، لن تشتمه. فالعار يقوم بأن يُلقي السلاح. ويجعل نفسه بمنأى العدوّ. وما دام هذا الجنديّ يقاتل بعناد، فلو جُرح هل يترك المعركة لحظة واحدة؟ ما من فطن لا يجهل فنّ الحرب، يطلق له اللوم. فاللامحاربون وحدهم لا يُجرَحون. أمّا الذين يسيرون بشجاعة باتِّجاه العدوّ، فهم الذين يُصابون، ويَسقطون. ذاك هو مصيرك اليوم. حاولت أن تقتل الحيّة بضربة واحدة، فعضَّتك (تك 3: 15). ولكن تشجَّع! أنت تحتاج بعض الاعتدال، فلا يبقى عندك أثر لهذا الجرح. أو بالأحرى، بفضل الله، تدوس رأس الشرّير. ولا تتبلبل أيضًا لأنَّك وجدت نفسك مقيَّدًا في بداياتك«.

حينئذٍ، عكف تيودور على دراسة معمَّقة للكتاب المقدَّس لدى معلِّمه ديودور(7). وفي الوقت عينه، باشر نشاطه الرعائيّ الأدبيّ الذي قام به باندفاع لم يعرف الكلل حتّى ساعة موته. وأكبر شاهد على ذلك، مؤلَّفاته العديدة.

رُسم تيودور كاهنًا على يد فلافيان، خلف  ميليتيوس، سنة 383. ومنذ سنة 386، نجده في طرسوس، بجانب ديودور الذي صار أسقف تلك المدينة سنة 378. سنة 392، صار تيودور أسقف المصِّيصة، لأنَّ الماقيدونيّين (يرفضون التعليم عن الروح القدس) رفضوا الجدال مع من ليس أسقفًا.

دامت أسقفيّة تيودور، ستٌّا وثلاثين سنة، أي سنة 428، تاريخ وفاته، على ما يبدو(8). لا نعرف الكثير من نشاطه في تلك الفترة، إلاّ ما تركه هيبا الرهاويّ، الذي شهد أنّه هدى مدينته، المصّيصة، إلى الحقيقة الإنجيليّة. فوصل تعليمُه إلى الكنائس البعيدة(9). كما عُرف عنه أنَّه شارك في حوار عين زربة، بين الكاثوليك والماقيدونيّين(10). تأثّر في أعماقه حين عُزل الذهبيّ الفم عن كرسيِّه وأُرسل إلى المنفى، سنة 404. حينئذٍ وجَّه إليه يوحنّا رسالة (112، الآباء اليونان 52؛ 668؛ رج الرسالة 204؛ الآباء اليونان 52: 725)(11).

قبل التوقُّف عند آثار تيودور، ننقل عن السريانيّة بعض تاريخ برحدبشابا عربايا(12) حول تيودور. الفصل التاسع عشر: خبر أعمال الشهير بين القدّيسين مار ثادوروس، أسقف مفسوسطيا، وتلك الأعمال المجيدة التي صنع ذلك القدّيس خلال أسقفيَّته:

»إذا كانت كلُّ الأعمال تتجاوز قدرتنا لكي نقدِّمها، بالأحرى ما يتعلَّق بتاودوروس أسقف مفسوسطيا، رجل حكيم مثل سليمان. كان أغنى من كلِّ إنسان في الحكمة ومخافة الله. انكبَّ أكثر من سائر الآباء على معنى الكتب وتفسيرها. وكما النحلة تنطلق من كلِّ النباتات تركِّب نتاجًا يتجاوز كلَّ طعم، كذلك انطلق هو من كلِّ المعلِّمين، بنعمة الروح التي أخذ، جمع معنى الكتب الإلهيّة، وكشفها للؤمنين. وما أدهش العالم فقط، في حياته، بل بعد موته أدهش كلَّ إنسان بكُتُبه. فمن يقدر أن يروي أمجاد بحر الفهم هذا. أو من يقدر أن يُخبر المعجزات لتي أتمَّ فيها رمزٌ خفيّ. فحين يصل الأساقفة إلى هنا (المصِّيصة)، يجعلون أنفسهَم في رتبة التلاميذ. والفلاسفة بأجوبتهم الدقيقة، كانوا قدّامه مثل طالبي علم. كلُّ سؤال عميق وغامض كان يبلغ إليه فقط. وكما نور الشمس للعيون، يوضحه للسائلين ويعرضه.

»فهذا الرجل العجيب كان من أنطاكية. إبن أناس معروفين بالنسب والكرامة. ومن بداية طفولته حتّى الثامنة عشرة من عمره، درَّب نفسه مع باسيل الكبير في تعليم الفلسفة. وإذ كان في سنته السادسة عشرة، تدرَّب بما فيه الكفاية، في حكمة اليونان. حينئذٍ دفعته النعمةُ الإلهيّة للاقتراب من الكتب الإلهيّة. وبما أنَّ الربَّ يعرف الذين هم له، ما أراد أن يجعله إناء للضلال ولحكمة الوثنيّين الوهميّة، بل جعله إناء نقيٌّا، لائقًا بخدمة ربِّه، ومُعَدٌّا لكلِّ عمل صالح. وأكثر من خروعة يونان (يون 4: 6)، جنَّبه فهم الكتب الإلهيّة بعينيه. وقد قيل إنَّ يوحنّا (الذهبيّ الفم) نصحه بذلك، لأنَّهما كانا في مدرسة (ا س ك و ل ا) واحدة مع مكسيمين أسقف سلوقية. وبعد قليل، مضى إلى أحد الأديرة، حيث كان السكّان أفضل من الباقين. وذلك لكي يدرس تعليم الكتب وطريق الفضيلة. وإذ توسَّل إليهم (= الرهبان) كثيرًا لكي يقبلوه، رفضوه أوَّلاً. وأجابوه: لا نستطيع أن نضيف إلى هذا العدد. إنَّما كانت نيَّتهم غير هذه. فقد خافوا أوَّلاً من أن يُتَّهموا أنَّهم يفضِّلون النبلاء. وثانيًا بأنَّه يجب عليهم أن يعتذروا لدى والديه. وثالثًا أرادوا أن يعرفوا إن كان أهلاً أم لا(13). وإذ تذلَّل على باب الدير سنة كاملة، وهبوا له بعد ذلك يدهم للدخول، لأنَّهم أُعجبوا كثيرًا بسلوكه وعزيمته.

»أقام في ذلك الدير إحدى وعشرين سنة عند قدمَيْ فلافيان وديودور، فبلغ في درسه إلى الكمال. وألَّف هناك تعاليم وتفاسير الكتب. وإذ وُجد مختبَرًا في وقت قصير فمنحته النعمة أفضل من الآخرين في تفسير الكتب، فقرَّب له الكثيرون نصيحة في هذا المجال. أمّا سلوكه في الدير، وحدهم أولئك الذين رأوه والذين من أجلهم عمل، يقدرون أن يردُّوا. صار لكلِّ واحد عتبةً تُداس. كما قيل عن المطوَّب موسى: ''كان متواضعًا أكثر من جميع الناس الذين على الأرض'' (عد 12: 3). هكذا هو أيضًا.

»أمّا علَّة خروجه من الدير فهي هذه: بما أنَّ الذين من بيت ماقيدونيوس تبختروا في ما اكتشفوا حول الروح القدس. قالوا: ما هو كائن (أزليّ). ولا يتساوى في الطبيعة مع الآب والابن. بل صُنِع بيد الابن. بعد قليل، أرادوا أيضًا أن يدعوا الأرثوذكسيّين للجدال. وسألوهم هكذا: بيِّنوا لنا أين قيل إنَّ الروح القدس كائن (أزليّ، ا ي ت ي ا). أو يتساوى في الجوهر، أو خالق، أو الله. إذا استطعتم أن تبيِّنوا هذه، فمعتقدكم حقيقيّ. وقد ظنَّ الضالُّون أنَّ ما من إنسان يقدر أن يردَّ على ذلك. حينئذٍ ركضت كنيسة الربِّ التي في مدينة عين زربة، إلى موسى وإلى بولس الثاني، فقبِلَ بمهمَّة الخلاص لشعب الربّ (عب 11: 25-26).

»وحين شعر الماقيدونيّون أنَّه سوف يتجادل معهم، شرعت زمرة الكفّار يصرخون: ''لا نترك القسس يتجادلون مع الأساقفة''. ولهذا، وبعد أن توسَّلوا إليه وأكثروا، وهبوا له درجة الكهنوت العظيم وكرامتَه. مرَّات كثيرة طُلب منه ذلك، فتمَّ ذلك في وقت الليل بحسب الكنيسة الكاثوليكيّة. وحين استعدَّ الدجّالون والحقيقيّون وأتوا في صباح اليوم، وحين جلس المفسِّر المطوَّب على رأس جيوش الربّ، جميعُ الأعداء أحنوا رؤوسهم إلى الأرض، وما استطاعوا أن يقاوموا أسئلته. بل لجأوا كلُّهم إلى الصمت. فخرج وهو يحمل أكاليل الظفر. فطاف به كلُّ الآباء القدِّيسين، وقد أرسلوه إلى حقل مفسوسطيا البائر. فقد وجدوا أنَّ الشرَّ نهمٌ في أسواقها، وأنَّها ضاعت في العوائد الوثنيّة أكثر من غيرها. بعد ذلك، طُلب منه أن يدبِّر مطرانيّة طرسوس، فما أراد، بل مضى إلى كرم مملوء بالوعر والشوك. وبحماس غيرته، ما أوقد فقط الوعر والشوك الذي يخنق الجفنة، بل فلحها بفقاهة واسعة ليقطف منها عناقيد التسبيح والشكران.

»والوثنيّون الذين يتعبَّدون للشيطان مفسوس(14)، أقاموا هناك للشيطان صنمًا كبيرًا، وكُنِّيت هذه المدينة باسمه. هؤلاء بوقاحة نظروا قبالة القدّيس وقالوا: ''هب أنّنا نسجد لصنمنا حتّى يطلب منّا أن نسجد للصليب''. وأخذوا إلههم خفيّة، وثبَّتوه في الحائط وراء المذبح، بحيث يسجدون له بدل المذبح. وإذ دخل هذا المبجَّل إلى البيعة، في وقت الصلاة، ووضع ركبته قدّام ذلك المذبح، تحطَّم الجدار بقدرة الله، وطُرح مفسوس بعيدًا عنه. وحين عرف الوثنيّون كلُّهم وأبناء المدينة، عظمةَ قدرة الله التي بها كُشف هذا المكر، حنوا أعناقهم في الحال وصرخوا: هي أصبع الله(15). فأهِّلوا كلُّهم لموهبة المعموديّة بيد راعيهم.

»وإذ اشتهر بهذه الأمور، بعضٌ من الشعب اليهوديّ ركضوا والتجأوا إليه. ورئيس المجمع (ك ن و ش ت ا) الذي اسمه يوسف، أقام في تلك المدينة. وإذ لبث طويلاً في تصلُّبه، أراد الله أن يلين. وإذ »فلح« وقتًا طويلاً في تعليم مختار الله، خضع في النهاية وطلب أن يعتمد. وقد أراد المفسِّر، بحسب قانون البيعة أن يمتحنه أوَّلاً. ثمّ يقبل رسم المعموديّة. وهو في حبِّه، اعتاد أن يجلس عند قدمَي تيودور، ويستعذب شراب التعليم العظيم. واعتاد تيودور أن يفسِّر التعليم ثلاث مرّات قدَّام رعيَّتِه. وحصل أن مات ذلك اليهوديّ في وسط ذلك. وإذ سمع تيودور أنَّه مات، أخذ ينوح، وظنَّ أنَّه يستحقّ العقاب لأنَّه لم يعمِّده. وإذ هو مشغول بذلك، مضى إلى القبر. وإذ اتَّكل على العون الإلهيّ، أقامه بواسطة صلاته، وأشركه في موهبة المعموديّة.

»هذه الأمور عُرفت في كلِّ المدينة. تلك كانت فضائل ذاك العظيم والعجيب والفاضل، التي أدهشت الكثيرين. بسبب تواضعه، وحبِّه لكلِّ إنسان، كُنِّيَ موسى الثاني. وبغيرته تجاه الهراطقة، قُوبِل بيشوع بن نون وداود الملك(16)...

»امتدَّت حياة المفسِّر حتّى زمن تاداطوس الأسقف. وفي أيّام هذا، رقد في شركة مع البيعة. وجُعل إلى جانب عظام الطوباويّة تقلا. تلك التي طافت مع الرسل بفعل الصنيع الإلهيّ. وهكذا فالأشرار وقَّروا عظامه مع عظام تقلا، وهم لا يريدون. كان أسقفًا خلال 36 سنة. كان له أخ، وهو رجل وقور ومتعلِّم. ذكرَه في تفسير أيّوب. واسمه فيلوكرونيوس. كان أسقفًا في أفامية. واقتنى هو أيضًا موهبة الكلام.

»ذاك هو مجد ذاك الذي هو بين القدّيسين. الطوباويّ تيودور. وينبغي لنا أن نضيف أمرًا واحدًا: حين اختبر الملك تيودوز الكبير ذهنه ودرسه، أمر فقال: كلُّ سؤال يطرحه الآباء حول الكتب المقدَّسة، لا يُسمَح لهم بأن يقبلوا حلاٌّ إلى أن يصل إليهم قنديل المسكونة، مار تيودور. وهكذا كان إلى يوم موته. ما كان إنسان يستطيع مثله أن يقدِّم برهانًا وحلاٌّ، ويبيِّن الحقيقة. فقد عمل خمسين سنة في التعليم، وفي الدرس لمجابهة الهراطقة«(17).

 

ب- مؤلَّفات تيودور

مثَّل تيودور كنيسة أنطاكية أرفع تمثيل، ولاسيّما في مجال تفسير الكتاب المقدَّس. دوَّن مؤلَّفاته في اليونانيّة، فضاعت في هذه اللغة منذ الحكم عليه، بل قبل ذلك الوقت. ولكنَّ الكنيسة السريانيّة قدَّرت هذا »المفسِّر« حقَّ قدره، فنقلت مؤلَّفاته. كما وُجد تفسير المزامير في اللاتينيّة.

أوَّلاً: لائحة المؤلَّفات

أمّا لائحة مؤلَّفاته، فنجدها في السريانيّة، في نسختين. الأولى، التاريخ السعرديّ الذي يعود إلى القرن 13 (حاشية 17). والثانية، نسخة عبد يشوع مطران نينوى الذي توفِّي سنة1318(18).

ونقرأ ما كتبه التاريخ السعرديّ:

ولمّا رآه ثياذاسيس (تيودوز) يكشف له عن كلّ مسألة غامضة، فسأله عنها ويُوضح له أسبابها في الجواب، اشتدَّ اغتباطه به. فسأله (هو) وجماعة من الأساقفة، أن يفسِّر لهم الكتب. فمنهم »آليفا«. سأله أن يفسِّر التوراة (= الأسفار الخمسة)، ففسَّرها في ثلاثة كتب. »مار بابي« سأله أن يفسِّر كتاب شموئيل (صموئيل). »قدرون« سأله أن يفسِّر الداود (أي المزامير). ففسَّره في ثلاثة كتب. »مار طومى« سأله تفسير الاثني عشر (نبيٌّا)، ففسرَّها. »مرفوريا« تفسير قوهلت (= سفر الجامعة). »اوسيا« سأله تفسير الأفراكسيس (= أعمال الرسل). »أثناسيوس« سأله تفسير رسالة فولوس إلى الروم. ففسَّرها. وتيودوز، سأله تفسير الرسالة الأولى إلى القورنتانيّين (= الكورنثيّين). »طرافل« سأله تفسير الرسالة الثانية إلى القورنتانيّين، وإلى الجالاطيّين (الغلاطيّين) والأفاسيين (والأفسسيِّين) والقولسايين (الكولوسيّين). »يعقوب« سأله تفسير الرسالتين إلى التسالونيقيانيّين (تسالونيكي). »هوذاطوس« سأله تفسير رسالته إلى فيلمون والعبرانيّين، وسأله كتاب الكمال والكهنوت. »موريقي« سأله تفسير رسالته إلى طيماتاوس.

»وآخرون طلبوا منه تفسير كلِّ فن. وفسَّر من الكتب، كتاب أيّوب، كتاب الإنجيل، متّى ومرقوس ولوقا ويوحنّا. تفسير الأمانة الثلاثمئة والثمانية عشرة (مجمع نيقية مع 318 أسقفًا). تفسير الرازين (في السريانيّة: ا ر ز ي ن: الأسرار). كتاب في إنسانيّة سيِّدنا. كتاب كمال التدبير. كتاب في الردِّ على من قال إنَّ الخطيئة موضوعة في الطبع. كتاب على روح القدس. كتبَ في الكهنوت. كتبَ في الردّ على المجوس رسائلَ تُدعى الجواهر. كتاب في الردِّ على أوناميوس. كتاب في الردّ على أبوليناريوس، مقالة في مجيء الدجّال. رسالة إلى رجلٍ كفرَ بالمسيح. كتاب في تفسير مذهب أريوس. كتاب يناقض من يقرأ الكتب على جهة الأمثال (مفرد مثَل أو لغز).

»وبالجملة، ما سأله أحد شيئًا إلاّ سارع إليه. ولا مرَّ قلمه على شيء من الكتب إلاّ فسَّر مثل باقي (العهد) الحديث (= الجديد) وإرميا وحزقيال ودانيال. وعمل كتابًا جمع فيه الردّ على كلِّ مُبدع، وأسمه بالطُرَف، وسمّاه كتاب الجوهر لأنَّه منظوم بالدرر الفاخرة. ولبث خمسًا وخمسين سنة يكدُّ نفسه بالنظر في الكتب والتفسير ومقاومة أهل البدع، حتّى دعاه الله إلى ملكوته«.

ثانيًا: المؤلَّفات التفسيريّة

ممّا سبق نفهم أنَّ تيودور فسَّر جميع الأسفار البيبليّة في العهد القديم. الأسفار الخمسة، يشوع، صموئيل، الأنبياء الكبار الأربعة، الأنبياء الصغار الاثنا عشر، المزامير، سفر الجامعة، أيُّوب، نشيد الأناشيد. وفي العهد الجديد: الأناجيل الأربعة، أعمال الرسل، الرسائل البولسيّة بما فيها الرسالة إلى العبرانيّين(19).

* تفسير الأنبياء الاثني عشر

هو المؤلَّف الوحيد الذي وصل إلينا كاملاً في اللغة اليونانيّة. نشره ونقله إلى اللاتينيّة ماي(20). واستعاد النشرةَ الآباء اليونان (66: 123-662). جاءت النشرة العلميّة، النقديّة بيد سبرنجر(21)، الذي أرفق عمله بدراسة حول تفسير تيودور ولاهوته.

ضاعت تفاسير العهد القديم، فلماذا بقي هذا التفسير؟ لأنَّه لا يحمل أفكارًا ذات بعد كرستولوجيّ. كتبه تيودور بعد المزامير بوقت قليل، على ما قال عبد يشوع. وكما ذكره التاريخ السعرديّ. وها نحن نتوقَّف عنده لما فيه من نظرة نبويّة.

»قابل تيودور بين داود مؤلِّف المزامير والأنبياء. إستنار داود بالروح القدس وحرَّكه روح الله، فنال وحيًا عن الأحداث التي هيّأها الله لشعبه. دلَّ على المراحل المتنوِّعة، وشعرَ في أعماق نفسه بعواطف سوف يشعر بها المؤمنون حين تتحقَّق أحداث سبق الكتاب فأنبأ بها.

»وبقدر ما اقتربت الاستحقاقات، حرَّك الربّ الأنبياء الذين كانت رسالتهم تذكير الشعب أنَّ كيل الزمن امتلأ. وما أنبأ به داود يتحقَّق وقد جاء الوقت ليمنح الربّ روحه إلى مسيرة الأحداث التي لا شيء يوقفها(22)«.

ونطرح هنا ثلاثة أمور. دور الروح في الأنبياء، تعليم الأنبياء، الأنبياء والمسيح.

* دور الروح في الأنبياء

سبق تيودور في تفسيره للمزامير، فدلَّ أنَّ هذا الإلهام يتَّخذ أشكالاً عديدة: رؤية، وحي، معرفة المستقبل، تدخُّل حتّى في تدوين سفر من الأسفار(23). مع داود، كان الأمر بسيطًا: إنسان واحد، كتاب واحد. أمّا مع الأنبياء، فتوسَّعَ  الإطار: رؤيات من كلِّ نوع، خارقة، مرعبة، تحمل الضجّة والغرابة. وتبادلُ الكلام بين النبيّ والله. فكيف ندرك تجلِّيات الروح هذه، وكيف نعبِّر عنها، والنشاط هو نشاطه؟ قام تيودور بهذه المهمَّة في معرض شرحه لنبوءة ناحوم.

بعد أن ذكر كلام بولس الرسول، الذي بحسبه ليس سوى روح واحد، تجلّى للمؤمنين في العهد الجديد وفي العهد القديم. ولكن هناك مواهب متنوِّعة وكارسمات تناسب الظروف، قال:

»إنَّ تجلِّيات الروح، التي بفضلها نال الأنبياء الإيحاءات الضروريّة لخلاص الشعب، لم يكن لها كلِّها ذات الطابع، ولا ذات الوظيفة. إذًا بالانخطاف، وهذا أمر معروف. كلُّهم بدون استثناء عرفوا أرفع الأسرار. فهذا الانخطاف أتاح لهم أن يُبقوا فكرهم خارج العالم المحيط بهم، فيتعلَّقوا برؤية(24) ما يقدَّم لهم. فلو استحال علينا أن نجمع تعليم معلِّمينا الدقيق، دون أن نتخلَّص تخلُّصًا من كلِّ ما يعيق تطبيقنا، فكيف كان باستطاعة الأنبياء أن يحتملوا رؤيات مخيفة وسرِّيَّة، دون أن يُقتلع تفكيرهم من محيطهم ساعة تتمُّ الرؤية؟ فالقدّيس بطرس مثلاً، أمسكته الرؤية فرأى سماطًا نازلاً من السماء. فبفضل الروح، ابتعد فكره عن الأمور الحاضرة فاهتمَّ برؤية ما وقع تحت نظره«(25).

هكذا بدا الإلهام النبويّ في مرحلته الأولى: انقلابُ الفكر الذي صعقته الدهشة والمخافة، مع قطيعة عن كلِّ علاقة بالعالم الخارجيّ. هو انخطاف(26). أمّا الهدف من هذه الحالة، فهو تثبيت الشاهد في إيمان لا يتزعزع بالبلاغ الذي يحمل، ودفعه لكي يجعل الآخرين يستفيدون ممّا استنار هو(27).

* تعليم الأنبياء

وهكذا نصل إلى المرحلة الثانية في الإلهام النبويّ: يتقبَّل النبيّ بلاغًا. يصل إليه تعليم آتٍ من الرؤية (تيوريّا). فبعد النظر في المرحلة الأولى، ها هو السمع في هذه المرحلة الثانية(28). وإليك شرح تيودور:

»وحصل في مثل هذه الظروف (انخطاف في الرؤية) أنَّ نعمة الروح القدس نقلت إليهم مثل هذا التعليم، بحيث أحسُّوا وكأنَّ شخصًا يكلِّمهم ويعلِّمهم. وهكذا تعرَّفوا إلى الحقائق المناسبة. مثلاً القدّيس  بطرس. ظنَّ أنَّه يسمع صوتًا يناديه من على السماط الممدود: »قمْ وكُلْ« (أع 10: 13). وقال أشعيا: »يا ربّ، من صدَّق ما سمعنا به« (53: 1). دعا بهذا الاسم(29)، وحيًا جاءه من السماء، فبدا له أنَّ شخصًا يكلِّمه.

»إذًا، يحصل أنَّ الرؤية التي تنزل قدَّام عيونهم، ترافقُها الكلمات. هنا ندرك أنَّ النبيّ الذي يقول: »كانت إليَّ كلمة الربّ«، يدلُّ بهذا اللفظ »الكلمة« (لوغوس) على قوَّة تلازمه فتجعله يشعر أنَّه يتعلَّم بواسطة الصوت، ما يجب أن يعرف. وفي مكان آخر، هي عبارة: »الرؤية التي رأى« هذا أو ذاك، التي تدلُّ على الوحي. ونجد المعنى نفسه في عبارة »يد الربِّ كانت عليَّ«، لأنَّ يدَ الربِّ تدلُّ على عمليّة الروح القدس. وهي مثل قبضة على فكر النبيّ لكي يَدخل فيه التعليمُ الضروريَّ في تلك الظروف«(30).

* الأنبياء والمسيح

وها نحن نصل إلى موضوع الرؤية النبويّة: مجيء المسيح. فهذا المجيء وحده يفسِّر اهتمام الله المتواصل بالشعب اليهوديّ. لُحمةُ الخلاص تتواصل منذ دعوة إبراهيم. وتدخل فيها خدمةُ الأنبياء في الزمن المحدَّد. واهتمامات الله بهذا الشعب الذي اختاره، والاعتناء بجعله مفروزًا عن الأمم بالختان، وبالإقامة في منطقة محدَّدة، وبالإكرام الذي ناله منهم في هيكل أورشليم. كلُّ هذا هدفَ إلى غاية واحدة: إعداد تجلّي المسيح من أجل خلاص جميع البشر.

ساعة مضَتْ قبائل الشمال إلى المنفى (722-721 ق.م.)، حرَّك الله الأنبياء فبيَّنوا أنَّ الله لم يترك شعبه، بالرغم من الظواهر. فترك مكانًا لقبيلة يهوذا. ولكن هذه القبيلة استحقَّت فيما بعد محنة المنفى في بابل (587-568 ق.م.) غير أنّها عادت كلُّها، لأنَّ منها يخرج المسيح. إذًا، تمَّ اختيار الأنبياء في هذا المنظار: أن يُسندوا الشعب ويحفظوه في خطٍّ حدَّده الله، بالنسبة إلى المسيح. وهكذا، فوصول المسيح إلى العالم وعملُه الفدائيّ الشامل، لا يمكن أن ننظر إليهما كأمرٍ جديد في برنامج الخلاص، بل كتتويج فكرٍ إلهيّ تجلّى منذ بداية التاريخ المقدَّس(31).

ولكن نحن لا نظنُّ هنا أنَّ تيودور قبِل بأن يرى المسيح معلَنًا في كلِّ مقاطع الأنبياء، كما فعل معاصروه. لهذا هاجمه الخصوم بعد موته، لأنَّه لم يربط بالمسيح كلَّ أقوال الأنبياء(32). ومن الغريب أن يكون رفض أن يطبِّق على يسوع ما قيل عن عبد الربّ (أش 53: 7): »مثل غنم سيق إلى الذبح«. رفض القول بتبدُّل من صيغة الماضي إلى صيغة المضارع. وما فكَّر أيضًا أن يعيد إلى المسيح قول النبيّ ملاخي (3: 2-4): ها هو يأتي. بل طبَّقه على المكابيّين (620-621أ؛ 621ج: 8-10). ورأى خطأ وكفرًا لدى الذين تخيَّلوا أنَّ زكريّا رأى إبن الله. فوحيُ الآب والابن ينتمي إلى العهد الجديد(33).

فما هي نظرة تيودور في هذا المجال؟ شدَّد على المعنى الحرفيّ والتاريخيّ، ورفض أن يخرج إلاّ نادرًا من العهد القديم والتاريخ الذي يحويه. والأمثلة على ذلك كثيرة. وُعد إبراهيم ببركة تصل إلى جميع الأمم (تك 16: 4). هي تنطبق على نسل إبراهيم. تلك هي الحقيقة الأولى. أمّا الحقيقة الثانية أو ملء الحقيقة، فنجدها في المسيح، لأنَّ بسببه تأكَّدت الأمم أنّها نالت البركة(34). ونقول الشيء عينه عن وعد بأن يبقى المُلكُ في يد سلالة داود (مز 89: 37-38). هذه السلالة كانت أولَ من نعمَت بما أكَّده الله لداود. ولكنَّ الحقيقة العميقة لم تظهر إلاّ في ملكوت المسيح الشامل(35). وفي مز 16: 10: »لا تتركُ نفسي في الجحيم«. في فم داود، هي صورة تعود إلى الشعب اليهوديّ. ولكنَّ البعد الدقيق للمعنى، كُشف في خطبة القدّيس بطرس بعد قيامة يسوع المسيح (أع 2: 31). وفي المعنى عينه نفهم نبوءة عا 9: 11 كما أوردها يعقوب في أع 15: 16 حول خيمة داود. في فكر النبيّ، يعني العودة من المنفى. ولكن التتمَّة تنكشف في عمل المسيح(36).

يا ليت الذين هاجموا تيودور وصلوا إلى ما وصل إليه من عبقريّة. فاليوم ما زال عددٌ من الأصوليّين في مختلف الكنائس يرون في كلام الأنبياء تنبُّوءات، أي كلامًا عن المستقبل، وكأنَّهم عرفوا الغيب. أمّا تيودور فيقرأ النصَّ في الإطار الذي كُتب فيه، وفي تاريخ الشعب الأوَّل. وبعد ذلك ينطلق بحذَر لكي يصل إلى الشعب الثاني وكنيسة يسوع المسيح. هناك الظلُّ(37) والصورة في العهد القديم. أمّا الحقيقة والتمام ففي العهد الجديد.

طبَّق تيودور على الرؤية النبويّة نظريّة التقطرة(38) التي هي أساس نهجه اللاهوتيِّ كلِّه. فالتقطرة الأولى هي العالم العابر، الحياة الحاضرة وإطارها. والتقطرة الثانية هي الحالة المقبلة واحتذاؤنا بالمسيح. هذا ما نقرأ في بداية شرح يونان حول التواصل بين مرحلتين أو حالتين في مخطَّط الله:

»ربٌّ واحد وحيد للعهدين، القديم والجديد، سيِّد كلِّ شيء وصانعه، الله، نظَّم من أجل هدف واحد، مضمونَ العهدين. فمنذ البدء قرَّر أن يكشف الحالة المقبلة، التي بيَّن مبدأها في تدبير المسيح (سرّ التجسُّد). غير أنَّه رأى من الضرورة أن يجعلنا أوَّلاً في الحالة الحاضرة. ثمَّ ينقلنا إلى الحالة الأخرى في قيامة الموتى، ليتيح لنا أن نقدِّر، حين نقابل حالة بحالة، عظمَة الخيرات التي تنتظرنا. وأن يوضح أيضًا توالي مخطَّطه بحيث لا نخطأ حين نتخيَّل اعتبارًا جديدًا أو قصدًا لاحقًا نكون نحن موضوعه. ففي إشارات عديدة، غلغل في البشريّة مجيءَ الربّ المسيح، الذي انتظره اليهود منذ زمن بعيد«(39).

هنا نكون على مستوى الأنماط التي نكتشفها عبر خطوات ثلاث أو علامات (1) بعض الشبه أو التوافق مع الموضوع(40) (2) الإفادة من أجل الأشخاص الذين يسمعوننا وإشارة إلى الخبر الذي تحمله المواعيد المستقبليّة (320ب؛ 325د مع تعليم عن المسيح من أجل اليهود). (3) الشعور العميق، على مستوى الإيمان والرجاء، بأنَّ الواقع المقبل يتغلَّب على الصورة الحاضرة (320ب؛ 321د؛ 324ب)(41).

خضع التفسير التيبولوجيّ لهذه القاعدة المثلَّثة، فما عادت المقاطع البيبليّة التي تُقرَأ في هذا المنظار كبيرة. ونرى تيودور يتَّخذ موقفًا ضدَّ تفسير معاصريه الذين اكتشفوا »نمطًا« في قول مي 4: 1-3: »ويكون في الأيام الأخيرة أنَّ جبل بيت الربّ...«. تساءل: كيف نطبِّق هذا القول على المسيح؟ ينقصه عنصر أساسيّ، وهو الأوَّل، أي الشبه بالغرض الذي يجب أن يكون رسمته الأولى. فالمسيح قال عكس ما يتضمَّن هذا القول، حين أعلن للسامريّة: »تأتي ساعة لا تعبدون فيها الله في أورشليم ولا على هذا الجبل، بل بالروح والحقّ« (يو 4: 21). وتابع تيودور: »في الواقع، الحالة التي يُشير إليها النبيّ تتعلَّق فقط بالعودة من بابل. ففي ذلك الوقت عاد بنو إسرائيل إلى ملكهم في جبل صهيون واستطاعوا هناك أن يقيموا احتفالاتهم للربّ« (364د-365ب).

ولكن أين نجد »أنماطًا« ينطبق عليها التحديد المثلَّث الذي أوردنا؟ ذكر تيودور رشَّ الدم على الأبواب ساعة الخروج من مصر، وهذا دلَّ على نهاية عبوديّة قاساها بنو إسرائيل: هي صورة تبشِّر بالنجاة من الخطيئة ومن الموت. نالها لنا يسوع بسفك دمه، بموته وقيامته. وصورة عن حسنات اللاموت واللافساد والابتعاد عن الخطيئة. بفضل كلِّ هذا نقيم، لا في أرض الموعد مثل العبرانيّين، بل في ملكوت السماء(42).

ثمَّ الحيّة النحاسيّة وقدرتها على الشفاء. بهذا النمط المختار عمدًا، بيَّن الله أنَّ موت المسيح يغلب الموت، له ولنا، ويُعيد لنا الحياة، في الوقت عينه، بقيامته (321ب ج). ولكن يبقى النمط النمط، يونان ومهمَّته الخارقة لدى أهل نينوى. به دلَّ الله مسبقًا على إقامة المسيح في القبر، وقيامته، ودعوة جميع الأمم إلى الحياة الأبديّة، والخلاص المرتبط بالتوبة.

بحثٌ عن المعنى الحرفيّ الذي له الأولويّة. خضوعُ التأويل لقراءة وافية للكتاب المقدَّس ومعطياته الدقيقة. هذان هما المبدأان اللذان قادا تيودور في شرح المزامير، كما قاداه في شرح الأنبياء الاثني عشر. ولكن نترك الكلام عن المزامير ربّما إلى مقال آخر، ونقرأ الآن ما ترك لنا تيودور حول سفر التكوين كما وصل في الترجمة السريانيّة.

 

2- سفر التكوين

ما أردنا أن نذكر تفاسير تيودور عن سفر الخروج. بقيت شذرات في السلسلات. وبقيت لنا بضعة أسطر من تفسير يشوع والقضاة. وما أردنا خصوصًا أن نذكر ما ترك تيودور على مستوى الليتوجيّا واللاهوت. فقد نعود إلى كلِّ هذا في مقال لاحق (راجع حاشية 2، ص 55-87). ونترك سفر المزامير جانبًا، بالرغم ممّا بقي لنا في اللاتينيّة والسريانيّة(43). فنتوقَّف عند تفسير سفر التكوين.

 

أ- النظرة الخارجيَّة

أشار عبد يشوع إلى تيودور الذي دوَّن »تفسيرًا حول سفر التكوين في ثلاثة أجزاء، وقدَّمه إلى ألفي، في شكل منهجيّ وتعليميّ«. وتحدَّث التاريخ السعرديّ عن شرح البنتاتوكس في ثلاثة كتب. ويبدو أن فوتيوس(44) عرف سفر التكوين، وأعلن في حاشية جزئيّة ومتميِّزة ما يلي:

قرأتُ من تيودور الأنطاكيّ كتابًا عنوانه تفسير التكوين. جاء الكتاب الأوَّل في ستَّة أجزاء. فلا الأسلوب مشوِّق، ولا هو واضح جدٌّا. تجنَّبَ الكاتبُ قدر المستطاع الاستعارات (ألِّيغوريّا، كما في الإسكندريّة) وتمسَّك بالتفسير التاريخيّ. يكرِّر مرارًا عديدة ما يقول، ويترك تأثيرًا سيِّئًا، مزعجًا. وفوق كلِّ هذا، ومع أنَّه سابق لنسطور، فهو يتقيَّأ تعليمَه. هذا الكاتب هو تيودور المصِّيصيّ الذي طلب منه جان فيلوبون(45) أكثر من مرَّة وألحَّ، كلامًا حول هذا النهج التفسيريّ في مؤلَّفه حول سفر التكوين.

في الأصل، لم تكن لنا نصوص سوى مقاطع في سلسلة نيقيفور(45 bis). ووُجدت أجزاء أخرى في السلسلات. قرأها دافريس(46) في ما ورد عند جان فيلوبون وبروكوب الغزّاويّ، كما وُجد مقطع سريانيّ يتضمَّن نهاية الفصل الأوَّل من المقدِّمة، مع نظرة شاملة إلى الأيّام الستّة (هكساميرون). وهكذا نمتلك الآن تفسير ف 1-3 من سفر التكوين، أي الجزء الذي يغطّي فعل الخلق، وتنظيم الخلائق، والقوى اللامنظورة، والنهار والليل واليوم الأوَّل، والنبات والحيوان، وخلْق الإنسان على صورة الله، والراحة في اليوم السابع، والفردوس وشجرة المعرفة، وخلق حوّاء، والسقطة والطرد من الفردوس.

* في هذا الإطار، نذكر مقطعين في السريانيّة حول سفر التكوين. الأوَّل نشره الأب تونو(47) خلال بحث عن تفسير أفرام لسفر التكوين، ولو في أجزاء، شرط أن تكون قديمة. كُشفت خمسُ وريقات في الفاتيكان السريانيّ 120، تتضمَّن تفسير تيودور لسفر التكوين.

أشار يوسف شمعون السمعانيّ(48) في المكتبة الشرقيّة (الجزء الأوَّل، ص 608) إلى هذا المخطوطَ بين الكودكسات السريانيّة (رقم 5). ثمّ وصف هذا المخطوط إسطفان عوّاد السمعانيّ فتحدَّث عن تفسير أفرام. هذا الخطأ بالنسبة إلى الكاتب، منعَ الباحثين من استعمال هذا النصّ. ولمّا عُرف، جُمعت الوريقات مع عنوان في أعلى الوريقة الرابعة وجه: تفسير الخليقة. لسنا أمام سلسلة بل أمام فسار للخلق(49). هذا الجزء جاء يضيف إلى ما سبق ونشره زاخاو(50) عن المخطوط البريطانيّ 17217 في وريقات 20-31، بعد أجزاء من المطلع هي حواشٍ حول ف 1-2.

هو مخطوط يعود إلى القرن السادس. ونحن نجد ملخَّصات عن هذا التفسير في السلسلات، في تفسير أيشوعداد، في جنّة الأطياب. لا نجد شيئًا من هذا التفسير في السلسلات اليعقوبيّة، بل تفسير لباس الجلد الذي صنعه الربّ لآدم وحوّاء عند إبن العبريّ(51).

* سنة 1962، نشر يانسما(52) مقاطع من تفسير سفر التكوين في نقله السريانيّ. لندن 17189، الوريقة 17-26. تضمَّن الكودكس 17189 مؤلَّفين نسخَتْهما يدان مختلفتان. تضمَّنت الوريقات 16 في المؤلَّف الأوَّل خمس عظات(53). إذا وضعنا جانبًا الوريقة الأخيرة التي تشوَّهت بعض الشيء، والتي وُجدت بين الوريقتين 14 و15، نُشرت هذه المقالات نشرًا رائعًا على يد أوفاربك سنة1865(54).

حتّى الآن، ما تجرَّأ أحد على نشر الوريقات الخمس الباقية من المؤلَّف الثاني (حاشية 53، 865، ص 1016). والسبب الأوَّل، الحالة المشوَّهة التي تُوجَد فيها هذه البقايا. قال عنها رايت: تضمَّن أجزاء من تفسير سفر التكوين، بالنسبة إلى ف 4-6 وف 8. نترك جانبًا هذا النصَّ الأخير، وقد نعود إليه فيما بعد، ونبدأ بنقل نصّ تونو من السريانيّة إلى العربيّة.

 

ب- نصّ تيودور، فاتيكان سريانيّ 120

1   (على بطنك تزحفين، وترابًا تأكلين كلَّ أيّام حياتك، تك 3: 14)(55).

(وريقة 1و)... الأشياء السماويّة وخيرات أعلى من الأرض. فمن كلِّ هذا هي (=الحيّة) سوف تُحرَم. ولكن على الأرض تكون اهتماماتُها، فلا تشارك في خير من الخيرات. ولكن كلُّ لذّتها تكون (سطر 5) أنّها تقدر في مكان ما، أن تُتمَّ شرَّها تجاه الإنسان.

2   وقال (الله) أيضًا: »أضع عداوة بينك وبين المرأة، وبين زرعِكِ وزرعِها« (آ15).

يقول اهتمامك كلُّه كان فراغًا، لأنَّك ظننتِ أنَّ كلَّ هذه تكون لكِ. ولكن اعرفي أنَّ حربًا متواصلة لا هوادة فيها (10) تكون لك عليهم، وهم عليكِ. وإذ يُظنُّ هنا أيضًا أنَّ (الله) قال: بلا هوادة تكون حرب بين البشر والزواحف، الواحد تجاه الآخر، فالرمز هو عداؤنا تجاه الشيطان. فحين تُرى الحيّة في مكان ما، نحترس نحن (15). وفي وقت آخر، لا نحسب نفوسنا في شيء أعداء لها. أمّا الشيطان فما من وقت إلاّ ويتّهمنا بكلِّ الشرور. وهكذا وضعه الله لنا عدوٌّا يواجه حياتنا (أو خلاصنا). والذين كانوا قبل مجيء ربِّنا (20)، كانوا يذبحون للشياطين، فاتُّهموا بسبب كلِّ هذا. وهكذا ظنَّ الكثيرون أنَّ الله الذي هو صالح، لا يحتاج إلى الذبائح (25)(56)... إبليس أيضًا (30) الذي يقدر أن يجرحنا ويسيء إلينا.

3   (وأضاف الله إلى هذا أيضًا: »هو يسحق رأسك وأنتِ تضربين عقبه«.)

قال اليونانيّ: »هو يترقَّب رأسكِ وأنت تترقَّبين (وريقة 1ق) عقبه«. جليٌّ هنا أيضًا أنَّه متى وجد البشرُ حيّة، لا يضربون فقط رأسها، بل كلَّ جسمها. ومع ذلك يحاولون بعناية أن يسحقوا رأسَها. (5) فعند ذاك تكون الحيّة ماتت بالتمام. فكلُّ حيوان، موتُ رأسه هو موت الحيوان كلِّه. وموت أعضائه الأخرى لا يصنع موتًا للحيوان كلِّه. فجليٌّ أيضًا أنَّ الحيّة لا في العقب فقط (10) تعضّ، بل في أيِّ عضو في الجسد لتستطيع أن فعل، إلاّ أنَّ هذا قيل على الوجه (الذي يمثِّل) الحيّة، لأنَّها تزمع أن تسقط إلى تحت، وتزمع أن تُذَلّ كثيرًا من قبل البشر. وهكذا يسهل عليهم من فوق (15) أن يسحقوا رأس الحيّة، ساعة الحيّة لا تقدر أن تبلغ إلى رأس إنسان يقوم واقفًا. فإذ هي ترجف على الأرض، قد تمسكه في عقبه.

هذا رمزٌ إلى الحكم الذي أتى على الشيطان. أراد أن يقول كم أحطّه (20) بالنسبة إلينا اللهُ، وأذلَّ الثلاَّب، بحيث إن رغبنا في الفضيلة، تكون لنا قوّة كبيرة في الأمور العظيمة، تُبطل نشاطَه تجاهنا. فهذا يسبِّب ضيقًا لا شفاء منه حتّى (25) يفعل كلَّ شيء(57)... إن تراخينا يجعله يتعالى علينا لكي يقدر أن يفعل شيئًا تجاهنا. فما زلنا متعلِّقين بالخير، ليس له قوَّة علينا في شيء. إذًا، يكنّي الطريقَ عملاً(58)...

4   (ودعا آدم امرأته حوّاء، لأنَّها أمِّ كلِّ الأحياء، تك 3: 20)(59).

(الوريقة 2و)... بيدها (= حوّاء) سوف تقوم حياةُ البشر، ومنها سوف يُولَدون فهذا ما هو معروف: هذه هي أمُّ الذين يحيون جميعًا. فكيف لا (5) تكون فوق كلِّ المعجزات، فوق طيبة الله؟ فبعد أن أخرج عليهم الحكم وأمرَ عليهم بالموت، هكذا بلا تردُّد وضع فيهم رجاء بأنَّ جنس البشر يقوم منهم. فكما أنَّ آدم حين تعلَّم هذه (10) من الله، كنّى امرأته »الحياة«، لأنَّها مزمعة أن تلد بشرًا، تلد حياة. مع أنَّه ظنَّ أنَّ العكس كان. فما إن تقبَّلوا حكم الموت، حتّى دعا امرأته الحياة. ولكن كما قلتُ، قبِلَ ذلك بشكل توبيخ لها (15). أمّا الله الذي رحمتُه تعلو كلَّ حساب، فقد وضع في الحال الرجاء في وجدانه وفي معرفته، بأنَّ الجنس البشريّ باقٍ على الأرض، بأنَّه يتوسَّع ويقوم. والنسوة يشاركن الرجال ويلدن لهم. (20) منذ ذلك الوقت، اتَّكل (آدم)، وكنّى شريكته حياة.

5   وأضاف أيضًا: »وصنع الربُّ الإله لآدم(60) وامرأته قمصانًا من جلد فألبسهما«.

فهذه أيضًا علامة عن طيبة الله. (25) ما وهب لهما فقط أن يعرفا كم جنسٍ يقوم منهما، بل بيَّن أيضًا العناية التي يعتني بهما حتّى الحاجة إلى لباس لهما.

ويسأل بعض الناس: لماذا صنع الله (30) قمصانًا من جلد. فإن قُتلت حيوانات ومنها كان لباس، نعرف أن انطفأ جنسُ تلك التي نُحرت، لأنَّ ذكرًا وأنثى صنعهما (وريقة 2 ق) الله. وإلى الآن ما وُلد منها آخر. وهذا أيضًا لا نستطيع أن نتخيَّله، أن يكون الله أمر بأن تُنحَر الحيوانات، ساعة حتّى الآن (5) لم يُسمح للبشر بأن يأكلوا لحمًا. ولكن ننغشّ أيضًا (إن قلنا) إنَّ هذه القمصان لم تكن موجودة فخلقها الله من لا شيء. بل هو أمر غريب! فذاك الذي في صنعه الإنسان ارتاح من خلق شيء لم يكن، لأنَّ فيه (10) صنع تكملة العالم وأتقنه، من أجل هذا قال النبيّ أيضًا: »ارتاح الله من أعماله« (تك 2: 2). ولهذا أيضًا دعا السبتَ راحة، لأنَّ بعد ذلك ما وافق الله أن يصنع شيئاً لم يكن موجودًا.

جليٌّ إذًا أنَّه ما أتى إلى الوجود من لا شيء (15) بقمصانٍ من جلد. ولكن، كما يبدو، لم يفهم هؤلاء الذين سألوا أنَّ الجلد لا يُدعى فقط هكذا، لأنَّه أُخذ من البعير، بل أيضًا ذاك الذي (أُخذ) من (20) الأشجار. فقد اعتاد الكثيرون أن يدعوها القشور. فمن الأشجار التي فيها قشور تفيد لصنع اللباس، فعلَ بيتُ آدم لهم هذه القمصان، بعد أن رمى الله (25) في وجدانهم، كيف يجب أن يصنعوا هذه. فما إن أدركوا عريَهم حتَّى قَلقوا: بأيَّة طريقة يفرشون سترًا لعريهم، كيف يُلصقون أوراق التين. وإذ رأى قلقهم (30) وهب الله الحلّ. حرَّك فيهم أفكارًا ليعرفوا من أيَّة شجرة يقتنون قشرًا. وكيف يجب أن يقشِّروها. ولأجل هذا (وريقة 3و) الصنيع، كُنّيت تلك قشورًا. وكيف يلحمون إيّاها ويصنعون منها لباسًا.

من أجل هذا قال النبيّ (موسى): صنع الله. هذا لا يعني أنَّ الله صنع أو خلق من لا شيء لباسًا، (5) أو هو لحمَها وأتقنها، بل لأنَّه إله، وهبهم الفكر وحرَّك فيهم الوجدان ليصنعوا هكذا. من أجل هذا يُقال بشريٌّا، قيل إنّها صُنعُه (= صنع الله). فمنه قبلوا التعليم ليعملوا (10) هكذا، كما يقول المطوَّب أيُّوب: »من وهب المرأة هذه الحكمة«(61). فهذه وظيفة النساء. ولكن هو (الله) وهب حساب الوظيفة هذه. هكذا هنا أيضًا. »الله صنع« علَّمنا: أدخل فيهم (15) الفكر ووهب لهم الدَفْع والحكمة بحيث يتبيَّنون أيَّ شجرة لها قشور تُفيد لهذا الاستعمال وللقشط(62)... عن وظيفة القمصان قال...

6   (20) وأضاف إلى هذا: »قال الربُّ الإله: ها آدم صار كواحد منّا لمعرفة الخير والشرّ. والآن، لئلاّ يمدَّ يده ويأخذ من شجرة الحياة ويأكل ويحيا إلى الأبد« (تك 3: 22).

تبدو هذه الكلمات وكأنَّ النبيّ قالها (25) بترتيب على أنَّها أقوال حُكم (ودينونة)، لكي تلك القدرة(63)... قال: وُهبت المعرفة لآدم ليعرف... أنَّ الأبناء وأغنى للقيام (30) فهم استعمال القميص، رأيا أنَّ هذه تتبع كلمات الدينونة(64). فمن كلمات الشيطان قال: تكونون مثل آلهة عارفي الخير أو الشرّ في شبه مع الله.

(وريقة 3ق) نُفخ آدم بجنون كثير، فحسُن بعد الحكم أن يوبَّخ بهذه الكلمات. قال: »ها آدم صار مثل واحد منّا لمعرفة الخير والشرّ. يعني أخذ (5) ظنُّه مخرجًا، آمن بالثلاّب الذي وعده بأن يكون مثل إله. وها هو قد قبل تتمَّة ما به وُعد. في كثير من الأعمال أي فعلاً أنَّه صار مثلنا، فاستطاع أن يعرف الخير والشرّ. لأجل (10) هذا »مثل واحد منّا« في ظنِّه (= ظنِّ آدم) قال: لأنَّ »مثل آلهة« قالها الشيطان كما على كثيرين، ذاك المضلّ، وآدم قبَلها في جنونه. بعدل كرَّر ربُّنا هذه الكلمات. بهزء (15) قال مثل كلماتَ المضلّ. ما لا يمكن أن يكون ليوبِّخ كذب ما قيل، يعني: قال: كما وعده ذاك الذي أقنعه أنَّ الآلهة هم كثيرون، وعلَّمه أنَّه هو أيضًا مثل واحد (20) منهم يكون، كلّ هذا أخذ تتمَّته، فجُوزيَ بما سمعَ  واقتبلَ من كلمات المضلّ.

بترتيب وحسب هزء الكلمات على كذب ما قال الثلاَّب وعلى ضلال ذاك الذي آمن، أي (25): ليس هناك آلهة عديدون. وأنَّه لا يقدر أن يصير إلهًا. فهو لا يقدر أن يصير إلهًا بإضافة أعمال فاضلة، لأنَّ الله وحده هو الكائن (الأزليّ، ا ي ت ي ا). إذًا، دجلُ الماكر وجنون ذاك (30) الذي تيقّن وآمن فوبَّخ جلياً. ها قد انتظر أن يصير مثل إله فيعرف الخير والشرّ (وريقة 4و) أُبعد من أخذ شيء مثل هذا. وحين ينال الأوجاع الكثيرة وتَبلى حياته، في النهاية بواسطة الموت يُطلَق منها.

7   ولأجل هذا أضاف (5): »والآن لئلاّ يمدَّ يده ويأخذ من شجرة الحياة فيأكل ويحيا إلى الأبد«...

إذًا، لا يكون لامائتًا ولا تكون له سلطة للتنعُّم بشجرة الحياة بحيث يحيا على الدوام، بل يبقى مائتًا. هو أمر (10) يعارض كثيرًا بأن يكون إلهًا. ومن هنا تجلَّت خصوصًا كذبةُ ذاك الذي وعد وجنون ذاك الذي صدَّق. لهذا قال الله هذا مُكرهًا بعد الحكم وتجربة الشرور، ساعة اغتاظ (آدم) (15) لأنَّه كان لنفسه علَّة هذه الشرور إذ آمن بالثلاّب.

8   ولكن قال النبيّ: »أرسله الربُّ الإله من فردوس النعيم ليفلح الأرض التي منها أُخذ« (تك 3: 23).

أخرجه من الفردوس، ومن النعائم والملذّات حرمه، وتركه هكذا (20) يعمل في الأرض التي منها أُخذ ويأكل منها ثمرًا، لقيام حياته في هذا العالم.

9   وأضاف (قال) أخرج آدم وأسكنه تجاه فردوس النعائم. وهكذا خفَّف (25) عنهم العقاب. فهذا ما يصنع الملك الغاضب، ومن يجلب علىالجاهل عقابًا مرٌّا: في مكان بعيد أُفرغ من سكن البشر، (30) يجعله يقيم ذاك الذي حُبس تحت العقاب. ولكنه أمر أن يكونا إلى جانب بيت الملك، فقط خارج (الوريقة 4ق)(66) مدينة الملك يبقيان. هذا يعني عذوبة من لدن ذاك الذي وهبهم أملاً بالرجوع. فقد ظنَّ بيتُ آدم (5) أنَّ الله يقيم كما في موضع الفردوس، حسُنَ لله حين طلب أن يبيِّن لهم أنَّه في عنايته لا يتنكَّر لهم كلِّيٌّا بعد أن أخرجهم من الفردوس. هذا ما عَرف به بشكل خاصّ (10) بهذه التي كانت فيما بعد. فتجلّى لهم وعرَّفهم عنايتَه الدائمة. ولكن من أجل تأديبهم، كان من المفيد أن يكونا قريبين. فالنظر الدائم إلى الجمال الذي صاروا عنه غرباء، يجعلهم يتذكّرون دوما خطئيتهم (15) التي بسببها حُرموا من الطيِّبات. وهكذا يفيدهم هذا النظرُ من أجل تأديبهم.

10  وقال أيضًا: »وأطاف من مشارق فردوس عدن كروبًا وسنان سيف متقلِّبة لحراسة طريق (20) شجرة الحياة« (تك 3: 24). قال اليونانيّ: »ووضع الكروب سيف اللهيب المتقلِّب لحراسة طريق شجرة الحياة. أراد الله أن يبيِّن لآدم أنَّ الفردوس أُغلق كلِّيٌّا في وجهه، بحيث إنَّ الشعور الخاصّ (5) بخطيئته يتصفّى فيه فيعلِّمه بغضها والابتعاد عنها. فما تنعَّم به من قبل بلا تعب، مُنع أبدًا من الاقتراب منه. لهذا وُضع سيفُ اللهيب والكروب (30) ليمنعاه من الدخول إلى الفردوس، فلا يقدر على الدخول والاقتراب من شجرة الحياة. (وريقة 5و) أي منعاه من الدخول إلى الفردوس والاقتراب من شجرة الحياة. فما هي شجرة الحياة؟ قلنا أعلاه. ولكن هنا وجب أن تكون الحراسة لتقويم (5) ذاك الذي مُنع منها. وفي المقابلة، كما قلت، يعرف أن يميِّز بين الزمن الذي قبل الخطيئة والزمن الذي بعد الخطيئة، فيفهم شرَّ الخطيئة ومرارتها، وأنَّه يجب عليه أن يُبغضها ويَحفظ نفسه (10) منها.

لهذا في رؤيات جليّة، منعه من الدخول إلى هناك، لكي يعرِّفه بشكل خاصٍّ إلى جمال الفردوس، وإلى مساعدة شجرة الحياة التي مُنع من الدخول إليها بواسطة هذه الرؤيات المخيفة. لهذا كان سيف اللهيب، أي (15) سيف نار بارقة، مخيفة، وفي شكل سيف ممشوق. كان منظره مخيفًا لمن يراه، في الطبيعة التي بها يُرى وفي الشكل. قال: كان متقلِّبًا بحيث (20) إنَّ رؤيته الدائمة لامعًا، بارقًا، تكون لناظريه مخافةً كبيرة. وما قيل عن الكروب، هو شبه يملأ رعدة ويقدر أن يُخيف الناظرين. وكما نحن بعض المرّات (25) نربط الحيوانات على باب ديارنا لنزجر الغرباء بحيث لا يدخلون، هكذا الله وضع سيف اللهيب والكروب. بهما يُمنع آدم من الدخول إلى الفردوس خوفًا من النظر إليهما. ويتأدَّب بحقّ. لا قوّاتٍ (30) لامنظورة كنّى الكروبيم كما ظنَّ الناس، لأنَّ طبيعة لامنظورة لا يمكن أن تفيد هنا بشيء. فيجب أن تكون الرؤية جليّة بحيث تكون لآدم (وريقة 5ق) مؤدِّبًا.

وسيف اللهيب هذا لم يكن نارًا في طبيعته، بل منظرُه مثل النار. والكروب أيضًا لم يكن حيوانًا(66)، بل منظره (5) كان مثل الحيوان. فهذا حزقيال النبيّ قد رأى كروبًا بأربعة وجوه (حز 1: 6)، من أجل الحاجة المطلوبة. فالطبيعة اللامنظورة ليس لها أربعة وجوه. ولكن دعا كروبًا كلَّ ما هو قويّ. هكذا قال: »الجالس (10) على الكروبيم تجلَّى« (مز 99: 1). أي ذاك الذي يملك بقوَّة. فبدل كرسيّ للجلوس وضع الملكوت. وأيضًا: »ركب على الكروبيم وطار« (مز 18: 11). أي يأتي بقوَّة كبيرة. فالعبارة »وضع كروبًا« تعني أنَّه أقام منظرًا (15) مخيفًا وشبه قوَّة شبيهٍ بحيوان، على مدخل الفردوس. فرؤية  الاثنين، سيف اللهيب والكروب، تزجره قبلاً من الدخول إلى الفردوس إذ يفكِّر بالخوف (20) فلا يقترب. ومن هنا يعرف بشكل خاصّ، كم هي مخيفة في عينيه هذه الأشياء التي سبق له ونعمَ بها بلا خوف.

بعد هذا، يليق بترتيب أن نظنَّ أنَّه هنا دعا آدمُ اسمَ امرأته حياة، لأنَّها (25) أمُّ جميع الأحياء. وصنع الربُّ الإله لآدم وامرأته قميصَي جلد وألبسهما. ومع أنَّ هذا قيل من قبل أن قال الله: »ها آدم صار كواحد منّا لمعرفة الخير والشرّ«. أشياءَ (30) قال الله عليهما، بعد أن أصدر الحكم. فأخرجهما من الفردوس، وأقام عليهما حرّاسًا مستعدِّين ليمنعوا من الدخول إلى هناك. وبعد الكلمات(67)...

 

ج- التعليق على سفر التكوين

كان فعلُ الخلق نقطة انطلاق للزمن. ولا علَّة سوى مشيئة الله التي أخرجت من لا شيء، السماء والأرض معًا. فالخليقة كلُّها هي هنا، في بداية السفر، كما المتضمَّن في المتضمِّن. ولكن يبقى استثناء واحد: أضيف إلى الخطوة الأولى في فعل الخلق، خطوةٌ أخرى. استخرج الله أيضًا من لا شيء طبيعتين، واحدة منظورة هي النور، وأخرى لامنظورة هي طبيعة نفوسنا. كلُّ هذا اللاشيء أتى إلى الوجود، في الصمت.

وما تبقّى من تك 1 هو تنظيم الكتل الأولى وتحريكها وتزيينها. كلُّها دُعيَت إلى الوجود، بحسب تدرُّج ينطلق من الأدنى إلى الأسمى، وذلك بكلمة الله مرتِّبة الكون. فالعناصر الأربعة الموجودة من قبل في الشواش البدئيّ، في الهيولى، صارت الآن مفصولة. غير أنَّ الديناميّة الخاصَّة بكلِّ منها صارت الآن متوازنة، متقابلة بفعل الآخرين. فالسماء المنظورة تحفظ فوقها كتلة المياه. وكلُّ فئة جديدة جاءت إلى الوجود تشارك في صفات تلك التي سبقتها ملبِّية نداء الله. وأخيرًا ظهر الإنسان مركَّبًا من نفس لامنظورة، عاقلة، لامائتة، ومن جسد منظور ومائت، وكأنَّ الله أراد أن يبيِّن في الإنسان خلاصة العالم المخلوق ورباطه.

هذا ما علَّمنا موسى: أُخرجت السماء والأرض من لا شيء، والشواش المنظَّم أو إتقان العالم. بعد أن تحدَّد كلُّ هذا، لا يهتمُّ تيودور بنظريّات الوثنيّين. فأيُّ حاجة بعدُ لعلوم اليونان؟ هي مجرَّد فرضيّة أن نتمثَّل السماء بشكل كرة أو دائرة، والأرض في رأس بركار يرسم تطوّرَها. وهو ضلال تامّ التأكيد بأنَّ العالم أزليّ. وانظرْ الأسس اللاثابتة التي عليها ترتكز الفلكيّات التي يفتخر بها اليونان افتخارًا. وإذ يكفيهم أن يعجبوا بالمسيرة الدائريّة للكرة السماويّة، ها هم يهتمُّون بأن يدرسوا طبيعة النجوم، فاكتشفوا التنجيم وما تراجعوا أمام النتائج الشرّيرة للعرافة. وهكذا حُصرت الحرّيّة البشريّة في الحتميّة، وانحدر النظامُ الخلقيّ إلى مستوى الحيوان وغرائزه.

*  *  *

ردَّ جان فيلوبون على تيودور، منذ بداية مؤلَّفه: أنت لا تهتمُّ بالعلوم، بل تكتفي بالكتاب المقدَّس وحده، فلا تنتظر أن تستخرج منه ما لا يقوله. فأين تعلَّم تيودور وتابعوه أنَّ الملائكة شاركوا في خلق العالم؟ أنَّ الملائكة يحرِّكون القمر والشمس والكواكب؟ هل هناك ملائكة يدفعون وآخرون يجرُّون؟ وآخرون يُسندون، وآخرون يساعدون، وآخرون يحفظون كتلة الكواكب؟ من علَّمهم أنَّ المسيح يسوع جلس فوق الجلد، ويشرف عليه كما الفلك يشرف علينا؟ وأين قرأوا أنَّ شجرة معرفة الخير والشرِّ كانت شجرة تين، بحيث يترجمون »بورق التين« ما يقول الكتاب إنَّه »قمصان من جلد«؟ وأين كُتب أيضًا أنَّ آدم وحوّاء خُلقا في بداية اليوم السادس. وجاعا حقٌّا في الساعة السادسة من اليوم عينه (أي ظهرًا). وفي الساعة التاسعة (الساعة 3 بعد الظهر) طُردا. وأنَّ مأساة الفردوس سارت مسيرتها كلَّها في تسع ساعات؟ وأخيرًا، أي مقطع في الكتاب المقدَّس، يجعلنا نفهم أنَّ الطوفان شمل قسمًا من الأرض، لا الأرض كلّها؟

*  *  *

ردَّ تيودور على هذه الاعتراضات. ثمَّ بدأ تفسيره، فهزئ برأي باسيل الكبير، لأنَّه جعل للقوّات السماويّة خلقًا سابقًا للخلق، سابقًا لذاك الذي يذكره سفرُ التكوين. بالنسبة إلى تيودور، ما من شيء في نظام الخلائق سبق الأجسام المنظورة إلى الوجود. فالكتاب لا يمنح أيَّ سند للرأي المعاكس، بل يُعلَّمنا خلقَ سماء وأرض. وهنا تكون الجواهر اللامنظورة والجواهر العاقلة. فكيف نتخيَّل بعد ذلك متضمَّنًا يسبق متضمِّنه؟ أين نُثبت الموضع الذي يضمُّ هذه الجواهر التي تتجاوز الحواسّ، كما يضمُّ نفوسنا.

ثمّ نعارض نصّ سفر التكوين مع كتاب المزامير الذي يقيم نظام المديح لله، بواسطة، درجتَيْ الخلق. في المكانة الأولى سُمِّيت السماوات، وجُعل معها عالمُ الطبائع اللامنظورة والطبائع العاقلة: وتحتها كما في طابق متوسِّط، الخلائق المنظورة التي فوق الأرض: الشمس، القمر، الكواكب، مع نورها، السماء والجلد اللذان يسندانه. ثمَّ الكائنات الأرضيّة. إذًا من الواضح أنَّ مثل هذا التقسيم في ترتيب مديح الله، ما كان طبعَه سفرُ المزامير، لو أنَّ القوى اللامنظورة نعمَتْ ببعض الأولويّة. وما كان بولس ليشير إليها بدوره من دون سبب كافٍ.

إذًا، يجب أن نقول إنَّ القوى اللاجسديّة هي جزء من العمل المشترك في الخلق، ولا يمكن أن تسبقه. بالإضافة إلى ذلك، هذه الفرضيّة بخلقٍ قبل الخلق، تكذّبها الآيةُ الأولى في سفر التكوين حيث نقرأ: »في البدء خلق الله السماء والأرض«. أي بفعل طاهر من مشيئته جيءَ بهم إلى الوجود. أما يكون تلميح أنَّه إن لم تكن كلمة، فلأنَّه لم يكن هناك سامع مستعدٌّ لكي يتقبَّلها؟ ولكن بعد ذلك، يُعلَن زمن كلّ تدخُّل من قبل الله، بكلمة من لدى الله، لأنَّه وُجدت عندئذ الجواهر اللامنظورة والعاقلة، التي تستطيع التعرُّف إلى قدرة معلِّمها التي لا يقدرون أن يروها.

بعد ذلك، مال تيودور إلى »عمل تزيين« الكون. والمرحلة الأولى تشير إلى الفصل بين النور والظلمة (تك 1: 3-5). قال موسى: »النور« من جهة و»الظلمة« من جهة ثانية، وما قال »يوم« و»ليل«، وذاك هو جوهر هذا وذاك. فالنهار والليل ليسا ذلك، بل فقط أوقات يُشرف فيها الواحد أو الآخر. نقرأ في الكتاب: »النهار يطلق كلمة إلى النهار، فيعلِّمها الليل لليل«. هذا لا يعني أنَّ نورًا ينقل الكلمة إلى نور آخر (هو النور عينه باقٍ في شكل تواصل ومتضمِّن) أو ظلمة إلى ظلمة أخرى: فالتوالي بين فسحة وفسحة يشكِّل الأيّام والليالي.

وواصل تيودور توسّعه حول الظلمة، التي قيل إنَّها كانت فوق الغمر والنور الذي تبعها. الاثنان كوَّنا يومًا واحدًا، بحيث إنَّ توالي الزمن يتمُّ بحسب »ليل - نهار«، لا »نهار- ليل«. وأضاف: امتداد الظلمة السابقة للنور كان امتداد ليلة(68). وامتداد السبت كما أوصى به الله اليهود (يبدأ مساء الجمعة)، واحتفال الفصح المسيحيّ الذي يبدأ في مساء السبت المقدَّس، ثبَّتا لتيودور أقلَّه بشكل ضمنيّ، أولويّة الليل على النور في اليوم الشمسيّ(69).

*  *  *

وماذا عن خلق الإنسان في اليوم السادس؟ هناك مقطع كبير في السلسلات، ومقاطع قصيرة في مؤلَّف يوحنّا، تساعدنا على اكتشاف تفسير تيودور لهذا النصّ (الآباء اليونان 80: 109أ-113 ). قال:

»كما أنَّ ملكًا شيَّد حاضرة واسعة وأغناها بكثرة الأعمال المتنوِّعة، أراد في نهايتها أن تستعيد عمارةٌ من العمارات صورته، فتكون في الوسط لكي يكرِّمها المواطنون كما يكرِّمونه هو، هكذا الله صانع الخليقة. أراد من الإنسان الذي هو كمال الخليقة أن يبقى في وسطها كصورته. وإذ تكون كلُّ خليقة في خدمته، تؤدِّي للربِّ السامي الإكرام الواجب له«(70).

فالهواء والتراب والمياه والنيِّرات التي تسندها السماء، الفلك، تنتج ثمارًا من أجل فائدة الأحياء، وفي النهاية من أجل استعمال الإنسان. بل إنَّ القوى اللامنظورة تأتمر بأوامر الله من أجل خدمة الإنسان. فالخلائق من كلِّ صنف، منذ البعير حتّى الملائكة، المائتة واللامائتة، المنظورة واللامنظورة، تلتقي لدى كائن فريد أقامه الله ليكون الرباط المشترك في الخليقة. هو الإنسان الذي أعطيَ جسدًا منظورًا، يشارك العناصر الأربعة ويغتذي من ثمارها. وأعطيَ نفسًا عاقلة ولامائتة، شبيهة بالجواهر اللامنظورة والعاقلة: إنَّه قريب الجميع، والخليقة تسرُّ بخدمته(71).

»هذا ما يرفض البعض أن يراه بالرغم من وضوح الكتب المقدَّسة«. اعتبروا أنَّ عبارة »صورة الله« تعني إمكانيّة إعطاء الأوامر، أو تشغيل العقل أو الفهم. هي فرضيّات لاكافية. فالإنسان والإنسان وحده هو الذي صُنع على صورة الله. وإن كرَّر الكتاب ذلك مرارًا، فلأنَّ لديه سببًا ليحتفظ للإنسان بهذا اللقب الخاصّ في ملء عبارته. فالفهم أعطيَ للقوّات اللامنظورة، وكذلك سلطةُ التنظيم. تلك السلطة أعطيَت أيضًا للقوّات الجامدة. هم الملائكة الأشرار الذين يشبهون مواطنين فاسدين، ساقطين، جعلوا صورة الملك عارًا (فيلوبون 6: 10، ص 250، 6-15). وهذا الفهم أعطيَ أيضًا للشمس والقمر. فكيف نقول بعد ذلك إنَّ الإنسان والإنسان وحده هو على »صورة الله« إن وجب عليه أن يقاسم هذه الكرامة مع خلائق أخرى؟ فيبقى أنَّ علينا أن نكتشف السبب الأساسيّ لامتياز الإنسان.

واكتشف تيودور هذا الشبه الفريد بين الله والإنسان، في ملكة حُفظت للإنسان، بأن يكون بدوره خالقًا في شكلٍ ما. هو لا يستطيع أن يأتي بالطبائع نفسها إلى الوجود، وهذا خاصّ بالله. ولكنَّه يقتدي بالخالق فينظِّم، ويمزج كما يريد، عناصرَ وُضعت في تصرُّفه، فيُنتج أغراضًا كبيرة أو صغيرة (بيت، سفينة، مدينة) لم تكن موجودة من قبل(72).

ويواصل تيودور كلامه عن لامحدوديّة الله: لا يحيط به العقل البشريّ، لا يقدر أن يصفه ولا أن يدركه. هو حاضر في كلِّ مكان ولا ينقسم، ويمتدّ امتداد المسكونة، بحيث لا يكون شيء خارجًا عنه. والملكة الروحيّة عندنا هي صورة عن الله. فهي تنقل نظرها إلى السماء من الشرق إلى الغرب، من موضع إلى آخر، دون أن تتأثَّر أو تنزعج في لعبتها التي لا حدود لها. هنا نلتقي مع بروكوبيوس (125أ: 6-11) وتيودوريه في أسئلة حول الأسفار الثمانية(73).

أعطى الله الإنسان السلطة بأن ينظِّم، يملك، يدين، يميِّز. وهذه الشرارة الموضوعة فينا، وهذا الشبه الجديد مع الله، لا يُقابَلان مع ملء النموذج الساميّ، ولكنَّهما يتكيَّفان بحيث نشعر بعظمة كمالات الله المناسبة.

وأنهى تيودور شرحه عن »الإنسان المخلوق على صورة الله« في كلام لاهوتيّ محض. قال: لله الآب قدرتان: الله ابنه والكلمة من جهة. والروح القدس من جهة ثانية. الاثنان يصدران معًا، ولكنَّ الواحد ليس مثل الآخر، كما أنَّه لا ينفصل عن الآخر. ونفسنا من جهتها، لها أيضًا قدرتان لا تنفصلان عنها: العقل والحياة. بهما تحيا وتُحيي الجسد(74).

نكتفي بهذا القدر ممّا بقي لنا من تفسير تيودور لسفر التكوين. وقد كان بإمكاننا أن نتحدَّث عن راحة السبت، عن أشجار الفردوس وخلق المرأة... وصولاً إلى الطرد من الجنّة مع ذاك الحاجز الذي يمنع الإنسان من التفكير بتجاوزه والاقتراب من الفردوس.

 

الخاتمة

مسيرة قصيرة رحنا فيها برفقة تيودور أسقف المصّيصة. وتوقَّفنا عند أمور خاصّة من حياته، مع نصوص أخذناها من هنا وهناك. وكانت ترجمة النصِّ السريانيّ والتعليق عليه، في المكان الأوَّل. ما درسنا جميع أعمال تيودور، فكتابٌ كامل لا يكفي، خصوصًا أنَّ ما بقي منها مبعثر في أماكن عديدة. كانت لنا وقفة خاصَّة مع تفسير الأنبياء الصغار، أو الاثني عشر، وهو المؤلَّف الوحيد الذي وصل إلينا كاملاً في اليونانيّة: طريقة التفسير مع المعنى الحرفيّ أو التاريخيّ من جهة، والمعنى الروحيّ أو المسيحانيّ من جهة ثانية. وكانت الحصَّةُ الكبيرة عند تيودور للمعنى الحرفيّ، نقرأ تاريخ الشعب الأوَّل من خلال نصوص العهد القديم مع إطلالات على العهد الجديد. وننهي كلامنا بمقطعين من تفسير المزامير:

»حصل لداود كما حصل للرائين في العهد القديم، وقد كان أوَّلَهم، أن يمزج في قصائده تحرُّكات نفسه التي تبلبلها الظروف. كلُّ هذا أمر عاديّ. ولكن نعمة قويّة دفعته نحو آفاق أخرى. إن هو صوَّر عذابات قلبه تجاه اضطهاد شاول، إن هو صرخ ندامته بعد خطيئة الزنى، إن دلَّ على ألمه حين ثار أبشالوم عليه أو خانه أخيتوفل، فلم يكن ذلك نتيجة التعب والاهتمام بإطلاق عواطفه الشخصيّة. بل ليدلَّ على المنحدر والدافع اللذين يعطي المؤمنون الآتون لنفوسهم، حين يكونون في مثل هذه الظروف. والأحداث التي كان فيها خلال حياته، والصدمة التي نالها، وهي التي عرفها بوحي من الروح القدس، صارت له مواضيع صلاة وتشجيع وموعظة: الألم، القبول، الكلام الطيِّب، الشكر، الفرح.

»أتُرى الله مجَّد سليمان؟ أنشد قبل ابنه أفضال الملك المسالم وعظمته. هل كشف له الأخطار التي تتعرَّض لها البلاد خلال الاجتياح الأشوريّ؟ هدَّأ روع شعب أورشليم وآحاز، وأخذ على عاتقه نفس حزقيّا الملك، التي داخلَها الخوفُ فتوسَّلت ثمّ وجدت الشجاعة. هل رأى إرميا مضطهدًا من قبل الحزب المصريّ ليلة نجاح نبوخذ نصَّر النهائيّ؟ فعبر آلام النبيّ، بدا له جودُ الله مجروحًا، مشوَّهًا، وساعة الدينونة، ومن خلال كلِّ هذا، العودة إلى الذات والندامة والعودة إلى الله« (تفسير المزامير، ص 193-194).

وبالنسبة إلى قراءة المزامير وارتباطها بالمسيح والكنيسة، قال تيودور (ص 7-8، 11-12، 16):

»هو المسيح، والمسيح المتألِّم يظهر لداود في المزمور الثاني (لماذا ارتجَّت الأمم). حقُّه الملكيّ وقدرتُه السامية كما تمارَسان بعد القيامة، على العالم المخلوق. وفي الوقت عينه، دعا داود المؤمنين ليرغبوا في السعادة التي يكون شرطها الأوَّل الإيمان. وإن شئنا برهاناً لا يُردُّ لهذه النسبة إلى المسيح، يقدِّمه بطرس في سفر الأعمال وبولس في الرسالة إلى العبرانيّين. لاشكَّ في أنَّ التأويل اليهوديّ سعى إلى تحييد مضمون النبوءة عن شخص الربّ، للكلام عن زربَّابل أو داود. فالبراهين تُردّ، لأنَّنا لسنا أمام الإنسان الإله، هذا »الإنسان المأخوذ« الذي تلقّى من الكلمة الساكن فيه، حقَّ السلطة السامية. فمن رفض أن يتعلَّم الكلام السماويّ، يُبعده انتقامُ الله إلى الأبد من طرق البرّ: ''طوبى لجميع الذين يحتمون به''.

وفي ص 42-43 نقرأ:

»عن المسيح وعن المسيح المنتصر تأتي نبوءة داود في المزمور الثامن (أيُّها الربُّ ربُّنا). انتصار في الشعانين، ساعة ردَّ يسوع على اليهود الذين زعجتهم الآية: ''من فم الأطفال والرضَّع هيأت لك مديحًا''. هذا ما يدلُّ على تتمَّة النبوءة. وانتصارُ الإنسان يسوع الذي كلَّله بالمجد والكرامة، الكلمةُ الساكنُ فيه. وهذا النشيد النبويّ بيَّن الفرق الكبير بين الكلمة والإنسان المأخوذ، وهو فرق كبير كما بين الله وسائر البشر«.

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM