الفصل الثاني عشر: كتابات مغاور قمران قرب البحر الميت

 

 

الفصل الثاني عشر: كتابات مغاور قمران قرب البحر الميت

 

 

سنة 1997-1998، نُشرت جميع الكتابات المتعلقة بجماعة قمران وحياتها وتنظيم أمورها، وذلك بعد خمسين سنة على اكتشافها. خلال ذلك الوقت، كثر اللغط حول هذا التأخّر في نشر وثائق مهمة لدرس العالم اليهوديّ على عتبة المسيحيّة، ولفهم عدد من المدلولات التي وردت في الأناجيل، ولا سيما في إنجيل يوحنّا. خاف بعضهم إن نشرت هذه المخطوطات أن تتبدّل النظرة إلى بدايات المسيحيّة. وتوجّس البعض الآخر من تشتّت هذه الكتابات وضياعها وخسارة إرث هام يرتبط بالكتاب المقدس في عهده القديم. أمّا الآن، وقد صارت هذه النصوص بين أيدينا على كتب أو أقراص مضغوطة أو وسائل أخرى، نودّ أن نتعرّف إلى موقعها وظروف اكتشافها. وبعد نظرة إلى ما تتضمّنه هذه الكتابات، نتوقّف عند المعاني اللاهوتيّة التي فيها وعلاقتها بالمسيحيّة الناشئة.

 

1- مغاور قمران

 

أ- موقعها

حين يمر السائح، في فلسطين، قرب البحر الميت، يكتشف خرائب قديمة، عُرفت في الماضي، ولكنّها لم تلفت نظر أحد، وبلداننا الشرقية مليئة بمثل هذه الآثار التي تعود لا إلى زمن المسيح وحسب، بل إلى القرن العاشر أو إلى القرن الخامس عشر ق.م، إن لم يكن قبل ذلك الزمان. في هذا المجال كتب دي سوسي(1) عن هذه الخرائب التي تمتدّ من وادي قمران في الشمال إلى رأس فشخة في الجنوب فقال: »منذ رأس واد غمران، الخرائب الواسعة التي التقينا بها تحمل اسم خربة غمران أو أومران(2). نبدأ فنشير إلى التقارب الغريب إن لم يكن من قبيل الصدف، بين هذا الاسم واسم عمورة(3) التي دمّرتها نار السماء مع سدوم وسائر المدن الخاطئة. إذن، أعلن بدون أيّ تردّد أن الخرائب التي يدعوها العرب خربة اليهود، خربة فشخة، خربة غمران وهي خرائب تشكل وحدة، والتي تمتدّ على ستة كيلومترات دون انقطاع، هي في الواقع، بالنسبة إليّ، خرائب عمورة البيبليّة«. العنصر المهمّ في ما أوردناه هنا، هو أنّ الكاتب تأثّر من اتّساع هذه الخرائب، ولكنّه أخطأ حين أعلن أنّ ما من كاتب دينيّ أو دنيويّ تحدّث عن هذا الموقع الهامّ.

فإنّ بلينس الأكبر (23-79) صوّر في الكتاب الخامس من مجلّده التاريخ الطبيعيّ المنخفض الذي يقع في وسط سورية وفلسطين. فذكر على التوالي، وهو يتتبّع مجرى الأردنّ، القرى الواقعة على هذه الضفّة أو تلك. ويواصل كلامه، حين يصل إلى البحر الميت، فيقول: »إلى الغرب (من البحر الميت)، يبتعد الأسيانيّون(4) عن شاطئي (النهر)... ولا رفيق لهم سوى النخيل. تحتهم كانت مدينة عين جدي(5) ومن هناك نصل إلى ماسادا (مصعدة)، الواقعة على الصخر والقريبة من بحيرة اسفليت« (الذي هو اسم البحر الميت)(6).

ما اكتفى العالم الرومانيّ بذكر المباني الأسيانيّة، بل رسم موقع قمران فشخة. فعلى بعد 12 كلم إلى الجنوب من وادي أريحا الحاليّة، نجد وادي قمران. هناك تُوجد الخرائب، فتبتعد قرابة كلم واحد عن الشاطئ، وتنخفض 338 تحت سطح البحر، وإلى الجنوب من خربة قمران، وعلى بعد 4500 متر، يقع رأس فشخة مع عين فشخة وخربة فشخة.

إذن، منذ زمن بعيد عُرفت هذه الخرائب العمرانيّة. نذكر في ما نذكر كلارمون غانو(7) الذي ردّ على سوسي في براهينه عن ارتباط قمران بعمورة، ثمّ أبال(8) الذي زار الموقع في التاسع من شهر كانون الثاني سنة 1909. وفي الثلاثينات من القرن العشرين، قارب مارتين نوت(9) هذا الموقع مع »مدينة الملح« (ع ي ر. هـ. م ل ح). ومع ذلك، كان اهتمام قليل بهذه البقايا الأركيولوجيّة، قبل أن تُكشف في تلك التجوّفات الطبيعيّة، على منحدر الصخور، والمغاور التي حفرها الإنسان، بقرب الأبنية، مخطوطاتُ البحر الميت.

 

ب- الاكتشافات

وكانت بداية الاكتشافات في ربيع سنة 1947. كان راع شاب من قبيلة تعميرة البدويّة، اسمه محمّد الديب، يبحث عن عنزة من عنزاته ضلّت وسط الصخور وفي تجاويفها. فاكتشف على بعد 1300 متر، إلى الشمال من الخرائب أوّل مغارة من مغاور قمران(10). وُجدت في هذه المغارة لفيفات (أو: أدراج) جلديّة لمخطوطات ملفوفة بعناية في قماش من الكتّان، ومختومة بزفت جاء من البحر الميت، وموضوعة في جرار من فخّار مغطّاة بغطاء. وبدأت محاولات معقّدة لشراء المخطوطات مع وسيط أوّل، هو تاجر مسيحيّ (يعقوبي) من بيت لحم، اعتادت قبيلة تعميرة أن تقايضه نتاج قطعانها (من غنم وبقر) بما تحتاج إليه في حياتها. منذ سنة 1947، اشترى الأستاذ سوكانيك(11) ثلاثة من سبعة مخطوطات عُرضت للبيع، لحساب الجامعة العبريّة في أورشليم: لفيفة أشعيا (في حالة تعيسة)، المدائح، نظام حرب أبناء النور ضدّ أبناء الظلمة. أمّا المخطوطات الى أربعة الأخرى، أي لفيفة أشعيا (في حالة جيّدة)، تفسير (بِشر) حبقوق، نظام الجماعة، منحول التكوين، فاشتراها مطران دير السريان اليعاقبة، دير القدّيس مرقس في أورشليم، وحملها إلى واشنطن، حيث اشتُريت(12) وجُعلت أيضًا في الجامعة العبريّة.

لم يستطع المنقّبون أن يقوموا بالتفتيش عمّا تبقّى من المخطوطات، بسبب الحرب. ولكن سنة 1949، بدأت التنقيبات بدفع من ضابط بلجيكيّ(13)، مراقب للهدنة من قبل الأمم المتّحدة، وبقيادة هردينغ(14) مدير هيئة الآثار في الأردنّ، والأب رولان ده فو(14) الذي كان مدير المدرسة الأركيولوجيّة الفرنسيّة في أورشليم، ورئيس اللجنة الدوليّة المكلّفة بإدارة متحف فلسطين الأركيولوجيّ في أورشليم (مؤسّسة روكفلر).

سنة 1949، بدأ التنقيب في المغارة الأولى التي كُشفت في شهر كانون الثاني، وامتدّ العمل فيها من 15 شباط إلى 5 آذار. وجد فيها الباحثون أغراضًا كثيرة (جرار...) و600 فتيتة(15) جلديّة، تتضمّن الواحدة بعض الأحرف، وتشكّل أقلّه 70 مخطوطًا، و40 فتيتة من البرديّات. نشير إلى أنّ عددًا من هذه الفتيتات وُجدت مكانها في المخطوطات التي حملها البدو من المغارة. سنة 1951، حمل البدو إلى أورشليم أيضًا عددًا من المخطوطات وُجدت في مغاور وادي مربّعات. عندئذٍ، بدأت التنقيبات في ذلك الوادي، الذي يبعد 20 كلم إلى الجنوب من قمران. وكان سباق بين المنقّبين والبدو الذين اكتشفوا عددًا من المخطوطات في المغارة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. وسوف تتواصل الحفريّات حتّى تصل إلى المغارة الحادية عشرة، بل إلى خربة فشخة، وذلك حتّى 21 آذار سنة 1958. واعتبر المنقّبون أنّهم دقّقوا في تلك الأمكنة، وأنّ لا مخطوطات بعدُ في قمران وخربة فشخة ومربّعات وغيرها(16).

 

ج- المغاور الإحدى عشرة

مخطوطات كثيرة، وفتيتات أكثر. كيف نظّمها الباحثون؟ لم ينظّموها حسب المواضيع، بل حسب المغاور الذي وُجدت فيها، بدءًا بالمغارة الأولى حتّى المغارة الحادية عشرة، علمًا أنّ المغارة الرابعة قدّمت لنا الكثير من المخطوطات، فتفوّقت على سائر المغاور. أمّا النصوص الكبرى فوُجدت كاملة، بشكل خاصّ، في المغارة الأولى. سوف نعود إلى مضمون هذه المخطوطات، ولكن منذ الآن، نقول إنّ بعضها يتضمّن مقاطع أو أسفارًا من العهد القديم، والبعض الآخر نصوصًا تتعلّق بحياة الجماعة، وهي في اللغات العبريّة والآراميّة واليونانيّة(17).

أوّلاً: المغارة الاولى

وُجد فيها 13 جزءًا، تتضمّن مقاطع قصيرة أو طويلة من الكتاب المقدّس. في الجزء الأوّل، سفر التكوين مع خمس فتيتات استطعنا أن نقرأها، و14 فتيتة ظلّت مغلقة. في الأولى، تك1: 18-21. في الثانية، تك3: 11-14. في الثالثة، تك22: 13-15. في الرابعة، تك 23: 7-10. في الخامسة، تك 24: 22-24. نشير إلى أنّ النصوص الكتابيّة مهمّة جدٌّا، لأنّها تسبق أساس النصّ الرسميّ للتوراة بتسعة أو عشرة قرون من الزمن. فلا ننسى أنّ جماعة قمران أقامت منذ القرن الثاني ق م. في تلك الأبنية التي دمّرها الجيش الرومانيّ يوم كان صاعدًا للهجوم على أورشليم، سنة 68ب. م(18).

في الجزء الثاني من المغارة الأولى. نجد مقاطع من سفر الخروج (16: 12- 16؛ 19: 24- 20: 1؛ 20: 5-6؛ 20: 25- 21: 1؛ 21: 4-5). في الجزء الثالث نجد سفر اللاويّين الذي دُوّن في الحرف العبريّ القديم(19) الذي هو قريب من الحرف الفينيقيّ. قد نكون هنا أمام أكثر من مخطوط لسفر اللاويّين بقيت منها بعض الأجزاء. في الجزء الرابع والجزء الخامس، نقرأ مقاطع من سفر التثنية(20). لا بدّ من التنويه هنا بعدد النصوص التي تتضمّن سفر التثنية: اثنان في المغارة الأولى. ثلاثة في المغارة الثانية. تسعة عشر في المغارة الرابعة. مخطوط واحد في المغارة الخامسة. واثنان في المغارة السادسة.

الجزء السادس يقدّم ستّ فتيتات من سفر القضاة، والسابع فتيتتين من كتاب صموئيل. ونقرأ في مخطوط أوّل 27 عمودًا من سفر أشعيا، من ف1 إلى ف33. وهناك مقاطع في مخطوط ثانٍ ومخطوط ثالث. ووُجدت أيضًا في المغارة الأولى مقاطع من حزقيال (4: 6- 5: 1) والمزامير في أكثر من مخطوط، هذا عدا عن التمائم وما عليها من آيات أُخذت بشكل خاصّ من سفر التثنية. مثلاً: تث 10: 17-18: »لأنّ الربّ إلهكم هو إله الآلهة وربّ الأرباب، الإله العظيم الجبّار الرهيب الذي لا يحابي، ولا يرتشي. يَحكم لليتيم والأرملة، ويحبّ الغريب ويرزقه ظعامًا وكسوة«.

ومع النصوص البيبليّة، هناك النصوص المرتبطة بجماعة قمران. نكتفي بأن نسردها، لكي ندلّ على غناها وتنوّعها: تفسير ميخا. تفسير حبقوق. تفسير صفنيا. تفسير المزامير. مقطعان من اليوبيلات. كتاب نوح. منحول التكوين في الآراميّة. وصيّة لاوي في الآراميّة. أقوال موسى. الجبابرة في أخنوخ، في الآراميّة. وهناك نصّ عن النبوءة، وآخر عن التعليم، وثالث عن الأسرار.

قبل أن نصل إلى نظام الجماعة الذي هو نصّ واسع في كتابات قمران، نورد مقطعًا من تفسير (بِشر) حبقوق، يعطينا فكرة عن طريقة التفسير لدى الأسيانيّين:

»(1) يروى لكم (1: 5). تفسير هذا يعني أولئك الذين كانوا مع رجل (2) الكذب، لأنّهم لم يصدّقوا أقوال معلّم البرّ التي تلقّاها من فم (3) الله. ويعني أولئك الذين خانوا العهد الجديد، لأنّهم لم (4) يصدّقوا عهد الله ونجّسوا اسمه القدّوس. (5) وكذلك تفسير هذا القول يعني أولئك الذين يخونون في نهاية (6) الأيّام. إنّهم ظالمون، معادون للعهد، يصدّقون (7) حين يسمعون كلّ ما يصدر في الجيل الأخير، من فم (8) الكاهن الذي جعله الله في بيت يهوذا ليفسّر جميع (9) أقوال عبيده الأنبياء الذين بهم روى الله (10) كلّ ما يحصل لشعبه والأمم »فها أنا أثير (11) الكلدانيّين، الأمّة المقدّسة والمندفعة« (1: 16). (12) تفسير هذا يعني بني كتّيم الذين هم سريعون أشدّاء(21).

»بني كتّيم« هم الرومان الذين احتلّوا أورشليم سنة 63 ق م، على يد بومبيوس. نشير هنا إلى أنّ معلّم البرّ، أو رئيس الجماعة، ليس نبيٌّا، بل هو يفسّر الأنبياء. ولكنّ الذين رافقوا رجل الكذب لا يصدّقون أقواله.

* نظام الجماعة

نبدأ فنقول إنّ اللفيفة التي تتضمّن نظام الجماعة وُجدت شبه كاملة في المغارة الأولى، ووُجدت عشرة أجزاء منها في المغارة الرابعة، وجزء في المغارة الخامسة. القسم الأوّل هو عظة مع مقدّمة خطابيّة تقدّم البرنامج العام لحياة الجماعة. ثمّ نقرأ تعليمات حول الدخول في العهد. والقسم الثاني يعالج نظام الجماعة بالمعنى الحصريّ. ويحمل القسم الثالث مقاطع مدائحيّة تعرض إيديولوجيّة الجماعة ووصاياها الأساسيّة(22). نورد هنا ما يتعلّق بالدخول في العهد:

(16) وجميع الذين عزموا على الدخول في نظام الجماعة، يعبرون في العهد مع الله فيلتزمون أن يعملوا (17) حسب ما يفرضه وبأن لا يحيدوا عنه بسبب خوف أو رعب أو محنة ما، (18) إذا ما جرّبتهم مملكة بليعال (أي الشرّ). وحين يعبرون في العهد، يبارك الكهنةُ واللاويّون إله الخلاصات وكلّ أعمال حقّه، وجميع (20) الذين يعبرون في العهد يقولون بعدهم: »آمين! آمين«!

(21) ويروي الكهنة مآثر الله في أعماله القديرة، (22) ويُعلنون جميع أعمال النعمة الإلهيّة تجاه إسرائيل. ويروي اللاويّون (23) آثام بني إسرائيل وكلّ تمرّداتهم الأثيمة وخطاياهم التي اقترفوها بتأثير من (24) بليعال. والذين يعبرون في العهد يعترفون بعدهم بخطاياهم فيقولون: »كنّا أثمة. (25) لقد تمرّدنا. أخطأنا وكنّا مذنبين، نحن وآباونا قبلنا، ماضين في (26) معارضة فرائض الحقّ. وعادل هو الله الذي أقام دينونته علينا وعلى آبائنا(23).

* نظام الحرب

»للمعلّم. نظام الحرب«(24). ذاك هو عنوان كتاب وُجد أيضًا في المغارة الأولى: حرب أبناء النور على أبناء الظلمة، على جيش بليعال، على زمرة أدوم وموآب وبني عمون، وجمهور أبناء المشرق وفلسطية، وضدّ زمرة كتّيم، على أشور وشعبهم الذين جاؤوا لمعونة الكفّار الذين تجاوزوا العهد. ومن يقاتل ضدّ هؤلاء كلّهم؟ أبناء لاوي، القبيلة الكهنوتيّة. أبناء يهوذا التي منها خرج الملك داود. وأبناء بنيامين، القبيلة التي في أرضها بُني الهيكل. ثلاث قبائل اشتهرت بأمانتها لله، وهي تدلّ اليوم على الذين مضوا إلى البريّة، نفوا نفوسهم لئلاّ يشاركوا في خطايا ملوك محلّيّين وضعوا يدهم على الكهنوت وعلى الهيكل، ولئلاّ يتعاملوا مع شعب غريب (كتّيم) يسيطر على مقدّرات البلاد.

هذا الكتاب وُجدت منه سبعة أجزاء في المغارة الرابعة وجزء واحد في المغارة الحادية عشرة. دُوّن بعد دخول الرومان إلى فلسطين، سنة 63 ق.م، بقيادة بومبيوس الرومانيّ. انطلق من تاريخ الشعب وحروبه مع جيرانه الأقربين والأبعدين، فوصلت به الأمورُ إلى كلام عن حرب روحيّة تكون السيطرةُ فيها للكهنة وللعلمانيّين.

* المدائح

يعود اسم المدائح(25) إلى ما نقرأ في بداية عدد من هذه الصلوات: أمدحك أيّها السيّد. في المديح الثالث: »لأنّك جعلت نفسي في صرّة الحياة، وحميْتني من كلّ فخاخ الهاوية«. وفي الرابع: »لأنّ عينك سهرت على نفسي«. وفي السادس: »لأنّك افتديت نفسي من الهاوية«. وفي السابع: »لأنّك صرت لي سورًا منيعًا«. وفي الثامن: »لأنّك أنرت وجهي(26)«.

نلاحظ هنا أسلوبًا قريبًا من أسلوب مزامير الشكر: اعترفوا للرب... لأنّ إلى الأبد رحمته. فالمدائح مملوءة بالإشارات إلى أسفار العهد القديم: المزامير، أشعيا، إرميا، أيّوب، الأمثال. لا شكّ في أنّنا لا نجد ما نقرأه عند المعلّمين من عبارات تدلّ على أنّ هذا الكلام قد تمّ. والمثال على ذلك، نجده في إنجيل متّى: »ليتمّ ما قال الربّ بالنبيّ« (1: 22). أو »لأنّه هكذا كتب بالنبيّ« (2: 6).

في المدائح، يتحدّث الكاتبُ عن نفسه في صيغة المتكلّم، ويروي بألمٍ خبرَ الاضطهادات التي قاساها خلال قيامه بخدمته. ثمّ يقول إنّه تسلّم سلطة خاصّة تتيح له أن يعرف إرادة الله، أن يسمع أسرار الله العجيبة، أن يصير أداة أعمال الله، ومُنشَد أقواله (المدائح 4: 26؛ 9: 21؛ 12: 8؛ 16: 16). بل هو يعلن في العمود 26 أنّ لا أحد يُقابَل معه، لأنّه أحد الكائنات السماويّة. مثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون إلاّ المسيح(27).

نورد هنا نصٌّا من المغارة الرابعة: »... ليس مثل تعليمي ... من مثلي بين الآلهة... من يقابل ما يخرج من شفتيّ، من ينبّهني باللسان... أنا صديق الملك، ورفيق القدّوس. فلا أحد يأتي إليّ... ولا أحد يقدر أن يُقابَل مع مجدي. فموقعي أنا بين الآلهة، ومجدي مع أبناء الملك، لا أتوّج نفسي بالذهب النقيّ، وبذهب من أوفير لا يُجعل عليّ... لأنّه كلا شيء لي...«(28)

ثانيًا: المغارة الرابعة

لم نجد الشيء الكثير في المغارة الثانية: بضعة نصوص من أسفار الشريعة الخمسة، إرميا، المزامير، راعوت. وما يلفت النظر على مستوى الأسفار القانونيّة، وجود جزءين من يشوع بن سيراخ (6: 14-15، 20-31). هنا نتذكّر أنّ نصّ ابن سيراخ العبريّ اعتُبر ضائعًا، فاكتفت الكنيسة بالنصّ اليونانيّ. ولكن صار الآن في حوزتنا ثلثا الكتاب في العبريّة، بفضل قمران ومرّبعات ومخزن القاهرة. ووُجدت أيضًا فتافيت من كتب منحولة، مثل اليوبيلات، وأناشيد لأورشليم في اللغة الآراميّة.

وتضمّنت المغارة الثالثة فتيتة من كلّ من حزقيال والمزامير والمراثي، ومن عدد من المنحولات، لا يتعدّى أكثرها ثلاث أو أربع كلمات. غير أنّ اللافت المميّز هو »لفيفة النحاس«. هذا النصّ لم يُدوّن على الرقّ ولا على ورق البرديّ، بل حُفر في النحاس، فأورد لائحة بالكنوز المخفيّة. مثلاً، في المخبّأة الأولى، صندوق فضّة وأوانٍ. وفي المخبّأة الثانية: في القبر، في الصفّ الثالث من الحجارة، مئة سبيكة ذهبيّة. وهكذا تتواصل اللائحة(29).

ونصل إلى المغارة الرابعة التي جاءت غنيّة جدٌّا بالمخطوطات. ولكي نأخذ فكرة عن مداها، نلاحظ أنّ الكتاب الذي يتضمّن مجمل النصوص في العبريّة والإنكليزيّة، يُفرد لهذه المغارة ما يقارب الألف صفحة من أصل 1300 صفحة(30).

هناك أوّلاً العدد الكبير من نصوص الكتاب المقدّس: من سفر التكوين، والخروج، والعدد واللاويّين. أمّا سفر التثنية فله حصّة الأسد، لأنّه كتاب العهد، وجماعة قمران هي جماعة العهد. بعد ذلك، نجد أجزاء من أسفار يشوع والقضاة وصموئيل والملوك. وجاءت نصوص أشعيا عديدة جدٌّا، منذ بداية السفر حتّى ف 66. هنا نتذكّر أنّ مغاور قمران قدّمت لنا نصًا كاملاً لأشعيا، يُنشر الآن مع كلّ الاختلافات الممكنة.

ووُجدت أجزاء من إرميا وحزقيال والاثني عشر. وكانت مقاطع طويلة من المزامير نذكر منها مثلاً ما ورد في المغارة الرابعة، 88، عمود 8:

لا يبيد رجاؤك، يا صهيون، ولا يُنسى انتظارُك. فأيُّ صدّيق هلك. ومن نجا من إثمه. فآدم يفحص حسب طريقه، والإنسان يُجازى بحسب أعماله... كلّ أعدائك  الذين حولك، يا صهيون، يُقطعون، كلّ الذين ينقضونك يتشتّتون. ما أطيب أن نسمع تسابيحك، يا صهيون، عبر المسكونة كلّها... مرّات عديدة أذكرك للبركة، يا صهيون، بكلّ قدرتي أنا أحبّك. يا ليتك تنالين البرّ الأبديّ وتتقبّلين بركات المجيدين. خذي رؤية تُقال عليك، حلم الأنبياء المطلوب لك. ارتفعي، وتوسّعي، يا صهيون. سبّحي العليّ فاديك. ولتفرح نفسي بمجدك(31).

نلاحظ أنّ هذا المزمور لا يرد في سفر المزامير. وسيأتي بعده عدد من الفتيتات: مز 93: 3-5؛ 95: 3-6؛ 97: 6-9؛ 98: 4-8. ثمّ 114: 7-8؛ 115: 1-4؛ 143: 6-..8. هذا يعني أنّ الجماعة امتلكت أكثر من نسخة لسفر المزامير الذي تكوّن قبل القرن الأوّل ق.م، لأنّه نُقل إلى اليونانيّة في الترجمة المسمّاة سبعينيّة، ربّما في القرن الثاني ق. م. إن لم يكن قبل ذلك الوقت.

ووُجدت نصوص من الأمثال والجامعة ونشيد الأناشيد، ودانيال وعزرا  والأخبار. كما وُجدت نصوص يونانيّة من السبعينيّة: لا 26: 2-16. ثمّ عد 3: 40-43؛ 4: 11-..16. تث 11: 4. وتضمّنت التمائم(32) عددًا من النصوص الكتابيّة: في المغارة الرابعة 128، نقرأ على الوجه تث 5: 1-14؛ 5: 27- 6: 3؛ 10: 12-17 :11 وعلى الظهر، تث 11: 18- 21؛ خر 12: 43- 13: 7. وفي 129، نقرأ تث 5: 1- 6: 2 وخر 13: 9-..16.

وكشف المنقّبون مقاطع من ترجوم سفر اللاويّين، وأيّوب وعدد من آيات سفر التكوين مثلاً. رج تك 32: 25-30: »ولبث يعقوب وحده هناك، وتصارع معه رجل حتّى الصباح...« ثمّ تفسير (بِشر) أشعيا: »إن صار شعبك إسرائيل مثل رمل البحر، بقيّة فقط تعود. لقد تقرّر الإفناء وحلّ القضاء. فالربّ إله الجنود سينفذ في كلّ الأرض. هذا يعني أنّ الكثيرين سيهلكون، ولا يُفلت منهم أحد...«.

نشير هنا إلى أنّه وُجد أكثر من نسخة لتفسير أشعيا في المغارة الرابعة. وكذا نقول عن هوشع وميخا وناحوم وصفنيا والمزامير. وكانت المختارات أو الزهيرات، والدلائل والسلسلات التفسيريّة والأقوال الحكميّة...

يطول بنا الكلام إن أردنا أن نستنفد الغنى الموجود في المغارة الرابعة، ونكشف ما في سائر المغاور، ولا سيّما المغارة الحادية عشرة. غير أنّنا نكتفي بهذا القدر، فنؤكّد ما سبق وقلناه، بأنّ نصوص قمران قد نُشرت كلّها، ما عدا النصوص التي يمكن أن نقرأها في العهد القديم، مع العلم أنّ البعض قد نُشر وتمّت دراسته مع النصّ الماسوريّ أو الرسميّ الذي نقرأه اليوم في التوراة العبريّة التي بين أيدينا.

 

2- المعاني اللاهوتية في كتابات قمران

حين وصل الأسيانيّون إلى مغاور قمران، كانت الأرض خربة منذ زمن بعيد جداً، بحيث لا نجد رابطاً بين هؤلاء الآتين جديداً والذين سبقوهم. يبدو أنّ عمل البناء بدأ في أيّام يوحنّا هرقانوس (134-104 ق.م) الذي قطع كلّ علاقة مع الفرّيسيّين وارتبط بالصادوقيّين(33). ولكن يبدو أنّ الأمكنة دُمّرت سنة 31 ق.م بفعل زلزال، أو هجمة الجيش الفراتي (أو البرتيّين)، فأعيد البناء وظلّ قائماً حتّى سنة 68 ب.م. ما الذي ألهم هؤلاء »الرهبان« لكي يعيشوا في هذه الأماكن الخربة، المقفرة؟ نكتشف تفكيرهم في ثلاثة مجالات: الأسفار المقدّسة التي احتفظوا بها، الأسفار المنحولة، الأسفار الخاصّة بهم(34). بعد لك، نتوقّف عند الأفكار اللاهوتيّة التي توسّعوا فيها.

 

أ- كتب جماعة قمران

أوّلاً: النصوص البيبليّة

إنّ المغاور الإحدى عشرة التي كُشفت في قمران وجوارها، بين سنة 1947 وسنة 1956، فتيتات من 173 مخطوطًا، تضمّنت جميع أسفار التوراة العبريّة، ما عدا سفر أستير. ووُجدت أجزاء من ترجومَي أيّوب واللاويّين في الآراميّة، ومقاطع من السبعينيّة. وكلّ ما وجدناه فتيتات من لفائف، ما عدا سفر أشعيا الذي وصل كاملاً.

هذه المخطوطات جاءت في الخطّ العبريّ القديم، القريب من الفينيقيّ، أو في الحرف الآراميّ الذي سيصبح الحرف المعروف في مخطوطات تعود إلى سنة 50- 100 ب.م. وتنوّعت طريقة الإملاء، فوُضع تارة حرف العلّة، أو ألغيَ. هنا نتذكّر أنّ الحركات أو علامات التشكيل لن تكون في صيغتها النهائيّة قبل القرن التاسع ب. م.

إذا توقّفنا عند البنتاتوكس أو الأسفار الخمسة، نكتشف مرحلتين في توسّع النصّ الفلسطينيّ: هناك الشكل القديم الذي كان الأساس للترجمة السبعينيّة. وهناك شكل نجده في النصّ السامريّ. وإذا رُحنا إلى الأسفار التاريخيّة، نرى أنّ كتاب صموئيل يسيطر، لأنّه يقدّم لنا صورة داود. أمّا لفيفة أشعيا الكاملة فقد نسخها ناسخ واحد حوالي سنة 125- 100 ق. م. وهناك المزامير... أمّا المعطيات الجديدة، فنصوص من ابن سيراخ وطوبيّا. من هذا الأخير نمتلك أربعة مخطوطات في الآراميّة، ومخطوطًا في العبريّة.

ماذا يعني كلّ هذا؟ أنّ أسفار العهد القديم استُعملت استعمالاً واسعًا في قمران، وقُرئت باحترام ووقار. ولكن ظلّت القراءة حرّة وكذلك الكتابة، فلم يُفرض شكل من الأشكال. وكذا نقول عن عدد الأسفار، مع العلم أنّ قانون التوراة العبريّة لم يتحدّد قبل نهاية القرن الأوّل المسيحيّ، في مجمع يمنية (أو يبنة) على شاطئ البحر المتوسّط(35).

ثانيًا: النصوص المنحولة

وُجدت خمسة كتب: أخنوخ، اليوبيلات، وصيّتا لاوي ونفتالي، صلاة نبونيد، ملكيصادق وعمرام.

عُرف كتاب أخنوخ، بشكل كامل، في اللغة الحبشيّة، وقد دُوّن بين القرن الثاني ق. م. والقرن الأوّل ب. م، في العبريّة أو الآراميّة. وُجد في قمران أحد عشر مخطوطًا في الآراميّة. إذا عدنا إلى هذه الفتيتات نجد بعض الضوء حول التنظيرات الكونيّة والآمال الجليانيّة في فلسطين اليهوديّة. هناك »كتاب النيّرات« الذي يقابل أخنوخ 27-28 والذي دُوّن حوالي سنة 200 ق. م. هو كتاب مهمّ لأنّ الأسيانيّين أرادوا أن يضبطوا الكلندار أو التاريخ الذي فيه يقع عيد الفصح وسائر الأعياد«. ثمّ »كتاب الجبابرة« الذي يعود إلى الطوفان. انضمّ إلى كتاب الساهرين وكتاب الأحلام. أمّا مضمون »أخنوخ« فتقاليد حول سقوط الملائكة، ووحي الأمور السماويّة للبشر.

ووُجد من كتاب اليوبيلات اثني عشر مخطوطًا على الأقلّ في المغاور 1، 2، 3، 4، 11، في اللغة العبريّة. ما نلاحظ في هذا الكتاب الذي يعود إلى القرن الثاني ق. م، ويتضمّن »رواية إخباريّة« لما نقرأ في سفر التكوين وفي القسم الأوّل من سفر الخروج (ف 1-14)، هو كلندار من 364 يومًا، عملت به جماعةُ قمران في ممارستها الدينيّة.

عُرفت وصيتا لاوي ونفتالي في اليونانيّة. وقد كُشفت الأولى، في الآراميّة، في المغارة 1/21 و 4/213، 214. والثانية في المغارة الرابعة، في العبريّة. وعادت صلاة نبونيد، ملك أشورية وبابلونية، إلى النصف الثاني من القرن الثاني، فارتبطت بسفر دانيال. كلّ هذا يجعلنا في إطار جلياني، فيقدّم وحيًا يتطلّع إلى نهاية الأزمنة من أجل تعزية المؤمنين الذين يعيشون وسط صعوبات قاسية. أمّا نصّ ملكيصادق فيروي حربًا في نهاية الأزمنة بين ملكيصادق وبليعال، بين الصورة الملائكيّة وصورة الشرّ. كلّ هذا نقرأه أيضًا في رؤى عمرام، والد موسى، التي عرفها أوريجان وذكرها في تفسيره لإنجيل لوقا.

ثالثًا: النصوص الأسيانيّة

نذكر أوّلاً وثيقة صادوق أو وثيقة دمشق(36). تؤلّف هذه الوثيقة مع درج الهيكل ونظام الجماعة، أهمّ ما في كتابات قمران، وفيها قسمان رئيسيّان: تحريض يرسم حقبة أحداث التاريخ في فلسطين. ثمّ تدابير أو مجموعة فرائض. ويبدأ التحريض كما يلي: »والآن، اسمعوا يا عارفي البرّ، وافهموا أعمال الله، لأنّه في محاكمة مع كلّ بشر، ويمارس دينونته على كلّ الذين يزدرون به« (1: 1-2).

تشدّد هذه الوثيقة على ثلاثة أمور: سيادة الخطيئة، البقيّة والعهد. نظرة إلى المستقبل. يبدأ النصّ بلوحة مظلمة، فيذكر الخطايا منذ تزاوج »الساهرون« مع بنات البشر (تك 6: 1-6) حتّى أيّامه. غير أنّ هذه اللوحة تتلقّى بعض الأنوار. ففي كلّ جيل يختار الله لنفسه أناسًا يكشف لهم مشيئته، ويخلّص »بقيّةً« ظلّت محافظة على العهد. هو »العهد الجديد في أرض دمشق« (6: 19) حيث يلتزمون بشريعة موسى حسب التفسير الذي يقدّمه معلّم البرّ. يبدو أنّ الأسيانيّين اضطُهدوا فهربوا إلى مصر. ويبدو أنّ »معلّمهم« توفّي في هذا الاضطهاد بيد »الكاهن المنافق أو الكافر« الذي هو السلطة الحاكمة التي جمعت »المُلك« إلى الكهنوت اغتصابًا. من أجل هذا تنطر جماعة قمران إلى المستقبل وهي تعاني أزمة يسيطر فيها الكفر. هو زمن الضيق المسيحانيّ وبداية المخاض.

ونذكر درج الهيكل(37) الذي يقدّم شريعة موجّهة إلى كلّ إسرائيل. هو لا يتطلّع فقط إلى زمن النهاية، بل إلى الزمن التاريخيّ الحاضر. ونظام الجماعة(38) يستلهم سفرَ تثنية الاشتراع فيبدأ بعظة مع مقدّمة خطابيّة (1: 1-11) تُبرز البرنامج العامّ لحياة الجماعة. ثمّ ترد تعليمات محدّدة وصورة عن الدخول في العهد. لن نتوسّع في هذا الكتاب الغنيّ بل نشير إلى أنّ هذه »الجماعة« القمرانيّة اعتبرت نفسها ممثّلة لكلّ إسرائيل. هي بقيّة إسرائيل الأمينة. وهي ترتبط بجماعة أبناء السماء، بالملائكة، فتحتفل على الأرض بأعيادها في الوقت الذي فيه تحتفل السماء. لهذا، كان التشديد على كلندار خاصّ لا يتوافق مع تحديد زمن الأعياد في هيكل أورشليم.

سبق لنا وتحدّثنا عن نظام الحرب، وعن التفاسير المختلفة، وامتدادات هذه التفاسير في صلوات ومدائح ومباركات. وها نحن نحاول أن نقدّم بعض المفاهيم اللاهوتيّة الخاصّة بجماعة قمران.

 

ب- المعطيات اللاهوتيّة

أشرنا إلى الخطيئة التي تتوسّع فيها »المدائح«. فالإنسان من طين هو وبالتالي ضعيف ويميل إلى الشرّ. في هذا الإطار، نفهم أن يكون الإنسان موجّهًا توجيهًا مسبقًا بحيث نتساءل عن موقع حرّيّته. في هذا تقول المدائح: قبل أن يخلق الله الكائنات، عرف كلّ أعمالها، منذ الأزل، وكلّ ما يحصل برضاه. »في حكمتك أسّستَ الكون منذ القديم، وقبل أن تخلق الكائنات عرفت جميع الأعمال التي أتممتها خلال القرون الغابرة. فخارجًا عنك لا يُصنع شيء، ولا يُعرف شيء بدون إرادتك« (1: 7-8).

أمّا التعليم الأساسيّ في قمران، فهو عن الروحين. قال »نظام الجماعة« عن الله: »وأعدّ للإنسان روحين ليمشي فيهما إلى يوم الافتقاد. هما روح الحقّ وروح الضلال. ففي ينبوع النور أهلُ الحقّ. وفي ينبوع الظلمة أعمال الضلال. وفي يد أمير الأنوار، سيادة على جميع أبناء البرّ: إنّهم في طرق النور يسيرون. وفي يد ملاك الظلمة سيادةٌ على أبناء الضلال: إنّهم في طرق الظلمة يسيرون. وبسبب ملاك الظلمة يضلّ جميع أبناء البرّ...« (3: 18-22). في هذا الآيات، يصبح الإنسان حلبةً يتصارع فيها بليعال أو ملاك الظلمة عينها: »من إله المعرفة يصدر كلّ ما هو كائن وما يكون. وقبل أن تكون الكائنات صمّمها. وحين تكون، فبحسب أنظمتها وبحسب مخطّطه المجيد تُتِم عملَها ولا تُبدِّلُ فيه شيئًا« (3: 15-16).

في هذه »الحرب« بين النور والظلمة، يبقى الله بعيدًا. هنا نكتشف في كتابات قمران، كما في كتابات بين العهدين، دورًا كبيرًا يلعبه الملائكة الذين سوف يتكاثرون ويتكاثرون بحيث يجعلون الإنسان ينسى عمل الله. ولكنّ الله يبقى سيّد الأرواح، بل سيّد الكون كلّه. فيقول المديح السابع عشر: »فأنت أمير الآلهة وملك المجد وربّ كلّ روح وسيّد كلّ خليقة. خارجًا عنك لا يُصنع شيء، وبدون إرادتك لا يُعرَف شيء. لا موجود إلاّ أنت. ولا موجود قويٌّا بقربك... فمن من خلائقك العجيبة والعظيمة يقوى على الوقوف أمام مجدك« (10: 8-11)؟

في كتاب »المباركات« يقف الكاهن في هيكل الملكوت الإسكاتولوجيّ، ويقاسم ملائكة الحضور (= هم حاضرون لدى الله وقريبون منه) مصيرهم. ولكنّ أعضاء الجماعة يميَّزون، وهم بعدُ على هذه الأرض، بأنّهم يرون الملائكة القدّيسين. نقرأ في »نظام الحرب«: »ومن هو مثل شعب إسرائيل الذي اخترته لك من جميع شعوب الأرض، شعب قدّيسي العهد وتلاميذ الحقّ والأقوياء والسامعين للصوت المجيد والناظرين إلى ملائكة القداسة والفاتحين آذانهم والسامعين لأعماق أسرار الله« (10: 9-10).

نلاحظ هنا كلّ ما يميّز أبناء العهد القديم، أي جماعة قمران عن سائر الناس. وهم في »مجدهم« يمثّلون الشعب كلّه الذي يُدعى لكي يلتحق بهم، لكي يقتدي بهم، فيعيش شريعة موسى في إطار من النقاوة وابتعاد عن كلّ نجاسة. وهذا ما دفعهم لأن يغتسلوا كلّ يوم قبل صلاة الظهر والغداء بحيث لا يتركون لسيّد الظلمة سلطانًا عليهم.

تجاه الملائكة هناك الشياطين، الذين يتجسّدون في بليعال، كما نجده في أسفار العهد القديم. هم كائنات شرّيرة ويريدون الشرّ للبشر، ولا سيّما للأتقياء: كمنوا لحياتي. عسكروا تجاهي، وأحاطوا بي مع كلّ أسلحتهم الحربيّة، وأطلقوا سهامًا لا تُشفى جراحُها (المدائح 2: 23-26). وهكذا يصوّر التقيّ الوضعَ الصعب الذي يعيش فيه تجاه شرّ الأشرار، ولكنّ الربّ يحميه منهم. وفي المدائح صار »الشياطين« أشخاصًا من لحم ودم. »أهل العنف طلبوا نفسي، لأنّي تمسّكت بعهدك. أمّا هم، فجماعة من الباطل وحلقة بليعال. ما عرفوا أنّ منك وجودي وأنّك تخلّص نفسي بنعمتك« (المدائح 2: 21-23).

ماذا ينتظر هؤلاء المؤمنون الذين أقاموا في البريّة، فرفضوا المجيء إلى الهيكل لأنّهم اعتبروه منجّسًا، كما رفضوا التعامل مع رئيس كهنة لا ينتمي إلى سلالة هارون وصادوق، بل اغتصب الكهنوت اغتصابًا؟ هم ينتظرون النبيّ الشبيه بموسى، الذي سيُعيد قراءة الشريعة بالنظر إلى الأزمة التي يعيشها الشعب اليهوديّ، داخل فساد داخليّ سبّبه الحشمونيّون، واحتلال خارجيّ بدأ مع السلوقيّين وتواصل مع بومبيوس الذي دخل أورشليم ونجّس هيكلها سنة 63 ق.م. وينتظرون مسيحَين: مسيحًا ملكًا يعيد صورة داود، ومسيحًا كاهنًا يُعيد صورة هارون. نقرأ في »نظام الجماعة«: »وتوجِّههم الترتيبات الأولى (= هي مرحلة البدايات) التي بدأ فيها أعضاء الجماعة يتعلّمون حتّى مجيء النبيّ (تث 18: 15، 18) ومسيحي هارون وإسرائيل (= ملك إسرائيل)« (9: 1-11).

وهكذا نكون أمام مسيحين يشاركان في الوليمة الإسكاتولوجيّة. ولكنّ مسيح إسرائيل هو أدنى رتبة من مسيح هارون. فالدور السياسيّ الذي يمثّله المسيح الملك يخضع للدور الدينيّ الذي يلعبه المسيح الكاهن. ولكنّ الوضع سوف يتبدّل مع وثيقة صادوق يحث يكون الفعل في صيغة المفرد، حين الكلام عن مسيحَي هارون وإسرائيل. »فالذين يسيرون في هذه الفرائض خلال زمن الكفر إلى أن يقوم (ع م و د في العبريّة) مسيح هارون وإسرائيل، يكوّنون مجموعات من عشرة رجال« (12: 23). ونقرأ في 14: 19: »وإليك التفسير الدقيق للفرائض التي بها يحكمون خلال زمن الكفر إلى أن يقوم (م ع م د في العبريّة) مسيح هارون وإسرائيل ويكفّر (ي ك ف ر في العبريّة) عن شرّهم«. وتتحدّث الوثيقة عينها عن عقاب الخونة الذين »يسلَّمون إلى السيف ساعة يأتي (ب ب و ا في العبريّة) مسيحُ هارون وإسرائيل«(39).

ولكنّنا نقرأ نصًا غريبًا في المديح الخامس، يتحدّث عن امرأة تلد كما في إرميا (13: 21)، الذي يدلّ بهذه الطريقة على الضيق والقلق في شعب الله (إر 30: 6). ولكنّ صاحب المديح يذهب أبعد من ذلك، فيرى أنّ هذه المرأة تمثّل الجماعة، تلد المسيح في خطّ ما نقرأ في أش 7: 14 وفي 5: 2 (راجع رؤ 12: 1-2، 5-6).

»صرتُ في حيرة كالمرأة التي تلد للمرّة الأولى. فالرعبُ والآلام المريعة هجمت بأمواجها، بحيث إنّ الحبلى وضعت بكرها. فالأبناء بلغوا إلى أمواج الموت، والحبلى برجل الضيق هي في ألم الولادة. ففي أمواج الموت ستلد ذكرًا، وفي قيود الجحيم (= الموت) يخرج من بوتقة الحبلى مشيرٌ عجيبٌ (أش 9: 5-6) مع قدرته، وينجّي من الأمواج كلّ إنسان بفضل تلك التي حبلت به« (المدائح 3: 7-10).

متى يكون كلّ هذا؟ في آخر الأيّام، في الأزمنة الإسكاتولوجيّة. »حينئذٍ ينحدر سيفُ الله في وقت الدينونة، وكلّ أبناء الحقّ يستيقظون ليدمّروا الكفر فلا يعود لأبناء  الإثم من وجود، والجبّار (= الله) يشدّ قوسه ويرفع الحصار ويدعوهم إلى الربّ الواسع، فتُخرج أبوابُ الأبد سلاحَ الحرب« (المدائح 6: 29-31). هي الحرب الأخيرة بين أبناء النور وأبناء الظلمة.

نحن أمام يوم الدينونة. كما قال تفسير (بشر) حبقوق (12: 14)، وهو زمن الغضب على كلّ شرّ: »ساعة انطبق حبلُ الدمار على الهالكين، ومصير الغضب على المتروكين، وسيلُ الغضب على المرائين، ووقتُ الغيظ على كلّ (جيش) بليعال« (المدائح 3: 27-28). تكون الدينونة على العالم كلّه، على الخلائق جميعها. »تدمّرُ (يا ربّ) كلّ شرّ وكلَّ كفر إلى الأبد، فينكشف برّك في عيون صنائعك« (المدائح 14: 15-16؛ راجع مز 98: 2). ويقول تفسير حبقوق: »فالله يمارس دينونته وسط شعوب عديدة. ومن هناك يجعلهم يمثلون للدينونة« (10: 3-4). هذه الدينونة هي حكمٌ على الأشرار، وهكذا يتجلّى مجدُ الله وقدرته وبرّه. وهي »طوفان« من نار ينصبّ على العالم.

هذه الدينونة تتمّ بيد الله، لا بمسيحه، ولا بواسطة معلّم البرّ. اسم الدينونة »سيف الله« الذي يميّز بين الأبرار والأشرار. وهكذا نفهم أنّ لا قيامة إلاّ للأبرار على مثال ما في سائر الأسفار المنحولة في العهد القديم. أمّا الأشرار فيدمَّرون ويفنى ذكرُهم. يدمّرهم الملائكة بنار محرقة (المدائح 6: 18-19): »بلهيبها البرّاق يحترق كلّ أبناء الظلمة، ونارُها تأكلُ كلّ أهل الشرّ حتّى فنائهم...«.

 

2- علاقة أهل قمران بالمسيحيّة الناشئة

بعد هذه النظرة الشاملة إلى الغنى الذي قدّمته مغاور قمران على مستوى المخطوطات والنصوص، كما على مستوى الأفكار التي عُرفت، في الواقع، في عدد من الأسفار التي دُوّنت بين العهد القديم والعهد الجديد، فلم تدخل في اللائحة القانونيّة، نتساءل عن علاقة هذه الجماعة بالعالم المسيحيّ الذي كتب نصوصه في النصف الثاني من القرن الأوّل والنصف الأوّل من القرن الثاني.

حين كُشفت مخطوطات قمران، كانت ردّة الفعل سريعة بأنّ هذه النصوص ستساعدنا على فهم إنجيل يوحنّا، على حلّ مشكلة عشاء الربّ قبل موته، على الدخول في شخصيّة يوحنّا الذي »أقام في القفار إلى يوم اعتلانه لإسرائيل« (لو 1: 80)، بل في شخصيّة يسوع الذي عاش أربعين يومًا في الصوم والصلاة ليعيش خبرة شعبه الذي تاه أربعين سنة في بريّة سيناء وجُرّب أكثر من مرّة. بل راح بعضهم يعلن أنّ الكنيسة تخاف من نشر نصوص قمران الكاملة، فتفقد أصالتها ولا تعود تتميّز كثيرًا عن العالم اليهوديّ الذي وُلدت فيه، ولكنّها خرجت منه لكي تحمل الإنجيل إلى »جميع الأمم« (متّى 28: 19)، بل إلى »الخليقة كلّها« (مر 16: 15).

يدور كلامنا هنا، بإيجاز، حول ثلاثة محاور: يوحنّا المعمدان وجماعة قمران. شخص يسوع وتعليمه. الكنيسة الأولى وارتباطها بالأسيانيّين ولا سيّما على مستوى الحياة المشتركة التي كانوا يعيشونها فيتقاسمون الخيرات التي يمتلكونها.

 

أ- يوحنّا المعمدان وقمران

قبل اكتشاف قمران، بحث عددٌ من المؤرّخين(40) العلاقة بين يوحنّا المعمدان والأسيانيّين الذين تكلّم عنهم فيلون الإسكندرانيّ وفلافيوس يوسيفس وبلينس الأكبر. ودخلت المسألة المندائيّة(41) في الجدال. فانبرى غوغيل(42) يقف في وجه هذه »الحمّى المندائيّة« التي سادت في ألمانيا. وبدا متحفِّظًا جدٌّا في هذا المجال. ثمّ شدّد على الاختلاف الأساسيّ بين معموديّة يوحنّا والاغتسالات الطقسيّة المتعدّدة لدى الأسيانيّين. واستعاد توما(43) الملفّ، فأبرز أصالة معموديّة يوحنّا كمدخل إلى الملك المسيحانيّ. غير أنّه لم ينفِ كلّ علاقة بين يوحنّا والحركة العماديّة التي يمثّلها الأسيانيّون وغيرهم. ولمّا نُشرت آثار قُمران، بدا الحماس كبيرًا، فكان كلام عن يوحنّا المعمدان الذي سلّمه والداه الشيخان إلى الأسيانيّين. بما أنّه من نسل كهنوتيّ، عاش في مجموعة (من عشرة أشخاص) تأثّرت تأثيرًا روحيٌّا بقمران. ولمّا دُعي ليكون نبيّ الربّ، انطلق وتبعته جماعته(44).

وتواصلت المقابلة على مستوى الكرازة في البريّة. والبعد الاسكاتولوجيّ لتعليم يوحنّا الذي جاء موجزًا جدٌّا في خطّ أنبياء العهد القديم. لا مفرطًا كما في الأسفار الجليانيّة بما فيها من توسّعات في الصور الخياليّة.

نشير هنا بشكل خاصّ إلى معموديّة يوحنّا، وبما به تفترق عن كلّ معموديّة أخرى. فيوحنّا هو الذي يعمّد التائب. وفي قمران، التائب يعمّد نفسه. ولدى المهتدين الجدد(45)، يتمّ الطقس عينه مع شاهدين ينظران ولا يفعلان شيئًا. ثمّ إنّ يوحنّا اعتبر عماده »عماد ماء« تجاه عماد بالروح والنار، عماد أسمى من عماده. ويترافق العماد عند يوحنّا بالإقرار بالخطايا، فيدلّ على أنّه علامة خلاص يمنحه الله.

لن نطيل الكلام في هذا المجال الواسع، بل نكتفي بخلاصة أوردها الأب كوتنيه في »ملحق القاموس الكتابيّ«(46): »من المعقول أن يكون يوحنّا عرف مجموعة قمران والحركة العماديّة، في وادي الأردنّ. وآمن، شأنه شأن معاصريه (ومنهم الأسيانيّين) بالدينونة القريبة، فدعا الناس إلى توبة جذريّة (مت 3: 1-12؛ لو 3: 3-17). ومعهم انتظر تطهيرًا تامًا بروح القداسة. وهكذا جعل من العماد علامة تستبق العماد بالروح الذي يمنحه المسيح«.

وتميّز يوحنّا عن معلّم البرّ الذي ركّز تعليمه على ممارسة الشريعة ممارسة دقيقة. أمّا المعمدان فأخذ خطّ الأنبياء وشدّد على متطلّبات العهد الدينيّة والخلقيّة. اعتبر أهل قمران أنّ على »أبناء العهد« أن ينفصلوا عن الآخرين (وفي هذا اقتربوا من الفرّيسيّين). أمّا يوحنّا فنادى بتوبة تهيّئ شعبًا جديدًا لمجيء المسيح. اعتبر الأسيانيّون أنّهم وحدهم الشعب المختار. أمّا يوحنّا فاستقبل الخطأة ودعاهم إلى التوبة. وهكذا كان موقفه على عتبة العهد الجديد. فدعاه الإنجيل الرابع »الشاهد« الحقيقيّ للمسيح. هو لم يكن النور، ولكنّه جاء ليشهد للنور (يو 1: 8).

 

ب- شخص يسوع وتعليمه

نبدأ فنقول بأنّ شخص يسوع ابتعد كلّ الابتعاد عن روحانيّة الأسيانيّين، كما عن روحانيّة الفرّيسيّين. مع أنّ عددًا من الشرّاح المعاصرين يريدون أن يضعوه في خانة الفرّيسيّين بسبب تقواه. المسافة كبيرة بين يسوع والفرّيسيّين وإن هو قبل دعوتهم إلى الغداء بعض المرّات. فتعاملُهم مع الخطأة يعارض تعاملَه كلّ المعارضة. وكلّنا يعرف لماذا كتبت أمثال الرحمة في لو 15: كان العشّارون والخطأة يأتون إلى يسوع ليسمعوه. فتذمَّر الفرّيسيّون والكتبة قائلين: »إنّ هذا الرجل يقبل الخطأة ويأكل معهم«. وما نقوله عن الفرّيسيّين نقوله عن الأسيانيّين الذين اعتبروا أن الخطأة سيفنون في النهاية، بحيث لا يبقى سوى جماعة العهد. عاش الأسيانيّون بعيدين من الناس، في البريّة، ومارسوا الصوم والصلاة كما قيل عن يوحنّا المعمدان الذي جاء »لا يأكل ولا يشرب« (متّى 11: 18). أمّا يسوع فعاش مع الناس »يأكل ويشرب« بحيث قالوا فيه: »هوذا إنسان أكول، شروب للخمر، يحبّ العشّارين والخطأة«. لا شكّ في أنّ يسوع اعتاد أن يعتزل الجموع، ولا سيّما في الليالي، لينقطع للصلاة مع الآب. ولكنّه كان ذاك الذي تحيطه الجموع، بل تزحمه. وسوف ترافقه هذه الجموع فتدخل معه إلى أورشليم، وهمّها أن تنادي به ملكًا.

وتعليمُ يسوع عن الشريعة غير تعليم الأسيانيّين (والفرّيسيّين). فالشريعة هي فوق الإنسان. والسبت صنمٌ لا يمكن أن نزيحه ولو كان الأمر قضيّة موت أو حياة. فما يريد الربّ، كما يقول النبيّ، رحمة لا ذبيحة. فالله إله المحبّة والرحمة، قبل أن يكون إله الطقوس والممارسات. وإن هو ذكر عناصر الشريعة، ولا سيّما الوصايا العشر، فهو لا يريد أن يحصر نفسه في توسّعات وصلت إلى 613 فريضة. كلّ هذه الوصايا تلخّصت عنده في وصيّة المحبّة، محبّة الله ومحبّة القريب، بل محبّة العدو.

هنا يبرز التعليمُ عن التبرير. لا شكّ في أنّ العهد الجديد شدّد على أنّ البشر خطأة، وأنّهم يحتاجون إلى الله الذي يبرّرهم، فيفتديهم ويغفر خطاياهم. ولكن كيف يكون التبرير؟ في العالم الأسيانيّ، بممارسة الشريعة والاغتسالات المتكرّرة التي بها ينفصل »الأبرار« عن الأشرار فتكون لهم القيامة. أمّا التبرير في المسيحيّة، فعمل مجّانيّ. في هذا يقول بولس في الرسالة إلى رومة: »فالجميع خطئوا فأعوزهم مجدُ الله، والجميع بنعمته يتبرّرون مجّانًا بالفداء الذي بالمسيح يسوع« (3: 23-24). وسيقول بولس في الرسالة عينها: »أجل، إنّ المسيح، ونحن بعدُ ضعفاء، قد مات، في الأوان المعيّن، عن الكافرين. ولا يكاد أحدٌ يموت عن بار... وأمّا الله فقد برهن عن محبّته لنا بأنّ المسيح مات عنّا ونحن بعدُ خطأة« (5: 6-9).

 

ج- الكنيسة الأولى وارتباطها بالأسيانيّين

تألّفت الكنيسة الأولى من مجموعتين. واحدة تتكلّم العبريّة أو الآراميّة. والآخرى تتكلّم اليونانيّة. بدأت فتميّزت بالحياة المشتركة. في هذا يقول سفر الأعمال: »وكان جميع المؤمنين يعيشون معًا. وكان كلّ شيء مشتركًا بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم ويوزّعون أثمانها على الجميع بحسب حاجة كلّ واحد منهم« (2: 44-45). ويتابع سفر الأعمال: »وكان لجمهور المؤمنين قلب واحد ونفس واحدة، ولم يكن فيهم محتاج، لأنّ جميع الذين كانوا يملكون حقولاً أو بيوتًا، كانوا يبيعونها، ويأتون بأثمان المبيعات، ويلقونها عند أقدام الرسل، وكانوا يوزّعون منها لكلّ واحد على حسب احتياجه« (4: 32-35).

أما هذا هو المثال الذي قدّمته جماعة قمران؟ فمعلّم البرّ برّر ذهابه من أورشليم بانتقادات عنيفة ضدّ الكاهن الكافر الذي أخطأ حين كرّس أموال الظلم ونجّس الأمور المقدّسة. هنا نقرأ تفسير حبقوق: »تفسير هذا يعني الكاهن المنافق الذي سُمّي باسم الحقّ في بداية عهده. ولكن حين مارس الحكم على إسرائيل، ترفّع قلبه وترك الله، وخان الفرائض بسبب الغنى، وسرق، وجمع أموال الرجال الظالمين الذين تمرّدوا على الله« (8: 8-10). هنا نكتشف شخص حنانيا وسفيرة في أعمال الرسل (5: 1ي) اللذين اعتبرا أنّهما سرقا الجماعة وكذبا على الرسل فاستحقّا الموت.

ففي حياة الأسيانيّين، نجد ممارسة »الحقيقة والبرّ والعدل والمحبّة والرحمة والسلوك المتواضع الواحد تجاه الآخر« (نظام الجماعة 8: 2). والحياةُ المشتركة التي يعيشونها، تفترض تقاسمًا للخيرات يتمّ على مراحل إلى يوم يتخلّى »المؤمن« عن كلّ ما يملك. ولكن هذا لا يمكن أن يعني الفقر الإنجيليّ كما طلبه يسوع حين قال: امضِ فبعْ كلّ مقتناك ووزّعه على المساكين، ثمّ تعال واتبعني. هنا نتذكّر أنّ أهل قمران يتقاسمون ما يمتلكون، ولكنّهم ينطلقون إلى أسلاب الأمم التي سيحاولون أن يأخذوها.

وهناك تقارب آخر بين الأسيانيّين والكنيسة الأولى، على مستوى الوظائف في الجماعة. في قمران: الكهنة، الشيوخ، المعلّمون. في الكنيسة، الرسل، الشيوخ، الشعب (العوام أو الأخوة بشكل إجماليّ). فالإخوة هم المؤمنون الذي يشاركون في التشاور واتّخاذ القرار داخل الجماعة. أمّا طقس تسلّم الوظيفة، فيكون بوضع اليد، كما كان الأمر بالنسبة إلى شاول وبرنابا قبل أن ينطلقا من أنطاكية، من أجل الرسالة (أع 13: 3). ولكن يبقى في الكنيسة أن لا معلّم سوى يسوع المسيح. ومن علّم شارك المعلّم الأوحد. ولا مدبّر سوى يسوع. والمدبّرون في الكنيسة يشاركونه في هذه الكرامة ويعملون حسب مشيئته. ويسوع لم يدعُ نفسه كاهنًا، ولا هو ارتبط بعائلة كهنوتيّة، بل خرج من قبيلة يهوذا، لا من قبيلة لاوي الكهنوتيّة. ولكنّه عمل عمل الكاهن الحقيقيّ فكان الوسيط بين الله والبشر، وقدّم ذبيحة نفسه فنال للبشريّة خلاصًا أبديٌّا. في كلّ هذا تتميّز المسيحيّةُ عمّا تقدّمه جماعة قمران المنغلقة على ذاتها، والمنتظرة ساعة الله، لكي تعود إلى الهيكل وتطرد منه الكاهن المنافق. وتنتقم من الكفرة بحيث تصبح أورشليم طاهرة بهيكلها وكهنوتها العائد إلى نسل هارون.

 

خاتمة

تلك كانت نظرتنا إلى كتابات قمران وما يمكن أن تقدّمه من غنى للفكر الدينيّ عند ملتقى العهدين، العهد القديم مع موسى والأنبياء، والعهد الجديد مع يسوع الذي حمّل كنيسته تعليمه وأقواله وأعماله وحياته. من الواضح أنّ الكنيسة انطلقت من العالم اليهوديّ، شأنها شأن معلّمها، ولكنّها لم تحصر نفسها في إطار من الأطر: لا في الإطار الكهنوتيّ الذي تمسّك به الصادوقيّون، ولا في الإطار الفرّيسيّ بما فيه من استناد تام إلى الشريعة يفصل الأبرار عن الخطأة. ولا في إطار الغيورين الذين أرادوا أن يكونوا ثورة على الغريب وتطهيرًا للأرض المقدّسة من كلّ ما ينجّسها. وإن هي عرفت فكر الأسيانيّين وتنظيمهم، فقد تكون تفاعلت معه كما تفاعلت مع سائر التيّارات الفكريّة، لا في العالم اليهوديّ وحسب، بل في العالم اليونانيّ أيضًا. كتابات قمران تحمل غنى للعالم اليهوديّ يضاهي سائر الغنى الذي حمله المعلّمون الذين دوّنوا تقاليدهم الدينيّة في التراجيم والمشناة والتلمود. من أجل هذا ترجمنا بعض كتابات قمران وجعلناها في جزءين منفصلين، ونرجو بفضل الله أن نترجم سائر النصوص القمرانيّة، بعد أن نُشرت كلّها، بحيث لا يخسر الشرق أيّ كنز نبت فيه، لأنّ في العودة إلى الجذور والتقاليد القديمة، انطلاقة من أجل جديد يرجوه عالمنا في القرن الحادي والعشرين.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM