الفصل الرابع: نسب يسوع في متّى ولوقا

الفصل الرابع:

نسب يسوع في متّى ولوقا

حين دُمّرت أورشليم وذهب شعب يهوذا إلى السبي سنة 587 ق.م، أحسّ بأنه قُطع عن البشريّة. ولما عاد المنفيّون سنة 538، وجّهت الأوساط الكهنوتيّة الانتباه إلى مسيرة الأجيال، إلى »ولادات« تقرّب تاريخ السماء والأرض (تك 2:4 أ) من التاريخ البشريّ (تك 5:1 ي؛ 10:1 ي). فدوّنت »لائحة الأمم« (تك 10) لكي تحدّد موقع شعب يهوه من سائر الشعوب، فربطت البشريّة بجدّ واحد هو نوح (10:1، 32)، وميّزت بين أبناء يافت (آ 2 - 5)، وأبناء حام (آ 6 - 20)، وأبناء سام (آ 21 - 31) الذين سيعودون في تك 11:10 - 32، بحيث يبدو الوعد بالبركة لابراهيم خاصاً وشاملاً (تك 12:1 - 3).

يتوخّى ذكرُ النسب أن يُدخل شخصاً من الأشخاص في سلالة بشريّة، وإلاّ ضاعت هويّته، كما كان الأمر بالنسبة إلى بعض العائدين من السبي (عز 2:1 ي؛ نح 7:1 ي). في هذا الإطار نفهم أن متّى ولوقا حين ذكرا نسبَ يسوع، أرادا أن يُدخلاه بطريقة شرعيّة واحتفاليّة في السلالة البشريّة، أن يدلاّ على أنه ابن البشر، شأنه شأن كل انسان، وأنه ابن ابراهيم، شأنه شأن كل مؤمن من المؤمنين.

1 - نسبان مختلفان

حين نقابل خبر الطفولة عند متّى (ف 1 - 2)، نجد أنه يختلف عمّا في خبر لوقا (ف 1 - 2). وكذلك يختلف النسب الذي يورده متّى (1:1 - 17) عن ذاك الذي يورده لوقا (3:23 - 38). يختلفان على مستوى المبنى كما على مستوى المعنى.

يبدأ خبر متّى مع ابراهيم، ويتبع الرسمة الكرونولوجيّة في تاريخ الشعب، فيتحدّث ثلاث مرات عن »أربعة عشر جيلاً«، أي اثنان وأربعون جيلاً حتى »يسوع الذي يقال له المسيح«. أما خبر لوقا فانطلق من يسوع ليصل إلى آدم، بل إلى الله. وهكذا امتدّ على سبعة وسبعين جيلاً. لم تكن وجهتُه وجهةَ التاريخ في مسيرته، بل عودة إلى الأصل.

اختلاف على المستوى الاجماليّ. واختلاف على مستوى التفاصيل. إذا وضعنا جانباً اتفاقاً على مستوى الآباء الأولين (مت 1:2 - 6 أ = لو 3:31 - 34، في ترتيب معاكس)، فالانفصال يتمّ على مستوى السلالة الملكيّة (مت 1:6 ب - 11 = لو 3:27 ج - 31، في ترتيب معاكس) التي تتحدّر من سليمان عند متى، ومن ناتان عند لوقا. بعد ذلك، نجد لقاء بين اسمين، هما شالتئيل وزربابل، قبل اسم يوسف. ما نلاحظه هو أن متّى جعل يسوع في تواصل مع ملوك يهوذا، ساعة لم يذكر لوقا ملكاً واحداً بين داود وبين يسوع الذي هو »ابن داود«. فالوجهة التي أخذها الواحد تختلف عن تلك التي أخذها الآخر.

جعل متّى نسب يسوع في بداية إنجيله: »كتاب ميلاد يسوع المسيح«. وهكذا عاد إلى بدايتين أخريين لا نجدهما، حسب التوراة السبعينيّة اليونانيّة، إلا في تك 2:4: »هذا هو كتاب ميلاد السماء والأرض«. وفي تك 5:1: »هذا هو كتاب ميلاد البشر«. هذه العودة تربط ربطاً وثيقاً بين نسب يسوع من جهة، وخلق العالم ونموّ البشريّة من جهة ثانية. حين نقرأ لوائح الأنساب في الكتاب المقدس، نبدأ مع الجدّ. فوجب، والحالة هذه، أن نبدأ مع يسوع. أما في انجيل متّى، فالحركة معكوسة: ننطلق من يسوع لكي نصل إلى أجداده. فيسوع لا نسل له بحسب الجسد. فهو ذاك الذي انتظره أجداده. والماضي وجد معناه فيه. ليس هو فقط في نهاية التاريخ. إنه نهاية التاريخ، وفيه يجد التاريخ كماله. فمسيرةُ الانجيل الأولى تبدو مشدودة بين هذه البداية، هذا »الميلاد« (مت 1:1)، وبين »انقضاء الدهر« (28:50). هذا يعني أن خبر يسوع يُتمّ التاريخ البشريّ كلَّه، ويفتح نافذة على الاسكاتولوجيا، على النهاية.

أما لوقا فجعل نسب يسوع في رمزيّة مختلفة كل الاختلاف. جعله بين خبر العماد الذي يدلّ عليه انفتاح السماء، ونزول الروح، والصوت السماويّ الذي يدعو »الابن« (3:21 - 22)، وبين خبر تجارب »الابن« (4:1 - 13). هذا السياق الجديد يُدرج الخبرَ في موضوعين اثنين: موضوع البنوّة والتسمية، وموضوع التجربة من »يسوع« إلى »آدم«. فالخطّ اللاهوتيّ في لوقا قريب من الفكر البولسيّ الذي يربط بين آدم الأول وآدم الثاني حول موضوع الموت والخلاص اللذين حلاّ في العالم. ارتدى يسوع الروح القدس (3:22)، فاقتاده هذا الروح إلى البريّة (4:1). بعد ذلك، يستطيع أن يبدأ رسالته »بقوّة الروح« (4:14) إلى الوقت المحدّد، وقت التجربة الأخيرة (ق 4:13 و22:3) التي هي أيضاً الاعلان الأخير لبنوّة يسوع: »يا ابت، في يديك أستودع روحي« (لو 23:46).

فالهدف الأول لنسب يسوع في هذين الانجيلين، ليس اعلان بنوّة ابن الناصرة في التاريخ، كما يظنّ القارئ الحديث، بل إعلان بنوّته كالمسيح وكالابن. في هاتين الحالتين، النسب هو مقدّمة لاهوتيّة. لهذا لا فائدة من طرح سؤال لا نجده في الانجيل: هل ارتبط يسوع، تاريخياً، بسلالة داود؟ فالأسماء المغمورة التي تأتي بعد زربابل في متّى كما في لوقا، تبيّن أن هذا الخط ضاع في رمال التاريخ.

وهكذا نحن مدعوّون إلى قراءة هذين النصين كاعتراف إيمان في كنيسة ساءلت نفسها عن نمط بنوّة يسوع الذي هو ابن ابراهيم، ابن داود، ابن الله.

2 - بنية النسبين

وإذ نريد أن نُسند هذا التفسير، ننطلق من النص ومن بنيته الداخليّة.

1 - النسب في متّى

قدّم لنا متّى مفتاحَ القراءة في 1:17: من ابراهيم إلى داود (آ 2 - 6 أ). من داود إلى المنفى (آ 6 ب - 11). من المنفى إلى يسوع (آ 12 - 16). وتُشرف آ 1، بحسب ترتيب معكوس، على هذا التوزيع: يسوع المسيح (1:16 ج، يسوع الذي يُدعى المسيح)، ابن داود (سلالة ملكيّة)، ابن ابراهيم (سلالة الآباء). نجد أن الأمور ليست بهذا الوضوح. فحين أراد متّى أن يحصل على ثلاث سلاسل متوازية من »أربعة عشر جيلاً«، ألغى ثلاثة أسماء من السلالة الداوديّة، بين يورام (848 - 841) وعزيا (أو عزريا، 871 - 740): أحزيا (841)، يوآش (835 - 696)، أمصيا (811 - 782). هل نحن أمام موقف اعتباطيّ؟ كلا.

لا شكّ في أن نهاية مُلك يوآش، الذي بدأ بإصلاح دينيّ، قد انتهى بمقتل آخر الأنبياء، زكريا (2 أخ 24:20 - 2). لهذا لم يُدفن هذا الملك »في مقبرة الملوك« (آ 25) وتحدّث 2 أخ 25:14 - 16 عن أمصيا الذي عبد الآلهة الغريبة، فأعلن له أحد الأنبياء نهايته القريبة. غير أن هذين الملكين لم يتميّزا كثيراً عن أحاز مثلاً، الذي جُعل اسمه في سلالة المسيح. ونتذكّر أن أحزيا، ابن عثليا (2 مل 8:25 - 29؛ 9:27 - 29) قد نال اللعنة التي حلّت ببيت آخاب وايزابيل (1 مل 21:21). مثل هذه اللعنة وصلت إلى الجيل الرابع، حسب خر 20:5، فسار الانجيل الأول بحسب هذا »المبدأ اللاهوتيّ«.

وكيف نجد »اربعة عشر جيلاً« في الحقبة الثالثة، مع ثلاثة عشر اسماً يرافقها فعل »ولد«. ثم إن فعل »ولد« يَرد في صيغة المعلوم بين يكنيا (آ 12) ويعقوب (آ 16 أ)، ثم في صيغة المجهول في آ 16 ب: »يعقوب، رجل مريم، التي منها وُلد يسوع«. هل نحن هنا أمام معطية لاهوتيّة في خطّ خبر »حلم يوسف« (1:18 - 25) الذي بدأ في آ 18، كما بدأ مت 1:1: »هكذا كان ميلاد يسوع المسيح«.

كل هذا يعني أن النسب بُنيَ حول رمزيّة »أربعة عشر«، لا حسب منطق كرونولوجيّ. هنا ننطلق من القيمة العدديّة للفظ من الألفاظ. فاسم »د و د« (داود) مثلاً يتألف من »د« التي تساوي العدد أربعة. والواو تساوي الرقم ستة. وهكذا يقابل اسم داود أربعة عشر جيلاً. وهناك من يعتبر أن الرقم 14 يساوي أسبوعين من الزمن. ومجيء المسيح يندرج في سباعيّ من السنين. قال التلمود: »في نهاية السنة السابعة، يأتي الابن داود«.

مهما كانت الفرضيّة التي نأخذ بها، فبنيةُ النصّ جُعلت في خدمة تسمية يسوع في تتمّة البنوّة الداوديّة، وبالتالي في تتمّة مسيحانيّته. تلك هي نهاية النسب: »من بابل حتى المسيح أربعة عشر جيلاً«. فمن خلال نشافة الأرقام، نكتشف عبرةً تقول: إن المسيح هو حقاً الابن المنتظر، ذاك الذي انتظر ابراهيم يومه فابتهج (يو 8:56).

ب - النسب في لوقا

ليس من السهل أن نجد مفتاح القراءة في خبر لوقا. سبق ولاحظنا أنه أحلّ محلّ الترتيب الكرونولوجيّ الذي يراعي تسلسل الولادات، الترتيب اللاهوتيّ الذي يُلقي الضوء على هويّة الابن، حسب منطقٍ يستعيد تاريخ الخلاص، فينطلق من آدم الثاني ليعود إلى آدم الأول.

حين نقرأ الأسماء، نكتشف سمات ظاهرة بفضل »لغة الأرقام«. ذُكر اسم »يسوع« مرتين، في الاسم التاسع والأربعين (آ 29، بن يوسي بن يشوع) والاسم السابع والسبعين (آ 23، لمّا باشر يسوع). في المرّة الأولى، نحن أمام مربّع 7 (7 × 7 = 49). وفي المرّة الثانية، نحن أمام رقم مقدّس على مستوى العشرات (70 = 10 × 7) ومستوى الآحاد (7). وهكذا يكون لنا الرقم 77. ثم، إذا انطلقنا من أخنوخ (الرقم 7 في اللائحة كما في التوراة)، فأول من دعا باسم الرب (تك 4:26؛ 5:24) في هذا الخطّ، هو ابراهيم (الرقم 21 = 7 × 3)، داود (35 = 7 × 5)، يشوع (49 = 7 × 7)، متتيا (7 × 9)، يسوع نفسه (77 = 70 + 7). قد يبدو اسم متتيا غريباً في هذه اللائحة. في الواقع، هو يشير إلى والد يهوذا المكابي، الذي رفض كل مساومة مع العالم الهليني بعاداته وديانته الوثنيّة الآتية من الحضارة اليونانيّة، وذلك حباً بإله الآباء (1 مك 2:1 ي). ثم إن هذا الاسم يعود سبع مرات في لائحة لوقا وبأشكال مختلفة (ناتان، 36، متانا، 37، متات، 38، متنيا، 53، 69، مآت، 64). المعنى: عطالله، الله أعطى. تحدّث متّى عن سليمان ابن داود، أما لوقا فعن ناتان ابن داود. وهكذا يبرز اسمُ يسوع بروزاً واضحاً، فيُتمّ قول النبي أشعيا (9:5): »وُلد لنا ولد، أُعطي لنا ابن«.

واسم يوسف يعود أربع مرات (42، 61، 70، 76). نستطيع أولاً أن نتذكّر يوسف مخلّص اخوته وفي مصر (التي ترمز إلى العالم الوثني). فيسوع ابن يوسف خلّص البشريّة بأقطارها الأربعة. ثم إن والد »يوسف رجل مريم« هو في مت 1:16: يعقوب. ومعنى اسم يوسف في تك 30:22 - 24: »زادني الربّ ابناً آخر«. وهكذا نعود إلى فعل »أعطى« مع زيادة في  العطاء. انتظر أحد عشر سباعياً الولدُ الذي يولد، والنسلُ السابق ذاك المجيء وهو يرتعش فرحاً، على مثال يوحنا المعمدان في حشا أمه (لو 1:44).

مثلُ هذه النظرة المتشعّبة تفاجئنا. ولكنها لم تكن غريبة عن أخبار القدماء. فهي تدلّ على أن الانجيليين »بَنَيا« بعناية كبيرة نسب يسوع لكي يبيّنا معنى هذا النسب. لقد كشف النسبَان البنوّةَ الحقيقيّة ليسوع الناصريّ.

3 - بنوّة بواسطة النساء

عادة تنتقل البنوّة من الرجل إلى ابنه. هذا ما نقرأه في نسب متّى: ابراهيم ولد اسحاق. اسحاق ولد يعقوب. فالفعل » ي ل د« (ولد) نقرأه في العبريّة، مع فاعل في صيغة المذكّر في أغلب الأحيان. وإن كان لوقا لم يذكر فعل »ولد«، فقد قال »ابن« فربط الابن بأبيه: ابن يوسف، ابن عالي... ومع ذلك، فليس الرجل هو الذي يلد، بل المرأة. والمرأة هي التي تدلّ على الشعب، بحيث نقول »ابنة أورشليم« فندلّ على شعب أورشليم. من أجل هذا، قُلنا بنوّة بواسطة النساء، لا سيّما وأن الانجيل الأول ينتقل من الرجل إلى المرأة، فلا يقول إن يوسف ولد يسوع، بل مريم التي منها وُلد يسوع (مت 1:16). نشير هنا بشكل عابر أن صيغة المجهول تدلّ على عمل الله. فيسوع هذا ليس ابن يوسف، إلاّ على مستوى الشريعة. في الواقع هو ابن الله، والله الآب ولده منذ الأزل.

الأب يلد. ومع ذلك، ذكر متّى خمس نساء في نسب يسوع: تامار (آ 3)، راحاب وراعوت (آ 5)، امرأة اوريا (آ 7، بتشابع)، مريم (آ 16). أدرج الانجيل الأول هذه الأسماء، فضاع التوازن الذي اعتدنا عليه: ابراهيم ولد... اسحاق ولد... لا شكّ في أن الكاتب أراد أن يلفت انتباهنا إلى أمر مهمّ، لا سيّما وأنه ذكر مرّتين »اخوته« (اخوة يهوذا) حين تكلّم عن يهوذا: »يعقوب ولد يهوذا واخوته« (آ 3). وحين تكلّم عن يكنيا (ابن يهوذا): »يكنيا واخوته في جلاء بابل« (آ 11).

أ - تامار

أول امرأة ورد اسمها، هي تامار (تك 38). تزوّجت على التوالي ابنَي يهوذا الأولين (عير، أونان). تركاها أرملة بدون ولد. فوجب على يهوذا أن يزوّجها ابنه الثالث (شيلة) باسم شريعة السلفيّة التي تفرض على الأخ أن يقيم اسماً لأخيه المتوفّي فيتزوّج امرأته، وعلى الأرملة أن تتزوّج سلفها (شقيق زوجها). ولكن يهوذا خاف على ابنه الأصغر، فلم يزوّجه بتامار. فاحتالت هذه على حميّها وحبلت منه. ولما عرف أنها حبلت، اعتبرها زانية وحكم عليها أن تُحرق. ولما فهم الحقيقة، قال: »هي أبرّ مني، لأني لم أزوّجها لشيلة ابني«.

لا نتوقّف عند فعلة تامار، التي ترتبط بذلك الزمان، بل نفهم موضوع البنوّة في التقليد اليهوديّ. يقول سفر التكوين إن تامار طلبت رهناً من يهوذا: الخاتم، العمامة، العصا. أما الترجوم الذي هو توسّعٌ في نصّ الكتاب المقدّس، فقدّم الحدث بشكل دراماتيكي. اتُّهمت بالزنى فوجب عليها أن تدافع عن نفسها، وتدلّ على حجّتها، فقال الترجوم: »خرجت تامار لتُحرق بالنار، وبحثت عن الشهود الثلاثة (الخاتم، العمامة، العصا)، فلم تجدها. فرفعت عينيها إلى أعالي السماء وقالت: ''أتوسّل إليك، يا ربّ، بالحبّ الذي لديك. أنت الذي تستجيب المتضايقين في ساعة الضيق، استجبني... أنر عينيّ''. وفي الحال، سمع الربّ صوت دعائها، فقال لميخائيل: ''إنزل...''. فلما وُجد الشهود الثلاثة، سطعت براءةُ تامار على عيون الجميع. وأقرّ يهوذا: ''كنّتي تامار بريئة. (عملت ما عملت) لأني لم أزوّجها لشيلة ابني''. وقال ترجوم آخر بشكل أوضح: »تامار بريئة: فهي حبلى منّي«. عندئذ نزل صوت من السماء قائلاً: »منّي كان الأمر كلّه«. في ذلك الوقت أُنقذا كلاهما من الحكم، وقال يهوذا: »حصل لي هذا، لأني لم أعطها لشيلة ابني«.

وبعد ذلك، يأتي خبرُ الولادة. قال سفر التكوين: »تزاحم الولدان في حشا الأم«. من يخرج أولاً، ومن يكون البكر. فارض أم زارح؟ أما الترجوم، فقدّم قراءة مسيحانيّة: »حين ردّ الولد (زارح، الذي أخرج يده قبل أخيه، فربطتها القابلة بخيط قرمزيّ) يده، خرج أخوه. فقالت (القابلة): »بأيّة قوّة عظيمة تغلّبت! فلك الغلبة، لأنك معدّ لكي تتسلّم الملكيّة«. ويُثبت المدراش (درس وتأمل في النصوص الكتابيّة) هذا التوجّه، فيفسّر »الصوت السماويّ« كما يلي: »قال رابي يودان: حين قال يهوذا: ''هي أبرّ''، تجلّى الروح القدس وقال: ''ليست تامار زانية، ولا أراد يهوذا أن يستسلم إلى الزنى معها. حصل الأمر بسببي، لكي يخرج من يهوذا الملك المسيح«.

أرادت تامار وتشبّثت لكي يكون لها ولدٌ من دم يهوذا، فجاء تشبّثُها خضوعاً تاماً للروح القدس. كانت أداةَ الله، فأمّنت مشاركة الانسان في تهيئة مجيء المسيح، حسب طرق العناية الالهية. فعبْر عمل الشريعة، حقّق الله مخطّطه. وهذا ما حدث لبتشابع »امرأة أوريا«: صارت أم سليمان الملك.

ب - راحاب، راعوت، بتشابع

بعد تامار، تُذكر ثلاثُ نساء: راحاب، راعوت، امرأة أوريا. لعبْنَ دوراً كبيراً في التاريخ البيبلي. كانت راحاب بغياً في أريحا. فاستقبلت في بيتها يشوع والجواسيس، وهكذا فتحت الطريق أمام شعب العهد فدخل إلى أرض الموعد (يش 2:1 - 21). لا يشدّد النص على بغاء راحاب، بقدر ما يشدّد على اعتراف ايمانها: »أعرف أن الربّ أعطاكم الأرض... لأن الربّ إلهكم هو إله في السماء من فوق وعلى الأرض من أسفل« (أي إله الكون كله). رج يش 2:9، 13. وهكذا شابهت راحاب مهتدياً آخر هو أحيور العموني (يه 5:5 - 6، 21؛ 14:5 - 10) الذي وقف تجاه يهوديت اليهوديّة، كما كانت راحاب تجاه يشوع. إذن، جعل النص من راحاب، مثالَ المؤمن حتّى في الفكر المسيحيّ الأولانيّ.

أعلنت راحاب إيمانها في خطّ سفر التثنية: »فاعلم اليوم، وردّد في قلبك أن الربّ هو الاله في السماء من فوق وفي الأرض من تحت وأن ليس سواه. واحفظ وصاياه وفرائضه التي أنا آمرك بها اليوم« (4:39 - 40). وهكذا نالت السعادة، بعد أن صارت أرضُها الأرضَ الطيّبة، الأرض التي هي عطيّة الله (تث 1:25).

في المسيحيّة، اعتُبرت راحاب أنها نالت الخلاص بفضل إيمانها. فقالت عب 11:31: »بالإيمان، راحاب البغيّ لم تهلك مع العصاة، لأنها قبلت الجواسيس بسلام«. أجل، هذه الزانية جُعلت في خط ابراهيم وموسى وسائر الآباء. وستقول عنها رسالة يعقوب إنها بُرّرت عن طريق أعمالها: »راحاب البغيّ، بالأعمال بُرّرت، إذ قبلت الموفدين وصرفتهما من طريق أخرى« (2:25). وهذه الغريبة صارت، عند الآباء، صورة عن الكنيسة. فرسالة اكلمنضس الروماني لم تذكر فقط إيمانها، بل قال اكلمنضس في آ 8: »ترون، أيها الأحباء، أنه لم يكن في هذه المرأة الإيمان فقط، بل موهبة النبوءة«.

وهكذا دخل الشعب الكنعاني في سلالة المسيح. ومع راعوت، سيدخل الموآبيون. نذكر هنا أن سفر التكوين تحدّث عن الموآبيين على أنهم أولاد زنى (19:30 - 38)، شأنهم شأن العمونيين. ومع ذلك، فراعوت الموآبية ستلعب دوراً كبيراً في مجيء المسيح. فحسَب النسب الذي نقرأه في را 4:18 - 12، هي جدّة الملك داود الذي منه يتحدّر المسيح. نقرأ هنا »مدراش تكوين ربا« الذي يتوسّع في هذه الصورة حين يفسّر تك 19:32، فيقول: »تعالى نسقي أبانا خمراً« (قالت الكبرى للصغرى). قال رابي تنخومة باسم صموئيل: »قالت الابنتان: نقيم من أبينا نسلاً (زرعاً)«. لم يكتب: ابن. بل: زرع. من هنا التلميح: الزرع الذي يأتي من موضع آخر. من هو؟ هو الملك المسيح الذي خرج من راعوت الموآبية«.

ويتشابع، امرأة أوريا، أدخلت بني حثّ في سلالة المسيح. إذا كان الموآبيون ممنوعين من المشاركة مع جماعة الربّ (تث 23:4 - 5)، فالحثيون هم غرباء يعيشون بعيداً عن الأرض المقدّسة. ومع ذلك فهؤلاء وأولئك دخلوا في نسب المسيح، شأنهم شأن العبرانيين، فنالوا الخلاص من خلال جدّتهم.

لا يشدّد النص البيبليّ على زنى بتشابع: هي لم تشارك داود في خطيئته، بل كانت ضحيّة رغبة داود التي أجبرها على أن تكون له. ما نراه في التوراة، هو دورها كأم سليمان (1 مل 1:11 - 31) الذي هو الوارث الشرعي وباني الهيكل (رج 2 أخ 1 - 9).

ما شاركت فيه هذه النساء الأربع، في نسب متّى، هو مرور أمومتهم بطريقة غير عاديّة. وبهذه الأمومة تحقّق الوعد. وخضعن خضوعاً تاماً لمخطّط الله الذي يحمل على الدهشة والحيرة. وأخيراً، إن تدخّل الروح القدس كشف لهذه النساء المميّزات أصالة رسالتهنّ وأعطاهنّ القوّة، رغم الصعوبات، ليكنّ أمينات لدعوتهنّ. هن في هذا النسب صورة عن »الأم«. والأم تجمع في شخصها شعبها كلّه.

ويُذكر »الإخوة« مرتين في نسب يسوع بحسب متّى. فبجانب القاعدة التي تنقلنا من الأب إلى الابن، هناك وجهة ثانية تربط الأخ بأخيه. حين يُؤخذ اسحاق يبقى اسماعيل خارجاً. وحين يؤخذ يعقوب، يبقى عيسو خارجاً. وكذا نقول عن يهوذا الذي به يرتبط المسيح. فماذا تكون حال إخوته، ولا سيّما يوسف الذي خلّص شعبه، أولاد يعقوب، من الجوع، بل خلّص مصر والعالم كله؟ لهذا قال النصّ: يهوذا واخوته. هناك عهد بين الاخوة، عهد بين البشر، بحيث لا يكون شعب خارج العهد مع الله. وحين وُلد يسوع من مريم التي حبلت من الروح القدس (مت 1:18 - 20)، دخل في عهد مع البشريّة كلها، مع العبرانيين والموآبيين، مع الحثيّين والكنعانيّين... وهكذا تمّت النبوءةُ (لابراهيم) أفضل تتميم. قال الله لابراهيم: »أجعلك أمّة كبيرة... بك تتبارك كل عشائر الأرض« (تك 12:2 - 3). والآن، وصلت هذه البركة حقاً في المسيح الذي هو يسوع، الذي يخلّص شعبه من خطاياهم، الذي هو إلهنا معنا.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM