الفصل السابع: انجيل لوقا، انجيل الرحمة

الفصل السابع:

انجيل لوقا، انجيل الرحمة

حين نقرأ إنجيل لوقا قراءة متواصلة، نكتشف فيه أوّل ما نكتشف خبرة شخص جاء من العالم الوثني. وماذا اختبر هذا الرجل المثقّف الذي قيل عنه أنه الطبيب والرسّام، والباحث في العمق، والكاتب البليغ؟ إكتشف شخص يسوع المخلّص، الذي يعامل »الصغار« بالرحمة والحنان. لا ينسى الخطأ الذين نبذهم الناسُ »الأبرارُ« ولا الوثنيّين الذين اعتبرهم اليهود نجسين. كما لا ينسى المرأة ومنزلتُها معروفة في محيط لا يقدّرها حقّ قدرها. ونحن سنرافق لوقا في اكتشافه لوجه يسوع: هو الحنون والمخلّص. وهو يهتمّ بشكل خاص بالخطأة، ويرفع المرأة إلى كرامة تجعلها مساوية للرجل، في خطّ ما قاله بولس في الرسالة إلى غلاطية (3:28): لا رجل ولا إمرأة. لا عبد ولا حرّ. لا يهوديّ ولا وثنيّ. فكلّكم واحد في المسيح يسوع.

1 - يسوع ربّ الحنان والرحمة

حين نقرأ إنجيل لوقا يلفت انتباهنا أول ما يلفت، هذا الكلامُ عن الرحمة التي انتظرها الشعب العبرانيّ على مدّ تاريخه، فجاء زكريّا يعبّر عنها فيقول:»أظهر رحمته لآبائنا وذكر عهده المقدّس« (1:73). وقالت مريم في نشيدها، نشيد التعظيم:»تعظّم نفسي الربّ« الذي »تذكّر رحمته كما وعد آباءنا، لابراهيم ونسله إلى الأبد« (1:54-55). في هذه الرحمة سوف نتأمّل. نتوقّف عند كلام يسوع: »كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم« (6:36). ثمّ نحاول أن ندخل في أحشاء الرحمة، أحشاء اللّه الذي هو أب وأم معًا.

أ - كونوا رحماء

قدّم متّى الإنجيليّ عظة الجبل فجاءت شبيهة بما ناله موسى على جبل سيناء، وكانت الكلمة الموجّهة: »كونوا كاملين كما أن أباكم السماويّ كامل هو« (مت 5:48). أما لوقا فجعلنا في السهل، في تلك المساحات الواسعة، لأن الإنجيل لن يبقى في أورشليم واليهوديّة، بل يصل إلى أقاصي الأرض. لن يتوقّف عند اليهود وينسى السامريّين والوثنيّين، فهو إنجيل الخلاص لكل من يؤمن من اليهود أولاً ومن الوثنيّين. فرحمةُ اللّه لا حدود لها.

أما الكلمة الموجّهة فكانت: كونوا رحماء. تعاملوا بالرحمة. كنتم في الماضي غير مرحومين واليوم رحمكم اللّه (بط 2:10). فكيف تكون رحمتكم بعضكم لبعض تجاه ما في العالم من قساوة قلب وانغلاق، وابتعاد عن المتألّمين والمعذّبين؟ فكيف نمارس الرحمة بحسب القدّيس لوقا؟

نبدأ بالإحسان إلى من يُبغضنا. فهل هذا يعني أننا لا نحسن إلى من يحبّنا؟ كلا ثمّ كلا. ولكن الإنجيليّ يريد أن يقول لنا إلى أين يصل بنا عمل الرحمة. وفي الواقع، هذا ما عمله السامريّ مع اليهودي الذي نزل من أورشليم إلى أريحا، ونحن نعرف كره اليهود للسامريّين الذين كانوا يبادلونهم »العاطفة«. عندما نحسن نحن، ندلّ على محبّتنا. ونبارك ولا نلعن، وإن وصلت إلينا اللعنة. فنحن لا نردّ على الشرّ بالشرّ، بل على الشرّ بالخير. ونصليّ إلى من أساء إلينا. أي نطلب من اللّه أن يعطيه ما يحتاج إليه، وهكذا يعيش الجميع حياة هادئة لا عنف فيها ولا بغض.

ومع الإحسان العطاء. المسيحيّ هو من يعطي ويعطي بكرم وسخاء. إن أقرض يفعل أقلّه مثل العبرانيّ في العهد القديم. بدون فائدة ولا ربى. فالربى الذي يتجاوز الحدود سرقة. وإذا أراد أن يتوقّف عند برّ الكتبة والفريسيّين، فهو لا يُقرض فقط لكي يستردّ ما أقرضه. فإن فعل، لا فضل له ولا أجر. لهذا، عليه أن يعطي ولا ينتظر ردًا. بل هو لا يسأل أين وصل به العطاء، حتى لو كان الذي أخذُ يفرط في الطلب. يريد الرداء فوق الثوب. لا بأس. نحن نعطي ولن نكون يومًا أكثر سخاء من الربّ. مَشينا معه ميلاً، ويريد أن نمشي ميلين. نفعل. فمن يدري إن لم يكن هذا السير معًا مناسبة لكي يكون الربّ هو الثالث على مثال ما فعل مع تلميذي عماوس.

والرحمة تمنعنا من أن ندين اخوتنا، نحكم عليهم بسرعة. أما هكذا فعل الفريسيّ (لو 18:9-14)، بعد أن مدح نفسه أمام اللّه، وانتظر منه أن يكون ممنونًا له لأنه صام وقدّم عشر أمواله للهيكل. دان العشّارَ دينونة قاسية. فعاد إلى بيته غير مبرّر لدى اللّه، غير مقبول. فتفوّق عليه العشّارُ الخاطىء الذي اكتفى بأن يطلب الرحمة: ارحمني يا اللّه، أنا الخاطىء.

لا ندين، بل نغفر. إن تاب أخونا نغفر له. وإن أخطأ سبع مرات، وعاد تائبًا نغفر له (لو 17:3-4). وهكذا يدعونا يسوع إلى الحذر من قساوة القلب سواء في تعاملنا مع الصغار (17:1-2) أو مع الخطأة. والرحمة في النهاية تدعونا إلى أن ننظر إلى نفوسنا وما فيها من خطأ كي نصلحه. لا أن ننظر إلى الآخرين قصد الحكم عليهم فندل على أننا أفضل منهم. هنا نتذكر كلام بولس الرسول: ليحسب الواحد الآخرين أفضل منه (فل 2:3). هكذا يفهم الآخرين ولا يعود يترفّع عليهم.

ب - كما أن أباكم رحيم

حين نمارس الرحمة، لا نتطلّع إلى مثال بشريّ، بل إلى اللّه نفسه. فإن أردنا أن نعامل الناس بحسب روح العالم، ستكون الرحمة التي نمارسها قصيرة النفس. نغفر مرّة واحدة ونتوقّف.ونقول: هو لا يفهم. هو لا يستحقّ أن نغفر له، أن نسامحه! وكأننا نحن نستحقّ المغفرة حين يغفر اللّه لنا. ونقول: هو لا يستحقّ العطاء. أعطيته مرّة أولى ومرّة ثانيةً فأظهر نكران الجميل. وما عرف بعد أن يتصرّف. الخطيئة الكبرى في هذا المجال هي أننا نقابل أنفسنا مع الآخرين. ولكنني أنسى أنني نلتُ مواهب ما نالها جاري، وأن جاري نال موهبة لم أنلها. فالمحبّة الحقّة تدفعني إلى أن اكتشف الغنى الذي عندي وأجعله في خدمة القريب. واكتشف الغنى الذي عند القريب وأغتني به. حينئذ نفهم حقًا أننا جسد واحد في أعضاء كثيرين. وما يُفرح عضوًا من الأعضاء يُفرح كل الأعضاء. وإن تألّم عضو تألّمت معه سائر الأعضاء.

بل نحن نرحم كما يرحم الآب. هذه اللفظة هي المعيار في علاقتنا، إذا أردنا أن نعيش الرحمة. نرحم كما اللّه يرحم. نحبّ كما اللّه يحب. نغفر كما اللّه يغفر. نعطي كما اللّه يعطي. وإذا أردنا أن نتعرّف إلى وجه الآب، نتطلّع إلى ابنه يسوع الذي قال لنا: من رآني رأى الآب (يو 14:9).

غضب الفريسيّون. اشمأزّوا. تذمّروا من يسوع. هو لا يكتفي بأن يكلّم العشّارين والخطأة، لا يكتفي بأن يستقبلهم ويرحّب بهم، بل يأكل معهم. وأكثر من هذا: يسوع نفسه أولَمَ لهم. ويعتبر نفسه نبيًا؟ هذا ما قاله سمعان الفريسيّ حين جاءت الخاطئة باكية على قدمي يسوع (لو 7:39).

ماذا كان جواب يسوع؟ حدّثهم عن أب أعطى ابنه مرّة أولى. ولما جاء تائبًا أعطاه مرّة ثانية، وما حاسبه عمّا أعطاه في السابق. وهو مستعدّ أن يعطيه مرّة ثالثة ورابعة وسابعة. غضب الأخ الأكبر وأعمل العقل: أهكذا يعامَل الخاطىء والمخطىء؟ أما يجب أن يعاقَب؟ هذا منطق البشر، لا منطق اللّه. في هذا يقول هوشع النبيّ: أنا إله لا إنسان (11:9). أي لا أتصرّف كما يتصرّف البشر. بل كما يتصرّف اللّه.

ما اعتبر الابن الأصغر أن يكون بعدُ الابنَ في البيت. فرضي بأن يكون الأجير الذي يأكل فضلات الطعام. ولكن أباه ذبح له العجل المسمّن الذي يحتفظ به للمناسبات الهامّة. وألبسه ثوبًا وحذاء. هكذا يحبّ. هكذا يفعل. رأى ابنه آتيًا من بعيد، تحرّكت أحشاؤه كالأم تجاه ابنها. فأسرع إلى ابنه يعانقه، يقبّله (لو 15:20). هو ما انتظر منه أن يركع ويكفّر عن خطيئته، عن عمله السيّىء مع البغايا كما قال الأخ الأكبر (15:30). بل سبق ابنَه. غفر له قبل أن يطلب المغفرة، وقبل أن يقول فعل اعترافه: خطئت إلى السماء وإليك. لا بَأسَ. ولكن الأب لم يقبل أن يقول ابنه: لا استحق بعدُ أن أدعى لك ابنًا. قاطعه. ما تركه يتابع »درسًا«حفظه: »فعاملني كأجير«. كلا. بل أنت ابني وتبقى ابني. هكذا يفرح إله الرحمة في أعلى سمائه بالذين راحوا إلى البعيد البعيد ثمّ رجعوا.

ج - أحشاء الرحمة

حين أنشد زكريا نشيده في ابنه يوحنا المعمدان، تحدّث عن أحشاء رحمة إلهنا (لو 1:78). هكذا اعتاد العهد القديم أن يتحدّث عن رحمة اللّه، وعن تعامله مع شعبه (ومع كل مؤمن) تعاملَ الأم التي حملت ابنها في رحمها فارتبطت به ارتباطًا حميمًا. مثلاً يقول الرب بلسان اشعيا: »هجرتك لحظة وبرحمة فائقة أضمّك« (54:7). وفي هذا الخط يقول لنا بولس نحن الذين قمنا مع المسيح ولبسنا الانسان الجديد: »البسوا عواطف الحنان والرأفة والتواضع والوداعة والصبر. احتملوا بعضُكم بعضًا« (كو 3:12-13).

هذا ما فعله يسوع حين رأى تلك الأرملة التي فقدت ابنها الوحيد. إن لوقا شدّد هنا (7:12) كما في قيامة ابنة يائيرس. الابن هو وحيد أمّه. والابنة وحيدة أبيها. وستكون عاطفة يسوع تكملة لعاطفة هذه الوالدة وهذا الوالد. إمرأة مات زوجها. ربّت إبنها بدموعها. وها هو الابن قد مات. رآها الربّ. كان بإمكانه أن لا يراها. أن يتظاهر بأنه ما شاهدها. فما لي ولتعاسة البشر. تكفيني همومي. ثمّ إن مشاريع يسوع كثيرة. فهل يضيع الوقت في حالة مثل هذه تحدث أكثر من مرّة؟ أهي الأرملة الأولى؟ أهي أوّل من خسر ابنًا؟ هذا منطق البشر والاحصائيّات. ولكن في نظر يسوع، هذه المرأة وحيدة أمامه. كأني به نسيَ تلاميذه والجمهور الكبير الذي يرافقه. وما اهتمّ بالجمع الكبير الآتي من مدينة نائين. ومصيبتُها فريدة. هذا ما يجب أن نفهمه. لسنا رقمًا من الأرقام أمام اللّه. لسنا شخصًا من الاشخاص في جسد كبير. بل في قلب الجسد الكبير، ينظر يسوع إلى كل واحد منا وكأنه وحده. فهو مثل أم لها عائلة كبيرة. سألوها كيف تحبِّينهم. قالت:»أحبّ كل واحد وكأنّه إبن وحيد لي«. هكذا يحبّ يسوع.

تحرّكت أحشاء يسوع تجاه هذه الأم. كلّمها: لا تبكي. لا ننسى أن كلمة يسوع خلاّقة. فكأني يقول لها: لا بكاء لك بعد اليوم. فالموت مضى بعيدًا عنك. وابنك سيقوم. قال يسوع وفعل. فأقام الابن وسلّمه إلى أمّه. أجل، بوجود يسوع »لا يبقى موت ولا حزن ولا صراخ ولا وجع« (رؤ 21:4).

وتحدّث يسوع عن نفسه أيضًا من خلال مثل السامريّ الصالح (لو 10:25-37). جاء أحد علماء الشريعة ليتحدّث عن محبّة اللّه ومحبّة القريب. أجابه يسوع: »اعمل هذا«. لا حاجة إلى الكلام الطويل عن الانسانيّة، والخطب الرنّانة في المحبّة وواجب المساعدة بعضنا لبعض. اذهب واعمل. واعطى يسوع مثلاً، وأنهاه بسؤال طرحه على ذلك العالم: من كان في رأيك القريب؟ أجاب العالم:» الذي عامله بالرحمة«. فقال له يسوع:»إذهب أنت واعمل مثله«.

إعمل ولا تكتفِ بالكلام. قال يعقوب: لو كان لنا أخ عريان، فماذا ينفع قولنا له: اذهب بسلام. استدفىء واشبع (2:16). فالدينونة لا ترحم من لا يرحم (آ:13). وقال يوحنا في المعنى نفسه في رسالته الأولى: »مَن كانت له خيرات العالم ورأى اخاه محتاجًا فأغلق أحشاءه عنه، فكيف تَثبت محبّةُ اللّه فيه« (3:17).

وفي الواقع، هذا ما عمله ذلك السامري مع ذلك الجريح. يكفي أنه رآه. لم ينظر إلى أصله ودينه ومستواه الاجتماعيّ. ما إن رآه في هذه الحالة حتى تحرّكت أحشاؤه. دنا منه. ركع بقربه. سكب زيتًا وخمرًا على جراحه وضمّدها (لو 10:33-34). وسلّمه إلى »طبيب«. ما اكتفى بأن يعمل، بل دفع من ماله.

وهذا ما عمله يسوع. فالزيت زيت العماد والتثبيت، والخَمر خمر القربان المقدّس. وتضميد الجراح هو سرّ التوبة. فيسوع حمَلنا وحمل خطايانا، لأنه حمل خطايا العالم. حملنا إلى الفندق، أي إلى الكنيسة التي تستقبلنا. ودفع لا بعض المال، لا الفاني من الفضّة أو الذهب. بل افتدانا بدم كريم، دم الحمل الذي لا عيب فيه (1 بط 1:18-19). ومثله فعل السامريّ حين خاطر بحياته وما خاف من اللصوص الذين قد يكونون بعدُ في الجوار، فعمل ما عمل من أجل هذا الغريب الذي صار له قريبًا، لأنه تحلّى بالرحمة، لبس عواطف الرحمة.

تلك هي وجهة هامة في إنجيل لوقا. هو يدعونا إلى الرحمة على مثال الآب السماويّ. وممارستُنا للرحمة لا تكون بالقول وباللسان، بل بالعمل والحقّ. هذا ما فعله يسوع. وهذا ما دعانا إليه. علينا أن نتبع خطاه، ونعمل كما فعل ذاك السامريّ. بل أن نقتدي باللّه كالابناء الأحباء، أن نكون رحماء كما أن اللّه أبانا رحيم هو.

2 - يسوع الربّ والمخلّص

حين وُلد يسوع في بيت لحم، تراءى الملائكة للرعاة، وبشّروهم قائلين:»وُلد لكم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الربّ« (2:11). لا، ليس مخلّص العالم أوغسطس، الامبراطور الرومانيّ، الذي وُلد يسوع في أيامه، بل هذا الطفل الموضوع في القمط. فلا اسم إلاّ اسمه به نخلص. هذا ما يحدّثنا عنه القدّيس لوقا في إنجيله.

أ -خلاص اللّه

منذ بداية الإنجيل، نحسّ بهذه الحاجة إلى الخلاص، لهذا أنشد زكريا في ولادة ابنه: »تبارك الربّ... أقام لنا قدرة خلاص«، أقام لنا مخلّصًا قديرًا (1:69). واعتبر أن عمل ابنه الأهمّ هو أن يعرّف الشعب بالخلاص الذي نالوه. وهذا الخلاص رآه سمعان الشيخ بعينيه حين رآى يسوع يحمله والداه إلى الهيكل ليقدّماه للربّ (2:3). وهذا الخلاص لا يتوقّف عند الشعب العبراني، بل هو يصل إلى جميع الشعوب. قال:»الآن، يا سيّد، تطلق عبدك بسلام. فعيناي رأتا خلاصك«. وعد الربّ بالخلاص، وها هو يتمّ  وعده. فما بقي لسمعان شيء ينتظره.

وماذا يكون هذا الخلاص؟ يكون نورًا للأمم الوثنيّة التي اعتُبرت سائرةً في الظلام، لأنها لم تعرف الإله الحيّ والحقيقيّ. فنحن نعرف الحكم القاسي الذي حكمه سفر الحكمة على عبادة الأصنام: »وما من شكّ أن جميع الذين يجهلون اللّه هم حمقى من طبعهم. ولم يقدروا أن يعرفوا الكائن (أي يهوه) من الروائع المنظورة التي صنعها...«. وهم لما فُتنوا بجمالها نسوا أن الذي خلقها هو أعظم منها، هو مصدر كل جمال (13:1ي). وسيكون بولس في امتداد هذا الكلام، فيعلن أن لا عذر لأولئك الذين كان بمقدورهم أن يعرفوا اللّه. وبعد أن يعرفوه، كان بمقدورهم أن يشكروه ويمجّدوه، ولكنهم لم يفعلوا. زعموا أنهم حكماء فصاروا حمقى (روم 1:20-23).

احتاج الوثنيّون إلى الوحي، فجاءهم وحيُ اللّه في يسوع المسيح. احتاجوا إلى النور فجاءهم مَن هو نور العالم (يو 8:12). واحتاج شعب اللّه إلى مَن يعيد إليه أمجاده بعد أن زالت مملكة داود. فجاء يسوع ابنُ داود »مجدًا لشعبه« (لو 2:322).

وسيعود لوقا إلى هذا الموضوع حين يتحدّث عن يوحنا المعمدان في خطّ نبوءة أشعيا (40:3-5). ما اكتفى، كما فعل كل من مرقس ومتّى، بالكلام عن الصوت الصارخ في البريّة، وعن الطريق الذي تهيّأ أمام الربّ، بل أنهى الايراد الكتابيّ:»فيرى كلَّ بشر خلاص اللّه« (6:3). هذا الخلاص سيحمله الرسل بشكل خاص بعد القيامة. فالمسيح تراءى لهم وحدّثهم قبل أن يتركهم فقال:»تُعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع الشعوب« (24:47). والنتيجة سوف نراها في نهاية سفر الأعمال. قال بولس لليهود الذين جاؤوا إليه وهو في رومة: »فليكن معلومًا عندكم أن اللّه أرسل خلاصه إلى الوثنيّين، وهم سَيسمعون« (أع 28:28). سيفتحون آذانهم وقلوبهم، ويتقبّلون البشارة الجديدة.

عرف العالم أكثر من محاولة من أجل الخلاص. واستند الانسان إلى هذا أو ذاك من البشر. فلا العالم استطاع أن يخلّص نفسه، ولا الاعتصام بالبشر منح الخلاص لأحد من البشر. لهذا كان هتافٌ منذ العهد القديم، نجد صداه بشكل خاص في المزامير. »قم يا رب، وخلّصني يا إلهي« (3:8). »خلّصني من أجل أمانتك« (5:6). »خلّصني من جميع مضطهديّ ونجنيِّ« (7:2). فأنت الاله الذي يخلّص (25:5) والحصن الذي يخلّص الملك الذي مسحته (28:8). فماذا تنتظر لكي تخلّص شعبك، لكي تبارك ميراثك (28:9). نستطيع أن نطيل الكلام، ولكننا نفهم أن هذا الخلاص الذي تطلّع إليه العهد القديم، وجد كمالَه في العهد الجديد، مع يسوع المسيح. فقال يوحنا في إنجيله:»هكذا أحبّ اللّه العالم حتى إنه أرسل ابنه الوحيد، فلا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة. فاللّه أرسل ابنه إلى العالم، لا ليدين العالم (ويحكم عليه)، بل ليخلّص به العالم« (يو 3:16-17).

ب - يسوع مخلّص البشر

وجاء يسوع فدلّ على هذا الخلاص الذي يرسله اللّه بأعمال ملموسة لها معناها. فهو حين يشفي البشر يخلّصهم. لا يقول النصّ فقط إنه يشفيهم، مع أننا أمام المرض. ولماذا؟ لأن الأقدمين كانوا يعتبرون المرض بابًا إلى الموت، وأي خلاص أهم من الخلاص من الموت. وهكذا نسمع يسوع يقول للنازفة:»يا ابنتي، إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام« (8:28).هذه التي كانت خائفة مرتعدة، وجدت لمسة الحنان التي حملت إليها الخلاص. نجت من المرض. وسوف تنجو ابنة الاثنتي عشرة سنة من الموت. »يا صبيّة قومي« (8:54). ونسمع يسوع يقول للأبرص الذي ترك رفاقه التسعة وعاد إلى يسوع:»قم واذهب إيمانُك خلّصك« (17:19). كان قد ارتمى عند قدمي يسوع، مثله مثل الخاطئة، لكي يشكره على الشفاء الذي تمّ له. وهذا الذي شُفيَ لا يستحقّ الشفاء بحسب منطق العالم اليهوديّ. هو سامريّ.بل هو غريب. فأين التسعة الذين يمكن أن نعتبرهم من شعب اللّه؟ ما عادوا إلى يسوع لكي يمجّدوا اللّه (17:18) كما فعل هذا الغريب. بل تابعوا طريقهم إلى الكهنة (17:14). هنا نتذكّر كلام المزمور 107:»صرخوا إلى الربّ على رحمته وعلى عجائبه لبني البشر«.

ونسمع يسوع يكلّم أعمى أريحا: »أبصرْ. إيمانك خلّصك« (18:42). لاحظنا في هذه الحالات الثلاث، دورَ الإيمان في الخلاص الذي يناله المريض. وهذا الخلاص يقوم في شفاء من المرض. ولكن يسوع لا يتوقّف عند شفاء على مستوى الجسد، على مستوى ما يُرى، بل يصل إلى مستوى النفس، إلى ما لا يُرى، إلى الانسان في أعمق أعماقه. في هذا المجال، نتذكّر كلام يسوع حول خطر يهدِّد الجسد وآخر يهدّد النفس: »لا تخافوا ممّن يقتلون الجسد ولا يقدرون أن يقتلوا النفس« (مت 10:28). فإن كان هناك هلاك على مستوى الانسان كله، على مستوى النفس والجسد، فهناك خلاص تام ناجز على المستوى الماديّ وعلى المستوى الروحي. هذا ما حدث بالنسبة إلى المخلّع. بدأ يسوع فغفر له خطاياه، ثم شفاه من مرضه. منحه خلاص »النفس« ثم خلاص »الجسد«. فما يُرى هو إلى حين. وما لا يُرى هو إلى الأبد. لهذا، جاء يسوع يحمل الخلاص الذي لا يُرى والذي يدوم. من أجل هذا، قال يسوع للخاطئة: »إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام« (لو 7:50). وكيف خلّصها إيمانها؟ حين غُفرت خطاياها (7:48).

فمَن أراد الخلاص، وجب عليه أن يتقبّل بإيمان إنجيلَ الملكوت. من أجل هذا، قال يسوع مثل الزارع. وبدايته:»ما وقع منه على جانب الطريق هم الذين يسمعون كلام اللّه، فيجيء إبليس وينتزع الكلام من قلوبهم لئلا يؤمنوا فيخلصوا« (8:12). وهكذا يصبح الانسان حلبة صراع. يزرع الربّ فيقتلع إبليس. فمن نختار؟ فإذا كنا أرضًا يدوسها المارة، يأتي الشيطان ويرافقه سبعة شياطين شرٌّا منه فيقيمون فينا. وإذا كنا أرضًا طيّبة نسمع كلام اللّه ونحفظه بقلب طيّب صالح فنثمر بثباتنا (8:15).

فهدف يسوع الأساسيّ حين تجسّد، هو الخلاص. فقد قال عن نفسه إنه جاء يخلّص ما هلك (9:56). وسيردّد الكلام عينه بمناسبة اهتداء زكا العشّار (19:10).

ج - خلاص لهذا البيت

في نهاية الطريق الصاعدة إلى أورشليم، قدّم لنا إنجيلُ لوقا خبر خلاص سنجد خاتمتها على الصليب. مرّ يسوع في أريحا، اجتاز المدينة وكاد يخرج منها متوجّهًا إلى المحطّة الأخيرة في هذه الصعود الذي ينتهي بآلامه وموته وقيامته. اجتاز المدينة وما قبله أحد في بيته. أو هو لم يقبل دعوة، لأنه كان يتطلّع إلى ذلك الذي سيدعوه فيبدّل له حياته. ولكن، من هو هذا الرجل؟

هو غنيّ. ونحن نعرف نظرة لوقا إلى الأغنياء، بل نظرة الإنجيل كله: يدخل الجمل في ثقب الابرة ولا يدخل الغني إلى ملكوت السماوات (18:25). هو عشّار أو جابي ضرائب، والناس تعرف كيف كان يجمع العشّارُ ثروته. بل هو رئيس العشّارين. فكأني بالإنجيل يقول: هو رئيس السارقين. لا شكّ في أنه سمع عن يسوع، فدعا يسوع نفسه إلى بيت ذلك الخاطىء المعروف، الذي يحتقره الجميع في البلدة. تذكّروا قائلين: »دخل بيت رجل خاطىء ليُقيم عنده« (19:7). لا، لسنا أمام زيارة عابرة، بل إقامة. سيصبح بيت زكا كنيسة في أريحا. أقام يسوع فيه أكثر من يوم، وجاء الناس إليه يسمعون كلام اللّه. أي منبر هذا المنبر؟!

قبل يسوعُ ضيافة زكا فخلقه من جديد. هذا ما فعل مع الخاطئة. علّمها الحبّ الحقيقيّ فبدّل حياتها. غفر لها فعلّمها الحب الحقيقيّ الذي لا يمكن إلاّ أن ينال الغفران. وزكا، ما إن دخل يسوعُ بيتَه حتى تبدّل كله. صار انسانًا جديدًا. بدأ فتجرّد من نصف أمواله من أجل الفقراء. هكذا يستطيع أن يتبع يسوع، أن يكون مع يسوع. أما هذا الذي قاله للرجل الغني الذي طلب الشروط من أجل ميراث »الحياة الأبديّة«؟ قال يسوع:»بِع كلّ ما تملك، وزِّع ثمنه على الفقراء، فيكون لك كنز في السماوات، وتعال اتبعني« (18:22). وسيكون عمل زكا مثالاً للمؤمنين في الكنيسة الأولى. يبدأ الخلاصَ مسيرتَه حين يتجرّد الانسان عن ماله ويعطيه للفقراء. تحدّث أعمال الرسل عن برنابا الذي باع الحقل وجعل ثمنه عند أقدام الرسل (4:37). فسُميّ ابن التعزية. أما حنانيٌّا فرفض العطاء الكامل وكذب على الروح القدس، فكان الموت له ولزوجته سفيرة.

وخطا زكا الخطوة الثانية: مارس العدالة كما تقول الشريعة. »إن كنتُ ظلمتُ أحدًا في شيء، أردّه عليه أربعة أضعاف« (19:9).لماذا؟ لأنه ابن ابراهيم. ابن الإيمان. هو لم يُعلن إيمانَه بالقول والكلام، بل كان تصرّفه تصرّف الإيمان. كان ابن ابراهيم دون أن يدري. لهذا، نال الخلاص الذي انتظره دون أن يعرفه. في الأصل، جاء زكا ليرى يسوع رؤية الفضوليّ. أراد أن يعرف من هو يسوع الذي يتكلّمون عنه كلَّ هذا الكلام. ولكن يسوع حوّل هذا الموقف السطحيّ إلى موقف عميق، فأعاد زكا إلى حيث يجب أن يكون: مع ابراهيم. »فابن الانسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم« (19:10).

وخلاص زكا ليس بعدَ عددٍ من السنين. هو الآن. هو اليوم. فكلمة اللّه فاعلة. قالها يسوع فتمّت في الحال. وسبق وقالها للرعاة بفم الملائكة:»اليوم وُلد لكم مخلّص«. وقالها من على صليبه للصّ الذي قال له: أذكرني حين تأتي في ملكوتك. فكأنه يطلب الخلاص. ربّما الخلاص الماديّ في الدرجة الأولى بعد أن قال الناس في يسوع: خلّص الآخرين ولم يستطع أن يخلّص نفسه (23:35). فليدلّ على أنه مسيح اللّه المختار. ليدلّ على أنه ملك اليهود. وسيقول واحد من اللصين اللذين بجانب يسوع:»خلّصْ نفسك وخلّصنا«. ما خلّص يسوع هذين المجرمين وما جعلهما ينزلان عن الصليب. وهو نفسه ما نزل عن الصليب، بل سيُنزلونه ميّتًا عن الصليب ويُوضع في القبر. ولكنه لم يصعد وحده. بل أخذ معه ذاك اللصّ. »اليوم تكون معي في الفردوس«. ما نال ذاك اللص خلاصًا موقّتًا، بل خلاصًا كاملاً. نال ملء السعادة بعد أن سار مسيرةَ التوبة، فأقرّ بخطيئته وببراءة ذاك المصلوب بجانبه. فالمصلوب بجانب يسوع هو أيضًا ابن ابراهيم. واليوم نال الخلاص.

بين ولادة المسيح وموته، تسير مسيرةُ الخلاص الذي يصل إلى الجميع. لا إلى الأبرار،بل إلى الخطأة. لا إلى عظماء هذا العالم، بل إلى العائشين على هامش المجتمع. إلى ذاك الأبرص الذي عاد إلى يسوع ولم يتابع طريقه إلى الهيكل. إلى ذاك العشّار الذي استقبل يسوع فرحًا في بيته، في أريحا. إلى ذاك اللص... إلى كل واحد منا. فهل نتقبّل خلاصه في توبة صادقة وعطاء ذاتنا وما عندنا، أم نتركه يمرّ في أسواقنا ويقف في ساحاتنا دون أن نلتفت إليه؟ هو يريد أن يرانا نصعد تلك الشجرة لكي نراه. هو يريد أن يتعرّف إلينا. لننزعْ عنّا كلَّ قناع ونقف أمامه كالاطفال. بل ندعوه. فكل من يدعو باسم الربّ يخلّص.

3 - يسوع صديق الخطأة

الإنجيل بُشرى الخلاص. وهو بشرى في الدرجة الأولى من أجل المرضى والعائشين على هامش المجتمع. وهو بُشرى بشكل خاص من أجل الخطأة. إنه ما جاء من أجل الأصحّاء، بل من أجل المرضى (5:31-32). هذا ما قاله لوقا كما قاله متّى ومرقس، لأن يسوع جاء في النهاية ليخلّص ما قد هلك (19:10).

أ - هي خاطئة

تفرّد لوقا فحدّثنا عن امرأة جاءت إلى يسوع، امرأة اشتهرت في المدينة بخطيئتها. وقد تكون زانية معروفة. رفض الإنجيليّ أن يذكر اسمها احترامًا لها لئلاّ يشهرها. أما سمعان الفريسيّ فسمّاها الخاطئة وما أعطاها اسمًا آخر. وبما أنها كذلك، يجب أن تُعزل. أن لا يقترب أحد منها، ولا سيّما هذا النبيّ الذي اسمه يسوع. فإن هو سمح بأن تقبّل قدميه، نتساءل: هل هو نبيّ حقًا؟

ولكن تصرّفَ يسوع يختلف كل الاختلاف عن تصرّف الفريسيّ. فالبشر جميعهم خطأة، كما قال المزمور الرابع عشر، وردّد كلماته بولس الرسول إلى رومة: ما من أحد بار، لا أحد. ضلّوا كلهم وفسدوا (3:10). وسوف يقول يوحنا في رسالته الأولى:»إذا قلنا إننا بلا خطيئة خدعنا أنفسنا وما كان الحقّ فينا. أما إذا اعترفنا بخطايانا، فهو أمين وعادل، يغفر لنا خطايانا ويطهّرنا من كل شرّ. وإذا قلنا إننا ما خطئنا، جعلناه كاذبًا وما كانت كلمته فينا« (1:8-10).

وأعطى يسوع مثلاً فبيّن لسمعان أن هذه »الخاطئة« عليها دين. وسمعان أيضًا عليه دين. والربّ غفر له كما غفر لها. فإن كانت خطاياها أكثر من خطاياه، فهذا يعني أن الربّ أحبّها أكثر ممّا أحبّ ذاك الذي استضافه. في هذا قال بولس الرسول:»حيث كثرت الخطيئة هناك فاضت النعمة« (روم 5:20). ويطرح الرسول السؤال:»أنبقى في الخطيئة حتى تفيض نعمة اللّه؟« وكان الجواب كلا (1:6). ولكن ما يجب أن نعرفه هو حبّ اللّه للخطأة حبًا خاصًا. أنظروا كيف استقبل الابن العائد إليه. أقام له عيدًا أين منه كل الأعياد العاديّة التي تشوّق إليها الابن الأكبر حين طلب جديًا يتنعّم به مع أصحابه (لو 15:29).

وصوّر لوقا تلك الخاطئة الآتية إلى يسوع بكل الوسائل التي اعتادت أن تستعملها لكي تجلب إليها أولئك الذين يقعون في شركها. جاءت ومعها قارورة الطيّب (تعطَّرت). وقفت عند قدميه (تتوسّل). أخذت تبكي وتبلّ قدميه بدموعها. ونحن نعرف موقع البكاء في هذا الوضع. وهناك الشعر والقبل. كانت عشيقة المارّين من أي مكان أتوا. فصارت »عشيقة« من نوع آخر. صارت عشيقة الحبّ الالهي، عشيقة العريس السماوي الذي لا عريس سواه. فحسب نشيد الأناشيد، كل واحد منا، رجلاً كان أو إمرأة، هو عروس يسوع المسيح. »أنا لحبيبي وحبيبي لي«. »أنا لحبيبي وإليه اشتياقي« (7:11). من أجل هذا قال الإنجيل عنها: أحبّت كثيرًا فغُفر لها الكثير. طلب سمعان من يسوع أن يقف معه، مع الأبرار، ويترك هذه المرأة وحدها، يتركها مرميّة على الأرض. بل يرفسها برجله ويُبعدها عنه.  ولكن يسوع ما وقف مع سمعان، بل مع الخاطئة، ودعا الفريسيّ ليكون معها. فهذا الذي قبل أن يعتمد مع الآتين إلى معموديّة يوحنا لغفران خطاياهم (3:21: ولما تعمّد الشعب كله، تعمّد يسوع أيضًا)، لا يخاف من أن يقف مع الخاطئة مع أنه لم يعرف الخطيئة. لهذا قالت فيه الرسالة إلى العبرانيّين:»لم يخجل من أن يدعوهم إخوته« (2:11) وهو الذي »تشبّه بهم في كل شيء« (2:17).

ب - ابنك بدّد مالك

هذا ما قاله الأخ الأكبر لأبيه، وهو بذلك يتنكّر لأخيه الذي أكل المال الوالديّ »مع البغايا« (15:30). هكذا يتصرّف الفريسيّون مع الخطأة. وهكذا نتصرّف نحن أيضًا، ونعتبر نفوسنا من الجهّة الثانية، فنظنّ أن الشرّ هو عند الآخرين، لا عندنا. وبالتالي ننسى أن الشرّ يمرّ فينا. بدأ لوقا أمثال يسوع حول رحمة اللّه تجاه الخطأة بعبارة تشدّد على تذمّر الفريسيّين من يسوع. ولو استطاعوا أن يوبّخوه  لوبّخوه. ولكن من يجسر؟ وقد كان لهم بعض المرات أن يقولوا للتلاميذ ما لم يجرأوا أن يقولوه ليسوع. تذمّروا لأن يسوع يرحّب بالخاطئين ويأكل معهم (15:1-2). يا للجريمة!

ما دافع يسوع عن نفسه، ولا قدّم درسًا في أهميّة مساعدة الخطأة من عليائه، وهو الذي ما استطاع أحد أن يبكّته على خطيئة (يو 8:46). أما الفريسيّون، فحين دعاهم أن يرموا الزانية بحجر إن كانوا بلا خطيئة، كانت ردّة الفعل عندهم انسحابًا من المجلس، وكبارُهم قبل صغارهم (يو 9:8). كل ما فعله يسوع هو أنه حدّثهم عن فرح اللّه حين يعود الخاطىء إليه. فهو يشبه الأم التي يُشفى ولدها، أو يعود من بلد بعيد. ولقد سبق للنبيّ حزقيال فسأل: أترى اللّه يريد أن يموت الخاطىء، أم أن يعود عن ضلاله ويحيا (18:22)؟

وصوّر لنا الخاطىء الأول الذي يرفض البيت الوالدي، يرفض أباه. فهو يشبه إلى حدّ بعيد آدم الذي جرّبته الحيّة ودعته إلى أن يصير اللّه. أن يرفض الوصايا. أن يرفض العيش في البيت الوالديّ. فطرد من الجنّة، وذهب إلى البعيد. وكما خسر آدم كل خيرات الفردوس، وذهب إلى أرض تنبت شوكًا وقطربًا، كذلك فعل الابن الأصغر: تمنّى أن يأكل من الخرنوب الذي تأكله الخنازير (لو 15:16)، ويا ليته حصل عليه. فيقول الإنجيل: »فلا يعطيه أحد«. فكاد يموت من الجوع.

ثمّ صوّر الخاطىء الثاني الذي يرفض البيت الوالديّ لأنه يرفض أخاه. فشابه قايين الذي صار قاتلاً كما قالت رسالة يوحنا الأولى: »كان من الشرّير فقتل أخاه« (3:12). قال الوالد لابنه: أخوك كان مائتًا فعاش، تعال لنفرح معًا. فرفض أن يدخل (لو 15:28). فكأني به يقول لأبيه: أو أنا أو أخي.

لا نستطيع أن نكون كلانا في البيت الواحد: الذي بدّد مالك مع الذي حافظ على مالك، الذي عاش مع البغايا مع الذي ما عصى لك أمرًا (15:29). فما هي هذه المحبّة نحو الأب حين ترفض الأخ؟ أهكذا نحبّ اللّه الذي لا نراه؟ بل نحن كَذَبة! كيف نزعم أننا نحبّ اللّه الذي لا نراه، ولا نحبّ أخانا الذي نراه (1 يو 4:15).

تلك هي الخطيئة منذ البداية. نريد أن نلغي اللّه مباشرة فنتعبّد للآلهة التي هي بصورة بشر أو حيوان أو كواكب وبحار وأنهار. نتعبّد لآلهة هي شهوتنا وتعلّقنا بالمال الذي صار لنا ربًا آخر نركن له ونستند إليه. أو نريد أن نلغي اخوتنا وكأننا بذلك نلغي اللّه الذي لا نرضى عن تصرّفاته. فمعاصرو النبيّ ملاخي اشتكوا من سلوك الربّ. واشتكى الابن الأكبر من أبيه، والكتبة والفريسيّون من يسوع الذي يدلّ على حبّ اللّه وغفرانه. ولكن اللّه يتقبّلنا جميعًا مهما كانت حالنا. أكنّا خطأة عائدين إليه، أم »أبرارًا« نستعدّ لأن نتركه على مثال الابن الأكبر. فهو قد ألغى العداوة، هدم الحاجز الذي يفصل البشر عن اللّه. فلماذا نعود ونبنيه وكأننا نقول مع أهل المَثل: »لا نريد أن يكون هذا الرجل ملكًا علينا« (لو 19:14).

ج - إن لم تتوبوا

إن كان الخاطىء هو الذي يذهب إليه يسوع، يبحث عنه. وإن وجده يحمله على كتفه، فهذا لا يعني أن يسوع ضعيف. أنه يتراخى لكي يرضي الناس، لا اللّه. فالحبّ ضعيف إذا شئنا. ولكنه قويّ أيضًا. لهذا، فيسوع لا يكون سهلاً مع الخاطئين الذين يرفضون التوبة.

فالإنسان تينة. إن لم تعطِ ثمرًا يجب أن تُقطع. لا شكّ في أن الكرّام سيقلب التربة حولها ويسمّدها. سوف يهتمّ بها، فيعطها مهلة. ولكن بعد ذلك، لا سبيل لبقائها (لو 13:6-9). لقد صارت كالغصن الذي لم يعد مرتبطًا بالكرمة. صارت يابسة، فاستحقّت أن توضع في النار لتحترق.

قال يسوع هذا المثل بعد أن سمع من أخبره عن مصيبة حلّت بالناس. فأجاب: »إن كنتم لا تتوبون، فستهلكون كلّكم«.

إذا كان الربّ يقابل الخطيئة بالمغفرة، فعلى الانسان أن يقابلها بالتوبة. هناك مسيرة اللّه حين يعود إلينا. ومسيرة الانسان حين يعود إلى اللّه. لهذا، قال الربّ بلسان النبيّ: »عودوا إليّ فأعود إليكم« (ملا 3:7). وسوف يقدّم لنا لوقا طريق العودة هذه بشكل عمليّ. سأل جباة الضرائب يوحنا: »ماذا نعمل«؟ فقال لهم:»لا تجمعوا من الضرائب أكثر ممّا فُرض لكم«. وإلاّ كنتم سارقين. وسأله بعض الجنود:»ماذا نعمل«؟ فقال لهم: »لا تظلموا أحدًا، ولا تشوا أحدًا، واقنعوا بأجوركم« (3:12-14). وهدّد يوحنا بالفأس الموضوعة على أصل الشجرة، وحذّر من الاعتداد بأن المؤمنين هم أبناء ابراهيم: »إن اللّه قادر أن يجعل من الحجارة أبناء لابراهيم« (8:3).

ولكن الكلمة الأخيرة ليست للموت، بل للحياة. وإن هو يسوع هدّد فلكي يجعل الإنسان يعي خطيئته. وفي أي حال، فهو يعطينا مهلة، كما قال بطرس في رسالته الثانية: »يصبر عليكم لأنه لا يريد أن يهلك أحد، بل أن يتوب الجميع« (3:9).

من أجل هذا، كانت الخاطئة مثالاً لسمعان الفريسيّ، ففهم خطيئته. قال له يسوع:بالصواب أجبتَ. فهمَ سمعان أنه خاطىء، شأنه شأن هذه المرأة، التي بدأ فاحتقرها. وأنه يحتاج إلى غفران الربّ وخلاصه. ويا ليت الأخ الأكبر تعلّم من أخيه الأصغر حين ابتعد عن البيت الوالديّ: اقترب من الموت. عاش الذلّ. عرف الضياع. لهذا، عاد إلى البيت الوالديّ. ونحن لا نتعلّم كثيرًا من خبرات الآخرين، بل من خبراتنا الشخصيّة. يقول لنا يسوع كما قال للتلاميذ بعد تكثير الأرغفة: »وأنتم، أما تريدون أن تتركوني مثلهم«؟ هل نعرف أن نجيب:»إلى من نذهب يا ربّ، وكلام الحياة الأبديّة عندك« (يو 6:67-68)؟

ذاك هو إنجيل لوقا في حديثه عن الخطيئة، وفي تقديمه للربّ الذاهب ليبحث عن الخطأة ويعيدهم إلى البيت الوالديّ. كانوا يعتبرون الخاطىء نجسًا فيهربون منه لئلا ينجّسهم. والمثل اللاذع في هذا المجال هو الأبرص. هل هو الذي ينجّس يسوع، أم أن يسوع هو الذي يطهّره؟ فقداسة اللّه نار تحرق كل ما حولها. تحرق التبن والقشّ والخشب، وتنقّي معادن الذهب والفضّة. هذا ما يفعل الاله القدّوس حين يقترب من الخطأة. يحمل إليهم الطهارة والنقاء شرط أن يفتحوا له قلبهم ويستقبلوه. وإلاّ سوف يمضي كما يسوع حين كان في أرض الجراسيين. طلبوا منه أن يتحوّل عن تخومهم فتحوّل، بعد أن فضّلوا خنازيرهم على حريّة ينالها الإنسان. فضّلوا الخطيئة على المسيح، ونسوا أن من صنع الخطيئة أصبح عبدًا للخطيئة. أترانا نرضى بهذه العبوديّة أم نتطلع إلى يسوع الذي حرّرنا، الذي افتدانا وحمل إلينا الخلاص، الذي اشترانا بدمه الكريم!

4 - يسوع رافع رأس المرأة

حين نعرف وضع المرأة في الشرق القديم، لا بل في الشرق الحديث، وفي أماكن عديدة في العالم، نفهم الثورة التي حملها لوقا حين قدّم إنجيله. لا شكّ في أنه لم يتحدّث عن المرأة وحدها كما يفعل العصر الحديث لكي يتاجر بها، بل جعل المرأة تجاه الرجل والاثنان هما على صورة اللّه. وفي النهاية رسم لنا وجه مريم العذراء التي هي أعظم شخص بعد ابنها يسوع.

أ - الراعي وربّة البيت

حين نقرإ أمثال يسوع في إنجيل لوقا، نلاحظ أول ما نلاحظ أنه لا يعطي فقط أمثالاً يجعل فيها الرجال وحدهم، بل الرجال والنساء. ففي الفصل الخامس عشر نقرأ: أي رجل إذا كان له مئة خروف. ثم نقرأ: أية امرأة إذا كان لها عشرة دراهم. هو يبحث وهي تبحث. وكلاهما صورة عن اللّه الذي يبحث عن الخاطىء ويفرح حين يجده، بل يدعو الجيران للفرح معه. وهناك حبّة خردل أخذها رجل وزرعها في حقله. وهناك خميرة أخذتها امرأة ووضعتها في الدقيق. فملكوت اللّه يحتاج إلى الرجل لكي ينموا وإلى المرأة لكي يخمّر عجين البشريّة كلها (13:18-21). وهل الرجل يصلّي وحده، والعالم اليهوديّ لا يعرف مؤنث »تقي«؟ بل الرجل والمرأة. فإذ أراد يسوع أن يحدّثنا عن واجب الصلاة والثبات فيها حتى ننال، قدّم لنا بعد الصلاة الربيّة صورة رجل ذهب إلى صديقه يطلب ثلاثة أرغفة لأن ضيفًا جاء إليه في نصف الليل. وضعٌ صعب وميؤوس. ولكن الرجل ألحّ وفي النهاية نال. واستخلص يسوع الدرس: إسألوا تنالوا (11:5-9). ولكنه رسم لنا أيضًا وجه المرأة التي تلجّ وتلجّ حتى تنال ما تطلب. هي أرملة، إذن إمرأة ضعيفة. وهي في ضعفها تشبهنا حين نطلب من اللّه الذي يُنصف مختاريه الضارعين إليه ليل نهار. وأمامها قاضٍ ظالم »لا يخاف اللّه ولا يهاب الناس«. فهل تتراجع أمام الصعوبة؟ أتتوقّف عن الطلب؟ وفي النهاية أجبرت ذاك القاضي فقال: سأنصف هذه الأرملة (18:1-8).

أعاد يسوع المرأة إلى المكانة التي تعود لها في المجتمع. فهي ليست بعض متاع الرجل كما يقول سفر الخروج: لا تشته بيت قريبك وامرأته وثوره وحماره (20:17). المرأة هي تجاه الرجل. فلها ما له. وعليها ما عليه. كل ما تملكه هو لزوجها. وكل ما يملكه زوجها هو لها. ولكننا ما زلنا بعيدين عن هذا المثال الرفيع الذي فيه قال بولس: لا رجل ولا امرأة. بل كلنا واحد في المسيح. أما صورة المرأة في ذلك العصر، فنجدها في تلك المنحنية الظهر. هي تشبه الحيوان حين تلامس الأرض بفمها. جاءت إليها لمسةُ يسوع الحنونة، فانتصبت حالاً وأخذت تمجّد اللّه (13:10-17). ولكن المجتمع رفض لها هذه الشفاء لقساوة قلبه. غضب الرجل لأن يسوع شفى المرأة. لا شكّ في أن هناك موضوع السبت. هذا في إطار العالم اليهوديّ. أما في الإطار الواسع، فكيف يرضى الرجل أن تكون المرأة أكثر من ملبيّة حاجات الرجل وخادمة أولاده.

أترى المرأة وحدها خاطئة منذ حواء؟ والرجل أيضًا. ظن سمعان الفريسيّ أنه وحده بار. أما هذه المرأة التي جاءت إلى دارته، فلا تستحقّ أن تُدعى باسم. اسمها: الخاطئة. الخاطئة المشهورة (7:36-51). ولا خطيئة تُذكر سوى الزنى. وكأن هذه المرأة (وغيرها) زنت وحدها، لا مع رجل من الرجال. فإذا كان الرجل والمرأة كلاهما خاطئين، فكلاهما يُعاقبَان. وإن كانا كلاهما بارين يجازان معًا خير جزاء. ذاك هو منطق إنجيل لوقا. ذاك هو تعليم المسيح. فالرجل غير المؤمن يتقدّس بالمرأة المؤمنة، والمرأة غير المؤمنة تتقدّس بالرجل المؤمن (1 كور 7:14).

ب - أخوان وأختان

حين ذكرنا أمثال يسوع، كان بالامكان أن نتساءل عن إطار مثل الابن الضال أو الأب المحبّ (15:11-32). لا نجد فيه إلاّ الرجال. أب وولدان. وأذكر سؤالاً طرحه عليّ أحد الحاضرين في سهرة إنجيليّة: لا نجد شخص الأم في هذا المَثل. أتُرى لو كانت حاضرة ذهب الولد إلى البعيد تاركًا البيت الوالديّ؟ وكان جوابي وجواب الحاضرين: كلا. وأضيف اليوم: أما لهذين الأخوين أخت؟

ولكن الأم هي حاضرة من خلال شخص الأب الذي يمثّل اللّه. فاللّه هو أب. ولهذا ندعوه أبانا. ولكنه أيضًا أم. فالوالد وحده لا يعطي الصورة البشريّة الكاملة عن الخالق. والوالدة لا تعطي وحدها هذه الصورة. فالوالد والوالدة يعطيان معًا صورة اللّه. حين يُنجبان الأولاد، يصبحان كالخالق. ويُطرح السؤال: أين هي الأم؟ هي حاضرة حين يعود الولد إلى البيت الوالديّ. نقرأ في 15:20: »فرآه أبوه قادمًا من بعيد، فتحرّكت أحشاؤه وأسرع إليه يعانقه ويقبّله«. من تتحرّك أحشاؤه؟ الأم. أجل الأم هي هنا وعملها خفر، خفيّ، غير منظور. إن هذا الأب الذي فقد ابنه الأول، ويستعدّ لأن يفقد الثاني، نجد صورته في الراعي الذي مضى يبحث عن خروفه الضال، وفي ربّة البيت التي بحثت عن درهم أضاعته. ويمكن أن نطبّق هذا المثل على حياتنا اليوميّة. فنقول: إن غابت الأم غاب وجه الحنان والتواضع، غاب الحبّ الذي يكون ضعيفًا لكي يقوّي الولد، الذي ينحني ليرفع الابن والابنة. إبن أول مضى وما سمع وراءه أمًا تبكي. وابن ثان يرفض أن يدخل إلى البيت ولا أم تستقبله وتعلّمه المحبّة المجانيّة. اهتمّ الأصغر بحفنة من المال. والأكبر بجْدي ينعم به مع أصدقائه. أما أن يفكّر الأصغر بأبيه وأخيه، فهذا ما لم يفعله. وأن يفكِّر في أخيه الراجع إلى البيت، فهو لم يفعل. بل نظر إلى حياة أخيه الطائشة، بل رفض أن يدعوه أخاه من بعد.

وأين الأخت؟ سنجدها في مشهد آخر في إنجيل لوقا. سنجدها في مرتا ومريم (10:38-42). الأختان هنا مع يسوع. تشبهان الولدين مع أبيهما في مثل الابن الضال. وجه منير تجاه وجه مظلم. هناك التجارة وحسابات الربح والخسارة، وما لي وما عليّ. وهنا المجانيّة والتفكير بالغير. انهمكت مرتا بأمور الضيافة، فما اهتمّت إلاّ بارضاء يسوع الذي هو ضيف من نوع آخر، يشبه ضيوف ابراهيم الثلاثة الذين جاؤوا إليه في حرّ الظهيرة (تك 18). أما مريم فما اهتمّت بنفسها، بل ما اهتمّت بأمور الطعام والشراب. اهتمّت فقط بأن تكون قرب المعلّم لكي تستمع إلى كلامه. اهتمّت أن تكون تلميذة مثل سائر التلاميذ. لهذا قال فيها يسوع: »اختارت النصيب الأفضل«. اختان أمامنا. واحدة أرادت أن تخدم يسوع، فبدت كالخدام السبعة الذين كرّسهم الرسل (أع 6:1ي) من أجل خدمة الموائد، فما توقّفوا عند هذا الخدمة، بل راحوا يعلنون الكلمة. فسُميّ فيلبس المبشر، الإنجيليّ، حامل الإنجيل. ومات اسطفانس لأنه جاهر بالكلمة فما استطاع أن يقف في وجهه أحد، لأن الروح أعطاه من الحكمة ما جعلهم عاجزين عن مقاومته (أع 6:10).

أما مريم فاختارت التلمذة، وهي بحقّ تقف في خطّ الرسل الاثني عشر (لو 6:12-16)، ومع التلاميذ السبعين الذين أرسلهم يسوع اثنين اثنين إلى كل مدينة أو موضع عزم أن يذهب إليه (10:1). من أجل هذا نقرأ في الفصل الثامن: »وسار يسوع بعد ذلك في المدن والقرى، يعظ ويبشّر بملكوت اللّه. وكان يرافقه الاثنا عشر وبعض النساء«. وكما ذكر الإنجيليّ اسم الرسل، ذكر هنا اسم مريم المجدليّة، حنّة امرأة خوزي، سوسنّة. وسوف نجد النساء العديدات في أعمال الرسل. هنّ رسولات على مثال الرسول. والرسالة هي سماع الكلمة وخدمة. وهكذا جمعت مرتا ومريم صفة الرسالة في بيتهما. هما لم تتركا البيت لتعودا. بل هما لبثتا في البيت واستقبلتا يسوع كما استقبلت عروسُ نشيد الأناشيد حبيبها. فمرتا أحبّت يسوع. ومريم أحبّت يسوع. ومنذ البداية إلى النهاية لا يبقى سوى المحبّة.

ج - مساكين الربّ

مساكين الربّ هم فئة من الناس عرفوا الفقر الماديّ. وبالأحرى عرفوا الفقر الروحيّ. لم يكن لهم شيء، فتعلّقوا بالربّ دون سواه. وانتظروا الخلاص منه وحده. وتطلّعوا إلى مجيء المسيح. عُرفوا بالتقوى على مثال زكريا واليصابات، على مثال سمعان الشيخ وحنّة النبيّة. عُرفوا بالبرّ الذي هو انفتاح على إرادة اللّه ومخططه في شعبه. عن هؤلاء »المساكين« تكلّم لوقا فجعلهم في مقدّمة إنجيله، على مثال يوحنا المعمدان، ليهيّئوا للربّ الطريق.

ما اكتفى بأن يذكر زكريا، بل ذكر امرأته معه. هو بار وهي بارّة. هو يحفظ وصايا اللّه وأحكامه، وهي أيضًا. هو بلا لوم. وهي كذلك. هو من عائلة كهنوتيّة، وهي مثله. مسيرة طويلة لهذه الأسرة الصغيرة المنتظرة خلاص الربّ بواسطة مسيحه. حظيَ زكريا برؤيا في الهيكل، ولكن اليصابات دخلت في هذه الرؤيا. وهذا ما نعرفه حين تسمية الولد. فقبل أن يعلن الوالد ارادته، قالت الوالدة: لا يُدعى زكريا، بل يوحنا. وبعدها طلب زكريا اللوح وكتب. ويمكننا أن نقابل هذه الأسرة الصغيرة بأسرة صموئيل مع أمّه حنّة التي تأخّرت  فما أعطيَت ولدًا. ولما جاء صموئيل، ابن المعجزة، قدّمته للربّ، وكانت تنسج له كل سنة جبّة صغيرة، فتدلّ على أنها قدّمته وما تراجعت. أتكون هكذا فعلت اليصابات حين مضى يوحنا إلى البرّية يستعدّ لرسالته؟

وذكر لوقا سمعان الشيخ الذي بدا كالنبيّ فتكلّم عن يسوع الذي هو نور العالم ومجد لشعبه (2:29-32). ولكنه ما نسيَ أن يذكر النبيّة قرب النبيّ. ذكر حنة المرتبطة بالهيكل. »حضرت في تلك الساعة، وحمدت اللّه، وتحدّثت  عن الطفل يسوع مع كل من كان ينتظر من اللّه فداء أورشليم« (2:38).

وفي إطار إنجيل الطفولة، نتأمل إمرأتين. واحدة كانت عاقرًا فحبلت بابن في شيخوختها. والثانية أرادت البتوليّة فحبلت بولدٍ بقوّة الروح القدس.

والتقت هاتان المرأتان. امتلأت اليصابات من الروح القدس (1:41) فهتفت لمريم: »مباركة أنت في النساء«. ودخل الروح القدس على مريم، فأنشدت: »تعظّم نفسي الربّ«. فالخلاص ليس فقط خلاص فرد من الأفراد. هو خلاص الشعب كله، ولا سيّما »الصغار«، المتواضعين، الجياع. الذين لا يحسب لهم أحد حسابًا. من أين جاء هذا الخلاص؟

اللّه نظر (1:48). نظر إلى شعبه وإلى كل شعوب العالم. ونظر بشكل خاص إلى أمته الخاضعة، إلى خادمته الوضيعة. نظر إليها. فرفعها فوق نساء العالم. بل فوق جميع الخلائق، وجعلها أم ابنه. وإذ رفعها، رفع المرأة معها، رفع كل امرأة. وهكذا تستطيع نساء العالم كله أن ينظرن إلى أم الربّ (1:43)، إلى تلك التي آمنت فتمّ لها ما قال ملاك الربّ في شأنها وفي شأن ابنها يسوع المسيح. حين نقرأ إنجيل متى نجد أنه أبرز شخص يوسف في الدرجة الأولى. فهو ينال البشرى بأن يُسمّي الطفل يسوع ويتبناه فيدعوه الناس ابن يوسف، ابن النجار. أما لوقا فأبرز وجه مريم. هي نالت البشارة وهي ستسمّي الولد. لكل إنجيليّ نظرته، ولكل إنجيليّ المحيطُ الذي يعيش فيه. ولا تكون الصورة متكاملة إلاّ إذا توقفنا عند شهادة متّى الذي كتب إلى مؤمنين جاؤوا من العالم اليهوديّ، وعند شهادة لوقا الذي كتب إلى مؤمنين تثقّفوا بالثقافة اليونانيّة فصاروا ثاوفيلوس أو أحبّاء اللّه.

إنجيل لوقا هو إنجيل المرأة. بل هو إنجيل الاسرة. معه عادت المرأة إلى ما كانت عليه قبل الخطيئة. قيل لها آنذاك: تحبلين في الألم. تنقادين إلى زوجك. هي تابعة لوالديها قبل زواجها. هي جزء من زوجها بعد زواجها. يجب أن تبقى مخفيّة فلا يراها أحد. هي شيء نحميه، ومال نحافظ عليه لئلاّ يسرقه أحد منا. ولقد راح العصر الوسيط يعتبر أن المرأة لا نفس لها مثل الرجل. هي جسد فقط. إلى أي درك انحدرت المرأة بسبب العالم الذي نعيش فيه، والذي يمجّد القوّةَ والعنف والمال والسيطرة الخارجيّة. وكم يجب على كل امرأة أن تنظر إلى المسيح بامتنان كبير. كانت الخادمة فصارت المباركة. وهنّأتها الأجيال، كما هنّأت مريم، بعد أن صنع لها القدير عظائم.

خاتمة

تلك كانت نظرة إلى وجه يسوع في إنجيل لوقا. هذا اليسوع الذي صار قريبًا من البشر. كان في حشا أمه، شأنه شأن كل الأطفال. ووُلد في مذود كما يولد الفقراء. وعاش بحسب حضارة عصره، فخُتن وتطهّر، وتعلّم الكتب المقدّسة وبدأ رسالته كما يبدأها اللاويّون في الهيكل. ولكن يسوع لم يكن إنسانًا وحسب. فهو من خلال بشريّته قدّس بشريّتنا، فحمل إلينا الخلاص ودلّنا على قلب الآب بما فيه من رحمة وحنان. ولم تكن هذه الرحمة التي اكتشفناها في قلب الآب الحبّ، عاطفة مجرّدة وحسب، واللّه روح أزليّ. بل هي تجلّت في تعامل يسوع مع الفئات الضعيفة في المجتمع وقد ذكرنا منها إثنتين: الخاطىء في أرض تعتبر مقدّسة، فتُرجم الزانية ويُستأصَل الشرُّ أين ما وُجد. والمرأة في عالم جعل المرأة جزءًا من متاع الرجل، لا عظمًا من عظمه ولا لحمًا من لحمه. وهكذا عاد بنا هذا الإنجيليّ الذي تكلّم عن مريم العذراء كما لم يتكلّم أحد، إلى البدء، إلى الساعة التي فيها خلق اللّه الكون فوجده حسنًا. والإنسان فوجده حسنًا جدًا بعد أن صار الرجل والمرأة جسدًا واحدًا ليتابعا عمل الخلق في العالم. مع المسيح المخلّص عاد الخاطىء إلى حضن الآب. ومع المسيح الحنون اكتشفنا أن اللّه أب وأم معًا، فتعانقت فيه الأبوّة والأمومة وأخذ كلُّ شخص مكانته في مشروع اللّه الذي يريد أن يجمع في شخص ابنه كل ما في السماوات وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM