الفصل العاشر: إذا كنا عرفنا المسيح حسب الجسد

الفصل العاشر: إذا كنا عرفنا المسيح حسب الجسد

 

هذا الكلام قاله بولس الرسول، حين هاجمه الخصوم، وبالتالي هاجموا رسالته، في كنيسة كورنتوس. اعتبروه أقلّ من سائر الرسل، لأنّه لم يرَ يسوع كما رآه سمعان وأندراوس، ولم يتلقَّ دعوته منه خلال رسالته على الأرض، على مثال يعقوب ويوحنّا ومتّى. بل قد يكون بعضهم رأى المسيح وعرفه خلال حياته على الأرض، فجاء يفتخر بأنّه عرف المسيح حين كان في جسد منظور، فلمسه بيديه، بل أكل معه وشرب (لو 13: 26)، وسار بقربه على طرقات الجليل واليهوديّة. فجاء جواب بولس قاطعًا: »فنحن لا نعرف أحدًا بعد اليوم حسب الجسد. وإن كنّا عرفنا المسيح يومًا حسب الجسد، فنحن لا نعرفه الآن هذه المعرفة« (2كور 5: 16). فما يُسند الرسالة المسيحيّة، ليس معرفة يسوع كما في التاريخ بل ظهور القائم من الموت. وما يُسند الحياة المسيحيّة، ليس ما يمكن أن نلمسه من يسوع. أمَا قال بعد قيامته لمريم المجدليّة: »لا تستطيعين بعد أن تلمسيني، كما قبل القيامة« (يو 20: 17)؟ فالعلاقات تبدَّلت، وصرنا على مستوى الإيمان، لا على مستوى العيان. ومع ذلك، ما زلنا نتعامل مع يسوع على مستوى الجسد الحسّيّ. أمَا تعلَّق عددٌ كبير بكفن المسيح الموجود اليوم في تورينو، من أعمال إيطاليا، مع أنَّ القماش يعود إلى القرن الثالث عشر؟ واليوم، ضجّت الصحف بكتابة تؤكِّد وجود يسوع في التاريخ، من خلال مدوَّنة وُجدت في أورشليم. فماذا تحوي هذه المدوَّنة التي، إن كانت صحيحة، تمسّ اللاهوت المسيحيّ في أعماقه، وتفرض علينا أن نشوِّه قراءتنا للإنجيل المقدَّس؟

1- يعقوب بن يوسف أخو يسوع

على ''معظمة''(1) أو صندوق حجريّ تُوضع فيه العظام، وُجدت كتابة في اللغة الآراميّة، ونحن ندوِّنها في الحرف العربيّ بدون اتّصال: ي ع ق و ب. ب ر. ي و س ف. أ ح ه. د ي ش و ع. لفظ »ب ر« يعني: »ابن«. كما في السريانيّة: برا. »أ ح ه« تعني »الأخ« مع الضمير (الهاء) الذي يمكن أن يدلّ على أنّ الاسم مضاف ويتبعه المضاف إليه. وهكذا يصبح النصّ: »يعقوب بن يوسف أخو يسوع«.

ظهر مقال عن هذه المدوِّنة في مجلّة علميّة: »مجلّة الأركيولوجيّا البيبليّة«(2). أمّا كاتبه فالسيِّد أندره لومير من المدرسة العمليّة للدراسات العليا المرتبطة بجامعة السوربون(3). ماذا يقول صاحب المقال؟

عاد إلى الأسمائيّات(4) أو دراسة أسماء العَلم وتواريخها، فاكتشف أنّ هناك اسمًا على عشرة أسماء هو يوسف. كيف نعجب من ذلك، وخبر يوسف يملأ القسم الأخير من سفر التكوين! ونقول الشيء عينه عن يشوع. فاسم »يشوع« الذي دخل إلى أرض كنعان من الشرق مع قبيلة أفرائيم، يملأ الأذهان. هنا نتذكَّر أنَّ برأبّا الذي كان لصٌّا وثائرًا، والذي فضَّله اليهود على المسيح، كان اسمه الكامل: »يسوع برأبّا«. أمّا نسبة وجود اسم يعقوب فهي أقلّ من اسمي يوسف ويسوع (في العبريّة يشوع). ويقول أندره لومير: »إذا أخذنا في عين الاعتبار عدد سكّان أورشليم الذي يقرب من الثمانين ألفًا، وعلم الأسماء في تلك الحقبة، نصلُ إلى الخلاصة التالية: لا يمكن أن يوجد أكثر من عشرين اسمًا يكون فيه يعقوب ابن يوسف وشقيق يسوع«. في الواقع، بما أنّ هذه الأسماء الثلاثة كانت متداولة جدٌّا، لا نعجب أن تجتمع هذه الأسماء الثلاثة في البيت الواحد.

ولكن ما يطرح سؤالاً مقلقًا، هو ذكر أخٍ ميت. هنا يضيف الكاتب: بين 2000 أو 3000 معظمة أحصيت ووُضع جدولٌ فيها، لا أعرف سوى حالة واحدة يُذكر فيها اسم »أخ«. فلا بدّ من سبب خاصّ لكي يُسمّى هذا الأخ. ويُنهي السيّد لومير كلامه: »هذا التطابق الهامّ هو ما يجعل التعرُّف على يعقوب أمرًا معقولاً، في درجة أولى، وفي درجة ثانية على يسوع«.

هنا نتذكَّر أنّ يسوع مات في السابع من نيسان سنة 30. أمّا يعقوب الذي لُقِّب بـ »أخي الربّ«، فمات سنة 62 أو 66، بعد أن رجمه اليهود، كما يقول أوسابيوس القيصريّ في التاريخ الكنسيّ(5)، والمؤرِّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفُس في العاديات اليهوديّة(6).

اعتبر أندره لومير أنّ هذه اللوحة تعود إلى سنة 63 تقريبًا، لأنَّ عادة جمع العظام في معظمة، بطُل قبل سنة 70ب.م. هذا يعني أنّنا نستطيع أن نتحدَّث عن يعقوب الذي سُمِّي في أكثر من موضع »أخا الربّ« (غل 1: 19). ولكن إن كان قد مات سنة 66، فهذه اللوحة لا تعني ذاك الذي ألقاه اليهود عن شرفة الهيكل ورجموه.

وفي أيِّ حال، ومهما كان من أمر هذه الكتابة، فيعقوب الذي يُدعى »أخا يسوع«، ليس هو ابن يوسف ومريم العذراء، بل ابن كلوبا ومريم أخرى كانت عند الصليب مع أمِّ يسوع وأخت أمّه ومريم المجدليّة، كما يقول يوحنّا الحبيب في إنجيله (19: 25). ولكنَّنا سنعود إلى هذا في معرض كلامنا على يعقوب. أمّا الآن، فنطرح عددًا من الأسئلة في ما يخصّ هذه المدوَّنة.

الأوّل: ما قيمة هذه اللوحة التي وُجدت منذ زمن بعيد، وكُشفت الآن؟ فلماذا كلّ هذا الانتظار إذا كان لها كلُّ هذه الأهمّيّة؟ ووجودُها عند شخص فرد، على علاقة خاصّة بصاحب المقال، تطرح سؤال استفهام آخر.

الثاني: حين دُرست الكتابة تبيَّن أنّ القسم الثالث أي: »ا ح ه. د ي ش و ع«، قد أضيف في ما بعد. وحرف »الدال« (»د ل ت« في الآراميّة) الذي يسبق لفظ يشوع، يرد في خطّ مختلف عمّا قبله. والشكّ يحوم حول حرف »الياء« من اسم »يشوع«. وإن وُجدت كتابة تذكر أنّ فلان هو أخو فلان، فلكي تدلّ على عظمة هذا الأخ. هنا نتذكَّر، في مثل بعيد، أنّ غاليون حاكم كورنتوس سنة 51-52، كان شقيق سينيكا، لأنّ هذا الأخير كان معلِّم نيرون.

من أجل هذا نطرح السؤال: من دوَّن هذه الكتابة؟ إذا كان اليهود هم الذين دوَّنوها، فقد يكونون اعتبروا أنّ يسوع شخصيّة كبيرة.

ولكن ما كانوا يقولونه عن يسوع وأمِّه، وقد دوِّن في التلمود، يكفي لنقول إنّهم لم يرَوا في يسوع سوى إنسان وُلد من زنى. وإذا كان المسيحيّون دوَّنوها، فهم أرادوا أن يرفعوا من شأن يعقوب الذي اعتُبر من عُمد الكنيسة (غل 2: 9). ولكن، هل كان باستطاعتهم أن يذكروا اسم يسوع كتابة، ساعة يخبرنا سفر الأعمال أنّ المجلس اليهوديّ منع بطرس ويوحنّا من أن يعودا إلى ذكر اسم يسوع أمام أحد (4: 17)؟ بل يقول رئيس المجلس للرسل، قبل أن يُجلدوا: »أمرناكم بشدَّة أن لا تعلّموا بهذا الاسم« (أع 5: 28).

الثالث: ما إن عُرفت الكتابة ونُشرت في الصحف الواسعة الانتشار، حتّى قيل لنا إنّها كُسرت وهي في طريقها إلى تورنتو (الولايات المتّحدة). أهذه هي المرّة الأولى التي تُنقل آثار وتُحف من موضع إلى آخر؟ لماذا لم تتشوَّه لوحةُ الجوكوندا حين نُقلت إلى أكثر من بلد؟ ثمّ يقال إنّ صاحب اللوحة لم يُعلم الدولةَ باللوحة التي أرسلت.

الرابع: ونطرح سؤالاً أخيرًا: في أيّ إطار وُجدت هذه اللوحة؟ قيل وُجدت في سلوان، قرب مدينة داود وعبر وادي قدرون. أمّا سائر المدوَّنات فوُجدت في موضع آخر. في أيّ حال، ما زال الغموض يلفُّ هذه اللوحة. ولكن حتّى وإن كانت صحيحة مئة في المئة، فهي لا تعني لنا شيئًا بالنسبة إلى يعقوب أخي الربّ، وإلى يوسف مربّي يسوع، وإلى يسوع المسيح الذي وُلد من عذراء، كما قال متّى الإنجيليّ: ولدت يسوع ويوسف لم يعرفها، أي لم يعش معها حياة زوجيّة. ولنا العودة إلى الكلام عن بتوليّة مريم أمِّ يسوع(7).

 

2- يعقوب أخو الربّ

إذا عدنا إلى العهد الجديد، نقرأ اسم »يعقوب« اثنتين وأربعين مرّة. فهناك يعقوب بن زبدى، الذي هو شقيق يوحنّا، واسم أمِّه سالومة. وبحسب يوحنّا هي شقيقة أمّ يسوع: »كان عند صليب يسوع أمّه وأخت أمّه«. وإن نحن قرأنا مر 16: 1 وقابلناه مع يو 19: 25، نقرأ اسم سالومة مع مريم المجدليّة ومريم أمّ يعقوب. فيعقوب هذا هو أخو يوسي (تصغير يوسف)، الذي كانت أمُّه مريم عند الصليب مع مريم المجدليّة، كما يقول مرقس أيضًا (15: 47).

وهناك يعقوب بن حلفى الذي يُذكر بين الاثني عشر (متّى 10: 3؛ مر 3: 18؛ لو 6: 5؛ أع 1: 15). غير أنّنا لا نعرف عنه شيئًا. يُكتب الاسم دومًا مع بن حلفى، ويرد في الدرجة التاسعة بين الرسل. يسمّيه التقليد يعقوب »الأصغر« لكي يميِّزه عن يعقوب »الأكبر« شقيق يوحنّا. وهناك يعقوب، أبو يهوذا الذي ليس يهوذا الإسخريوطيّ (لو 6: 16؛ أع 1: 13).

وأخيرًا، هناك يعقوب ابن مريم، أي أخو الربّ. لعب دورًا كبيرًا في كنيسة أورشليم (غل 2: 1-10)، ولا سيّما خلال ذاك الاجتماع الذي تقرَّرت فيه حرّيّةُ المؤمنين الآتين من العالم الوثنيّ، بالنسبة إلى الشريعة الموسويّة (أع 15: 1-20). إنّ يعقوب هذا رأى الربّ القائم من الموت، كما قال بولس الرسول (1كور 15: 7). وفي النهاية، به ترتبط رسالة يعقوب. أمّا رسالة يهوذا فتبدأ: »يهوذا عبد يسوع المسيح وأخو يعقوب« (آ1).

وهكذا تعرَّفنا حتّى الآن إلى ثلاثة إخوة: يعقوب، يوسي، يهوذا. أمّا الرابع فهو سمعان، على ما نقرأ في الإنجيل. إذ سمع الناس يسوع »بُهتوا قائلين: ''أليس هذا هو النجّار ابن مريم وأخو يعقوب ويوسي ويهوذا وسمعان؟« (مر 6: 3). هنا خلطَ كثيرون بين مريم ومريم: أمّا التمييز فلا يكون واضحًا إلاّ في إنجيل يوحنّا، حيث التوازي واضح جدٌّا: أمُّه وأخت أمّة من جهة، ثمّ مريم كلوبا ومريم المجدليّة من جهة أخرى.

نشير هنا إلى طريقة مرقس في الكلام على يسوع، والتشديد على الطابع الإنساني لدى من هو »المسيح وابن الله« (1: 1). فيسوع هو ابن عشيرة واسعة، فيها الإخوة والأخوات (مر 6: 3). هؤلاء خافوا على نفوسهم، فحاولوا أن يردّوا ذلك »الثائر على التقاليد« إلى حظيرة العائلة الكبيرة. يقول الإنجيليّ في لغته الواقعيّة جدٌّا: »ولمّا سمع أقرباؤه خرجوا ليمسكوه، لأنّهم قالوا إنَّه مختلّ« (مر 3: 21). فهؤلاء »الأقرباء« صاروا في 3: 32 »الأمّ والإخوة«. ولكنَّ يسوع سوف يوسِّع عائلته وعشيرته. هي تضمُّ جميع المؤمنين: »من يصنع مشيئة الله هو أخي وأختي وأمّي« (مر 3: 35).

إذا كان يعقوب ويهوذا ويوسي وسمعان الذين يُدعَون إخوة يسوع هم أبناء مريم وكلوبا، فلا يمكن أن يكونوا إخوة يسوع الذي هو ابن مريم ويوسف. عندئذٍ نفهم لفظة »أخ« على أنّها تعني ابن العمّ. هنا نتذكَّر أنّنا لا نجد لفظة »ابن العمّ« في الكتاب المقدَّس، بل »أخ« فقط. وتبعت السبعينيّة اليونانيّة الطريقة الساميّة، فتحدَّثت عن »الأخ« مع أنّها تمتلك لفظة تعني »ابن العم« أو النسيب(8). كيف حاول التقليد أن يشرح هذه »الأخوّة«؟ من قرأ نصّ يو 19: 25 قراءة صحيحة مع التوازي الواضح، فهم أنّ يسوع كان ابن عشيرة واسعة، فيها يُسمّى الأقرباء »الإخوة والأخوات«. والذين توقَّفوا عند القراءة الحرفيّة، اعتبروا أنّ يوسف تزوَّج مرّة أولى، فكان ليسوع هؤلاء الإخوة الأربعة الذين ذكرنا. ثمَّ كان له يسوع من مريم العذراء. أوّل نصّ نقرأه في هذا المجال، هو الإنجيل المنحول، إنجيل يعقوب (9: 2؛ 19: 1-20: 3) الذي شدَّد على أنّ مريم ظلَّت بتولاً بعد ولادة يسوع.

نودُّ هنا أن نقول إنَّ إنجيل متّى وإنجيل لوقا يتّفقان على القول بأنَّ مريم كانت مخطوبة ليوسف. فنتذكَّر أن الشابّ كان يُخطب في السابعة أو الثامنة عشرة، والفتاة في الثالثة أو الرابعة عشرة من عمرها. هذا يعني أنّنا لا نتبع الأناجيل المنحولة حين تتحدَّث عن يوسف الذي خطب مريم، وقد امتدّت به السنون. أمّا الكلام عنه بأنّه النجّار، فلا يعني أنّه كان جاهلاً أمّيٌّا. فمن المعلوم أنّ اليهوديّ التقيّ كان دومًا يُتقن صنعة يدويّة. وهكذا لا يُجبَر على التسوُّل إن جارت به الأيّام وأجبر، لسبب من الأسباب، على ترك أرضه. أما هذا كان وضع الذي جمع العمل الدنيويّ في طرسوس، موطنه، والعلم الدينيّ في أورشليم، عند قدمي غملائيل (أع 22: 3؛ رج 5: 34)، ومع ذلك أتقن صناعة الحياكة، عنيت به بولس الرسول؟ فحين جاء إلى كورنتوس، جعل يعمل مع أكيلا وبرسكلة امرأته، في صناعة الخيام (أع 18: 1-3). في هذا المعنى نستطيع أن نفهم أنّ يوسف اتّخذ مهنة النجارة، ومثله فعل يسوع الذي قيل فيه: »النجّار ابن مريم« (مر 6: 3). نلاحظ أنّ النصّ لم يذكر والده كما هي العادة، بل والدته. وهذا ما نجده أيضًا في الكلام على نسب يسوع. فبعد أن ذكر متّى الأجداد بدءًا بإبراهيم وامتدادًا إلى داود، قال في النهاية: »يعقوب ولد يوسف، خطّيب مريم التي منها وُلد يسوع« (مت 1: 1). وهكذا شدَّد الإنجيل على ولادة يسوع من أمٍّ بتول. وقيل عن يسوع أيضًا: »هو ابن النجّار« (مت 13: 55). فيوسف الذي كان الناس يعتبرونه والد يسوع، كما يقول لوقا (3: 23)، كان عارفًا بالشريعة. وهو الذي علَّم يسوع كما يفعل كلُّ أبٍ مع ابنه. وفي الثانية عشرة يكون الامتحان الذي به يُصبح الفتى »ابن الوصيّة«. ولمّا جاء دور يسوع »بُهتوا من فهمه وأجوبته« (لو 2: 47). وما يدلُّ على نباهة يوسف، هو أنَّه لمّا عاد إلى فلسطين، بعد أن هرب إلى مصر، فهم الخطر الذي يتهدَّد الصبيّ. فقال الإنجيليّ عنه: »لمّا سمع أن أرخيلاوس يملك على اليهوديّة عوض هيرودس، أوحيَ إليه في حلم، فانصرف إلى نواحي الجليل« (مت 2: 21). لا شكّ في أنّ الإنجيليّ أراد أن يقدِّم عبرة دينيّة. ولكنّ هذه العبرة تستند إلى الفطنة والتمييز لدى يوسف الذي سوف يتساءل قبل أن يأخذ امرأته إلى بيته. ولكنّ الحكمة البشريّة لم تكفِ في هذا المجال العجيب. من أجل هذا قال له الربّ في الحلم: »يا يوسف ابن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك، لأنّ الذي حُبل به فيها هو من الروح القدس« (مت 1: 20).

 

3- بتوليّة مريم

كلُّ هذا يقودنا إلى الكلام على مريم البتول. لأنّنا إن أخذنا بقراءة المدوَّنة، كما اقترح أندره لومير، مع معقوليّة كبيرة، تصبح مريم أمّ عائلة كبيرة، فلا تعود تفترق عن أيّ امرأة في أرض فلسطين. هذا ما يريد العالَم اليهوديّ أن يقوله اليوم عن مريم، تلك الإمرأة العاديّة، وعن يسوع ابنها الذي هو إنسان وحسب. فلا يضاهي واحدًا من الأنبياء ولاسيّما موسى. وجاء من سار في خطّ العالم اليهوديّ، مع أنّ المسلمين أنفسهم يُقرُّون بشرف تلك التي وُلد منها من فيه روح الله، ويتحدَّثون عن »الابن الأكبر« الذي ولدته مريم. ويستنتجون: إذن، هناك إخوة كثيرون. لاشكّ في ذلك وبولس الرسول يقول في الرسالة إلى رومة عن يسوع الذي هو »بكر إخوة كثيرين« (8: 23). بل »هو بكر كلِّ خليقة«، كما نقرأ في كو 1: 15. أمّا صفة »البكر« التي ترتبط بالابن الذي يفتح رحم أمّه، فهي تجعلنا في إطار الطقوس. فهناك واجبات الافتداء على ما صُنع ليسوع وهو ابن أربعين يومًا. نحن نقرأ في سفر الخروج: »قدِّس لي كلَّ بكر، كلَّ فاتح رحم من الناس ومن البهائم. إنَّه لي« (13: 2). فسواء جاء أولاد بعده أم لا، فيجب أن يكون مكرَّسًا لله. أمّا بالنسبة إلى يسوع، فقدَّم عنه والداه تقدمة الفقراء: »زوجي يمام أو فرخَيْ حمام« (لو 2: 24). هنا نذكر كتابة على أحد مدافن رومة تقول عن امرأة إنّها ماتت وهي تضع ابنها البكر. أتراها وضعت أولادًا آخرين بعد موتها؟ ويجادل من يريد أن يجادل حول كلمة »حتّى« كما في إنجيل متّى: »لم يعرفها حتّى ولدت ابنها البكر« (1: 25). ويستنتج من يريد أن يحطّ مريم ليرفع يسوع: إذن، عرف يوسف مريم بعد أن ولدت يسوع ولادة بتوليّة. بينما النصّ لا يقول شيئًا. سبق وتحدَّثنا عن الذين دعاهم الإنجيل إخوة يسوع. فهم أبناء العم والأقرباء والأنسباء. وإن كان ليوسف ومريم أولاد عديدون، فلماذا يسلّم يسوع أمَّه إلى التلميذ الذي كان يحبُّه (يو 19: 26)، »فأخذها إلى بيته«؟ هذا يعني أنّ يسوع كان وحيد أمِّه.

هنا نودُّ أن نقدِّم قراءة خاصّة بأناجيل الطفولة. فهي تعليم للمسيحيّين. ولكن حين نتذكَّر أنّها آخر ما كُتبت في الأناجيل، كمدخل لاهوتيّ يُلقي بضوئه على حياة يسوع وموته وقيامته، لا نعود نقرأها وكأنّها قصّة مشوِّقة أو تقريرًا حسّيٌّا، ملموسًا، عمّا حصل. نبدأ فنقول: إن كان الملاك هو الذي بشَّر العذراء مريم، فالملاك روح، وبالتالي لا يُرى. يجب أن نفهم أنّ الملاك يدلّ على حضور الله الذي يجب أن لا يُذكر. إذن، نالت مريم لقاء مع الربِّ نفسه الذي كلَّمها في أعماق قلبها. وهذا الحوار لم يدم لحظة واحدة، لحظة الرؤية، بل رافقها طوال حياتها. فهذه النَعم التي قالتها مريم (»ها أنا أمة الربّ«) ظلّت تقولها حتّى الساعة الأخيرة من حياتها على هذه الأرض.

ونلاحظ أنّ إنجيلَي متّى ولوقا اللذين دُوِّنا حوالي سنة 85، أي بعد أن تركت مريم هذا العالم، شدَّدا على ولادة يسوع من بتول. لماذا؟ ردًا على ما كان اليهود يقولون عن حبل مريم. حين قالت مريم للملاك: »كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً؟« (لو 1: 34)، كان بإمكانه أن يقول لها: »أنت مخطوبة. فحين تمضين إلى بيت زوجك، تعرفين هناك رجلاً. وهذا الرجل هو يوسف خطّيبك«. بما أنّ الملاك لم يقل شيئًا من هذا، فمريم التي كانت مخطوبة ليوسف، وعت أهمّيّة البتوليّة بالنسبة إليها والتكريس التامّ لمن هو القدّوس وابن الله. فالإنجيليّ لوقا حين كتب ما كتب، أراد أن يذكر ما تقوله الكنيسة في أيّامه، أي في نهاية القرن الأوّل المسيحيّ. وفي الإطار عينه، نستطيع أن نفهم كلام القدّيس متّى على يوسف: »كان بارٌّا« (1: 19). البارّ هو من يعمل مشيئة الله. فلو كان يوسف بارٌّا في المنطق اليهوديّ، لوجب عليه أن يطلب رجم امرأته إن ظنَّها زانية، وهكذا يُقتلع الشرّ من قلب الجماعة. ولكنّه لم يفعل. إذن، ليس بارٌّا بحسب هذا المنطق. ولو كان بارٌّا في المنظار المسيحيّ، لوجب عليه أن يغفر لها ولا يتركها سرٌّا أو علنًا. ومع ذلك، يقول النصّ: »أراد تخليتها سرٌّا« (مت 1: 19). إذن، ليس بارٌّا في المنطق المسيحيّ. لهذا، يجب أن نبحث عن منطق يرتفع فوق الممارسة اليهوديّة والممارسة المسيحيّة. هو منطق البتوليّة.

على يوسف أن لا يعرف امرأته، كما على مريم أن لا تعرف رجلاً. لم تفهم مريم، ومع ذلك قالت: »ها أنا خادمة للربّ«. ويوسف لم يفهم. ومع ذلك، قال عنه الإنجيليّ: »فلما استيقظ يوسف من النوم، فعل كما أمره ملاك الربّ وأخذ امرأته«. أطاع، قبل أن يرتفع فوق منطق البشر، على ما سيقوله يسوع حول الذين يكرِّسون ذواتهم »لأجل ملكوت السماوات« (مت 19: 12). لم يستطع الفرّيسيّون أن يفهموا، بل التلاميذ أنفسهم ما استطاعوا أن يتقبَّلوا مثل هذا الكلام. فكان كلام يسوع واضحًا: »من استطاع أن يقبل فليقبل«.

استطاعت مريم أن تقبل، فما عرفت رجلاً. عاشت البتوليّة مع يوسف. مثلُ هذا الشرح لا يفهمه من يتوقَّف عند المعنى الخارجيّ لكلمات الإنجيل. فيجب من خلال قراءتنا للنصوص، أن نذهب إلى عمق معناها. عندئذٍ نفهم شخصيّة مريم العذراء. هذه الفتاة التي شابهت، خارجيٌّا، كلَّ فتاة في الناصرة، حبلت كما لم تحبل أمّ في الدنيا. وسوف تعيش الأمومة والبتوليّة معًا، وهذا ما لم يكن، ولن يكون لفتاة في الكون. وسوف يرينا إيّاها سفر الرؤيا وهي تلد »ابنًا ذكرًا عتيدًا أن يرعى جميع الأمم بعصا من حديد« (12: 5).

 

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا. انطلقنا من كتابة أرادت بعض الدعاية أن تستغلَّها لكي تجعل من يسوع إنسانًا عاديٌّا، عاش في وقت من الأوقات وكان له الإخوة والأخوات. فيسوع الذي وُلد في محيط يهوديّ، وعاش كما يعيش اليهوديّ، فيُختَن ويقدَّم إلى الهيكل ويصبح ابن الوصيّة... يجب أن يبقى يهوديٌّا، ولا يخرج من عالمه الضيِّق الذي عرفه في فلسطين. في الخارج كان كذلك. وقد أراد بعض تلاميذه أن يسجنوه داخل أرض إسرائيل فيبحث فقط عن الخراف الضالّة (مت 10: 6؛ رج 15: 24)، ولا يخرج إلى السامرة وإلى العالم الوثنيّ. ولكنّ نداء يسوع الأخير كان واضحًا، بعد القيامة: »إذهبوا إلى العالم كلِّه«. أجل، لا نستطيع أن نحصر يسوع في شعب من الشعوب، وفي أرض محدَّدة، بل هو إفريقيّ في أفريقيا، وآسيويّ في آسية، وأميركيّ في أميركا... كان بإمكانه أن يولد في أرض غير أرض فلسطين. أفيقبل أهل فلسطين أن يُحرموا من حضوره؟ ولكن بما أنّه وُلد في فلسطين، فهو في الواقع يُولدَ في كلِّ أصقاع الأرض، لأنّه ابن الإنسان وابن الله معًا. لهذا تميَّزت أمُّه عن جميع الأمّهات، وتميَّز يوسف مرّبيه عن سائر الآباء، فعاش برارة لا يمكن أن يقبل بها إنسان من دون نعمة فريدة من عند الله.

حين كُشفت مخطوطات نجع حمادي في الجنوب المصريّ، وحدَّثتنا عن معرفة باطنيّة، قالت الصحف إنّ يوحنّا استقى إنجيله من هذا المعين ''الغنوصيّ'' المبنيَّ على المعرفة الباطنيّة. ومع الزمن، فهم الشرّاح أنّ الغنوصيّة هي التي استقت من الإنجيل الذي أخذ عبارات عن المعرفة في محيطه، ورفعها إلى مستوى معرفة الله داخل التقليد الرسوليّ. وحين كُشفت مخطوطات قمران قرب البحر الميت، اعتبرها »المتسرِّعون« أنّها ينبوع إنجيل يوحنّا، بل ينبوع تعليم يسوع الذي عاش مع الذين دُعوا »أسيانيّين« لأنّهم يحملون الشفاء (رج فعل »آسى« في العربيّة) إلى البشر. ومع الوقت، تبيّن ابتعادُ يسوع وتعليمه عن هؤلاء الذين تعبّدوا للشريعة، وظلّوا يحنّون إلى كهنوت يمارسونه حين يموت الكاهن الكافر، إبن السلالة الحشمونيّة الحاكمة في أورشليم. وفي كلّ فترة، هناك اكتشاف جديد، والحفريات تتواصل. ففي سنة 1961، كُشف اسما طيباريوس وبيلاطس في قيصريّة البحريّة. وفي سنة 1969، وُجد جسمُ مصلوب غُرز مسمارٌ في رجليه. وأخيرًا، نُشرت هذه الكتابة التي تتحدَّث عن »يعقوب الذي هو ابن يوسف وأخو يسوع«. وأراد ناشرُها أن يقرأ فيها أكثر ممّا تحوي. فهي في أقصى الحالات تقدِّم لنا ثلاثة أسماء انتشرت انتشارًا واسعًا في أرض فلسطين. لكنَّها لا تقول لنا شيئًا عن يعقوب الذي يذكره الإنجيل ويذكر كلوبا أباه ومريم أمَّه، والذي لا يمكن أن يكون، في مفهومنا العصريّ، أخًا ليسوع، الذي كان أبوه يوسف وأمّه مريم. وفي النهاية، نعود إلى ما قلنا في البداية: معرفتنا ليسوع تتعدّى الإطار البشريّ الذي عاش فيه. فيسوع نصل إليه بالإيمان. أمَا هذا الذي قاله يسوع لتوما بعد قيامته: »طوبى للذين لم يروا وآمنوا« (يو 20: 29)؟!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM