الفصل الثالث عشر: فلافيوس يوسيفوس المؤرخ

 

الفصل الثالث عشر: فلافيوس يوسيفوس المؤرخ

 

حين نودّ أن نتعرّف إلى تاريخ فلسطين، ولا سيّما في القرنين الأخيرين قبل المسيح، لا نستطيع أن نستغني عن فلافيوس يوسيفس. وحين نريد أن نعرف الأمور العديدة عن عالم فينيقية ولا سيّما صيدون وصور وجبيل، يبدو يوسيفس مدماكًا هامٌّا، لا سيّما وأنّ الكتابات الفينيقيّة العديدة قد ضاعت لأنّها دُوِّنت على ورق البرديّ، ولأنّ الكتابات الضخمة كتلك التي وجدت في مصر وبلاد الرافدين غابت غيابًا شبه تامّ. وحين نحاول أن نكتشف صحّة الأخبار التي يرويها الكتاب المقدّس، من الوجهة التاريخيّة، يبقى يوسيفس معلّمًا هامٌّا يعيننا على المقابلة، فنفهم ما نقول حين نتكلّم عن الطابع التاريخيّ لما يرويه الكتاب المقدّس. من أجل كلّ هذا، نودّ أن نتعرّف إلى هذا المؤرّخ الهامّ، إلى ما تركه من آثار. ونتوقّف في النهاية عند الغنى الذي تركه لنا هذا المؤرّخ من أجل العالم الشرقيّ بشكل عامّ، والعالم الفينيقيّ الذي هو بالنسبة إلينا عالم الأجداد(1) بشكل خاصّ.

1- سيرة يوسيفس ونظرته إلى التاريخ

 

أ- سيرة يوسيفوس

بدأ يوسيفوس وحدّثنا عن أسرته وما فيها من رفعة. هو من عائلة كهنوتيّة بأبيه، بعد أن تحدّر من قبيلة لاوي(2) المسؤولة عن خدمة المذبح. وجاءت أمّه من السلالة الحشمونيّة(3). هذا ما نقرأ في السيرة الذاتيّة(4):

»لم تكن أسرتي من دون أمجاد، بعد أن خرجتُ من الكهنة. كلّ شعب له طريقته الخاصّة في تأسيس محتده. أمّا عندنا، فالارتباط بالكهنوت يشهد لشرف أسرة ما.

وفي وضعي، ليست أسرتي فقط من سلالة كهنوتيّة، بل من الفرقة الأولى بين الفرق الأربع والعشرين. وهذا امتياز يُحسَب له حساب. وهذه القبيلة هي أشهر القبائل. بل أنا من أمّي من نسل ملكيّ، لأنّ نسل حشمون، أجدادها، كانوا مدّة طويلة رؤساء كهنة وملوكًا في شعبنا.

وُلدتُ من متيا، في السنة الأولى(5) من حكم كايوس قيصر(6) الملقّب كاليغولا(7). كان لي ثلاثة بنين: البكر هرقانوس. وُلد في السنة الرابعة لحكم وسباسيانس(8) قيصر. ويوستس في السنة السابعة وأغريبّا في التاسعة(9).

وماذا عن تربية يوسيفس؟ كان اليهوديّ العاشقُ الكمال يتتلمذ لأحد النسّاك الذين يقيمون في البريّة. هكذا تبع يوحنّا بن زبدى وأندراوس بن يونا، يوحنّا المعمدان قبل أن ينتقلا إلى يسوع(10). أمّا يوسيفس فالتحق بشخص اسمه بنّوس. كان يوحنّا يعمّد في الماء مرّة واحدة لغفران الخطايا، أمّا »مرشد« يوسيفس فكان يُكثر من الاغتسالات الطقسيّة على مثال ما كان يفعل أهلُ قمران.

ونقرأ السيرة الذاتيّة في هذا المجال:

»ما تميّز والدي متّيا فقط بالنبل. ولكنّه نال الاحترام أيضًا لاستقامته، ونِعَم بنفوذ كبير في أورشليم، أكبر مدننا. تربّيتُ مع أخي متّيا، أخي من أبي وأمّي. وتقدُّمي الكبير في الدروس، أعطاني شهرة بأنّي صاحب ذاكرة وفهم فائقين. إذ كنت بعد، في فترة الخروج من الطفولة، في السنة الرابعة عشرة، كان الجميع يهنّئوني بسبب حبّي للدرس. لأنّ رؤساء الكهنة وشرفاء المدينة كانوا يأتون ليروني ويتعلّموا هذه النقطة الخاصّة من شرائعنا أو تلك. ولمّا صرت ابن ست عشرة سنة، أردت أن أختبر مختلف البدع في أمّتنا. هي ثلاث(12): الأولى، بدعة الفرّيسيّين. الثانية، بدعة الصادوقيّين. الثالثة بدعة الأسيانيّين(13). سبق وتكلّمتُ عن هذه البدع أكثر من مرّة. فكّرت أنّني إن عملت على أن أتعرّف إليها كلّها في العمق، يُتاح لي أن أختار أفضلها. اهتممت اهتمام نسك وتعب كبير، فمررتُ فيها ثلاثتها.

»وما ارتضيتُ فقط بهذه الخبرة، بل سمعتُ من يتحدّث عن شحص اسمه بنّوس، يعيش في الصحراء، ويكتفي من اللباس بما تعطيه الأشجار، ومن الطعام بما تنتجه الأرض طوعًا، وكان يغتسل اغتسالات متواترة بالماء البارد، ليلاً ونهارًا طلبًا للطهارة. فصرتُ مزاحمًا له. وبعد ثلاث سنوات قضيتُها بجانبه، وبعد أن تمّمت ما رغبتُ فيه، عُدتُ إلى مدينتي. كان عمري حينذاك تسع عشرة سنة. فبدأت السلوك حسب مبادئ بدعة الفرّيسيّين، التي تشبه شبهًا ما يسمّيه اليونان مدرسة الرواق«(14).

أوّل مهمّة قام بها يوسيفس، سفره إلى رومة. هنا بيّن كيف كان متضامنًا مع أهله، فما خاف أن يدافع عن قضيّتهم(15). وإليك ما يقول في السيرة الذاتيّة:(16)

»وبعد أن انقضت السنة السادسة والعشرون، جئت إلى رومة لسبب سأقوله. يوم كان فيلكس(17) واليًا على اليهوديّة، جعل لسببٍ تافه، في الحديد، وأرسل إلى رومة للدفاع أمام القيصر نيرون، بعض الكهنة من أصدقائي، الذين كانوا رجالاً مميّزين. وإذ بحثتُ عن وسيلة تخلّصهم، ولا سيّما حين علمتُ كيف يعيشون من التين والجوز(18)، ومع ذلك لم ينسوا التقوى تجاه الله في قلب الشقاء، وصلتُ إلى رومة بعد عبور مليء بالمخاطر. فسفينتُنا غرقت في قلب البحر الأدرياتيكيّ(19). حينئذٍ أخذنا نحن الستمئة نسبح الليل كلّه، ساعة ظهرت أمام عيوننا سفينةٌ قيرينيّة أرسلتها العناية عندما طلع النهار. فسبقتُ الآخرين مع أربع وتسعين رفيقًا فقط، ورُفعنا على متنها. نجونا في ديكايارخيا(20) التي يسمّيها الإيطاليّون بوطيولي(21)، وهناك ارتبطتُ بصداقة مع اليتورس. كان ممثِّلاً صاحب حظوة لدى نيرون، ومن الشعب اليهوديّ. قُدِّمتُ بواسطته إلى بوباية(22)، امرأة قيصر، فسعيتُ لديها بسرعة وطلبتُ منها تحرير هؤلاء الكهنة. فحين نلتُ مع هذه العطيّة عطايا أخرى هامّة، عدتُ إلى بلادي«(23).

ما إن عاد يوسيفس إلى فلسطين، حتّى كانت الثورة اليهوديّة تندلع على رومة. فأُجبر على لعب دور فيها سنة 66. كلّفه المجلس الأعلى(24) بأن يُعدّ الدفاع عن الجليل، فأظهر بعض مواهبه التنظيميّة. ولكنّ فتور غيرته جعل مواطنيه يداخلهم الشكّ. وقد حاربه بشكل خاصّ يوحنّا جيسخالا(25) الذي كاد يحصل على عزله. في سنة 67، اجتاح فلافيوس وسباسيانس الجليل، وتفرّقت الميليشيات اليهوديّة المتمركزة في غاريس(26). فتحصّن يوسيفس مع بقايا جيشه في حصن يوتاباتا، وتحمّل الحصار، مع بعض الحنكة، 47 يومًا. ولمّا احتلّ الرومان المكان، لجأ مع 40 رفيقًا إلى بئر، وهناك عزموا أن يقتل الواحدُ الآخر حسب ترتيب تحدّده القرعة. تلاعب يوسيفس، فبقي على قيد الحياة مع رفيق له، وسلّما نفسيهما إلى العدوّ. فأخِذ يوسيفس أمام القائد الرومانيّ وأعلن نفسه نبيٌّا، وتنبّأ للقائد بالإمبراطوريّة. لهذا عامله وسباسيانس بعطف. ولمّا أعلن إمبراطورًا سنة 69، أطلق سراحه، وهكذا صار معتقًا رومانيٌّا وأخذ اسم سيّده. فصار اسمه فلافيوس يوسيفس. ورافق يوسيفس وسباسيانس إلى الإسكندريّة ثمّ لازم مجلس قيادة تيطس(27) خلال حصار أورشليم حيث كانت أسرته. قدّم للقائد الرومانيّ خدمات جلّى كمفوّض وحامل استعلامات، رغم الخطر الذي يهدّد حياته. ولمّا أُخذت المدينة المقدّسة في شهر آب سنة 70، منحه تيطس الحريّة لأخيه، ونسخة من الكتاب المقدّس وقطعة أرض في السهل تعويضًا عن تلك التي وُزّعت على بعض الفرق في الجيش الرومانيّ(28).

كلّ هذا نقرأه في الحرب اليهوديّة، حيث يدعو يوسيفس المحاصرين في أورشليم إلى الاستسلام:

»سَلّم تيطسُ يوسيفس مَهمّة الحوار مع المحاصرين في لغتهم الأصليّة(29). وقد ظنّ أنّهم قد يستجيبون لطلبات مواطن لهم. إذن، دار يوسيفس حول السور، وحاول أن يقف بعيدًا عن السهام، ولكن بحيث يصل صوتُه. وكان يتوسّل إلى الثائرين، أكثر من مرّة، لينجوا بحياتهم، والشعب بأن يوفّر الوطن والهيكل(30)...«.

وعاد يوسيفس مع تيطس إلى رومة حيث قضى باقي أيّامه في الأعمال الأدبيّة. كان له المسكن والنفقة من وسباسيانس الذي جعله مواطنًا رومانيٌّا وبرّأه من الاتّهامات التي اتّهمه بها، سنة 73، رئيس الثائرين اليهود في قيريني(31)، وظلّ يوسيفس ينعم بحماية الأسرة الفلافيانيّة، وسباسيانس، تيطس، دوميسيانس، الإمبراطورة دوميسيا لونجينا. كما نعم بحماية أسرة هيرودس التي أقامت في رومة، وأبفروديتس سكرتير نيرون الذي قتله دوميسيانس سنة 96. وقد يكون يوسيفس مات سنة 95 تقريبًا.

 

ب - نظرة يوسيفس إلى التاريخ

قبل الكلام عن مؤلّفات يوسيفوس، نودّ أن نعرض نظرته إلى التاريخ كما يقدّمها في الحرب اليهوديّة:

»الحرب التي قادها اليهود على الرومان هي أكبر ما عُرف في عصرنا، بل ممّا وصل إلينا خبرُه واندلع بين المدن أو بين الأمم. فبين مؤرّخي هذه الحرب، بعضُهم لم يشارك في العمليّات، فجمعوا حسب الظروف ما قيل من أمور متناقضة ودوّنوه بأسلوب السفسطائيّين. وآخرون شاركوا في الحرب ولكنّهم شوّهوا الحقائق ممالقة للرومان أو اليهود، فنَشرت كتاباتُهم، هنا اللومَ وهناك المديح، ولكنّنا لا نجد فيها الدقّة التاريخيّة. لهذا، أنا يوسف بن متّيّا، من نسل عبريّ، ومولود في أورشليم، وكاهن، وقد قمتُ بحرب على الرومان في وقت أوّل، ودُفعتُ بعد ذلك لتتبّع العمليّات، عزمتُ أن أعرض تسلسل الأحداث عن الإمبراطوريّة الرومانيّة، فنقلت إلى اليونانيّة المؤلَّف الذي سبق وألّفته في لغة الأم(32) وأرسلته إلى شعوب غريبة في داخل آسيا...

»ففكّرت أنّه من العبث أن أجعل الحقيقة تضيع حول أحداث من هذا الاتّساع. وسلّمت بأن يعرف الفراتيّون والبابليّون والعرب البعيدون، وأبناء وطني المقيمون في ما وراء الفرات، في حدياب، أن يعرفوا بدقّة، بفضل أعمالي، جذورَ هذه الحرب، والمحن التي طبعت مسيرتَها. والطريقة التي انتهت بها، كما سلّمت أن لا يبقى اليونان والرومان، الذين لم يشاركوا في العمليّات، فريسة مؤرِّخين متزلّفين وكاذبين«(33).

وتابع يوسيفوس في النصّ عينه، فميّز بين مؤرّخين طيّبين ومؤرّخين أردياء:

»تجرّأوا فعنونوا مؤلَّفهم »تاريخًا«، مع أنّهم لا يُعطون أيّة معلومة أكيدة، بل يخطئون، في نظري، هدفهم كلّ الإخطاء. فهم يريدون أن يبيّنوا عظمة الرومان، ولا يَنَون ينتقصون من أعمال اليهود ويقلّلون من قيمتها: في هذه الحال، لا أرى كيف يمكن أن يكون المنتصر على الأقزام عظيمًا! ثمّ هم لا يأخذون بعين الاعتبار مدّة الحرب، ولا عدد القوّات التي أنزلها الجيش الرومانيّ، ولا شهرة القوّاد الذين عرقوا دمًا وماء تحت أسوار أورشليم. ولكنّهم في عين هؤلاء، كما أفترض، لم يقتنوا مجدًا بعد أن انتقص نصرهم«.

ويتابع يوسيفس في مقدّمة الحرب اليهوديّة (15-16) فيقول:

»لا شكّ في أنّ المؤرّخ الذي يستحقّ المديح هو ذاك الذي يسجّل الأحداث التي لم يُروَ بعدُ خبرُها، والذي يؤرّخ لعصره من أجل الأجيال الآتية. فالعاملُ ليس ذاك الذي يقوم ببعض التصليحات الطفيفة لتنظيم مؤلَّفه. بل هو ذاك الذي يروي أخبارًا بكرًا ويكتب مؤلَّفًا تاريخيٌّا أصيلاً. هكذا أنا الغريب، أقدّمُ لليونان والرومان ذكرانة هذه المآثر. فالذين وُلدوا يونانيّين ينفتح فمُهم على وسعه حين يكون الأمر ربح المال والمرافعة، دون مجهود، ويتحرّك لسانهم. أمّا بالنسبة إلى التاريخ حيث يجب قولُ الحقّ وجمْعُ الوقائع ولو كلّفت المجهود الكبير، ففمهم يبقى مقفلاً ويتركون لعقول تافهة وغير عارفة، الاهتمام برواية مآثر قوّادهم الكبار. إذن، لتُكرَم الحقيقةُ التاريخيّة لدينا، لأنّ اليونان لا يهتمّون بها«(34).

بعد أن عرض يوسيفوس نظرته، دافع عن مؤلَّفه وأسلوبه في وجه خصومه. قال:

»أمّا أنا، فعلى مجمل الحرب وتفاصيل الوقائع، قد كتبت رواية حقيقيّة، لأنّي كنت حاضرًا حضورًا شخصيٌّا للأحداث. فقد كنت جنرالاً للذين دُعوا عندنا الجليليّين، ما دامت المقاومة ممكنة. ولمّا أسرتُ عشتُ سجينًا في المخيّم الرومانيّ. راقبني وسباسيانس وتيطس وفرضا عليّ أن أكون دومًا بقربهما. في البداية، كنتُ مقيَّدًا. بعد ذلك حرِّرتُ من قيودي، فأُرسلت من الإسكندريّة مع تيطس من أجل حصار أورشليم.

»في ذلك الوقت، لم تُفلت واقعةٌ من معرفتي. فقد كنتُ أدوِّنُ بعناية، لا ما كان يقع أمام عينيّ في الجيش الرومانيّ فحسب، بل أيضًا المعلومات التي يحملها الفارّون والتي كنتُ وحدي أفهمها(35). ثمّ حين أقمتُ في رومة وبعد أن أنهيت نهاية كاملة تاريخي، ساعدني بعض الأشحاص من أجل اليونانيّة، وهكذا رويت الأحداث للسلف. فنتج بالنسبة إليّ ثقة كبيرة بحقيقة تاريخيّ، حيث استشهدتُ أوّل ما استشهدت بالرئيسين القائدين، وسباسيانس وتيطس. كانا أوّل من قدّمت إليهما كتبي ثمّ إلى عدد من الرومان شاركوا في الحملة. وبعتُها بعد ذلك لعدد كبير من الذين منّا تدرّبوا في الأدب اليونانيّ مثل يوليوس أرخيلاوس وهيرودس السامي والعجيب أغريبا نفسه(36). كلّ هؤلاء الأشخاص شهدوا أنّي سعيتُ للدفاع عن الحقيقة، وهم ما كانوا ليُخفوا عواطفهم ولا ليَسكتوا، لو أنّي أخفيتُ أو أهملتُ واقعةً واحدة عن جهل أو تملّق«(37).

 

2- آثار يوسيفس الأدبيّة

بعد أن تعرّفنا إلى سيرة يوسيفوس كما كتبها بيده، وأشرنا إلى ما يقوله عن نفسه في ما يخصّ كتابة التاريخ حيث لا يعرف الحقيقةَ إلاّ من عايشها، كما فعل هو نفسه في تاريخ اليهود، نقدّم مؤلّفات يوسيفوس التي هي أربعة ونعالج بعض ما قيل في كتاباته.

 

أ - مؤلّفات يوسيفوس

هي أربعة كما قلنا.

أوّلاً: حرب اليهود(38)

حين أقام يوسيفس في رومة حوالي ثلاثين عامًا، كرّس نفسه لجمع الوثائق والكتابة. وأوّل ما صدر عنه تاريخ اليهود أو تاريخ أرض اليهوديّة، بعد أن طُلب منه ذلك. فرغم الخسارة البشريّة التي مُنيَ بها اليهود في أورشليم واليهوديّة، فقد ظلّوا شعبًا كثيرًا في الإمبراطوريّة الرومانيّة أو على حدوده الشرقيّة حيث بدأ خطرُ الفراتيّين يطلّ في الأفق، وحيث مملكة حدياب الصغيرة التي اعتنقت الإيمان اليهوديّ، تضامنت مع الإخوة في اليهوديّة واستعدّت أن تحارب ضدّ رومة أو تشارك في حرب ضد الفراتيّين أو البابليّين أو العرب(39). لهذا كتب يوسيفس ليُثنيها عن ثورة جديدة، كتب لها خبر الأحداث التي انتهت في شهر آب سنة 70.

كان يوسيفس مهيّأ لمثل هذا العمل. فهو ابن الأرستقراطيّة الكهنوتيّة. وهو شاهد عيان وحامل وثائق وضعها الإمبراطور في تصرّفه، ممّا يكفل الحقيقة التاريخيّة. وأخيرًا يستطيع أن يتوجّه إلى مواطنيه في اللغة الآراميّة.

هكذا صدرت حرب اليهود أوّل ما صدرت في الآراميّة، فانتشرت انتشارًا واسعًا »بين الشعوب الغريبة في داخل آسيا« (الحرب 1: 3). فاستطاعوا أن يعرفوا بداية هذه الحرب ونهايتها، كما المحن التي مرّ فيها السكّان (الحرب 1: 6). ولكن، لو ظلّ يوسيفس ذاك المؤرّخ الآراميّ، لما كان وصل إلينا شيء ممّا كتبه. فالنسخة الأولى من الحرب ضاعت كلُّها وما تركت أثرًا. وإن هي بقيَتْ فلأنّها نُقلت إلى اليونانيّة.

منذ نهاية الحرب في اليهوديّة، نُشرت عدّة أخبار. ولكنّها أسخطت يوسيفس الذي جعل الكتّاب في فئتين: هناك من سمع ولم يرَ. وهناك من عرف ولكنّه حاول أن يتملّق فشوّه الوقائع. لهذا، عزم يوسيفس على التعريف بالحقيقة(40).

دوّن يوسيفوس ما دوّن بعد وقت قليل على الهزيمة. انطلق من اجتياح أنطيوخس إبيفانيوس للأرض المقدّسة سنة 175 ق.م. وانتهى بسقوط قلعة مصعدة والثورة اليهوديّة في الطرابليّة(41) (73 ب.م.) التي تقابل ليبيا الحاليّة. نُشر الكتاب على نفقة تيطس بين سنة 75 وسنة 79.

لسنا هنا أمام مجرّد كرونيكة أو إيراد سلسلة الأحداث وحسب، بل أمام اهتمام بفهم الأحداث. لهذا عاد إلى الحقبة التي فيها تَوقّف »مؤرّخونا وأنبياؤنا« (الحرب 1: 18)، فكان الكتاب الأوّل مكرّسًا لثورة المكابيّين. والثاني للأسباب المباشرة للحرب، وأوّلها وضْعُ رومة يدها على الشرق وتصرّف سيِّئ لدى الولاة ولا سيّما والي سورية. وروى الكتاب الثالث الحرب في حدّ ذاتها. وأورد الكتاب الرابع نجاح وسباسيانس في الجليل وحصار أورشليم. واحتلّ الكتاب الخامس الصراع بين الفئات المتناحرة. في الكتاب السادس حُرق الهيكل، وفي السابع اندلعت الثورات هنا وهناك.

وزّع يوسيفس مواده بشكل رائع، فمزج مع الخبر الخطبة في أسلوب مباشر أو لا مباشر، وهكذا بدا مؤرّخًا حقيقيٌّا. أمّا معلّمه الأولى فهو توقيديد(42) الذي بدأ فشرح أسباب الحرب، وتحدّث عن الوباء في أثينة كما سوف يتحدّث يوسيفوس عن الجوع في أورشليم، فبدا كتابُه بشكل تراجيديا. ومعلّمه الثاني بوليب(43)، ذاك المؤرّخ الذي عاش في كورنتوس، في القرن الثاني ق.م. غير أنّ يوسيفس افترق عن معلّمَيه، فلم يتوقّف عند الأسباب البشريّة، بل تحدّث عن العناية الإلهيّة في خطّ ما اعتاد الكتاب المقدّس أن يفعل.

ظهر النصّ اليونانيّ للحرب في عهد تيطس، فنال نجاحًا كبيرًا لدى العظماء. هذا يعني أنّنا أمام التاريخ الرسميّ الذي يُرضي السلطة الرومانيّة. وهذا يعني أيضاً أنّنا أمام وجهة واحدة. لهذا تبقى الوجهةُ الثانية غائبة، وجهةُ العالم اليهوديّ. ومع ذلك، يبقى المؤلَّف عملاً عظيمًا على قدر الموضوع الذي يعالجه(44).

ثانيًا: العاديّات اليهوديّة(45)

نجح الكتاب الأوّل نجاحًا كبيرًا، فاستطعم يوسيفس كتابة التاريخ. فتصوّر مشروعًا آخر واسعًا سيأخذ منه عشرة أعوام من حياته. في مقدّمة الحرب، منع نفسه من العودة كثيرًا في الزمن »واستعادة تاريخ اليهود منذ الجذور« (الحرب 1: 17). ولكن حين أعدّ الفصل الأوّل، جمع مواد كتاب آخر:

»سبق وفكّرتُ في الماضي، حين كتبتُ تاريخ الحرب، أن أبيّن ما كان اليهود في البداية، وما صار إليه مصيرهم، وأيّ مشترع(46) علّمهم التقوى وممارسة سائر الفضائل، وأي صراعات طويلة واجهوها قبل هذه الحرب الأخيرة التي دخلوا فيها بالرغم منهم ضدّ الرومان. غير أنّي جعلت جانبًا هذا الموضوع الذي يشمل الموادّ الكثيرة(47)«.

دُوِّنَ الكتاب بالآراميّة ولكنّه لم يُنشر في هذه اللغة. تردّد يوسيفس، تكاسل، وما أراد أن يترجم عملاً ضخمًا إلى لغة غريبة لا تبدو عاداتها قريبة. أعني اليونانيّة (العاديّات 1: 7). ولكن، دفعه إلى ذلك صديقَه أبفروديتس وهو رجل يهتمّ في شكل خاصّ بالعلم التاريخيّ (العاديّات 1: 8). فتشجّع يوسيفس فاراد أن يلخّص خمسة آلاف سنة من التاريخ، منذ ولادة الإنسان الأوّل، إلى السنة الثانية عشرة لحكم نيرون، مع كلّ ما حصل لليهود في مصر وسورية وفلسطين، وما تحمّلوا من الأشوريّين والبابليّين والفرس ثمّ الرومان(48) وإذا فعل يوسيفس ما فعل، ما توخّى فقط إعطاء المعلومات، بل الدفاع عن الشعب الذي يُفترى عليه. تألّفت العاديّات من عشرين كتابًا في ستّين ألف سطر. وانتهى منها في السنة الثالثة عشرة لحكم دوميسيانس، والسنة 56 لحياة الكاتب (العاديّات 20: 250) أي سنة 93(49).

الكتب العشرة الأولى تبدو قليلة الأهميّة لمن يستطيع أن يقرأ الكتاب المقدّس. ولكن لا بدّ من تقدير مجهود يوسيفس في تقديم خبر الأزمنة القديمة تقديمًا متماسكًا وعقليٌّا لقرّاء يونان. ويرى اللاهوتيّ عددًا من التفاسير المعاصرة ليوسيفس التي قد تلقي ضوءًا على العهد الجديد كما على المدراش اليهوديّ الذي هو تأمّل ودرس في النصوص البيبليّة(50).

أمّا في الكتب العشرة الأخيرة، فنجد وثائق هامّة جدٌّا عن الحشمونيّين، عن حكم هيرودُس، عن وضع الرومان يدهم على البلاد وكلّ ما سبق ثورة اليهود على رومة. في كلّ هذه المواضيع، يبقى مُعلِّمنا الأوّل. وقد قال عن نفسه في العاديّات (20: 262): »ما من أحد آخر، يهوديٌّا أو غريبًا، كان باستطاعته، لو شاء، أن يقدّم، بمثل هذه الدقّة، هذا التاريخ لقرّاء يونان(51)«.

هدف يوسيفس كان تاريخيٌّا ودفاعيٌّا. حين ذكر تاريخ أجداده، قدّم عددًا من الوجوه النيّرة من الماضي، ليُخزي من اعتبر أنّه لم يكن رجال عظام في الشعب اليهوديّ. وحين ذكر حقبات الاستقلال، كذّب الرومان المتعجرفين الذين اعتبروا أنّ اليهود شعب خُلق للعبوديّة. وحين نسخ بعض الوثائق العائدة إلى يوليوس قيصر (الكتاب 14)، نوّه بحماية رومة لشعائر العبادة اليهوديّة.

في هذا المؤلّف دلّ يوسيفوس على أمانته لأصوله، ولتربيته اليهوديّة، وهو من حسبه معاصروه »الخائن« لقضيّة الشعب الأولى.

ثالثًا: السيرة الذاتيّة(52)

هي آخر ما دوّن يوسيفس. وقد أعلن عنها في نهاية العاديّات (20: 266):

»قد أضع مؤلَّفًا لا يحرّك الحسد، فأتكلّم بإيجاز عن أسرتي، وممّا فعلتُه خلال حياتي، ما دام الذين يقدرون أن يردّوا عليّ أو يشهدوا لي، على قيد الحياة«.

أمّا خصمه فهو يوستس بن فستوس، من طبريّة. عارض بشدّة، سنة 66، الحاكم الشاب الذي كانه يوسيفوس في الجليل آنذاك. ففستس كان رئيسَ أحد الأحزاب المتصارعة من أجل مدينة طبريّة، وكان يحلم بالثورة، ويرجو أن يكون مسلّطًا على الجليل ومدينة وُلد فيها (السيرة 391) ولكنّه لم يتوصّل إلى فرض سيطرته على الجليليّين.

بعد بضع سنوات، وقع بين يدي يوسيفس مقال من يوستوس يروي خبر الحرب. سخط يوسيفس من هذا الذي يفتري عليه ويهشّم في ما كتبه. ما رضي المؤرّخ أن يوضع على المحكّ عملُه التاريخيّ. وتحدّث عن شخصه في طاعته لله، وعن حياته الخلقيّة التي استحقّت له حماية العناية الإلهيّة(53).

رابعًا: الردّ على أبيون(54)

إذا كانت السيرة الذاتيّة، التي ضُمّت في بداية القرن الثاني إلى العاديّات، تروي حياة يوسيفوس منذ ولادته حتّى حكم دوميسيانس، فالردّ على أبيون أو المقال الدفاعيّ الذي عنوانه قِدَم الشعب اليهوديّ، يدافع عن التاريخ اليهوديّ ويبعد عنه تهمة الحداثة، كما يدافع عن الأقوال المسيئة والتي لا أساس لها كما نجدها عند الكتّاب اليونان. عاد يوسيفس إلى كتب ضاعت اليوم، ولا سيّما عمل المصريّ مانيتس، فأورد مقاطع عديدة وطويلة، بحيث برزت لوحةٌ ناقدة للأدب التاريخيّ الشرقيّ واليونانيّ، في العالم القديم. وهكذا كان دفاع دقيق عن العالم اليهوديّ.

كان أبيون خطيبًا يونانيٌّا، عاش في القرن الأوّل المسيحيّ، في الإسكندريّة، فهاجم اليهود والعالم اليهوديّ. فردّ عليه يوسيفس مدافعًا عن شعبه وعن ديانته، وجاء دفاعه كما يلي: بعد المقدّمة (1: 1-5)، تساءل يوسيفوس لماذا لم يتحدّث الكتّاب اليونان إلاّ قليلاً عن اليهود (1: 6-68). بعد ذلك ذكر الشهادات عن العالم اليهوديّ في الأدب الشرقيّ (1: 69-160) ثمّ في الأدب اليونانيّ (1: 161-218). ردّ يوسيفوس على الهجمات ضدّ اليهود (1: 219- 2: 144)، وقدّم العالم اليهوديّ (2: 145- 219)، ثمّ قابل بين هذا العالم وبين الحضارة اليونانيّة (2: 220-286). وجاءت الخاتمة في 2: 287-296: »وخلاصة القول أوردتُ بالتفصيل شرائع اليهود وتكوينهم في كتاباتي حول العاديّات(55). أمّا هنا فأشرتُ إليها بقدر ما هو ضروريّ، لا لألوم عادات الآخر وأعظّم عاداتنا، بل لأبرهن أنّ الكتّاب الجائرين تجاهنا، قد هاجموا بوقاحةٍ الحقيقة نفسها. أظنّ أنّي أتممتُ، بما فيه الكفاية، في هذا الكتاب ما وعدتُ به في البداية. فقد بيّنتُ أنّ نسلنا يعود إلى زمن قديم جدٌّا...«(56).

 

ب - تفسير المراجع

بعد أن قدّمنا مؤلّفات يوسيفس الأربعة، نتعرّف إلى ما قيل فيه حول تفسيره للمراجع التي استقى منها. نبدأ فنقول إنّنا لا نطلب من المدافع هدوء المؤرّخ، ولا دقّة فقيه اللغة، ولا نقد الناقد المحترف. ما طلب يوسيفس هذه الصفات، ومع ذلك لا نستطيع القول إنّه أساء استعمال ما كان بين يديه. هذا لا يعني أنّه ما شذّ على المراجع لكي تعطيه ما يريد من أجل برهانه.

ونبدأ بالمراجع البيبليّة نفسها. فهو يقدّمها على أنّها حوليّات رسميّة، كُلِّف بتدوينها الأنبياء أوّلاً ثمّ رؤساء الكهنة. ولكن من يعرف الكتاب المقدّس، يفهم أنّ الأمور ليست كذلك. وإذا وضعنا جانبًا كتاب الملوك (سفر الملوك الأوّل والثاني) أو بالأحرى ما أَخذ منه، فما من كتاب بيبليّ يقدّم تسلسل الأحداث في الزمن الذي عاش فيه الأنبياء. لقد مزج يوسيفس بين أسفار الكتاب المقدّس، وسجلاّت الأنساب لدى الكهنة، كما كانت تمارس في زمن الهيكل الثاني (بعد سنة 515 ق.م.). انطلق يوسيفس من الكتب المقدّسة، ولكنّه حوّلها مرارًا من أجل الأمم الذين يكتب لهم، كما أضاف إليها الكثير من التقليد الشفهيّ(58).

وننتقل إلى شهادات الشرقيّين. ونبدأ مع مؤلّف مانيتس الذي لا يعطينا المعلومات الكثيرة عن أصل اليهود. وإن قلنا إنّ الهكسوس أسسّوا أورشليم(59)، لا شيء يبرهن أن مانيتس(60) ماهى بين العبرانيّين والهكسوس، ونحن نعرف أنّ هذه المدينة وُجدت قبل إقامة بني إسرائيل في كنعان، بزمن طويل. إذن، كلّ البناء الأزمانيّ الذي يبنيه يوسيفس حول زمن طرد الهكسوس، لا يستند إلى أساس متين. ولا نقدر أن نقرأ بصدق يوسيفس في هذا المجال. فبعد أن أورد نصّ مانيتس حول بناء أورشليم (1: 90)، أوجز فيما بعد خبر الكاتب المصريّ: »يقول مانيتس إنّ أجدادنا طُردوا من مصر، فاحتلّوا اليهوديّة، وأسّسوا أورشليم وشيّدوا الهيكل« (1: 228). مثل هذه المعلومة لا نجد لها أثرًا في نصّ ورد كاملاً فيما سبق.

والبراهين المأخوذة من مؤلّف بيروسيوس(61)، ليست أكثر متانة. أَترك هنا التوافق بين بيروسيوس والكتاب المقدّس فيما يتعلّق بفتوحات نبوخذ نصّر، القريبة العهد(62)، ولكن حين يقول لقرّائه (أبيون 1: 130) إنّ بيروسيوس يتكلّم عن الطوفان »مثل موسى«(63)، فهو يتلاعب على الكلام. فخبر الطوفان يرويه بيروسيوس عن عبدينوس. وإن ذُكر الطوفان مع السفينة، فالناجي هو كيسوتروس، لا نوح. ومع ذلك، تكلّم يوسيفس عن السفينة التي فيها نجا أبو نسلنا، والتي حُملت على قمم جبال أرمينيا.

هذا التماهي بين شخص وآخر يرد أكثر من مرّة. ففي العاديّات (1: 158) كتب يوسيفس عن إبراهيم: »ذكر بيروسيوس جدّنا إبراهيم دون أن يسمّيه بل هكذا سمّاه: في القرن العاشر الذي تلا الطوفان، كان لدى الكلدانيّين رجل بارّ وعظيم«. نشير هنا إلى أنّ هذا التماهي ليس عمل يوسيفس، بل هو أخذه عن المؤوّلين اليهود في الإسكندريّة.

ونقول الملاحظات عينها عن استنتاجات سريعة استخلصها يوسيفس من عدد من النصوص اليونانيّة الكلاسيكيّة، بعد أن فسّرها سابقوه. مثلاً »سوريو فلسطين« الذين مارسوا الختان، حسب هيرودوتس، ليسوا من اليهود(64). ففي القرن الخامس ق.م.، الفلسطيّون أنفسهم مارسوا الختان. أمّا الشعب السرّي الذي ذكره خويريلس(65) في جيش أحشويروس(66) والذي أقام على جبال سوليميس قرب بحيرة واسعة وتكلّم الفينيقيّة، ليس شعبًا يهوديٌّا: هو يقصّ شعره بشكل دائرة، ويلبس قبّعة مصنوعة من جلد الحصان. فلا بدّ من العودة إلى خويريلس لنكتشف هذا الشعب.

 

3- يوسيفس المورّخ

نتوقّف هنا عند ثلاث محطّات: العودة إلى المراجع، الممالك الهلنستيّة(67)، علاقة فلسطين بالعالم الفينيقيّ

 

أ - العودة إلى المراجع

اختلف يوسيفس عن المؤرّخين اليونان والرومان الذين اهتمّوا اهتمامًا قليلاً بوثائق الأرشيف فما استعملوها إلاّ نادرًا، وكادوا لا يوردون نصوصها. أمّا يوسيفس فعاد إلى الوثائق المكتوبة ليقدّم لنا معلومة أو ليبرهن عن حقيقة. وبعد ف 11 من العاديّات، يستند تاريخه إلى وثائق رسميّة، فارسيّة وسلوقيّة ورومانيّة، التي نُسخت ووُجدت في اليهكل. هذا الاستعمال للأرشيف يميّز صناعة التاريخ في الشرق منذ زمن الفرس، مع بعض التأثير على اليونان.

أجل، وُلد التاريخ الوثائقيّ في الحقبة الفارسيّة مع الطابع البيروقراطيّ لسلالة الأخمينيّين التي سهرت سهرًا خاصٌّا على الأرشيف. فقد كان الملوك يتّصلون بتابعيهم عبر الرسائل. وسار يوسيفس في هذا الخطّ، وهو الذي سُمح له بالدخول إلى أرشيف الهيكل، لأنّه سليل الكهنوت. لا شكّ في أنّ الكثير غاب، سنة 70، حين أحرق الهيكل، ولكن تنظّمت مجموعات ونُشرت على يد نيقولا الدمشقيّ، مؤرّخ هيرودُس، مصدره ومثاله. فيوسيفس هو حقٌّا رجل أرشيف. وحين مرّ في الإسكندريّة قرأ رسالة أرستيس(68) المتحدّثة عن الترجمة اليونانيّة السبعينيّة(69). ولكن يبدو أنّه لم يعرف آثار فيلون، فيلسوف الإسكندريّة الذي عاش في القرن الأوّل المسيحيّ. فيوسيفس هو الذي نقل لنا الحواشي الأرشيفيّة التي تساعدنا على التثبّت من وثيقة باسم المرسل ونمط الكتابة والختم.

هذه المقاربة التاريخيّة خاصّة بالمحيط الكهنوتيّ الذي سُمح له وحده الدخول إلى أرشيف الهيكل. وهذا أمر ذكره يوسيفس أكثر من مرّة. فبقي على كلّ كاتب أن يُعيد تأليف وتفسير الوثائق في نظرته الخاصّة. لهذا، اختلفت نسخات يوسيفس عمّا في الكتاب المقدّس.

وأمانةُ يوسيفس لوسط الهيكل، جعلته يتوقّف عند الأنساب بالنسبة إلى نفسه كما إلى الشخصيّات الذين يذكر، وإلى الشعب كلّه. وهكذا أعاد نسبًا غاب من التوراة على ما اعتاد الكهنة أن يفعلوا، ولا سيّما في أيّام عزرا ونحميا (القرن الخامس). ولكن بما أنّ الأرشيف سرّيّ، استطاع يوسيفس أن يوجّهه ليدلّ مثلاً على القرابة بين اليهود واليونان. غير أنّ مؤرّخنا عاد قليلاً إلى مصادر خارجيّة، على مثال ما فعل هيرودوتُس مثلاً، وما واجه بين وثيقة ووثيقة، كما يفعل المؤرّخ الحديث. غير أنّنا نلاحظ استعماله للجغرافيا مثل بلينوس الأكبر معاصره، وهذا ما جعله يضيف ملحقات على حرب اليهود أو يؤوّن سفر التكوين. واستعمل يوسيفس مؤرّخين غير يهود في الردّ على أبيون كما في العاديّات اليهوديّة، ليدلّ على تاريخيّة إبراهيم، مثل بيروسيوس ابن بابل، وهيكاتاوس ابن الإسكندريّة، ونيقولا ابن دمشق. ما قابل يوسيفس بين نصوص ونصوص، بل بحث عن مصداقيّة الكتّاب البيبليّين تجاه كتّاب الشرق الرومانيّ لكي يربط التاريخ البيبليّ بالتاريخ العامّ(70).

 

ب - الممالك الهلنستيّة

كان بالإمكان أن نتكلّم عن علم الأعراق والأصول(71) الذي مارسه يوسيفس في خطّ مقاربات يونانيّة قام بها هيرودوتس، أكسينوفون، سترابون وغيرهم. ولكنّنا توخّينا أن لا نطيل أكثر ممّا فعلنا، فحاولنا أن نتعرّف إلى ما قاله هذا المؤرّخ اليهوديّ عن الممالك الهلنستيّة، التي تأسّست بعد موت الإسكندر على يد قوّاده الكبار.

فكتابات فلافيوس يوسيفس التي تركّزت على تاريخ الشعب اليهوديّ، تشكّل مراجع لها قيمتها من أجل معرفة ممالك الشرق الأوسط التي وُلدت من تفكّك إمبراطوريّة الإسكندر. فاليهود الذين كانوا حتّى ذلك الوقت خاضعين للأخمينيّين، صاروا عند ذاك جزءًا من مملكة اللاجيّين (أو البطالسة) الذين أقاموا في الإسكندريّة. ولمّا قُهر بطليمس الخامس (إبيفانيوس، 204-180) في فانيون سنة 200 ق.م.، تخلّى عن المنطقة السوريّة الفينيقيّة لخصمه السلوقيّ أنطيوخُس الثالث الكبير (223-187) الذي كان سيّد مملكة واسعة امتدّت حتّى آسية الوسطى. عندئذٍ وجد اليهودُ نفوسهم في مرزبة سورية الواطية(72) حتّى تحرّرهم بقيادة الملوك الحشمونيّين، بانتظار وصول بومبيوس الرومانيّ سنة 63 ق.م.

الفضل الأوّل ليوسيفس هو أنّه استعمل مصادر عديدة ومتنوّعة، من التقليد اليهوديّ واليونانيّ. استند إلى سفر المكابيّين الأوّل، إلى رسالة أرستيس، إلى نيقولا الدمشقيّ. فما بقي من مصادر نستطيع أن نقابله مع ما كتاب يوسيفوس. بالنسبة إلى مؤلّف الدمشقيّ الذي ضاع، فنستطيع أن نعيد تكوينه انطلاقًا من العاديّات. واستعمل فلافيوس كتّابًا معروفين مثل بوليب، ديودور الصقلّي، سترابون، أو غير مؤرّخين مثل بوسيدونيوس الأفاميّ، أغاتارخيديس القنيديّ، تيماجينيس الإسكندرانيّ. وهكذا حصلنا على معلومات من مؤلّفات ضاعت اليوم.

وعاد يوسيفس أيضًا إلى أرشيف الهيكل ليكتب التاريخ اليهوديّ. بالإضافة إلى ذلك، فهو يبقى المصدر الأساسيّ لتنظيم الدول الهلنستيّة. بل الوثيقة الوحيدة مع أسفار المكابيّين، فيبيّن ما فعلته الحضارة اليونانيّة، وكيف تعامل السكّان المحلّيون معها. أمّا أهمّ المعلومات فهي التي تعود إلى عهد أنطيوخس الرابع إبيفانيوس (175-164). فالأزمة التي حصلت في ذلك الوقت هي نتيجة تحوّلات ظهرت حين اتّصل الشعب اليهوديّ بالحضارة اليونانيّة، ونتيجة مضايقات أنطيوخس الرابع، فهناك بعض اليهوديّين الذين تحضّروا بالحضارة الهلينيّة (اليونانيّة)، فاستندوا إلى الملك وإلى إدارته ليفرضوا نفوسهم على أبناء دينهم التقليديّين. ذاك هو بدء تحويل أورشليم إلى مدينة يونانيّة، وقلعة أكرا حيث التجأ اليهود الهلّينيّون(73).

 

ت - فلسطين والعالم الفينيقيّ

نذكر هنا بعض الأمور التي يقدّمها يوسيفس مع معلومات تربط العالم الفينيقيّ بالشرق عامّة وبفلسطين خاصّة.

أراد يوسيفوس أن يُسند بعض أقواله، فاعتبر أنّه استلهم »الكرونيكات الصوريّة«(74) التي عرفها عبر مؤلّفات كتّاب هلنستيّين، مثل ديوس(75)، وهو مؤرّخ مجهول، دوّن في اليونانيّة »حول تاريخ الفينيقيّين«(76)، وفيلوستراتيس(77)، صاحب »أخبار فينيقيّة«(78)، وهناك بعض الوثائق حول مناندريس الأفسسيّ (القرن 3-2) الذي نعرف مؤلّفاته(79) من خلال مقاطع احتفظ بها يوسيفس(80) الذي قال إنّ مناندريس ترجم الأرشيف الصوريّ من الفينيقيّة إلى اليونانيّة(81). ولكن يبدو أنّ مناندريس لم يعرف الفينيقيّة، فأخذ معلوماته من مصدر سابق يصعب التعرّف إليه. ويرى بعضهم أنّ فلافيوس لم يستعمل مؤلّف مناندريس بشكل مباشر(82). عبر هذا التقليد المعقّد، لا نستطيع أن نستبعد العودة إلى الوثائق الصوريّة(83). ولكن من الصعب أن نعرف مضمون هذه »الحوليّات الصوريّة«(84).

ونذكر حاشية صغيرة حول فنّ البناء(85). تجد الهندسة الدينيّة مدى أركيولوجيٌّا واسعًا في عالم فينيقية الشرقيّ، ولكنّه ليس بشيء إذا قابلناه بما كنّا نأمل وجوده في الوثائق الأدبيّة. ففي وضع صور، تُذكر أعمال الملك حيرام التي يوردها فلافيوس يوسيفس في الردّ على أبيون (1: 112-127). حسب مراجع مختلفة: عمود ذهبيّ في هيكل زوش أو بعل، بناء معبديّ هرقلس وعشتار، ومعبدان لهرقلس، واحد هو ملقارت والآخر هو هرقلس التاسيّ (جزيرة تاسوس). رآهما هيرودوتس (2: 44)، ولكنّنا لا نعرفهما. من الواضح أنّه كانت عشرات آخرون في المدن الفينيقيّة. نعرف بشكل خاصّ عمريت، بستان الشيخ (صيدون)، خرايب.

ونقرأ مقطعًا طويلاً حول فينيقيّة المستقلّة في القرنين 10 - 9 ق.م(86). (يبدأ الكلام مع ملك شهير هو حيرام ملك صور، القرن 10)، التي ستلعب دورًا هامٌّا حتّى الفتح الفارسيّ. لا نتوقّف عند المرجع البيبليّ، بل نصل حالاً إلى يوسيفس.

رغب هذا المؤرّخ أن يبيّن مصداقيّة التوراة وقِدَم الشعب اليهوديّ، فأورد شهادات جاء بها من خارج البيبليا لكي يُسند مقاله. ففي الردّ على أبيّون (1: 112 -115) ذكر التاريخ الفينيقيّ لديوس، ليدلّ على وجود حيرام وعلاقاته بسليمان. قال ديوس، في ما قال، إنّ حيرام مارس سياسة الأبنية العظيمة ولا سيّما توسيع جزيرة صور. ثمّ ذكر مناندريس الذي تتوافق شهادته مع شهادة ديوس. مع تفصيل جديد على المستوى العسكريّ: قام حيرام بحملة على شعب رفض أن يدفع الجزية. قد تكون مدينة كيتيون في قبرص أو أوتيكا في أفريقيا(87).

بعد أن أورد يوسيفس ما أورد من مناندريس، أعطى معلومات كرونولوجيّة لكي يربط بتأسيس قرطاجة عهد حيرام وزمن بناء الهيكل في أورشليم(88). في هذا المقطع، نحصل على لائحة بملوك صور مع مدّة حكمهم وطول حياتهم، مع معلومات تاريخيّة ولا سيّما أعمال العنف. تنطلق اللائحة من أبيبعل، والد حيرام، إلى بغماليون الذي تأسّست قرطاجة في أيّامه. ويُذكر فيما يُذكر أتوبعل (أبيّون 1: 123) الذي هو كاهن عشتار الذي تسلّط على العرش بعد أن قتل سلفه. أسّس بوتريس في فينيقيّة وأوزا في ليبيا. هذه الواقعة تدلّ على أنّ الاستيطان الفينيقيّ في المتوسّط بدأ منذ ذلك الوقت. ويماهي يوسيفس بين هذا الملك ووالد إيزابيل التي تزوّجت آخاب، ملك إسرائيل(89). وأتوبعل هذا هو تارة ملك صور (العاديّات 8: 324)، وطورًا ملك صيدون وصور (العاديّات 8: 317؛ 9: 138). هذا يعني أنّ المدينتين كوّنتا مملكة واحدة في القرنين 9 -8 ق.م.

كانت تلك الفترةَ الأشوريّة، وسوف ننتقل إلى الحقبة البابليّة والفارسيّة، مع معلومات عديدة حول العالم الفينيقيّ. ولكنّنا نذكر وجهة من العلاقات بين حيرام وسليمان، أوردها يوسيفس، نقلاً عن المصادر الفينيقيّة، كما يقول: هو خبرُ الألغاز التي تفوّق فيها ملك صور على سليمان(90) الذي اشتهرت حكمته اشتهارًا فوصلت إلى عمق الجزيرة العربيّة.

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا مع فلافيوس يوسيفس، مؤرّخ العالم اليهوديّ، بل مؤرّخ الشرق كلّه. كتب عن الحرب اليهوديّة، فعاد إلى ما شاهد بأمّ العين وما عاشه من ظروف مأساويّة. وكتب عن العالم اليهوديّ، منذ البداية حتّى نهاية القرن الأوّل، فعاد إلى الكتاب المقدّس، في عهده القديم، يستقرئه ويضيف أو يوضح بحيث تكون النظرة متكاملة. ووصل إلى عدد من الكتّاب اليونان فاستقى منهم غنى ليس بإمكاننا أن نجده اليوم بعد أن ضاعت عددٌ من النصوص الأصيلة. هاجمه خصومه لأنّه تحيّز في رواية الأخبار فأخذ جانب السلطة. أمّا نحن، فاكتشفنا الكثير الكثير من تاريخ هذا الشرق، ولا سيّما الفينيقيّ منه. كما اكتشفنا أوّل نظرة إلى المسيح والمسيحيّة، عاصرت ما كتبه لوقا في أعمال الرسل. من أجل كلّ هذا، يبقى يوسيفس مؤرّخًا من الطراز الأوّل، جمع الكثير من المعلومات وقدّمها لنا. رفضه أهله وكادت آثاره تضيع. ولكنّ العالم المسيحيّ احتفظ بها بعد أن اعتبرها نصوصًا تقابل نصوص الكتاب المقدّس وتُغنيها. فيا ليت نصوصه تنقل إلى العربيّة وتترافق مع الدراسات.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM