الفصل السادس: انجيل متّى، انجيل الليتورجيا في الكنيسة

الفصل السادس:

انجيل متّى، انجيل الليتورجيا في الكنيسة

إنجيل(1) متّى انطلق من العالم اليهوديّ، فوصل إلى العالم الوثنيّ، وإلى العالم كلّه. إنجيل متّى إنجيل التعليم الأساسيّ في الجماعات مع عظاته الخمس التي تحاول أن تقابل أسفار موسى الخمسة. إنجيل متّى يقدّم الشريعة الجديدة بعد أن ينطلق من الشريعة القديمة الآتية من التوراة ومن ممارسة الشعب اليهوديّ. إنجيل متّى يحدّثنا عن يسوع الذي دخل في سلالة بشريّة بدأت مع إبراهيم وتواصلت عبر الأجيال، ولا تزال تتواصل إلى نهاية العالم، ساعة يجتمع الكونُ كلّه تحت رأس واحد. إنجيل متّى يدخلنا في الكنيسة التي رأسها بطرس، مع الرسل الاثني عشر. والدخول في الكنيسة كجماعة المؤمنين يبدأ في كنيسة صغيرة تلتئم فيها الجماعة أسبوعيٌّا لتذكر الربّ وتنتظر مجيئه. هذا ما نسمّيه الليتورجيا التي هي سلسلة من الأعمال نقوم بها في عبادتنا الأسبوعيّة أو اليوميّة. فما هي الليتورجيا التي نكتشفها في الإنجيل الأوّل الذي اعتُبر منذ بداية التقليد، إنجيلَ الكنيسة فشرحه الآباء وأسهبوا في شرحه؟

نتوقّف هنا بشكل خاصّ عند الجماعة في عيدها الأسبوعيّ وممارستها حياة المحبّة والوحدة. عند التعليم الذي ينطلق ممّا كانت تعيشه الجماعة اليهوديّة ليصل إلى التعليم المسيحيّ وما فيه من جذريّة تبدأ مع التطويبات. وعند الأسرار التي تمارَس في الكنيسة من عماد وتوبة وإفخارستيّا وكلام عن الزواج واهتمام بالمرضى.

1- الاجتماع الأسبوعيّ

حين نقرأ أعمال الرسل الذي دوّنه القدّيس لوقا سنة 85 تقريبًا، فعاصر إنجيل متّى في صيغته النهائيّة، نكتشف الاجتماع حول الرسل: »وكانوا يلتقون كلّ يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب ويسبّحون الله« (أع 2: 46-47). هذا بشكل عام. ولكنّ سفر الأعمال سيبيّن لنا كيف استفاد الرسل من يوم السبت ليحملوا البشارة إلى اليهود وإلى خائفي الله. ذاك ما فعله بولس مثلاً في أنطاكية بسيدية (أع 13: 14). ولكن سيكون لهم يومُهم الخاصّ الذي هو الأحد أو يوم الربّ(2)، حيث يجتمعون بشكل خاصّ من أجل كسر الخبز. هذا ما فعله بولس في ترواس قبل أن يتابع سفرًا يصل به في النهاية إلى أورشليم.

وتشدّد الرسالة إلى العبرانيّين على أهميّة هذا الاجتماع الأسبوعيّ الذي بدأ البعض يتغيّبون عنه كسلاً وتراخيًا، فتقول: »ولا تنقطعوا عن الاجتماع كما اعتاد بعضُكم أن يفعل، بل شجّعوا بعضكم بعضًا على قدر ما ترون أنَّ يومَ الربّ يقترب«(3). في الواقع، يئس المؤمنون بعض الشيء من شعائر عبادة يمارسونها في الخفاء، سواء في البيوت أو الدياميس، وحنّوا إلى الطقوس اليهوديّة وما كان فيها من أبّهة. فحذّرتهم الرسالةُ إلى العبرانيّين(4) من الارتداد لئلاّ يهلكوا (عب 10: 79)، وبيّنت لهم أنّهم حين يفعلون ذلك يصلبون ربّنا مرّة ثانية فتُخرج أرضُهم شوكًا وعشبًا ضارٌّا (عب 6: 4-8).

ذاك كان المناخ الذي وُلد فيه إنجيل متّى حيث أخذ المؤمنون يذهبون تارة إلى »الكنيسة« وطورًا يصلّون مع اليهود الذين يرفضون مسيحانيّة يسوع، وطورًا يصلّون مع المسيحيّين الذين يكتشفون ملء العهد القديم في ما يعيشونه، أسبوعًا بعد أسبوع، في عشاء الربّ. في هذا الإطار، نفهم قساوةَ الإنجيل الأوّل على معلّمين يريدون أن يقفوا في وجه المعلّم الذي يجب أن يستلهمه كلُّ معلّم يستحقّ أن يكون معلّمًا. هم، أي معلّمو الشريعة والفرّيسيّون يجلسون ويريدون »أن يدعوهم الناس: يا معلّم«. أمّا تلاميذ يسوع، »فلا يسمحوا أن يدعوهم أحد: يا معلّم. فكلّهم إخوة ومعلّمُهم واحد« (مت 23: 1، 7-8).

على المؤمنين أن يختاروا: الكتبة والفرّيسيّون المراؤون الذين يفرضون نفوسهم على المؤمنين، كالمعلّم والأب والسيّد، أَم يسوع المسيح الذي ما جاء ليُخدم بل ليَخدم ويبذل نفسه عن الكثيرين. هؤلاء المؤمنون هم الكنيسة(5): اختارهم الربّ وجمعهم ليكونوا واحدًا باسمه.

إلى هؤلاء كتب القدّيس متّى العظة الرابعة: الحياة في جماعة الملكوت(6). يقسم معظمُ الشرّاح هذه الخطبة التي نقرأها في مت، حسب الموضوعين الكبيرين: الصغار والأطفال (آ 1-14)، والمغفرة والحبّ الأخويّ (آ 15-35). هناك أمور نقرأها عند متّى وحده، مثل القول حول الصلاة المشتركة (آ 19-20)، ومثل العبد الذي لا يَرحم (آ 23-35). وهناك أمور أخرى تتوازى مع مر 9: 33-37 والكلام عن العظيم في الملكوت، أو مع لو 15: 3-7 ومَثل الخروف الضالّ ولو 17: 3 والتسامح الأخويّ.

أمّا فضلُ متّى فهو أنّه جمع كلّ هذه الأقوال في عظة واحدة تعيشها الجماعةُ  في اجتماعها الأسبوعيّ. أوّلاً، كيف نستقبل الصغار؟ والصغار ليسوا الأطفال ووالدوهم يقودونهم بأيديهم، بل صغار القوم. هنا نتذكّر المشهد في رسالة يعقوب الذي يوبّخ المؤمنين حين يستقبلون الأغنياء بطريقة تختلف عن استقبالهم للفقراء. »فإذا دخل مجمعكم غنيّ... ثمّ دخل فقير عليه ثياب عتيقة«. واحد تُجلسونه في الصدر، وللفقير تقولون: »قفْ أنت هناك« أو: »اجلس هنا عند أقدامنا« (يع 2: 2-3). لا يكتفي المؤمنون باستقبال الصغار الاستقبال اللائق، بل يحاولون أن يصيروا مثلهم، بالتواضع، لكي »يدخلوا ملكوت السماوات« (مت 18: 3). ولماذا لا نحتقر الصغار؟ ويأتي الجواب: »ملائكتهم في السماوات يشاهدون كلَّ حين وجهَ أبي الذي في السماوات« (18: 10). أجل، الملائكة حاضرون معًا في احتفالاتنا، وحول المذبح، كما تقول الليتورجيّات. فإن نحن تناسينا هذا الأمر، كنّا وكأنّنا نتناسى الحضور الإلهيّ.

ثانيًا: هل يكون الأبرار فقط في الجماعة، بحيث نستبعد الخطأة على ما اعتاد الفرّيسيّون أن يفعلوا؟ وهل ننسى أنّ المسيح جاء من أجل الخطأة، لا من أجل الأبرار؟ من أجل المرضى، لا من أجل الأصحّاء؟ إذن، ماذا يفعل المسؤول في الجماعة؟ يعمل المستحيل لكي يكون الجميع حاضرًا، يذهب في طلب الخروف الضالّ، ويفرح بعودته مهما كلّفه هذا الطلب من خطر عليه وعلى التسعة والتسعين خروفًا التي هي في الحظيرة (مت 18: 12-14).

ثالثًا، كيف نشارك في الذبيحة؟ سبق متّى وتحدّث عن الشروط في عظة الجبل (ف 5-7): »وإذا كنتَ تقدّم قربانك إلى المذبح وتذكّرت أن لأخيك شيئًا عليك، فاترك قربانك عند المذبح هناك، واذهب أوّلاً وصالح أخاك، ثمّ تعالَ وقدّم قربانك« (مت 5: 23-24). هذا التعليم في الجماعة له أهمّيته لأنّه يربطنا بعالم الآخرة حيث تنتظرنا دينونة الله. وهكذا يكون الاجتماعُ صورة مسبقة عن اجتماع حول يسوع في يوم الدين، فنكون بجانبه كالخراف أو كالجداء. هنا نتابع نصّ متّى: »وإذا خاصمك أحد، فسارعْ إلى إرضائه ما دمتَ معه في الطريق...« (مت 5: 25). أورد لوقا هذا القول الأخير وجعله في علامات الأزمنة: »لن تخرج من هناك حتّى توفي آخر فلس« (لو 12: 57). أجل، مجيء الربّ هو في الأفق، ويفرض علينا أن ننزع من قلبنا كلّ شرّ ومرارة. أمّا في مت 18: 15-17، فيحدّثنا الإنجيليّ عن الطريقة الأخويّة في التعامل حين يسيء إلينا القريب: »بينك وبينه«. ثمّ »مع رجل أو رجلين«. بعد ذلك، نقول للكنيسة. عند ذاك يكون ذاك »الخصم« خارج الكنيسة، يكون كالوثنيّ أو العشّار. يصبح بعيدًا. حينئذٍ لا بدّ أن تطلبه الجماعة كما تطلب الخروف الضالّ.

رابعًا، كيف نصلّي. في عظة الجبل تحدّث متّى عن الصلاة الفرديّة الصامتة: »أدخل غرفتك وأغلق بابها وصلِّ لأبيك الذي لا تراه عين، وأبوك الذي يرى في الخفية هو يكافئك« (مت 6: 6). أمّا في ف 18، فنحن أمام الصلاة الجماعيّة: اثنان، ثلاثة، أكثر. في مِثل هذه الصلاة، يكون المسيح في ما بيننا. فلا بدّ من الاتّفاق وروح الوحدة التي تدلّ على أنّنا تلاميذ المسيح.

خامسًا وأخيرًا، هناك الغفران. خلال الذبيحة وقبل المشاركة الحسّيّة فيها من خلال التناول، نتلو صلاة الأبانا التي فيها نطلب إلى الربّ أن يغفر لنا كما غفرنا نحن. وكان تنبيهٌ: »إن كنتم تغفرون للناس زلاّتهم، يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم. وإن كنتم لا تغفرون للناس زلاّتهم، لا يغفر لكم أبوكم السماويّ زلاّتكم« (مت 6: 14-15). هذا هو الشرط الذي لا مهرب منه لكي نكون متّحدين في الجسد الواحد الذي نتناوله. ولكن يبقى السؤال: كم مرّة أغفر؟ وجاء الجواب: بلا حدود: »سبعين مرّة سبع مرّات« (18: 22). وبعد أن أورد عبارة يسوع هذه أعطى مثلاً سلبيٌّا فيه يرفض الإنسان أن يغفر. حينئذٍ يخسر غفران الله ولا ينال بركته. وانتهى الكلام: »هكذا يفعل بكم أبي السماويّ إن كان كلُّ واحد منكم لا يغفر لأخيه من كلّ قلبه« (18: 35).

تلك كانت المحطّة الأولى في كلامنا عن الليتورجيا في إنجيل متّى. الجماعة تلتئم يوم العيد، وكلّ أحد هو يوم عيد. كيف يكون اجتماعها الأسبوعيّ؟ وهل يحقّ للمؤمن أن يتغيّب عنه لعلّة تافهة؟ هو اجتماع في الوحدة والمحبّة، يُشرق عليه غفرانٌ نناله من الله ونقدّمه بعضنا لبعض. أمّا الهدفُ الأوّل لهذا الاجتماع، فالتعليم الذي يناله المؤمنون بعد أن تتلمذوا فأعلنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله.

2- جماعة تعلّم وتتعلّم

في ممارسة الأسرار وسائر الرتب الطقسيّة، يتّخذ التعليم الموضع الأوّل، وبعده يتمّ العمل باليد مع ما يتضمّن هذا العمل من مدلول. هذا ما نسمّيه خبز الكلمة الذي يتشارك المؤمنون فيه بانتظار خبز آخر. فقبل وظيفة التقديس، هناك دومًا وظيفة التعليم.

أ - عظات خمس في إنجيل متّى

هناك أكثر من طريقة لتقديم إنجيل متّى(7). هناك التصميم الجغرافيّ الذي ينقلنا من البدايات (الطفولة، يوحنّا المعمدان) إلى رسالة يسوع في الجليل وفي المناطق المجاورة: كفرناحوم، الناصرة، فينيقية... وطريقُ الصعود إلى أورشليم تقودنا إلى المدينة المقدّسة حيث يموت يسوع ويقوم. وهناك تصميم دراماتيكيّ يقدّم العمل في تطوّره. بعد أن أقام يسوع في كفرناحوم ودشّن كرازته، دعا التلاميذ وأخذ يطوف في الجليل، فكان تأثيره كبيرًا على الجموع. كان المشترعَ وكان صانعَ العجائب، فجاءت المواقفُ مختلفة بالنظر إليه. فالشعب ينتظر أن يرى معجزة جديدة، ولكنّه ظلّ في الخارج. أمّا الفرّيسيّون فأبرزوا عداءهم ليسوع وسمّوه بعل زبوب لأنّه طرد الشياطين.

أمّا نحن فنأخذ بتصميم على أساس الخطب الخمس. هنا نتذكّر أنّنا نستطيع أن نجد في هذه الخطب العمود الفقريّ للإنجيل الأوّل. الخطبة الأولى هي عظة الجبل في ف 5-7. انتهت في 7: 28: »ولمّا أتمّ يسوعُ هذا الكلام، تعجّبت الجموعُ من تعليمه.« وفي الخطبة الثانية، يرسل يسوع تلاميذه ويعطيهم توصياته (ف 10). تنتهي هذه الخطبة كسابقتها: »ولمّا أتمّ يسوعُ وصاياه لتلاميذه الاثني عشر، خرج من هناك« (11: 1). والعظة الثالثة هي عظة الأمثال (ف 13) التي يفهمها الذين في الداخل، في داخل الكنيسة، الذين يلجون سرّ المسيح من خلال تعليمات لا يفهمها الذين في الخارج (13: 11). وتَحدّثنا عن العظة الرابعة (ف 18) التي انتهت: »ولمّا أتمّ يسوعُ هذا الكلام، ترك الجليل...« (19: 1). والعظة الخامسة التي تجعل المؤمن في زمن المجيء وعودة المسيح (ف 24-25)، تنتهي بشكل تدلّ على أنّ ما نوى متّى أن يقدّمه من تعليم قد بلغ إلى كماله(8): »ولمّا أتمّ يسوع هذا الكلام كلّه، قال لتلاميذه« (26: 1). أجل أورد متّى الكلام كلّه، فما عاد له بعدُ أن يقدّم شيئًا.

في هذا الإطار، نقسم إنجيلَ متّى خمسة أقسام. بعد المقدّمة، نفهم أنّ ملكوتَ الله قريب (ف 5-9)، وقد دلّ عليه يسوعُ بأقواله وأعماله بما فيها من قدرة. ثمّ يرسل يسوع تلاميذه للكرازة، بل يذهب هو بنفسه لكي يبشّر (ف 10-12). في القسم الثالث، نفهم الخيار الحاسم الذي يجب أن نتّخذه بالنسبة إلى الملكوت (ف 13-17). في ف 18-23، نرى الملكوت ينتقل من الشعب اليهوديّ إلى الكنيسة مع ممارسة جديدة. وأخيرًا، في القسم الخامس (ف 24-28) يُعلَن المجيء النهائيّ للملكوت في يسوع (ف 24-25)، ويُدشَّن هذا الملكوتُ في السرّ الفصحيّ، في موت يسوع وقيامته (ف 26-28).

ب - أقوال وأفعال

حين نقرأ القسم الأوّل في إنجيل متّى، تلفتُ نظرَنا عمليّةُ تضمين تبدأ في 4: 23ي وتنتهي في 9: 35ي. ماذا نقرأ في البداية؟ »وكان يسوع يطوف كلّ الجليل يعلِّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كلَّ مرضٍ وكلَّ ضعفٍ في الشعب، فذاع خبره...«. وفي النهاية؟ »وكان يسوع يطوف المدنَ كلّها والقرى، يعلّم في مجامعها، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلّ مرضٍ وكلَّ ضعفٍ في الشعب. ولمّا رأى الجموع...«. فالتضمين أو الاحتواء طريقة أدبيّة تدلّ على أنّ عبارة تبدأ مقطعًا كبيرًا أو قصيرًا وتنهيه. وهكذا يدخل هذا المقطع في إطار يحتويه فيعطيه معناه الكامل.

هكذا نفهم القسم الأوّل من إنجيل متّى الذي يجد نفسه ضمن 4: 23 وعمل يسوع في الجليل، و9: 35 وعمله في المدن والقرى. وقد انقسم هذا القسم جزئين. أقوال يسوع وأعمال يسوع. وتعليمُه يظهر في أقواله وفي أفعاله.

أمّا الأقوال، فترد في عظة الجبل حيث دلّ يسوع على قدرته. قال مت 7: 28- 29: »تعجّبت الجموع من تعليمه، لأنّه كان يعلّمهم مثل من له سلطان، لا مثلَ معلّمي الشريعة«. والأفعال، فترد في ف 8-9، من خلال عشر عجائب: شفاء الأبرص، وخادم قائد المئة، وحماة بطرس... هي تدلّ على قدرة يسوع، ولكنّها تعليم هي أيضًا، شأنها شأن الأفعال. هي تعلّمنا أنّ لمسة يسوع هي لمسة حنان، وأنّه لا يريد أن يُعرَف حين يعمل، لأنّه الوديع والمتواضع القلب. في شفاء خادم قائد المئة، نكتشف هذا الإيمان عند إنسان وثنيّ. فيا ليت الذين هم من أبناء العهد يؤمنون مثله. »من كان لهم الملكوت يُطرحون خارجًا في الظلمة« (8: 12). ويحلّ محلّهم الآتون »من المشرق والمغرب ويجلسون إلى المائدة مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السماوات« (8: 11).

وفي أيّ حال، بين أعمال القوّة الواردة في ف 8-9، نجد مواقف مطلوبة: هل نكون مع يسوع أم مع العالم. وأيّ تجرّد هو تجرّدنا؟ وحين يدعو يسوع متّى من وراء مائدة الجباية، فهو يدعو كلَّ واحد منّا. وإذ يُطرح عليه سؤال حول الصوم، يُعلِن أنّه العريس الحاضر وسط أحبّائه (9: 14-17).

ج- التعليم الذي يقدّمه متّى

هكذا نستطيع أن نقرأ إنجيل متّى كلّه، حيث الخطبة تُشرفُ على ما وراءها من فصول. ولكن يُطرح سؤال: ما نوع التعليم الذي يقدّمه متّى؟ هناك خطّان. الأوّل، قراءة جديدة لأسفار الشريعة. والثاني، تأوين للعهد القديم في حياة يسوع وأقواله وأعماله. أما هذا ما يجب أن تكون قراءة الكتب المقدّسة فتصبح نداء إلى المؤمن ليعيشها في الزمن الحاضر؟

أوّلاً: قراءة جديدة لأسفار الشريعة

كان هناك مقابلة بين تعليم الكتبة والفرّيسيّين من جهة، وبين تعليم يسوع. من أجل هذا، كان انطلاق من الوصايا، ولا سيّما تلك التي تتعلّق بالقريب. وهكذا يبدو يسوع مكمِّلاً للشريعة والأنبياء. أمّا المواضيع فتدور حول العلاقات بين الإخوة، ووضع الرجل والمرأة، والصدق في كلامنا، وموقفنا من »الشرّير«، وتصرّفنا تجاه الأعداء(9).

وجاء الكلام في صيغة واحدة: سمعتم أنّه قيل... وأنا أقول لكم. وبدأ بالوصيّة الخامسة: »سمعتم أنّه قيل للأقدمين (أي في العهد القديم): لا تقتل. ومن قتل يستوجب الحكم. أمّا أنا فأقول لكم: »من غضب على أخيه باطلاً، يستوجب الحكم...« (مت 5: 21). ويمضي يسوع يعمّق الشريعة القديمة ليصلَ بها إلى الملء والكمال، بحيث لن تكون حدودٌ نقف عندها. فالمحبّة لا تتوقّف، ولا تحسب نفسها أنّها وصلت إلى أن تصبّ في قلب الله. وهل لحبّ الله من حدود؟

وكان كلامٌ عن الزنى. وأضاف الإنجيل: »من نظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه« (مت 5: 27). وترد هنا جذريّة الإنجيل: إن دفعَتني عيني إلى الخطيئة أقلعُها. إن دفعتني يدي إلى الخطيئة أقطعها. وتحدّث الإنجيل عن الطلاق والحلف والانتقام وحبّ الأعداء. لقد صار المؤمنون الذين يكتب إليهم متّى في العهد الجديد إلى الكمال، على مثال الآب السماويّ، فلا يحقّ لهم أن يتصرّفوا حسب شريعة: سنّ بسنّ وعين بعين. كما لا يحقّ لهم أن يُبغضوا أعداءهم.

لا شكّ في أنّ يسوع انطلق من الشريعة، والناس الذين يتوجّه إليهم هم اليهود. ولكنّه يتجاوز هذه الشريعة بحيث يصبح تعليمه جديدًا كلّ الجدّة، بل هو نفسه صار الشريعة. إليه ننظر ووراءه نسير، ولا نتوقّف على برّ الكتبة والفرّيسيّين. فإن فعلنا مثلهم لن ندخل »ملكوت السماوات« (مت 5: 20).

ثانيًا: تأوين العهد القديم

اعتادت الكنيسة الأولى أن تنطلق من يسوع، من حياته وأقواله وأعماله، لكي تكتشف مخطّط الله منذ القديم. ولقد ترتّب كتابُ استشهادات يجد فيه حاملُ البشارة ما يحتاج إليه من نصوص من العهد القديم تبرهن أنّ يسوع الذي هو المسيح، قد هيّأته الأسفار المقدّسة وإن بشكل غامض، لأنّها ما كانت لتتخيّل يومًا أنّ ابن الله بالذات سيتّخذ جسدًا ويصير شبيهًا بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة.

واعتادت الكنيسة الأولى أيضًا أن تقرأ نصوص العهد القديم، على مثال ما كان يفعل الشعب اليهوديّ: نصٌّا أساسيٌّا من أسفار الشريعة الخمسة، ثمّ آخر من الأنبياء ومن سائر الكتب. والكنيسة السريانيّة بشكل خاصّ أخذت بهذه الطريقة وأضافت إليها نصوصًا من أخبار الرسل ومن رسائل بولس ومن الإنجيل. ولكنّها لم تقرأ العهد القديم وتبقى فيه وكأنّه نهايةُ الوحي، بل وصلت به إلى العهد الجديد.

وهذا ما فعل متّى وهو مَن كتب إلى محيط أراميّ ويونانيّ، قد يكون أنطاكية والكنائس المرتبطة بها من فلسطين مرورًا بلبنان وسورية. فنحن نقرأ عنده أكثر من مرّة لكي يتمّ ما قال النبيّ. هكذا تكون القراءة الليتورجيّة في الكنيسة. ونعطي بعض الأمثلة على ذلك.

بمناسبة الحبل الإلهيّ، قال الملاك ليوسف: »ستلد ابنًا وتدعو اسمه يسوع«. وتابع القدّيس متّى: »وهذا كلُّه كان لكي يتمّ ما قيل من الربّ بالنبيّ القائل: هوذا العذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعون اسمه عمانوئيل« (1: 21-22). ولمّا سأل هيرودُس رؤساءَ الكهنة وكتبة الشعب: »أين يولد المسيح«؟ أجابوا: »في بيت لحم اليهوديّة«. وجاء نصّ النبيّ ميخا: »لأنّه هذا ما كُتب بالنبيّ: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا، لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأنّ منك يخرج مدبّر يرعى شعبي إسرائيل« (2: 4-6).

لا شكّ في أنّ كتّاب العهد الجديد عادوا مرارًا إلى العهد القديم، فأوردوا نصوصه أو لمّحوا إلى هذا الخبر أو ذاك، أو أشاروا إلى آية تُعينهم لكي يفهموا وضعًا جديدًا على ضوء كلام الله. ولكنّ متّى تفرّد في هذا التأوين الكتابيّ الذي فيه ظلّ المؤمنون حوله يقرأون أسفار العهد القديم. فلا بدّ من جعل هذه الأسفار مقدّمة للعهد الجديد وأرضًا خصبة تتجذّر فيها حياةُ يسوع وأعماله. وحين تلقي الأناجيل بضوئها على أسفار التوراة، تأخذ هذه الأسفار كامل معناها ولا نعود نخاف منها ونتحاشى من قراءتها، كما سيفعل مرقيون(10) مثلاً في القرن الثاني المسيحيّ.

3- أسرار الكنيسة

في القسم السابق، قلنا إنّ الكلمة تسبق العمل. والتعليم يسبق التقديس. وهكذا نصل إلى الأسرار. لن نتحدّث عن شفاء المرضى، والرسل تابعوا في هذا المجال ما كان يفعله يسوع. ولا عن الزواج حيث لمتّى موقفٌ يرتبط بالمحيط الذي فيه وُلد إنجيله. بل نتوقّف عند المعموديّة والإفخارستيّا والتوبة.

أ - المعموديّة في إنجيل متّى

يتحدّث متّى عن المعموديّة في خطّ سائر الإنجيليّين، حيث يرتبط عماد المؤمن بعماد المسيح في الأردنّ. ولكنّه يتميّز حين يعلن مراحل العماد: من التلمذة إلى التعليم، وبين الاثنين معموديّة باسم الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، لا باسم يسوع فقط كما قال سفر الأعمال وأشارت رسائل القديس بولس.

أوّلاً: معموديّة يسوع ومعموديّة المؤمن

كان للأناجيل الأربعة كلام عن معموديّة يسوع، إمّا بالتصريح وإمّا بالتلميح. أشار يوحنّا بشكل سريع إلى هذه المعموديّة، ونظر إليها من زاوية يوحنّا المعمدان الذي هو الشاهد الذي يرافق العريس كي يخطب عروسه. أمّا الأناجيل الإزائيّة الثلاثة، فأوضحت ثلاثةَ أمور ترتبط بالثالوث الأقدس: دخول يسوع في الماء، انفتاح السماوات وظهور الروح القدس. صوتُ الآب يعلن: »هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت« (مت 3: 16-17؛ مر 1: 10-11؛ لو 3: 21-22).

في معموديّة يسوع هناك عنصر نراه بعيوننا، وهو نزوله في الماء ومشاركته في توبة الجماعة التي جاءت إلى المعمدان. فيقول لو 3: 21 في هذا المجال: »ولمّا تعمّد الشعب كلّه تعمّد يسوعُ أيضًا«. وهناك عنصر لا نراه إلاّ بعين الإيمان وعلى أساس خبرة الرسل مع يسوع. ونعود إلى إنجيل لوقا الذي قال لنا إنّ يسوع كان يصلّي. أجل، في خبرة صلاة عميقة، كان لقاء بين يسوع الإنسان الآتي ليقيم ملكوت السماوات، وبين الآب السماويّ والروح القدس. الصوت هو ذاك الذي نقرأه في المزمور الثاني: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. وحضور الروح فوق مياه الأردنّ دلالة على الخليقة الجديدة التي تخرج من الماء على مثال الخليقة الأولى التي خرجت من المياه حين كان الروح يرفّ عليها (تك 1: 2).

ولكن حين كتب الإنجيليّون خبر عماد يسوع، وضعوا تفاعلاً بين ما يحصل للمؤمن وما حصل ليسوع. فالمؤمن يصبح هو أيضًا ابنَ الله مع الابن الحبيب أو الابن الوحيد. والروح يحلّ عليه ليكوّن فيه الخليقة الجديدة. وصوت الآب يعلن علينا رضاه في ابنه يسوع المسيح. فكأنّ الربّ يُقيم عهدًا مع كلّ واحد منّا، بواسطة المسيح، في داخل الكنيسة. وكان انطلاق من رتبة العماد في الجماعات، جعل الإنجيليّين يتحدّثون عن يسوع وكأنّه أوّل من اعتمد. فهو بكر إخوة كثيرين كما يقول بولس الرسول.

وهكذا تحدّث متّى مع سائر الإنجيليّين عن سرّ المعموديّة الذي يتقبّله المؤمن، فجعله امتدادًا لمعموديّة يسوع. ولكن يبقى الكلام عن مسيرة المعموديّة في الكنيسة. هنا يتفرّد متّى فيقدّم لنا في نهاية إنجيله رتبة العماد منذ أن يعلن المؤمن: يسوع هو المسيح، يسوع هو الربّ، حين ينهي التعليم الذي بدأ الرسل يعطونه للمؤمنين، بعد أن عمّدوهم، ويدعوهم إلى الحياة في الكنيسة: »وكانوا يداومون على الاستماع إلى تعليم الرسل وعلى الحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة« (أع 2: 42).

ثانيًا: معموديّة باسم الثالوث

كان الكلام الأوّل عن المعموديّة في رسائل القدّيس بولس الذي يعلن أنّ الله هو الذي أرسل التلاميذ لكي يعمّدوا(11). ويتحدّث الرسول عن معموديّة في روح واحد وجسد واحد(12). وترد عنده مرّتين فكرةُ العماد في المسيح، لا على المستوى الليتورجيّ، بل على المستوى اللاهوتيّ. في روم 6: 3: »أتجهلون أنّنا حين تعمّدنا في يسوع المسيح اعتمدنا في موته«؟ وفي غل 3: 27: »كلّكم الذين اعتمدتم في المسيح قد لبستم المسيح«.

هذا ما يقودنا إلى الكلام عن العماد باسم يسوع، كما في أعمال الرسل. فنحن نقرأ العبارة أكثر من مرّة. بعد العنصرة حالاً، سأل السامعون بطرس: ماذا يفعلون؟ فأجابهم: »توبوا وليعتمد كلّ واحد منكم باسم يسوع المسيح فتُغفر خطاياكم« (أع 2: 58). وحين بشّر فيلبُس في السامرة، قال أع 8: 16: »تعمّدوا باسم الربّ يسوع«. وكذا نقول عن جماعة أقامت في أفسس وما عرفت سوى عماد يوحنّا المعمدان. كلّمهم بولس »فلمّا سمعوا هذا الكلام، تعمّدوا باسم الربّ يسوع« (أع 19: 5). ونقرأ الشيء عينه عن بطرس الذي بشّر بيت كورنيليوس، في قيصريّة البحريّة: »وأمرهم (بطرس) بأن يتعمّدوا باسم يسوع المسيح« (أع 10: 48).

يبدو أنّ العماد بدأ يُعطى باسم يسوع المسيح. ولكن متّى هو الشاهد على العماد باسم الثالوث الأقدس كما تمارسه اليوم جميعُ الكنائس المسيحيّة. قال يسوع لتلاميذه: »إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم، وعمّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس وعلّموهم أن يعملوا بكلّ ما أوصيتكم به« (مت 28: 19-20).

كما أُرسل يسوع، أرسل تلاميذَه. وكما نال سلطانًا، منحهم هذا السلطان. ثمّ أطلقهم: »إذهبوا«. وهم سوف يتابعون عمل البشارة، فلا يتوقّفون عند الشعب اليهوديّ، كما ظنّ التلاميذ، في بادئ الأمر، في إنجيل متّى، بل يمضون إلى جميع الأمم. والعماد يتمّ باسم الثالوث الأقدس، باسم الآب والابن والروح القدس. هو اسم واحد به يعتمد المؤمن، فيدخل في عيلة أبناء الله. واليوم حين ينال المؤمن العماد، يعلن إيمانه بالله الآب خالق السماء والأرض، وبالربّ يسوع الذي تألّم ومات، وبالروح القدس الذي يقدّس الكنيسة، ويرافقها في رسالتها.

ب - الإفخارستيّا في إنجيل متّى

في هذا الموضوع، لا يفترق متّى عن الإزائيَّين الآخرَين، مرقس ولوقا. فالإشارة إلى الإفخارستيّا نقرأها من خلال تكثير الأرغفة في العالم اليهوديّ وفي العالم الوثنيّ. كما نقرأها في العشاء الأخير، يوم جلس يسوع مع تلاميذه ليأكلوا الفصح، فأعطاهم جسده مأكلاً ودمه مشربًا.

أوّلاً: تكثير الأرغفة

ذكر الإنجيليّون الأربعة معجزة تكثير الأرغفة بسبب مدلولها العميق في الكتاب المقدّس. فكما أعطى الله شعبَه القديم المنَّ في البريّة، هكذا هو يقيت شعبه بالطعام فيكتشفون عنايةَ الله لشعب العهد الجديد الذي يسير هو أيضًا في البريّة، كما قال سفر الرؤيا(13). وإذا تذكّرنا المدلول الإسكاتولوجيّ للإفخارستيّا، يرتبط الطعام الذي يعطيه يسوع للجموع، بذاك الطعام الأخير الذي يتكلّم عنه أشعيا النبيّ: »تعالوا إلى المياه، يا جميع العطاش... أطلبوا خمرًا ولبنًا بغير ثمن. لماذا تصرفون فضّة لغير الخبز« (أش 55: 1-2)؟

تحدّث لوقا عن تكثير خبز واحد، فجمع اليهود والوثنيّين في وليمة واحدة. ومثله يوحنّا الذي تكلّم في نهاية إنجيله عن سفينة واحدة فيها سبعة رسل، كعلامة انفتاح تام على العالم الوثنيّ. أمّا متّى ومرقس فأوردا خبرين لتكثير الأرغفة. الأوّل في العالم اليهوديّ مع عبارات ليتورجيّة خاصّة بهذا العالم: »أخذ الأرغفة الخمسة والسمكتين، ورفع عينيه نحو السماء، وبارك وكسر الأرغفة وأعطى تلاميذه، والتلاميذ أعطوا الجموع« (مت 14: 18-19). رفعة العينين معروفة في الليتورجيا. والمباركةُ خاصّةٌ بالعالم اليهوديّ في جميع احتفالاته. والكلام عن »كسر« الأرغفة يوجّهنا نحو العشاء السرّيّ. ونلاحظ أخيرًا أنّ الرسل هم الذين يوزّعون هذا الطعام من يد يسوع. هو أعطاهم وهم يعطون. أعطاهم السلطان وهم ما زالوا يفعلون باسمه، ولن يزالوا حتّى ذاك الطعام في ملكوت الله. وما ميّز العالم اليهوديّ الرقم »خمسة« الذي هو عدد الآلاف الذين أكلوا، والرقم »اثنتي عشرة قفّة« الذي يعيدنا إلى الأسباط الاثني عشر.

والخبر الثاني (مت 15: 32-38) يقدّم لنا طعامًا وفيرًا للوثنيّين الذين هم أربعة آلاف. فالرقم »أربعة« يدلّ على أقطار الكون الأربعة، أي على البشريّة كلّها، لا على فئة خاصّة. و»السبع سلال« يجعلنا في العالم الوثنيّ، حيث الأمم الوثنيّة سبعون أمّة. فإذا جَعلنا لكلّ تلميذ في خطّ الخدّام السبعة (أع 6: 3) عشرة مؤمنين، نفهم أن يكون لكلّ تلميذ مع جماعته سلّة من الخبز الذي كثّره الربّ يسوع، وترك منه لكنيسته حتّى انقضاء العالم.

في هذا الخبر، الخبزات هي سبعة. والفعل المستعمل هو »شكر« الذي منه اشتقّ الاسم: إفخارستيّا. كلّ هذا يدلّ على إفخارستيّا تُرسَل للأمم. هنا نتذكّر أنّ خبز إيمان الكنعانيّة سبق تكثير الأرغفة. فهي بدأت وآمنت فتعمّدت وصارت من البنين والبنات، من أهل البيت. لهذا، لن يُمنعُ الخبزُ بعدُ عنها، بل هي تشارك إخوتَها وأخواتِها »الوثنيّين« في ولمية الربّ.(14)

ثانيًا: العشاء الأخير

أجمع الشرّاح على القول بأنّ ما ورد في الأناجيل الإزائيّة حول العشاء الأخير، إنّما يعكس ممارسة ليتورجيّة(15). ورأوا الأخبار الأربعة عن العشاء السرّيّ، في متّى ومرقس ولوقا وكورنتُوس الأولى، على أنّ كلّ اثنين يمثّلان اتّجاهًا. يدلّ متّى ومرقس على إطار العالم اليهوديّ مع المباركة (مت 26: 26؛ مر 14: 22). أمّا لوقا وبولس في رسالته إلى كورنتُوس، فيجعلاننا في العالم اليونانيّ مع الشكر قبل الكسر (لو 22: 19؛ 1 كور 11: 24). تقليد يعود إلى أورشليم، وآخر إلى أنطاكية.

أمّا الحركات التي يقوم بها يسوع، فهي التي نقوم بها حين نحتفل بالقدّاس الإلهيّ: أخذ يسوع خبزًا وبارك وكسره وناول تلاميذه وقال: خذوا كلوا، هذا هو جسدي. وأخذ كأسًا وشكر وناولهم وقال: ''اشربوا منها كلّكم. هذا هو دمي، دمُ العهد الجديد الذي يُسفك من أجل أناس كثيرين لغفران الخطايا'' (مت 26: 26-28).

ما يلفت الانتباه هو أنّ خبر متّى بدأ فذكر البركة (وبارك) في كلامه عن الخبز. ثمّ عاد فذكر الشكر (وشكر) في كلامه عن الخمر. لقد جمع في خبر العشاء، الكنيسةَ كلّها: تلك الآتية من العالم اليهوديّ، وتلك الآتية من العالم الوثنيّ(16). لم تعُد هناك كنيستان متلاصقتان وكأنّ لا شيء يوحّد بينهما. يذكر متّى دم العهد على مثال العهد مع موسى في سفر الخروج (24: 8). ولكنّه عهد جديد من أجل »الكثيرين« كما قال أشعيا. ولفظ الكثيرين يدلّ على البشريّة كلّها. أجل، انطلق الإنجيل الأوّل من العالم اليهوديّ، فوصل إلى البشريّة كلّها، بعد أن سُفك دمُ يسوع من أجل الكثيرين لغفران الخطايا.

ت - سرّ التوبة

شدّدت الأناجيلُ الإزائيّة بشكل خاصّ على أنّ يسوع جاء من أجل الخطأة، من أجل المرضى. ولكنّ الرسالة إلى العبرانيّين اعتبرت أنّ من نال المعموديّة (أُنيروا) وذاق الهبة السماويّة (الإفخارستيّا) وشارك في الروح القدس (التثبيت، وهكذا نكون أمام أسرار التنشئة)، ثمّ سقط، يستحيل تجديدُهم وإعادتُهم إلى التوبة (عب 6: 4-16). مثل هؤلاء الناس أرض »مرفوضة تهدّدها اللعنة ويكون عاقبتَها الحريق«. تلك ربّما كانت مرحلة أولى. ولكنّ الأناجيل تتحدّث عن سلطان غفران الخطايا. وإنجيل متّى يشهد لممارسة في أيّامه، جعلت الشعب يمجّد الله »لأنّه أعطى البشر مثل هذا السلطان«.

أوّلاً: ما تحلّونه يكون محلولاً

مرّتين أورد القدّيس متّى هذه العبارة. مرّة بعد أن أعلن بطرس أنّ يسوع هو المسيح ابن الله الحيّ. قال يسوع: »سأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فما تربطه في الأرض يكون مربوطًا في السماوات، وما تحلّه في الأرض يكون محلولاً في السماء« (16: 19). ومرّة ثانية في خطبة الجماعة، قال يسوع للرسل: »ما تربطونه في الأرض يكون مربوطًا في السماء، وما تحلّونه في الأرض يكون محلولاً في السماء« (مت 18: 18).

في ما يتعلّق بالمفاتيح، نعود إلى أش 22: 22. قال الربّ عن القيّم على القصر: »وألقي مفتاحَ بيت داود على كتفه، يَفتح فلا يُغلق أحد، ويُغلق فلا يَفتح أحد«. هذا المفتاح يرمز إلى سلطان يناله من يُجعَل على كتفه. فكما يوضع على كتف الملك الرداءُ الملوكيّ مع التاج والصولجان، تُجعل المفاتيح بحيث يفتح ربّ البيت لمن يشاء، ويغلِق البابَ في وجه من يشاء.

هذا ما يفسّره يسوع حين يتحدّث عن الربط والحلّ في إنجيل متّى. وعد يسوع بطرس، ثمّ الرسل، بأن يحلّوا ويربطوا، بأن يمنعوا ويسمحوا كما يقول التقليد اليهوديّ، بأن يستبعدوا من الجماعة أو يُدخلوا الإنسان إليها. هذا ما كان يحدث في بداية الكنيسة: يُطرد الخاطئ فيقف على الباب مدّة طويلة أو قصيرة إلى أن يحمل إليه الأسقف غفران الخطايا، وبالتالي يعيده إلى الجماعة. وما قاله متّى سوف يقوله يوحنّا بعد القيامة: »قال (يسوع) هذا ونفخ في وجوههم وقال: خذوا الروح القدس. من غفرتُم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتُم عنه الغفران يُمنع عنه« (يو 20: 22). هي سلطة معطاة للرسل المجتمعين في مكان وحد بحيث يمنحون غفران الخطايا والدخول إلى ملكوت الله. كلّ هذا يرتبط بالكنيسة التي نالت سلطان الحلّ من الخطايا.

ثانيًا: نال البشر هذا السلطان

هذه الكنيسة كانت منظّمة في أيّام متّى. فهي تمنح العماد باسم الثالوث، وتعيش سرّ الإفخارستيّا في الجماعات المرتبطة من بعيد أو قريب بأنطاكية، وتمارسة سرّ التوبة، ولا تحكم على الخطأة بالهلاك فتجعلهم كشجرة وُضعت عليها الفأس، وتبنٍ سيُرسَل إلى النار (مت 3: 10-12).

ونكتشف هذه الممارسة في شفاء المخلّع الذي ترويه الأناجيل الأربعة، فتُبرزُ قدرةَ يسوع على شفاء المرضى وغفران الخطايا. بدأ يسوع فقال للمخلّع: »تشجّع، يا ابني، مغفورة لك خطاياك« (مت 9: 2). غير أنّ هذا الغفران يبقى غير منظور. فما الذي يُثبتُ أنّ الغفران حصل؟ جاء عملٌ منظور. قال يسوع: »سأريكم أنّ ابن الإنسان له سلطان على الأرض ليغفر الخطايا« (مت 9: 6). وحين حمل المخلّع فراشه ومشى، فهم الحاضرون أنّ ذاك الذي جعل المخلّع يمشي هو الذي غفر له خطاياه. هو سلطان على الأجساد يشفيها من مرضها، وسلطان على النفوس ليغفر خطاياها.

إلى هنا يلتقي متّى مع كلّ من مرقس ولوقا. ويبدأ الاختلاف في نهاية الخبر بين إنجيل وإنجيل. أبرز مرقس دهشة الحاضرين الذين »تعجّبوا كلّهم ومجّدوا الله وقالوا: ما رأينا مثل هذا في حياتنا« (مر 2: 12). أجل، لا يغفر الخطايا سوى الله وحده. وها هو يسوع الذي يبدو إنسانًا كسائر الناس، يغفر الخطايا ويشفي. أما تُراه يجدّف؟ ذاك كان موقفَ معلّمي الشريعة. أمّا الشعب فتعجّب ومجّد الله. ولكن هل اتّخذ موقفًا من هذه المعجزة المضاعفة؟ بل همّ ظلّوا على مستوى الدهشة والكلام العاطفيّ، ولم يأتِ إلاّ بعضُهم إلى يسوع.

أمّا لوقا فشدّد مرّتين على تمجيد الله وحمده. مرّة المخلّع. ومرّة ثانية على الجميع الذين »مجّدوا الله، وملأهم الخوف، فقالوا: ''اليوم رأينا عجائب'' (لو 5: 25-26). هذا يعني أنّ الله حاضر هنا وهو يفعل. يشفي ويغفر.

وأرانا متّى الرجلَ ذاهبًا إلى بيته معافى. »فلمّا شاهد الناس ما جرى، خافوا ومجّدوا الله الذي أعطى البشر مثل هذا السلطان« (مت 9: 8). لاحظنا المخافة عند لوقا ومتّى، والمخافة تدلّ على حضور الله وعمله. ولكنّ هذا العمل لا يقتصر في إنجيل الأوّل على قدرة يسوع على غفران الخطايا، بل يصل إلى قدرة الكنائس والرسل وخلفائهم على هذا الغفران. قال متّى: »أعطى البشر مثل هذا السلطان«، وما قال: »أعطى ابن الإنسان (يسوع) مثل هذا السلطان« فسلطان يسوع يتواصل بحيث يمجّد الناسُ الله.

وهكذا اكتشفنا في إنجيل متّى سلطان الحلّ والربط، إعطاء الغفران لمن يتوب، ومنْعَ الغفران عمّن يبقى قلبُه قاسيًا كما يقول النبيّ حزقيال. كما اكتشفنا أنّ البشرَ نالوا هذا السلطان. فلا يبقى سوى أن تنظّم الكنيسة ممارسة ما سُمّي سرّ التوبة والاعتراف والمصالحة. كما قال بولس حين دعانا إلى أن نتصالح مع الله.

خاتمة

تلك كانت مسيرتنا للتعرّف إلى إنجيل متّى على أنّه إنجيل الليتورجيا في الكنيسة. توقّفنا عند الاجتماع الأسبوعيّ، يوم الأحد، الذي ما زالت الكنيسة تمارسه حتّى يومنا، رغم تبدّل الحياة العائليّة والاجتماعيّة، بحيث يتقاطر المؤمنون من أحياء المدينة والقرى ليكونوا مع الأسقف وحلقة الكهنة، على ما تروي النصوصُ القديمة. والاجتماع يكون من أجل سماع الكلمة، والمشاركة في خبز يوازي خبز القربان المقدّس ويغذّي النفوس بحيث لا يكثر بيننا »المرضى والضعفاء« (1 كور 11: 29). والاجتماع يكون من أجل عيش الأسرار: العماد والتغطيس في الماء، التثبيت ونوال الروح القدس، الإفخارستيّا والمشاركة في الجسد والدم. هذه هي أسرار التنشئة، حيث يتدرّج المؤمن شيئًا فشيئًا إلى أن يُعمَّد باسم الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس. وكما كان متّى سهلاً حين ترك فرصة »طلاق« في إطار التدبير الإلهيّ، فما جاء كلامه قاطعًا، كذلك فتح الباب أمام غفران الخطايا تمنحه الكنيسة بعد العماد، وإن هدّدتنا الرسالة إلى العبرانيّين »بانتظار مخيفٍ ليوم الحساب ولهيب نار يلتهم العصاة« (10: 27)، إذا نحن خطئنا.

وُلد الإنجيل الأوَّل في إطار ليتورجيّ، حيث كان المؤمنون يتذكّرون عمل الربّ وينتظرون مجيئه، فقدّم لنا صورة عن الحياة الليتورجيّة في الربع الأخير من القرن الأوّل المسيحيّ. هكذا أردنا أن نقرأ إنجيل متّى لنكتشف فيه وجه الكنيسة العائشة يومًا بعد يوم، وسط الصعوبات، وهي تنتظر العريس الآتي في نصف الليل (مت 25: 6).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM