الفصل التاسع: الحياة الأبديّة في كتابات القديس يوحنا

الفصل التاسع: الحياة الأبديّة في كتابات القديس يوحناِ

 

الحياة الأبديّة في كتابات يوحنا أي في الانجيل والرسائل والرؤيا موضوع مهم، ليس فقط بسبب المرات التي تُذكر فيها هذه العبارة (96 مرة)، بل بسبب الجديد الذي نجده فيها. »فمدرسة« يوحنا التي فيها دُوّنت هذه الكتابات، تبدو كمجموعة أناس تأثَّروا بشخصيّة فذّة هي شخصية ذلك الذي عاش مع المسيح، بل ألقى برأسه على صدره (يو 13:25) ليفهم أعظم تعليم وأعمقه. والكنيسة التي تحيط بهذا الرسول، لا يمكنها إلاّ أن تحافظ في وجودها على الحياة الالهية التي سلّمها إياها يسوع، وأعلنها الشهود الأولون. فسفرُ الرؤيا يرفع أنظارنا إلى السماء، ويقدِّم في زمن الاضطهاد التعزية العميقة والنهائية التي هي الحياة الأبديّة ببُعدها الاسكاتولوجي. وتقدّم رسالة يوحنا الأولى نظرة الرسول الى الحياة الابدية، فتربطها بتعليمه عن يسوع المسيح الذي جاء في الجسد. أما الانجيل، فيعمّق الرباط الثالوثي لهذه الحياة الابدية، ويشدّد على مسيرتها في قلب الكائن البشري.

 

1- سفر الرؤيا

السيّد الاول للحياة هو الله. هذا ما يقوله سفر الرؤيا. يتحدّث عن الرب »الجالس على العرش والحي الى أبد الدهور« (4:9؛ رج 7:12؛ 10:6؛ 15:7). هذا الحي هو يسوع. إنه الحي وحده. ولكنّه كان ميتاً. أمّا الآن فهو حي أبد الدهور، »مات ولكنه عاد إلى الحياة« (1:18؛ 2:8).

وتَبرز هذه الحياة المتحدة بالله، في نظرة الكاتب الى الحيوانات (او الكائنات الحيّة) الاربعة(1) التي تتدخّل في الكتاب عشرين مرة. إنها تمثّل الواقع القريب من الله، وهذا الواقع يتجدّد حياة، إمّا بأنه تعبير عن هذا الاله في علاقته بالكون، وإمّا بأنه تعبير عن الخليقة في علاقتها بالله. ولكن كل هذا يدل على أن الواقع الحميم للعلاقة بالله يتحدّد كمبدأ حياة.

ويُلمح سفر الرؤيا أيضاً الى موضوع الحياة، لا ليحدّد خليقة ملموسة فحسب(2)، بل ليُبرز وجهات جوهريّة من تاريخ الخلاص. مثلاً: الحياة العابرة للوحش (13:14) الذي هو واقع ديني وسياسي معاً، والذي سيُطرح حياً في بحيرة النار أي في جهنم (19:20). ولكن الحياة تحتفظ في معناها الديني بطابع اتحاد قوي بالله. لهذا يُتّهم اسقف سارديس، لأنه حي بالاسم مع أنه ميت (3:1). فالمهمّ في نظر الله ليست الظواهر، بل الحياة الداخلية التي يستطيع من خسرها ان يستعيدها شرط أن يتوب توبة حقيقية. ويشير النص أيضاً الى الحياة الالهية في الانسان حين يملك المسيح على الارض مُلكاً رمزياً يدوم الف سنة(3): يحيا الأبرار ويملكون، مع أن القيامة الاخيرة لم تتمّ بعد (20:5). ولكن كل حياة المسيحي هي منذ الآن مشاركة في حياة المسيح ومجده.

ويصوّر سفر الرؤيا المرحلة الاخيرة من الحياة المسيحية باستعارات ترجع بنا الى الحياة. فما يسبّب القيامة الواحدة هو نسمة حياة تخرج من الله وتدخل في الكائن البشريّ(4). هذا ما صنع الله في أيام الخليقة الأولى (تك 2:7؛ رج حز 37:5، 10). والواقع الأخير الذي بلغه الظافر المنتصر، هو واقع ملء الحياة الذي يمثّله سلّماً من الألوان غنياً: فالغالب ينال جزاءه الحياة الأبدية حين يُعطى له »اكليل الحياة« (2:10). أمامه تنفتح أبوابُ الفردوس التي أغلقت في وجهه في البداية. فصار باستطاعته أن يصل إلى شجرة الحياة(5) التي تحمل ثماراً دائمة وتنتج الحياة الأبدية والطعام الأبديّ (22:2). من يحق له أن يقترب من شجرة الحياة (22:4)؟ الغالب الذي يتسلم السلطان على الشجرة كعطية من الله والمسيح. وان الحمل يقود الغالب أخيراً إلى ينابيع مياه الحياة (7:17)، إلى نهر ماء الحياة الذي يجري من »عرش الله والحمل« (22:1)، فيسقي العطشان (21:6). يسقي ذلك الذي طلب الحياة (22:17) ويعطيه اياها كهبة مجانية(6). والحمل يقود من يظهر في »كتاب الحياة« (20:12: حيث أسماء المختارين)، من كتب اسمَه اللهُ بنفسه (21:27)، ولم يُمحَ بيد المسيح (3:5)، لأنه دنّس اسم المسيح وجعل نفسه خارج تاريخ الخلاص(7).

 

2- رسالة يوحنا الأولى

لا تنسى رسالة يوحنا الأولى (1 يو) الوجهة الاخيرة للحياة الأبديّة، وكلها تُعير انتباهها إلى هذه الدنيا وإلى الآن، إلى جوهر هذه الحياة الحاضرة في تاريخ المسيح الخلاصي، والفاعلة في الوجود الآني لكل مؤمن. ولكن الحياة الأبديّة تقتني، في نظر 1 يو، بُعداً أصلياً في شخص الله الآب. قال: »الحياة الأبديّة كانت لدى الآب« (1:2). غير أن هذه الحياة كانت شخصاً يواجه الله وينال من الآب كل ديناميته وحياته. إذاً، كان الحياةَ »التي وُجدت منذ البدء« ووُجدت على أنها »كلمة الحياة«، وكأنها الحياة التي تصل إلى الآخرين حين نحمل اليهم تعليم الله. إذاً، تجلت الحياة (1:2). إن الحياة التي هي الكلمة، تجلت كتأوين لحياة الله في كل وجود يسوع الناصري منذ تجسد الكلمة. وهكذا استطاع شهود أن »يسمعوا ويروا ويلمسوا كلمة الحياة« (1:1)، واستطاعوا أن يختبروها على أنها تعليم ينتقل الينا. وقد نقلوا هذه الكلمة (1:3) من أجل اتحاد حياتيّ بين البشر، ومشاركة في الحياة الابدية، في حياة الله. وهذه المشاركة توحّد البشر بعضهم مع بعض، وتوحّدهم ايضاً بالله وبابنه يسوع المسيح في حياة يُنتج مدلولها الحياتي ملءَ الفرح(8).

ما أعلنه كلمة الحياة هو »الحياة الابدية« (2:25)، على أنها »وعد« أي واقع مستمرّ منذ هذه الدنيا، وذو بُعد نهائي واسكاتولوجي بعيد عن الموت. ولكن النصر على الموت قد بدأ، »لأننا نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحب الاخوة« (3:14). إذاً، من الواضح أن الحياة الأبدية، الحياة الالهية، هي حياة حبّ تقتل في الانسان الموت الاول، موت الأنانيّة والخطيئة. لأن »من لا يحبّ يثبت في الموت« و»من يُبغض أخاه هو قاتل«. انه يزيل الحياة، ولهذا »لا تثبت الحياة الأبديّة فيه« (3:15).

غير أن 1 يو أرادت أن تتعمّق تعمقاً أكثر في الطريقة التي بها تكون الحياة الأبديّة (حياة الله) محبة، فقالت: »الله نفسه هو محبة« (4:8). وحياته هي حياة محبّة، تنتقل في المحبة وتولّد المحبة. »الله محبة«، وهو الذي خلق المحبة، وهو يبلغ حدود المحبّة حين يرسل ابنه »لنحيا به« (4:9)، لنحيا من حياته الخاصة، من حياة المحبة. وهكذا يولّد حبّ الله للعالم، ديناميّةَ حبّ جديد نحو البشر (4:11) الذين يقتدون بمحبة الله. والذي يمتلك الخيرات التي تفيد لحياة الأرض والتي تولّد الشهوة (2:16)، فينغلق عليها. من الواضح أن مثل هذا الانسان لا تثبت فيه محبة الله ولا حياته (3:17). فالحب الحقيقي للانسان يأخذ ديناميته بالرجوع الى الله والى ارادته ووصاياه (5:2). وهذه هي الطريقة الوحيدة للانسان، لكي يرتفع فوق ذاته ويفتدي ذاته من أنانيّته(9).

إذاً، أنت تجد الإيمان بجانب الحب، ذاك الإيمان الذي هو حافز الحب ومحركه. وفي ينبوع هذا الإيمان، نجد رسالة ابن الله مع كل ما تتضمنه هذه الرسالة. »فالذي يؤمن« بابن الله، كما يقول صاحب 1 يو، أي الذي يهب ذاته لابن الله، يحتفظ في داخله بمضمون الشهادة التي يؤدّيها الله لابنه. وجوهر هذا التعليم هو أن الله أعطانا الحياة الأبدية، وأن هذه الحياة هي في ابنه (5:11). فمن حفظ الابن في داخله، من جعل تعليم الابن في داخله كانت الحياة فيه. ومن لا يكون الابن في داخله، لا تكون الحياة في داخله(10).

وأخيراً يختم صاحب 1 يو كلامه كما بدأه: »أكتب إليكم بهذا لتعرفوا أن الحياة الأبدية لكم، أنتم الذين يؤمنون باسم ابن الله« (5:13)، أي أنتم الذين تهبون له ذواتكم فتعترفون به كالابن وتنقادون لحياة الله التي تأتيكم في ابنه. إذًا  هذا الابن هو »الحياة الأبديّة«، وبالتالي »الاله الحقيقي« الذي يفرض علينا أن نتجنّب الأوثان« (أي الهرطقات المتأثرة بالعالم الوثني) (5:21)، فلا نسقط في حياتها العابرة.

 

3- انجيل يوحنا

يتعمق انجيل يوحنا في كل ما يتعلّق بموضوع الحياة الأبدية، ويعرضه بطريقة موسّعة. فهو يعتبر أن أصل الحياة الأبدية يعود الى الله الآب الذي هو الحي (5:26)، »الذي له الحياة في ذاته«. لهذا أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته (5:26). الآب هو مصدر الحياة، وقد أعطى الابنَ أن يكون مصدرَ الحياة مثله. هذا الابن هو الكلمة الذي »به كان كل شيء« (1:3). وما خُلق كانت له فيه الحياة (1:4)، شارك في حياته. فالخلق هو اذن أول تعبير عن حياة الله. وحياة الله هذه هي في قلب الخليقة »نور الناس« (1:4) الأول. إن ديناميّة الخلق هي أوّل تعبير لحياة الله ورغبته من أجل الانسان. ولكن هذا الكلمة الذي كان في العالم مع حياة الله ونوره، »لم يعرفه العالم« (1:10)، لم يُرد أن يتعرَّف إليه. حينئذ أراد أن يقترب من البشر. جاء إلى الشعب الذي اختاره ليكون خاصته الخاصة (1:11 أ). وعن هذا تشهد أسفار العهد القديم(11) التي هي قناة جديدة للحياة الأبديّة. ولكن من أراد أن يتقبَّلها، وجب عليه أن يؤمن (5:47) بذلك الذي تشهد كل الكتب أنه ينبوع الحياة (5:40). ولكن خاصته لم تقبله (1:11 ب). فقام الله بخطوة جديدة، وعمل عملاً خلاصياً جديداً: »والكلمة صار بشراً« (1:14) ليمنح كل يوم حياة أبناء الله لكل الذين (يهوداً كانوا أو وثنيين) يتأمّلون فيه كابن الله ويهبون ذواتهم له، للذين يتقبّلون ديناميّة حقيقته (1:12، 14) التي هي الطريق الوحيدة للبنوّة الإلهيّة (1:13).

وحين نتحدّث عن الإيمان الضروريّ، من أجل هذه الولادة الجديدة، يحدّد الانجيلُ أنه لا يكفي أن نهب ذواتنا ليسوع فنراه يعمل آيات ترضي حاجات الانسان الغريزية (2:23)، بل يجب أن نهب ذواتنا له كذلك الذي تمجَّد فوق الصليب (3:14) لكي نقدر، عبر هذه المشاهدة (19:37)، أن ندرك دينامية الحياة الأبديّة الحاضرة فيه (3:15). وهذه الدينامية هي دينامية حب إلهي (316: ي) تهدف دوماً الى تحريرنا وخلاصنا فلا نهلك. هكذا تولَد الخليقةُ  الجديدة المرتبطة بعطية روح يسوع(12) ونسمته الخلاّقة (20:22) والمالكة لصفات الروح (3:8). وانطلاقاً من هذا الروح الحاضر في يسوع كتعليم من الله، نستطيع أن نقدّم تعبيراً خاصاً بيوحنا: »من يؤمن بالابن كانت له الحياة الأبديّة. ومن لا يؤمن بالابن فلا يرى الحياة، بل يحل عليه غضب الله« (3:36).

ولما ذكر الانجيلي حديث يسوع مع السامريّة، شدّد على أن حياة الله الأبديّة هي في الانسان »عطية« من هذا الاله عينه، وقد حملها مخلص العالم لكل الذين يطلبونها (4:42). إنها الماء الحي (أي وحي يسوع في داخلنا) الذي يروي إرواء نهائياً عطش الانسان ويتحوّل فيه إلى ينبوع ماء يفيض حياة أبديّة (4:14). وإحدى ميزات هذه الحياة الأبديّة هي أن الانسان يختبر أن حياة يسوع التي دخلت فيه بواسطة روحه، تفتح فيه السبيل الحقيقي الذي يقود إلى الله (4:23 ي).

والآيات التي بها يتجلّى يسوع في الانجيل الرابع تبيّن، عبر الرموز، نظرة القدّيس يوحنا إلى الحياة الأبديّة. فشفاء ابن الضابط الملكيّ يبيّن كيف أن ذلك المشرف على الموت (4:37، 39)، رأى الحياة آتية إليه بواسطة كلمة يسوع (4:5- 53). وشُفي مريض بيت حسدا(13) (5:6، 9، 11؛ 7:23) شفاء روحياً وجسدياً حين قال له يسوع: »قم« (5:8). هذه الكلمة تشير إلى القيامة. وهكذا نفهم أن تشدّد الخطبةُ اللاحقة على شخص يسوع الذي هو ينبوع حياة. وينبّهنا الانجيلي إلى أن اليهود أرادوا أن يقتلوا يسوع (5:17 أ) بسبب الدور الذي لعبه في إعطاء الحياة.

وتُبرز الخطبةُ التي تفسّر عمل يسوع، مشاركةَ الاب والابن في إعطاء الحياة. فيسوع لا يقدر أن يصنع شيئاً من ذاته. فمشاهدة الآب تعطيه القوّة، وهذا ما يدفعه لكي يفعل ما يفعله الآب (5:19). ولكن الآب أحب ابنه فتجلّى له، لأن المحبّة تقوم أساساً بكشف شخصنا للآخر، بوضع قوّة في حياة الآخر. هكذا صنع الله الآب مع ابنه. بيّن له بمحبّته كلّ ما يصنع، فدفعه إلى العمل (5:20). وهذا العمل هو في البدء إقامة وإحياء (5:21: يقيم الموتى ويحييهم). أما الدينونة فستأتي لاحقاً (5:22 ي). وإن السلطة على الحياة، تنبع من الله الآب الذي يمتلك الحياة بنفسه، والذي أعطى الابن أيضاً أن تكون له الحياة في ذاته لأنه ابن الله (5:26). وأعطاه السلطان أيضاً أن يدين لأنه ابن انسان (5:27). والطريقة التي بها يعطي يسوع الحياة الأبديّة، الحياة الإلهيّة، هي كلمته (5:25). فمن سمعها على أنها كلمة مرسل الله، ومن آمن بهذا الاله الذي يتكلّم بفم يسوع، ومن تأثّر بهذه الكلمة، كانت له الحياة الأبديّة بفضل الحياة التي تحملها كلمةُ  يسوع. وهكذا ينتقل من الموت الى الحياة. لهذا، لن تصيب الدينونة مثل هذا الانسان، لأنه صار في الضفة المقابلة، صار في نطاق حياة يسوع (5:24). ولكن لهذه الحياة بُعداً اسكاتولوجياً يضاف إلى البعد الآني(14). فصوتُ يسوع في بُعده الاسكاتولوجي يقيم البشر (5:25) حسب أعمالهم: للبعض قيامة حياة توافق الحياة التي يمتلكونها، وللبعض الآخر قيامة دينونة (أو فصل وانفصال) للذين فضّلوا الابتعاد عن الحياة فعملوا السيئات (5:29).

ونصل إلى آية تكثير الخبز، والخطبة التي تفسّرها والتي توافق نظرة العهد القديم، والتفسير اليهودي الذي يتحدّث عن المن كرمز لكلمة الله: يُبرز الانجيلي وظيفة يسوع كينبوع حياة، ويشير إلى كيفية انتقال هذه الحياة. ولكن القديس يوحنا لا ينسى وظيفة الله الآب الذي هو في النهاية ذلك الذي يعطينا خبز الحياة حين يقدّم يسوع للعالم (6:32). ولا ينسى الانجيلي أيضاً البُعد الاسكاتولوجي فيقول: من يحيا من حياة يسوع يقوم بواسطته في اليوم الأخير (6:36 - 40، 44، 54).

ولكن قوة هذه الخطبة تأتيها من طريقة عرضها للحياة الأبديّة، كأنها واقع آنيّ يعطيه يسوع في هذا العالم. لهذا، حين طلبت الجموع يسوع، دعاها لكي تعمّق مسيرتها بواسطة آية الخبز. أراد لها أن لا تطلبه فقط لأنه يُشبع فيها حاجة إلى طعام ماديّ، بل أن تفهم مضمون عمل شخصي يتيح لها أن تتقبّل الطعام الأبديّ الذي هو ينبوع حياة أبديّة والذي يعطيه يسوع، مرسل الله (6:27). أما اليهود الذين تدفعهم عقليّتهم إلى التشديد على الأعمال، فقد سألوه عن مضمون ما فعله، قالوا: ماذا يجب أن نصنع لنعمل أعمال الله؟ لم يرجع يسوع إلى سلسلة أعمال قام بها، بل أجابهم أن عمل الله (يريده الله ويلهمه) هو الإيمان بمرسله. بهذا الإيمان تكون لهم الحياة الأبديّة.

وإذ أراد يسوع أن يبيّن هذه الحقيقة استعمل صورة مأخوذة من تأويل الرابينيّين (أو المعلمين). قال النص الكتابي: أعطاهم خبزاً من السماء ليأكلوا، فأشار إلى المن. ولكن يسوع حوّل في تفسيره الفاعل والمفعول. ليس موسى هو الذي أعطى خبز السماء، بل أبو يسوع. لم يُعطَ هذا الخبز في الماضي، ولكنّه يُعطى الآن. هو لا يُعطى لليهود بل للمؤمنين. ولكي يكون خبزَ السماء الحقيقي، وجب أن يأتي من السماء وأن يكون طعام حياة حقيقي من أجل العالم (6:31 ي).

ويدعو يسوع كلّ واحد ليختبر الحقيقة التي تتضمنها هذه العبارة: »أنا هو خبز الحياة« (6:35). بهذه العبارة يحدٌّد يسوع نفسه في علاقته مع الانسان: إنه من يغذّي حقاً حياته. وسموّ هذه الحياة يظهر في أن كل من يذهب الى يسوع، أي من يؤمن به ويقدّم حياته له، لن يتحسّر على حياة أخرى، لأن الحياة الالهية المحمّلة بكل معناها تثبت فيه.

والاتحاد بالله في تكوين دينامية الحياة، هو ما يقدّمه يسوع ككفالة الحياة التي يعطيها. يحدّد يسوع نفسه على أنه مرسل الله الذي نزل من السماء ليُتمّ مشيئة الآب الخلاصيّة. وهدفه هو أن يعطي الحياة الأبديّة وأن يعمل من أجل القيامة الأخيرة (6:37 - 40). غير أن هذه الحياة الأبديّة التي نمتلكها قبل القيامة الأخيرة، تفترض لا أن نتأمّل في الابن بطريقة نظرية وحسب، بل أن ننطلق من هذه المشاهدة لنقدّم ذاتنا له (6:40) ونأخذ القوّة من كلمته. وفي هذا العطاء يعمل الله الآب نفسه، لأن العطاء يتمّ انطلاقاً من عمليّة الجذب التي يمارسها الله نفسه حين يقدّم لنا ابنه الذي يجتذبنا. فالله اللامنظور هو من يجتذبنا في يسوع. وهكذا نستطيع أن نقول عمن يفتح قلبه لتعليم يسوع، إنه يتقبّل التعليم من الله نفسه وإنه مدفوع بيد الله (6:44). فمن يهب نفسه ليسوع كانت له الحياة الأبديّة (6:47)، كانت له حياة الله نفسه.

يظهر يسوع وكأنه خبز الحياة لأنه يغذّي هذه الحياة. ولكنه بالأحرى خبز الحياة لأنه الخبز الحيّ (6:51). يستطيع أن يغذّي الحياة الإلهيّة في الانسان، لأنه هو نفسه يشارك في هذه الحياة. إنه في العالم تعبير عن حياة الله، بحيث إن من يأكله تكون له حياة لا تخضع لمبدأ الفساد. وفي هذا المجال، فالخبز الذي يعطيه يهب الحياة للعالم (6:51). إنه عطية حياة مفتوحة على كل البشر. ولن يستطيع أحدٌ أن يمتلك الحياة الأبديّة إن لم يجعل في داخله هذه العطيّة (6:53 ي). وإذ نجعل يسوع في داخلنا، نستطيع أن نتقبّل حياته الإلهيّة. إذن، نستطيع القول إن من يجعل يسوع في داخله يثبت فيه، يتجذّر فيه. بهذه الطريقة يصبح يسوع ينبوع حياة لهذا الشخص (6:56) بعد أن صار ملازماً له.

غير أننا نفهم ملازمة يسوع للإنسان أو حضوره فيه، بطريقة صحيحة لا بمعنى خادع أو وهمي. فالانجيلي يشير إلى الطريقة التي بها تصبح الحياة الإلهيّة حاضرة في الانسان عن طريق الملازمة: »كما ان الآب الذي هو حيّ أرسلني، وأنا أحيا بالآب، كذلك من يأكلني يحيا هو أيضاً بي« (6:57). إذاً، الآب هو الحيّ، هو ينبوع الحياة الأصيل. ويسوع يحيا بالآب الذي أرسله منذ أحسّ في داخله بديناميّة الرسالة، لأنه لا يصنع شيئاً بنفسه، بل انطلاقاً من مهمته كمرسَل. وهذه المهمّة هي »حياة أبديّة« (12:50) وينبوع ديناميّة حي من عالم الله. وبالطريقة عينها، حين يجعل المؤمن يسوع في داخله، فهو يحيا به وينال ديناميّة الحياة الأبديّة المولودة في الله. لهذا يستطيع أن يقدّم نفسه على أنه »الخبز النازل من السماء«، وان يعلن »ان من يأكل من هذا الخبز يحيا الى الأبد« (6:58). فالظواهر الخارجيّة لا تحمل لنا شيئاً، إذا لم يحرّكنا الروح الذي ينقل الحياة الإلهيّة عبر كلمة يسوع (6:63). وعبر هذا الاختبار، تكلّم بطرس باسم الرسل فاعترف قائلاً: »يا ربّ إلى من نذهب؟ فعندك كلام الحياة الأبديّة. أما نحن فقد رأينا وعرفنا أنك قدّوس الله« (6:68 ي).

وفي الصفحات اللاحقة، يقدّم يسوع وجهات أخرى من الحياة الأبديّة. يظهر يسوع على أنه نور الحياة (8:12)، أي ذلك الذي يقدّم حياة الحريّة للذين يلازمون حقيقته (8:32). وهو الراعي الصالح الذي يقود خرافه إلى الحريّة (10:4، 9). فهدفه هو أن يعطيهم حياة فائضة (10:10) بقدر ما يسمعون صوت يسوع، ويتبعونه (10:18). وهذه الحياة هي حياة إلهيّة، ولا يقدر أن يُلغيها حتى الموت نفسه (10:28).

إذاً، يمكننا أن نقول في ختام كلامنا إن يسوع هو »الطريق والحقّ والحياة« (14:6). إنه الطريق المؤدية إلى الحياة، لأنه الحق. وحياة الآب تصبح حاضرة في يسوع. والانسان الذي يسير نحو وحي يسوع بوحي الروح، روح الحق (16:13)، يجد حياة الله الآب. لهذا يُظهر يسوع للانسان على أنه »القيامة والحياة« (11:24، 27). هو يبعث المؤمن انطلاقاً من إيمانه ومن تقدمة ذاته له. وهذه الحياة التي نمتلكها بالإيمان، لا تخضع للموت (11:26).

ولكن حين أراد يسوع أن ينقل إلينا الحياة وجب عليه أن يموت. فالقيامة التي اجترحها يسوع في صديقه لعازر (الذي يمثّل كلّ أصدقائه) ستقوده (يا لسخرية القدر أو بالأحرى يا لعناية الله) إلى الموت. ولكن هذا الموت سينتصر عليه في النهاية مجدُ الله. فابن الله قد تمجّد في موته (11:4). وهو يقدر أن يهب ملء الروح القدس (7:39). فانطلاقاً من هذا التمجيد لدى الله، يستطيع يسوع أن يهب الحياة الأبديّة لكل الذين يقتربون منه بالإيمان (17:2). والحياة الأبديّة هذه تنتقل إلى الانسان بمعرفة الله الواحد والحقيقي الحاضر في مرسله يسوع(15). إذاً، يستطيع كل المؤمنين أن يعتبروا نفوسهم أحياء بحياة يسوع نفسه (14:19).

لماذا كُتب انجيل يوحنا؟ ليُنعش الإيمان بشخص يسوع المسيح الناصري الذي هو المسيح وابن الله. وينطلق المسيحي من عطائه المتدرّج ليسوع هذا فتكون له »الحياة باسمه« (20:30 ي). أي أنه يملك هذه الحياة الإلهيّة النابعة من شخص يسوع. هذا ما حدّثنا عنه سفر الرؤيا حين قال باسم يسوع: »أنا الحيّ، كنت ميتاً وها أنا حيّ إلى أبد الدهور. بيدي مفاتيح الموت والجحيم« (أي مثوى الأموات) (رؤ 1:18). وكانت 1 يو 1:2 قد قالت: »والحياة (أي يسوع المسيح) تجلّت ورأيناها، والآن نشهد لها ونبشّركم بالحياة الأبديّة«. أما الانجيل فجاءت خاتمته لتدعونا إلى الإيمان وتعدنا بالحياة. »دُوّنت هذه الآيات لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله. فإذا آمنتم نلتم باسمه الحياة« (يو 20:31). هذه هي دعوتنا نحن المؤمنين به: أن نشاركه منذ الآن في الحياة الأبديّة.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM