الفصل الثالث: عماد يسوع في الأردن

الفصل الثالث:

عماد يسوع في الأردن

حين أراد الرسل، وعلى رأسهم بطرس، أن يختاروا رسولاً ليحلّ محلّ يهوذا الذي »كان واحداً منّا وله نصيب معنا في هذه الخدمة« (أع 1:17)، جعلوا شرطاً أساسياً: »رجال رافقونا طوال المدّة التي قضاها الربّ يسوع بيننا، منذ أن عمّده يوحنا إلى يوم ارتفع عنّا« (آ 22). هذا يعني أن خبر عماد يسوع ينتمي إلى أقدم الطبقات في التقليد الانجيليّ. فالأناجيل الأربعة تتحدّث عن هذا العماد(1). إن الشهادة الأقدم هي شهادة مرقس. أما متّى ولوقا فقدّما صياغة موسّعة: انفتحت السماوات وما تمزّقت، كما قال مرقس. والروح نزل على يسوع. أما الانجيل الرابع، فلا يورد مشهد العماد، بل شهادة احتفاليّة من قِبَل السابق عن التيوفانيا (الظهور الالهي) العمادية. هي تتوافق بشكل لافت مع ما نقرأه في الأناجيل الازائيّة، وفي الوقت عينه تدلّ على طابع اللاهوت اليوحناويّ.

عن هذه الشهادات الانجيلية يكون كلامُنا حول عماد يسوع. نبدأ بمرقس الذي هو أقدم الأناجيل، قبل أن نعود إلى متّى ولوقا. وإذ ننهي بيوحنا نتوقّف عند المدلول الأساسيّ لعماد المسيح.

1 - شهادة انجيل مرقس

يبدو العماد في انجيل مرقس بشكل تيوفانيا عماديّة (مر 1: 9 - 14). وهي تتضمّن ثلاثة عناصر: انفتاح السماوات، نزول الروح بشكل حمامة، الاعلان الآتي من الصوت السماويّ.

بالنسبة إلى انفتاح السماء ونزول الروح، نحن أمام تذكّر لمشاهد دعوة الأنبياء. نستطيع مثلاً أن نذكر دعوة حزقيال (حز 1:1 ي): انفتحت السماوات، فأتاحت لابن بوزي أن يتّصل بالعالم السماويّ. »انفتحت السماوات فنزلتْ عليّ رؤيا من الله... كلّمني الربّ، أنا حزقيال بن بوزي الكاهن، وكانت يده عليّ«. كل هذا يستشفّه حزقيال، ولكنه لا يقدر أن يعبّر عنه. إن انفتاح السماوات تعبير يُدخلنا في الواقع الاسكاتولوجي، في واقع النهاية الذي يدشّنه يسوع المسيح. ويبدو قريباً من موضوع السحاب منذ سيناء حيث تجلّي يسوع على الجبل.

ونزول الروح يعود بنا إلى الأقوال المسيحانيّة حول روح الرب الذي يأتي ليعين المخلّص الآتي في نهاية الزمن، لكي يُتمّ مهمّته. هناك أولاً قول أشعيا حول فرع يخرج من جذر يسّى: »روح الري ينزل عليه، روح الحكمة والفهم والمشورة« (أش 11:1 - 2). ثم أول أناشيد عبد يهوه، أو عابد الربّ، الذي هو صورة بعيدة عن يسوع المسيح: »ها عبدي الذي أسانده، والذي نصرتُه ورضيتُ به. جعلتُ روحي عليه، فيأتي للأمم بالعدل« (أش 42:1). كل هذا يوجّهنا إلى الصلاة المسيحانيّة: »ليتك تشقّ السماوات وتنزل« (أش 63:19). هذه الصورة التي نقرأها في مرقس (شقّ السماوات، مزّقها)، تدلّ على نزول الروح من السماوات ليكون قائد العبرانيين ساعة يعبرون البحر الأحمر. »ثم ذكروا الأيام القديمة. أيام موسى عبده فقالوا: »أين الذي أصعد شعبه من البحر ورعاهم كغنمه، وجعل في وسطهم روحه القدوس«؟ (أش 63 :11).

هذا الايراد الأخير هو المقطع الوحيد في العهد القديم مع فعل »نزل« بالنسبة إلى الروح. ومشهد العماد هو النصّ الوحيد في العهد الجديد، حيث يُذكر نزولُ الروح. أمّا رمز الحمامة فنشرحه في عودة إلى روح الربّ الذي كان يرفّ على المياه في بداية الخليقة (تك 1:2) بشكل طائر. فكما أن الروح رفّ على المياه في البداية لتخرج الحياةُ في الكون، هكذا رفّ الروح عينه فوق مياه الأردنّ من أجل حياة جديدة تبدأ مع يسوع بكر الخليقة. ويبدو أن صورة الحمامة عُرفت في الزمن الرسوليّ، كدلالة على الروح(2).

ونتوقّف بشكل خاص عند الصوت السماويّ: »أنت هو ابني الحبيب، عنك رضيت«. فكأني بكل معمّد يسمع هذا الكلام فيعرف أنه صار ابناً مع الابن الوحيد. في أساس هذا النص نقرأ المزمور الثاني: »قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك« (آ 7). كما نقرأ أش 42:1 الذي يتحدّث عن اختيار الربّ لعبده ورضاه عليه(3). ونبدأ بالصفة »الحبيب«. هي تقابل الاختيار في النصّ العبريّ كما يترجمها مت 12:18: »ها هو فتاي الذي اخترتُه، حبيبي الذي به رضيتُ«(4). في مشهد التجلّي، يتضمّن الاعلانُ السماويّ الذي هو نفسه ذاك الذي في العماد، كلمةَ الاختيار، في انجيل لوقا: »هذا هو ابني الذي اخترته، فله اسمعوا« (لو 9:35).

أما الانجيل الرابع فيُبرز هو أيضاً هذا التقارب مع نص أش 42 حيث الكلام عن الرضى، وحيث مجيء الروح القدس على يسوع يقابل مجيء الروح على عابد الربّ. فيوحنا يجعل في فم المعمدان تسمية »حمل الله«، وربّما »مختار الله« إذا تبعنا قراءة ثانية تبدو الصحيحة(5). كما نتذكّر موقع أناشيد عبد يهوه في فكر يسوع، ولقب »فتاي« الذي أعطي ليسوع في خطب سفر الأعمال الأولى (3:13، 26؛ 4:27، 30).

غير أن النصّ الانجيليّ لا يستعمل صيغة الغائب: »هذا هو عبدي«. بل صيغة المخاطب كما في مز 2:7: »أنت ابني«. أيكون الانجيلي ابتعد عن لفظ »ع ب د« لئلاّ يسيء فهمَه العالمُ اليوناني؟ ربّما. ولكن يجب أن نفترض أن الصوت السماويّ دمج نصّين كتابيّين: مز 2؛ أش 42. وقد بيّن بعضهم أنّ النصّ يجب أن يُقرأ: أنت ابني. أنت حبيبي. أي مختار الربّ. هنا نعود إلى التوسّع العقائديّ في الفكر المسيحيّ الأول.

على مستوى الحدث، يبدو أنّهم دلّوا على يسوع أولاً على أنه »المسيح وعبد الربّ«، وهذا دون أن تغيب الناحيةُ البنويّة. وإذا كان الاعلان السماويّ شهادةً جاءت من الخارج حول كرامة يسوع المسيحانيّة، نفهم أهميّة المزمور الثاني. وما يدفعنا أيضاً إلى ذلك هو أن لقب »ابن الله« جُعل في فم إبليس، خلال التجارب: »إن كنتَ إبن الله«. هذا الاسم أعطي ليسوع على ضفاف الأردن. قال المزمور: »سلني فأعطيك«. وقال المجرّب: »أعطيك هذا كلّه« (مت 4:9). هنا نقول إن وجود يسوع كالابن الأزليّ، جزء من الشهادة التي أدّاها المعمدان حين قال: »هذا هو الذي قلتُ فيه: يجيء بعدي ويكون أعظم مني، لأنه كان قلبي« (يو 1:15)(6).

وهكذا تكون العبارةُ شبيهة بعبارة مشهد التجلّي عند القدّيس لوقا: »أنت ابني« (مز 2:7). »أنت مختاري. عنك رضيت« (أش 42:1). هذا ما يجعل من الإعلان السماويّ عبارة جديدة، فيها تقارب بين »الابن المسيحاني« في مز 2، وعبد الرب المتألّم، في أشعيا الثاني. مثلُ هذا التقارب غريب عن العالم اليهوديّ. فالمسيح هو الممجّد فقط. هو لا يمرّ في الآلام. وهذا ما جعل بطرس يقول ليسوع: »حاشا لك يا ربّ! لن تلقى هذا المصير« (مت 16:22). أما هنا، فالابن الذي هو في المزمور، المسيح المنتصر والديّان، يبدو في العماد مسيحاً متواضعاً، لا يكسر القصبة المرضوضة ولا يُطفئ الفتيل المدخّن(7). حين ترجم الانجيل »مختاري« بلفظ »حبيبي« كصفة للابن، شدّد على فكرة البنوّة الالهيّة في المعنى الحصريّ. هذا الذي يُعمّد هو ابن الله الوحيد. هو الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، كما سوف يقول اللاهوت اللاحق. لا، لم نعد أمام صفة ملوكيّة وحسب. بل أمام صفة إلهيّة. ونحن المعمّدين سوف نشارك في هذه الصفة بما فيها من ألم ومجد، على ما قال بولس الرسول.

ما يكون مدلول الاعلان السماويّ في هذه الظـروف؟ هناك من يشدّد على البعد البنويّ، أو على العلاقة مع أناشيد عبد الربّ. إن العودة إلى أشعيا تتجاوب مع الوضع الذي يعيشه يسوع. هنا نرفض رفضاً قاطعاً فكرة غريبة تقول: نال المسيح العماد فاعترف بذنوبه. فهذا ما يتعارض كلّ التعارض مع المعطيات الانجيليّة حول حياة المخلّص. فإن كان من سمةٍ تميّز حياة يسوع وتفصلها فصلاً عميقاً عن حياة سائر البشر، فهي غياب كل ندامة وكل حاجة إلى استغفار شخصيّ. فيسوع خضع متواضعاً لعماد لم يكن له، بل للخطأة وحدهم. لا شكّ في أن الطقس تضمّن إقراراً بالخطايا كما يقول مر 1:5: »معموديّة التوبة لتُغفر خطاياهم«. ولكن يسوع اعتمد باسم الخطأة وحمل خطاياهم. ووافقه الصوتُ السماويّ، وأعلن أنه لعب الدور الاسكاتولوجي المعطى لعبد الربّ في نبوءة أشعيا.

وهكذا وقف يسوع، في معموديته، مع الخطيئة، أو حلّ محلّ الخطأة. هذا ما نقرأه في النشيد الرابع من أناشيد عبد يهوه: »حمل عاهاتنا وتحمّل أوجاعنا، حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومنكوباً. وهو مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل خطايانا... كلّنا كالغنم ضللنا، مال كل واحد إلى طريقه، فألقى الربّ عليه إثمنا جميعاً« (أش 53:4 - 6). وحين سمَّى يسوع موته عماداً، ربط العماد بالآلام. قال لابني زبدى: »أتقدران أن تشربا الكأس التي سأشربها، أو تقبلا المعموديّة التي سأقبلها« (مر 10:38)؟ لقد جاءت المعمودية ترافق الكأس التي ترمز إلى الآلام والموت (رج مر 14:36).

في المعموديّة، أعلن يسوع باحتفال أنه »ابن الله«. ففي العهد القديم وفي العالم اليهوديّ، طُبّقت هذه التسمية على الشعب المختار (خر 4:22؛ 2:1)، على الأبرار (حك 2:16 ي؛ سي 4:10)، على ملوك اسرائيل (2 صم 7:14؛ مز 89:27 ي). وطُبّقت بشكل رفيع على الملك المسيحانيّ (مز 2:7). هذا التلميح الخفر إلى مز 2 يدعونا إلى أن نفهم أن يسوع هو المسيح. وارتباط »الابن« بـ »الحبيب« يتجاوز لفظ »ابني« فيهيّئ الطريق لوَحيْ سيتوضّح فيما بعد شيئاً فشيئاً.

بما أن يسوع هو الابن الحبيب لله، فهو يقدر أن يتوجّه إليه مستعملاً لغة جديدة كلّ الجدّة. أبّا، أيها الآب (مر 14:36؛ لو 23:34 - 36؛ يو 11:11). هذا اللفظ الذي لا يجد ما يقابله في العهد القديم وفي الصلوات اليهوديّة، هو لغة الأطفال الذين يكلّمون بدالةٍ أباهم الذي على الأرض(8). وهكذا قدّم لنا مشهدُ العماد مفتاح الموقف البنويّ ليسوع في علاقاته مع الله. ومنذ البداية، هذه الصفة البنويّة حاضرة. تماهى الابنُ الحبيب مع المسيح، فجمع في شخصه ما قيل عن عابد الله في أشعيا، وعن ابن الانسان في دانيال. وهذا الدمج يتمّ في مشهد التجلّي حيث يُعلَن يسوع الابنَ الحبيب، ويرتدي المجدَ الالهيّ، ويُحاط بالسحاب.

كان العمادَ بداية الوحي عن شخص يسوع المسيح. وفتحنا آ2 أيضاً على مفهوم الكنيسة. فالكلام الذي قاله الصوتُ السماويّ عن يسوع، يشير أيضاً إلى نصوص كتابيّة أخرى. نذكر مقطعين في أشعيا الثاني، يُعلن فيه الشعب أنه حبيب الله، وتُعلن أورشليم الاسكاتولوجيّة موضوع رضاه: »لا تخف يا يعقوب عبدي، اسرائيل الذي أحببته واخترته« (أش 44:2)(9). ثم »الربّ يُسرّ بك«، يرضى عنكِ، يا أورشليم (أش 62:4). وكلمة »رضيَ أو سُرّ« تدلّ على مسرّة يشعر بها الله تجاه شعبه الذي اختاره وجعله مُلكَه. فخافه هذا الشعب وحفظ وصاياه. قال مز 44:4: »فما بسيوفهم ورثوا الأرض، ولا بسواعدهم نالوا الخلاص، بل بيمينك وساعدك ونور وجهك، لأنك رضيتَ يا ربّ عنهم«. وقال مز 147:10 - 11: »لا يَسرُّهُ (= الله) في الخيل جبروتُها. ولا ترضيه في الرجل قوّةُ ساقيه. بل يرضى الربّ عن الذين يخافونه ويرجون رحمته«. ويرضى الله أيضاً على الأفراد كما رضي مثلاً على داود (2 صم 22:20). ويقول حب 2:4: »البار بإيمانه يحيا«. غير أن للمدلول أيضاً بُعداً اسكاتولوجياً، فيعود بنا إلى جماعة تعيش حقبة النعمة بعد أن تنقّت من كل خطيئة. هنا نقرأ أش 62:1: »لأجلكِ، يا صهيون، لا أسكت، لأجلك، يا أورشليم، لا أهدأ، حتّى يخرج كالضياء حقّك، وكمصباح متّقد خلاصك«. فالربّ سرّ بها، رضي عنها. ويقول مز 149:4: »الربّ يرضى عن شعبه، ويمنح المساكين خلاصه«. أما كلام الملاك الذي نقرأه في لو 2:14 فيجعلنا في زمن النهاية: السلام على الأرض للذين رضي الله عنهم. ففي العماد يمثِّل يسوع (ويحمل) الجماعةَ التامّة، المنزّهة عن كل خطيئة، التي تشعر هي أيضاً برضى الله الأب. هذا لا يمنع إطلاقاً أن يكون للاعلان السماويّ حول الابن الوحيد مدلول أكثر عمقاً وتسامياً سوف يوضحه الخبرُ الانجيليّ اللاحق.

بحث بعض اللاهوتيّين عن وحي بالنسبة إلى الثالوث. الآب حاضر في الصوت السماويّ، ينادي ابنه الحبيب الذي هو في مياه الأردن. والروح يحلّ بشكل حمامة. ولكننا نودّ أن نُبرز علاقات المعمودية بأصول الكنيسة: خضع يسوع كطقس ليس له، وهو من لم يعرف الخطيئة، فأراد أن لا يفصل قضيّته عن سائر البشر إخوته. والمدلول الفرديّ والجماعيّ لعابد الربّ، يُفهمنا أن مشهد المعموديّة هو فرديّ وجماعيّ. إنه يشير إلى يسوع، كما إلى شعب الله الجديد الذي سيحلّ محلّ القديم.

إذا اعتبرنا أن عبارة »أنت ابني« تدلّ على التبنّي، كما هو الأمر في مز 2، نفهم فهماً أفضل أنها ترتدي بُعداً متسامياً واستعارياً، إن تطبّقت على ابن الله الوحيد أو على الذين شاركوه في امتيازاته. وهنا نستطيع أن نرجع مرّة أخرى إلى الصلاة المسيحانيّة التي نقرأها في أش 62 - 64. نجد فيها موضوعين سوف يستعيدهما العمادُ ويحوّلهما: انفتاح السماء، ونزول الربّ أو روحه القدوس. كما نكتشف في هذا التوسّل، عاطفة يكنّها الله الآب لشعبه. وهذا ما يجعل النبيّ يرجو، رغم كل شيء، أن الخطايا ستُغفر في يوم من الأيام. وأن الوضع المزريّ الحاليّ لن يدوم طويلاً: »تطلّع يا ربّ من السماء، وانظر من مسكن قدسك السامي: أين غيرتك وجبروتك؟ هل منعتَ عني لهفة قلبك ومراحمك لي؟ لماذا أضللتنا، يا رب، عن طرقك، وقسّيت قلوبنا عن مخافتك«؟ (أش 63:15 - 17). ويتابع النبي: »حجبتَ وجهك عنّا، وتركتنا نذوب بآثامنا. والآن، يا ربّ أنت أبٌ لنا. نحن طين وأنت جابلنا. نحن جميعنا من صنع يديك« (أش 62:15 - 17).

إن خبر العماد، كما نقرأه أولاً في انجيل مرقس، هو الجواب التامّ على هذا التوسّل الذي يُمسك بمجامع القلوب: ينحني الآب على يسوع الذي هو ابنه الحبيب. وفي الوقت عينه، يدلّ على حنانه الأبويّ تجاه جميع أبناء الله الذين يحرّكهم تعليمُ الانجيل. ففي عماد يسوع، تجد الجماعة المسيحيّة نفسها ممثّلة بالمسيح إذ تشارك في بنوّته الالهيّة. هنا نتذكّر ما يقوله بولس الرسول للمسيحيّين: أقام فيهم الروح القدس، فحقّ لهم أن يتوجّهوا إلى الآب، كما توجّه يسوع، ويقولوا له: »أبّا، أيها الآب« (غل 4:6؛ روم 8:15).

2 - أناجيل متّى ولوقا ويوحنا

أطلنا الكلام حول خبر مرقس عن العماد. فانجيلا متّى ولوقا يستعيدان المعطيات الأساسيّة التي وجداها عنده، ويتوسّعان فيها. هذا لا يعني أنهما نقلا، بل انطلقا منه وطبعا مقالهما بطابع خاص.

هناك سمتان خاصتان بخبر متّى عن المعموديّة (3:13 - 17). أولاً، الحوار بين يسوع ويوحنا المعمدان (آ 13 - 14). هذا المقطع الذي يدافع عن سموّ المسيح ويمتدحه، لم يكن في المرجع الأوّلانيّ المشترك، بل جُعل في النسخة الأخيرة لمتّى القانونيّ. فلو وُجد في البداية، لما كان ألغاه مرقس ولوقا. توخّى هذا الحوارُ أن يشرح كيف أن يسوع خضع لطقسٍ يقدّمه السابق، وحافظ في الوقت عينه على تفوّقه على المعمدان. والسبب: أراد أن يدشّن البرّ الجديد الذي »يُتمّ« البرّ اليهوديّ لدى يوحنا. فقد قال يسوع: »هكذا يجب علينا أن نتمّ كلّ برّ«. هنا نتذكّر تعليم المعمدان الذي أراد أن تبدأ الدينونة حالاً: يجب أن تكون الفأس على كل شجرة لا تعطي ثمرة: تُقطع وتُرمى في النار. والمذراة حاضرة على البيدر. يأخذها »الآتي بيده، وينقّي بيدره، فيجمع القمحَ في مخزنه، ويُحرق التبنَ بنار لا تنطفئ« (مت 3:10 - 12). أما برّ يسوع فيتجلّى في اقترابه من المرضى، لا من الأصحّاء، من الخطأة، لا من الأبرار.

والسمة الثانية الخاصة بمتى هي إحلال صيغة الغائب محلّ صيغة المخاطب في الاعلان السماويّ. نقرأ في مرقس: أنت ابني الحبيب. أما في متّى: »هذا هو ابني الحبيب، الذي به رضيتُ«. هذا التحوّل لا يعني أن الشعب كان شاهداً للظهور العلويّ. فمتّى لا يذكر هذا الشعب. فهو كعادته، حصر المشهد في شخصين: يسوع ويوحنا المعمدان. ودعا قرّاء الانجيل ليروا في يسوع، المسيحَ الذي حيّاه الصوتُ السماويّ، وليتقبّلوا تعليمه المتعلّق بالشريعة والبرّ الجديد.

والطريقة التي بها فهم لوقا (3:21 - 22) واقعَ العماد، لافتةٌ للنظر. رأى في تقبّل يسوع لعماد يوحنّا أمراً قليل الأهميّة، فأشار إليه إشارة عابرة: »إذ تعمّد يسوع«. من الواضح أنه يصبّ كل اهتمامه على ظهور الروح القدس، ظهوراً شخصياً، حسياً. تحدّث مرقس فقط عن »الروح«. ومتّى عن »روح الله«. أما لوقا فقال: »الروح القدس«. إنه شخص حيّ وفاعل، لا قدرة الله الفاعلة، كما قال العهد القديم. وهو يُرى. قال لوقا: »في صورة جسم«. وهذا الظهور هو بداية التدبير الجديد ومقدّمة لما سوف يتمّ في العنصرة. عند ذاك »امتلأوا كلّهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلّمون بلغة غير لغتهم، على قدر ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا« (أع 2:4).

ونتوقّف بشكل خاص عند اختلافة نصوصيّة. فالنصّ اللوقاويّ الذي بين أيدينا لا يفترق كثيراً عن إنجيليّ مرقس ومتّى. بل هو أخذ عبارة مرقس: »أنت ابني الحبيب، بك رضيت«. غير أن عدداً من الشهود يستعيدون مز 2:7، كما يرد في السبعينيّة: »أنت ابني، أنا اليوم ولدتك«. نجد هذه الاختلافة في الكودكس البازي وفي عدد من مخطوطات اللاتينيّة العتيقة. كما نجدها عند يوستينس في حواره مع تريفون (8:8؛ 102:6)، وعند اكليمنضس الاسكندراني في المربّي (1/6:35)، وفي انجيل الأبيونيّين بحسب شهادة ابيفانيوس(10)، وعند أوريجان في شرح انجيل يوحنا (1/29)(11)، وعند أوغسطينس في توافق الأناجيل (2:14).

وما يلفت النظر شهادةُ يوستينس. إنها قديمة جداً، فتعود إلى القرن الثاني. بالإضافة إلى ذلك، نقرأ في الحوار مع تريفون (103:6) أنه وجد هذا الشكل الدقيق للاعلان السماويّ حيث استقى خبر التجارب، أي في ذكريات الرسل التي يسمّيها »أناجيل« في الدفاع الأول (66:3): »حين صعد من الأردن، قال له الصوت السماويّ: »أنت ابني، أنا اليوم ولدتُك«. إن فكرة ولادة الابن ولادة أزليّة، تُدخلنا في سلالة المسيح الذي هو »ابن آدم، ابن الله« (لو 3:28). أما الشبه بين النصّ اللوقاويّ المشترك ونصيّ متى ومرقس، فيعود إلى ميل النسّاخ أن يُلغوا الاختلافات بين النصوص المتوازية. فإن قبلنا بالاختلافة »أنا اليوم ولدتك«. يرتبط التجسّد والعماد والقيامة، ارتباطاً حميماً ببنوّة يسوع الالهيّة.

أما يوحنا (1:29 - 33) فما روى مشهد العماد، بل جعله في خلفيّة خبره. هناك أمرٌ واحد يهمّه: في هذا الوقت حلّ على يسوع الروح الالهي الذي وعد العهدُ القديم بمجيئه كعلامة لإقامة الحقبة المسيحانيّة. فنزول الروح علي يسوع أفهم السابق أنه أمام ذلك »الذي يرفع خطيئة العالم« (يو 12:9). فصاحب الانجيل الرابع يفكّر منذ الآن بغفران الخطايا في الكنيسة، وبما سوف يقوله في 20:22، حيث يُعطى الروح للرسل، لكي ينالوا سلطاناً به يغفرون الخطايا: »خذوا الروح القدس. من غفرتم له خطاياه تُغفر له. ومن منعتم عنه الغفران، يُمنع عنه«. ويرى بعض الشرّاح أن الفصل الأول من انجيل يوحنا يجب أن يُقرأ في إطار ليتورجيّة الكنيسة، لأنه يُشدّد على أهميّة العماد المسيحيّ ومدلوله(12). والتعارضُ واضح بين عماد يوحنا وشخص يسوع الذي وحده يُعطي العمادَ   المسيحي معناه. وهذا العماد يرتبط بالآلام وذبح الحمل من أجل خطايا العالم.

3 - المدلول الأساسي لعماد يسوع

إن عماد يسوع الذي هو في شكل من الأشكال، بداية رسالته العامّة، يبدو الذروةَ في نشاط السابق، يوحنا المعمدان. فإذا أردنا أن نكتشف طابع هذا العماد ووجهه التاريخي، يجب أن نُعيده إلى السياق الذي كُتب فيه. وها نحن نذكر بعض المعطيات الأساسيّة. نبدأ بعماد يوحنا، ثم نتطرّق إلى تاريخيّة عماد يسوع.

أ - عماد يوحنا

يرتبط العماد الذي يمنحه السابق بممارسة انتشرت جداً فعرفت »الاغتسال المقدّس«. وُجدت طقوسه في مصر وبابلونية والديانات السرانيّة(13) في عالم اليونان. وهذه الطقوس حاضرة اليوم في الهند وفي غير مكان. كما لا ننسى أنها دخلت في ديانة بني اسرائيل (لا 11 - 15؛ 22:1 - 8؛ عد 19:11 - 22: المنجّسون). وبين طقوس التطهير لدى اليهود، برز في حقبة متأخرة، عماد المهتدين الجدد، الذي صار شيئاً فشيئاً طقس تنشئة يزاحم الختان. هل كان هذا الطقس سابقاً للمعمدان؟ وهل اتّخذ في ذلك الوقت طابع طقس خاص، هو التنشئة؟ لا شكّ في أن الاغتسال كطقس وُجد في الحقبة السابقة للمسيحيّة. ولكن يجب أن ننتظر القرن الأول المسيحيّ. بل القرن الثاني، ليصبح طقسَ تنشئةٍ على مثال ما عرفت الديانات في الشرق، لإدخال المؤمن في الديانة الجديدة.

وما علاقة عماد يوحنا بالاغتسالات الدينيّة المتعدّدة التي مارسها الاسيانيّون(14)؟ هنا نبدأ فنُشير إلى أصالة الطقس اليوحناويّ. لا علاقة له بالعماد السحريّ الذي عرفته الديانات السرانيّة التي تجعل الاهتداء الخلقيّ الشخصيّ في آخر اهتماماتها. غير أنه يُشبه بعض الشيء عماد المهتدين الذي فُهم أنه تنشئة للدخول في الديانة اليهوديّة. ويرى عددٌ من العلماء أن عماد يوحنا كيَّف عمادَ المهتدين الذي ظهر قبل المسيحيّة، واعتُبر فعلاً دينياً يُدخل الوثني في العالم اليهوديّ. كان المهتدون ينالون هذا العماد مرّة واحدة، على مثال ما كان يفعل المعمدان. هذا لا يعني أن عماد يوحنا توخّى أن يكوّن شعبَ الله الجديد. وإن كان يُعطى مرّة واحدة، فهذا يرتبط بالتعليم الاسكاتولوجيّ لدى السابق: مجيء المسيح هو مجيء الدينونة. وهذا ما يفرض اهتداء كاملاً قبل مجيء المرحلة الأخيرة في تاريخ الخلاص.

اعتبر عدد من الشرّاح أن السابق كان اسيانياً. هو أقام في قمران مع البدعة الاسيانيّة ثم تركها. من أجل هذا أخذ يمارس العماد. ولكن هؤلاء نسوا الحركة العماديّة التي قد تكون سبقت الحركة الاسيانيّة. ثم إن جماعة قمران اعتادت أن تغتسل أقلّه مرّة في النهار. فإذا كان هذا الاغتسال عماداً، تقبّل الاسيانيّون أكثر من عماد، وهكذا بدا يوحنا بعيداً عنهم. غير أن هؤلاء الشرّاح افترضوا أن لدى القمرانيين اغتسالاً خاصاً بين الاغتسالات العديدة. هذا الاغتسال بدا بشكل طقس تنشئة، وقابلَ عمادَ المهتدين عند اليهود. واستندوا مثلاً إلى نظام الجماعة: »وبين الكمّال لا يحسبونه، ولن ينال المغفرة بالتكفيرات، ولا يُنقّى بماء التطهير، ولا يُقدّس بالبحار والأنهار، ولا تطهّره كلُّ مياه الاغتسال« (3:3 - 4). مثل هذا النصّ لا ينفي الاغتسالات العديدة. بل يشدّد على أنها لا تنفع شيئاً إن لم تسبقه توبةٌ داخليّة واهتداء.

رأى الشرّاح أن طقوس التطهير في قمران تُمارس في مناخ من الانتظار الاسكاتولوجيّ، ونحن نقرأ عنها أيضاً في نظام الجماعة (4:18 - 19): »أما الله وفي أسرار عقله ومجد حكمته، فقد وضع حداً لوجود الضلال. فهو يزيله بشكل نهائيّ في ساعة الافتقاد. وحينئذ يظهر الحقّ بشكل نهائيّ في العالم«. أجل، في ساعة الدينونة، يفنى الشرّ فناء جذرياً، وينتصر الخيرُ إلى الأبد. عندئذ لا يكون للضلال من وجود. هذا المناخ الاسكاتولوجي دفع البعض إلى المقاربة بين عماد يوحنا وعماد الاسيانيّين. بل أفرطوا في المقاربة. فمن الواضح أن عماد يوحنا يختلف عمّا في قمران، لأنه يرتبط بشخص واعٍ كلّ الوعي أنه نبيّ. بل هو النبيّ الذي يسبق، بشكل مباشر، الحقبة المسيحانيّة. في طقوس التطهير، كان اليهود يعمّدون أنفسهم، والمهتدون الجدد أيضاً. أما السابق فهو يعمّد الآتين إليه، المقرّين بخطاياهم(15).

تسلّم السابق طقساً هو علامة المهمّة التي تلقّاها من يُعلن اقتراب التطهير المسيحانيّ الكبير والدينونة النهائيّة. لهذا، فهو يتوجّه إلى الشعب كله (لا إلى فئة معيّنة وحسب)، شأنه شأن الأنبياء. والذين يتوجّه إليهم ليسوا الأتقياء ولا العظماء. هو يوبّخ هيرودس، الذي »تزوّج هيرديا، امرأة أخيه، وعمل كثيراً من السيّئات« (لو 3:19). ويدعو الفريسيين والصادوقيّين: »أولاد الأفاعي« (مت 3:7). وبعد أن ذكر لوقا »الجموع« (3:10) و»الشعب كلّه« (3:21)، حدّد العشّارين الذين جاءوا لكي يعتمدوا، ثم الجنود. فئتان لم تكن سمعتُهما طيّبة، ومع ذلك استقبلهما المعمدان. ثم ان ما يطلبه السابق بعيدٌ كلّ البعد عمّا تطلبه قمران. ما تطلبه قمران هو التصاق بمجموعة منفصلة عن الآخرين، وتفسير خاصّ للشريعة. أما يوحنا، فلا يطلب سوى ممارسة وصايا الله ممارسة صادقة. انتظر الاسيانيون، شأنهم شأن يوحنا، معموديّة كاملة وفيضاً للروح، وهذا ما نفهمه في محيط يهوديّ قريب من زمن المسيح. غير أن الاختلافات الكبيرة تدلّ على استقلاليّة السابق التامّة في تعليمه.

وأخيراً رأى بعض الباحثين أن عماد السابق شابه الاغتسال عند الاسيانيّين، حيث تحوّلت الطقوس الممارسة في خدمة الهيكل إلى العماد. فيوحنا هو ابن كاهن (زكريا) وقد يكون تعلّم مع والده شيئاً من هذه التطهيرات! وهكذا يكون يوحنا طلب للدخول إلى ملكوت الله الآتي، تطهيراً يُشبه ذاك المطلوب من الكهنة والحجّاج قبل الدخول إلى المعبد. إن هذه النظرة ليست إلا مجرّد فرضيّة تفسّر ارتباطَ لاهوت العماد المسيحي وليتورجيته بنظرة كهنوتيّة. ولكن لا ننسى أن معموديّة يوحنا اختلفت عن الطقوس اليهوديّة (أو القمرانيّة) المرتبطة بالطهارة حسب الشريعة، فما تحدّثت سوى عن الطهارة الخلقيّة في خطّ الأنبياء الذين أراد المعمدان أن يكون امتداداً لهم.

ب - معموديّة يسوع بيد يوحنا

أن يكون يسوع خضع لمعموديّة التوبة، أمر لا شكّ فيه. فالجماعة المسيحيّة التي تيقّنت من سموّ يسوع، ما كانت لتتخيّله خاضعاً لهذا الطقس، لو لم يكن تعمّد حقاً. غير أن بعض النقّاد يناقشون حول تاريخيّة الظهور العلويّ، الذي يربطه الانجيليون الأربعة بالعماد. هم يدرسون النصّ دراسة منحازة، كما يرفضون كلّ ما يتجاوز المسيرة العاديّة للأحياء. وهناك من لا يريد يسوع أن يكون »رأى رؤى« هي إلى الخيال أقرب منه إلى الواقع. ولكن إذا كان بولس الذي حارب صوفيّة في غير محلّها (1 كور 12 - 14) قد نال رؤى، وأولها رؤية دمشق، فلماذا لا نقول بأن يسوع نال ظهوراً فائق الطبيعة؟ ساعة كان المعمدان يقوم بعمل التهيئة المسيحانيّة. دلّ حدثٌ علويّ على أن الساعة دقّت ليتدخّل يسوع بدوره كالمسيح فيواصل عمل السابق، ويعطيه كامل معناه في إطار تاريخ الخلاص.

ويُطرح سؤال آخر أكثر دقّة: كيف نفسّر تفاصيل التيوفانيا؟ هل كانت خارجيّة وموضوعيّة، أم مجرّد رؤية داخليّة على مستوى المخيّلة أو العقل؟ بل هي خبرة صوفيّة حُفظت للمسيح(16). هذا يعني أننا اليوم نبتعد عمّا فهمته المسيحيّة الأولى عن تجلّي المعموديّة. فهناك آباء اعتبروا أن الذين كانوا عند نهر الأردن، كانوا شهوداً لظواهر فائقة الطبيعة. وهكذا يكون اليهود خطئوا لأنهم ما أرادوا أن يؤمنوا مع أنهم رأوا السماء تنفتح فوق يسوع. ولكن النصوص الانجيليّة لا تتيح لنا أن نستخرج هذه النتيجة. أولاً، لوقا وحده أشار إلى حضور الجموع على ضفاف الأردن، في عماد يسوع. غير أنه لا يقول إنها كانت شاهدة لما حصل. ثانياً، قد يكون الصوت السماويّ الذي جاء في صيغة الغائب، توجّه إلى الحاضرين. ولكن في هذه الحالة نتبع مرقس ولوقا اللذين استعملا صيغة المخاطب فقالا إن الرؤية توجّهت إلى يسوع الذي كان وحده الشاهد لهذه الظواهر العلويّة. هذا يعني أننا أمام أمور لا تُرى بالعين المجرّدة. والكلام عن انفتاح السماء، يدلّ على خبرة روحيّة.

هنا تبدو التيوفانيا العماديّة شبيهة بما في رؤى الأنبياء حين دعاهم الله. كان عملٌ في مخيّلتهم، فتكوّنت صور منظورة ومسموعة وملموسة تتوافق مع المحيط الذين يعيشون فيه. حين ننظر إلى عماد يسوع من هذه الزاوية، فهو لا يخسر شيئاً من واقعه ولا من مدلوله اللاهوتيّ العميق. ولكن حين نقابل العماد بالتجلّي، ونرى أن ثلاثة تلاميذ مميّزين رأوا »المعجزة«، نتساءل: أما »رأى« أحد التيوفانيا العماديّة؟

هناك من قال إن يسوع أسرّ إلى تلاميذه بخبرة العماد والتجارب. وفصَلَ بين نصّ التجارب الذي نقرأه في الأناجيل الازائيّة (متّى، مرقس، لوقا). ونصّ العماد الذي تأثّر بالحلقات العماديّة التي ظلّت أمينة ليوحنا المعمدان (أع 19:1 ي)، اتّخذ كامل مدلوله من الانجيل الرابع. فهذا الانجيل يعلن أن الرؤية  كانت منظورة، وأن يوحنا شاهدها حين شاهد يسوع، فأعلن: »رأيت الروح ينزل عليه بشكل حمامة ويستقرّ عليه. أنا ما كنت أعرفه. ولكن الذي أرسلني لأعمّد بالماء هو قال لي: ذاك الذي ترى الروح ينزل ويستقرّ عليه، هو الذي يعمّد في الروح القدس. وأنا رأيت وشهدت أن هذا هو مختار (أو ابن) الله (يو 1:32 - 34).

عَكسَ الانجيلُ الرابع الواقعَ حين قال إن التيوفانيا العماديّة أتاحت للسابق أن يرى في يسوع، المسيحَ الذي يعلن، وأن يوجّه تلاميذه نحو المخلّص. غير أن المسألة تبقى متشعّبة، هنا كما في أماكن أخرى من الانجيل الرابع. هناك أولاً نقطة انطلاق تاريخيّة، متينة. ومنها ينطلق الانجيلي ليتوسّع في لاهوته القائل بتفوّق يسوع على المعمدان، وبحلول العماد المسيحيّ محلّ عماد السابق بشكل نهائيّ. ولكن يجب القول إن المعمدان وحده نعم بهذه الرؤية، فقال: رأيتُ، شهدتُ. فلو رأى الجميع يسوع في هذه الحالة الفائقة الطبيعة، أما كانوا آمنوا؟ ثم إن إنجيل مرقس شدّد على السرّ المسيحانيّ، فما كشف إلاّ شيئاً فشيئاً عمق شخصيّة يسوع. من أجل هذا نقول إن هذا الظهور انحصر وما وصل إلى الجموع. كانت خبرةٌ داخليّة نعمَ بها المعمدان وحده. أما هذا الذي يحدث في الظهورات اليوم؟

ج - المدلول الأساسيّ لعماد يسوع

نترك أقوالاً ترى في عماد يسوع تحوّلاً في كيانه، أو وعياً مسيحانياً لشخصه، أو مشهد تبنّ بنويّ. هنا نعود إلى سفر الأعمال الذي ينطلق منه أولئك الذين يجعلون العماد أساس وعي يسوع لمسيحانيّته: »أنتم تعرفون ما جرى في اليهوديّة كلها، ابتداء من الجليل بعد المعموديّة التي دعا إليها يوحنا، وكيف مسح الله يسوع الناصريّ بالروح القدس والقدرة، فسار في كل مكان يعمل الخير ويشفي جميع الذين استولى عليهم إبليس، لأن الله كان معه« (أع 10:37 - 38). هذا ما قاله بطرس في بيت كورنيليوس. في القديم، فُهمت هذه المسحة على أنها المعموديّة، كم قال اثناسيوس، أسقف الاسكندريّة. أو التجسّد كما قال امبروسيوس أسقف ميلانو أو كيرلس الاورشليمي. هناك كتّاب معاصرون ما زالوا يتحدّثون عن التجسّد. ولكن نصوص العهد الجديد التي نقرأها في مؤلّف لوقا (لو + أع) تربط مسحةَ بالمسيح بالمعموديّة (لو 4:28؛ أع 4:27؛ 10:38). كما تشير إلى مسحة بنويّة كمقدّمة لنشاط ذات طابع بنويّ: »روح الربّ عليّ، لأنه مسحني، وأرسلني أبشّر المساكين، وأشفي منكسري القلوب، وأعلن التحرير للأسرى، وعودة النظر إلى العميان« (أش 61:1). لا شكّ في أن اللاهوت النظريّ تحدّث عن مسحة مثلّثة، ملوكيّة، كهنوتيّة، نبويّة، بالنسبة إلى المسيح. غير أن هذا لا يسمح لنا بأن نرى في معموديّة المسيح أصلَ وعيه المسيحانيّ. إنها إعلان لنا ببداية رسالة يسوع العلنيّة. إنها التكريس الرسميّ ليسوع الذي هو المسيح(17).

أجل بدا يسوع ذاك الملك الذي قال له الله: أَنت ابني. ولكنه يعمل في سمات عابد الله المتألّم. وقد تكون حصلت آيات خارجيّة، فبيّنت أن العماد يتحدّد موقعُه في نهاية حياة يسوع الخفيّة وبداية نشاطه العلنيّ(18). هذه الوجهة نقرأها في الانجيل الرابع، حيث تستند شهادة السابق إلى التيوفانيا العماديّة.

اعتاد التقليد أن ينظر إلى معموديّة يسوع على أنها وحي لسرّ الثالوث الأقدس. هذا ما نقوله إن وقفنا على مستوى الصياغة الانجيليّة. ففي فكر الانجيليّين الذين أوردوا المشهد، وحين أعلن الآب أن يسوع هو ابنه الوحيد، ما نزل على يسوع قوّةٌ لا شخصيّة، بل الروح القدس. أما بنوّة يسوع الالهية، بفعل الروح القدس، فيعلّمها متّى ولوقا في أخبار الطفولة. وإذ روى هذا الانجيليان الظهور العماديّ، تذكّرا بدون شكّ هذه البنوّة. هنا نقول إن يوحنا المعمدان (أو آخرون قد يكونون شاهدوا الرؤية) لم يكن ليصل إلى وحي سرّ الله في ثلاثة أقانيم، وهو ابن العهد القديم المتعلّق بالإيمان بالله الواحد. وإذا كان لوقا شدّد على شخص الروح، كما سبق وقلنا (الروح القدس)، فمرقس يتكلّم فقط عن »الروح« ومتّى عن »روح الله«. ثم إن الصياغة الانجيليّة أبرزت تسامي الابن كما أعلنه الصوتُ السماويّ. وهكذا يكون وحيُ عقيدة الثالوث نهاية مسيرة طويلة ستجد تعبيرها الكامل في مجمع نيقية.

وما علاقة عماد يسوع بالعماد المسيحيّ؟ قال التعليم التقليديّ: كما أن يوحنا المعمدان كان خاتمة الشريعة وبداية الانجيل، كذلك عماد المسيح الذي قدّس الماء من أجل سرّ الولادة المسيحيّة، قد وضع حداً للتدبير القديم، ودشّن مرحلة النعمة، مرحلة الخليقة الجديدة. قد عبّر اغناطيوس الانطاكي عن هذه الفكرة في عبارة رائعة تضمّ سرّي العماد والآلام. قال في الرسالة إلى الأفسسيّين (18:2): »تعمّد لكي يتطهّر الماء في آلامه«. وبعده، جاء من يتوسّع في هذه الفكرة. قال ترتليانس في ردّه على اليهود (ف 8): »تعمّد المسيح... فقدّس المياه في عماده... مُسح فكمّل بمجيئه كل الرؤى والنبوءات«(19).

هذا التعليم يجد أساسه المتين في المعطيات الانجيليّة، مع تلميح إلى خلق العالم ورمز الحمامة، من أجل خلق جديد. ثم إن الانجيليّين أدركوا العلاقة بين عماد يسوع والعماد المسيحيّ. فلوقا مثلاً أراد أن يبيّن في يسوع أوّلَ المعمّدين ومثالَهم. ويوحنا جعل من نزول الروح على يسوع نقطة الانطلاق للعماد المسيحيّ في الروح. وفي نهاية انجيل متّى (28:19)، أمرُ يسوع بتعميد الأمم جميعاً مع العبارة الثالوثيّة المميّزة، يشير إلى عماد يسوع الذي فُهم كظهور للثالوث الأقدس. ولكن لم يكن بالامكان إدراك هذه العلاقة إلاّ على ضوء حياة الكنيسة والممارسة الأسراريّة. غير أن كل هذا انطلق من حدث أساسيّ تمّ على نهر الأردن.

أما المعنيّ بهذا الحدث فهو شخص يسوع عينه. فالمشهد، كما سبق وقلنا، يذكّرنا برؤى الأنبياء في بداية رسالتهم. وعمادُ يسوع يدشّن رسالته. والروح لا ينزل على يسوع ليعطيه النعمة أو ليزيدها فيه. مثلُ هذا الكلام لا يتوافق إطلاقاً مع عقيدة الاتحاد الجوهريّ التي تفرض علينا أن نؤمن أن المسيح، منذ اللحظة الأولى للتجسّد، قد امتلك ملء النعمة كنتيجة اتّحاد اللاهوت بالناسوت. وتدخّلُ الروح لا يُفهم أولاً على مستوى حياة يسوع الباطنيّة، بل على مستوى تاريخ الخلاص. فالروح يدفع يسوع لكي يبدأ رسالته في تأسيس التدبير المسيحانيّ، ويحثّه على تحقيق برنامج عبد الربّ المتألّم.

ومع ذلك، أما نستطيع أن نتكلّم عن أكثر من دفع خارجيّ؟ أما تعلّم يسوع، بفضل هذا الحدث، شيئاً ثبّته في التوجيه الذي أراد أن يعطيه لنشاطه المسيحانيّ؟ من الصعب جداً أن نتمثّل سيكولوجيّة يسوع ونفسيّته في ذلك الوقت. ولكن لا شيء يفرض علينا أن نعتقد أنه لم يكن نموّ حياتيّ في الطريقة التي بها تصوّر مصيرُه ودورُه الخلاصيّ. ففي الأناجيل، نراه أكثر من مرّة يندهش ويتساءل، كما يفعل كلّ انسان. ويقول لنا القدّيس لوقا عنه: »كان ينمو في الحكمة والنعمة أمام الله وأمام الناس« (لو 2:52). وتؤكّد الرسالة إلى العبرانيين: »وتعلّم الطاعة، وهو الابن، بما عاناه من الألم« (عب 5:8). فبقدر ما نأخذ على محمل الجدّ سرّ التجسّد، نستطيع أن نفكّر بأن بعض الخبرات أغنت يسوع على المستوى البشريّ، وجعلت عقلُه يكتشف النقاط الجديدة، والتيوفانيا العماديّة تبدو إحدى هذه الخبرات المميّزة. وهكذا يكون تقاربٌ حقيقيّ بين مجيء الروح  الذي تمّ في ذلك الوقت وتدخّل يهوه (أو روحه) من أجل مهمّة تحريريّة يقوم بها نبيّ من الأنبياء أو قاضٍ من القضاة.

إلاّ أن أصالة الحدث الانجيليّ تبقى فوق كل أصالة. فما هو فقط مشهد دعوة نبويّة. فجميعُ أخبار الدعوات التي نقرأها في الكتاب المقدّس(20)، تتضمّن عنصرين أساسيّين غابا هنا غياباً تاماً: نداء من الله، وجواب الانسان على هذا النداء. فهذا الحدث يتجاوز، ببُعده الدينيّ، أيّة دعوة خارقة، بما فيها دعوة القديس بولس. فقد حصل واقع أساسيّ في تاريخ الخلاص: قابله متّى ومرقس بمعجزات سبقت إقامة شعب الله، كعبور البحر الأحمر ونهر الأردن. أما لوقا فجعله مقدّمةً لحدث العنصرة.

وما هو أهمّ من هذا، في الأناجيل الأربعة، هو أن هذا الحدث يفتتح نظرة خاصة إلى عمل المسيح في تحرير البشريّة مع الآلام ذروةً له. فيسوع الذي عرف أنه ابن الله في معنى فريد، التزم مع ذلك في طريق الاتضاع والآلام المحفوظة لعبد الرب في أشعيا الثاني. لا نستطيع أن نحتفظ بالوجهة البنويّة في قلب الثالوث، في مشهد العماد، فننسى ما قاله أشعيا. أو ننسى أن يسوع خضع هنا لطقس معدّ للخطأة. قد نظنّ أننا أمام تعارض نحاول أن نتجنّبه. فهذا التعارض هو جوهر الانجيل بحيث يصبح تعليم الخلاص فيه شيئاً جذرياً، جديداً، رغم كل ما قدّمت لنا كلّ نصوص العهد القديم: لسنا فقط أمام انسان مُسِحَ بالزيت المقدّس، فاتّضع وتألّم، وصار عبدَ الرب، وقدّم حياته فدية عن الكثيرين. إنه ابن الله والأقنوم الثاني في الثالوث الأقدس.

وهكذا يكون عمادُ يسوع بدايةَ المسيحيّة. أما الديانة الجديدة فتبدأ لا بتجلٍ فائق الطبيعة وخارج عن يسوع، بل بحضور في حياته نفسها، حضور مؤلم ومذلّ، لأنه الانسان الإله الذي يأتي لكي يخلّص العالم »بجهالة الصليب«.

خاتمة

انطلق الانجيليّون من ظهورات الفصح والقيامة للكلام عن تجلّي مجد المسيح. وقرأت الجماعة المسيحيّة عدداً من الأحداث على ضوء خبرة القيامة. كذا نقول عن التجلّي. وخبرُ العماد انطلق من واقع تاريخيّ هو خضوع يسوع للسابق وقبول معموديّة مهيّأة للخطأة. حين اعتمد الشعب كله، اعتمد يسوع، فتضامن معهم في خطيئتهم، بل كان حملَ الله الذي يرفع خطيئة العالم. من هذا الواقع انطلق الانجيليّون ليقرّبوا نظرة مسيحيّة إلى شخص يسوع المسيح: كشف الصوت السماويّ من هو يسوع. وفسّر نزولُ الروح عليه فاعليّة عمله ورسالته.

عاد الفكر المسيحيّ إلى عماد يسوع، كما عاد إلى سائر أحداث حياته، فقرأها في إطار فصحيّ، وداخل حياة الكنيسة في جماعاتها المتعدّدة. بدا العماد دفعاً فائق الطبيعة أُعطيَ ليسوع لكي يدخل بعزم في الطريق المسيحانيّة التي رسمتها أقوال العهد القديم. ولا سيّما أناشيد عبد الرب في أشعيا. وبعد ذلك، فُهم العماد شيئاً فشيئاً كوحي واضح عن بنوّة يسوع الالهيّة في المعنى الحصريّ للكلمة، كما فُهم تجلياً لسرّ الثالوث الأقدس. وفُهم أخيراً تأسيساً لسرّ مسيحيّ، هو سرّ العماد الذي يُتمّ طقس يوحنا المعمدان. هذا يعني أن حياة الكنيسة تدخل في حياة مؤسّسها وتكون امتداداً لسرّه. وعماد يسوع يُلقي الضوء على عمادنا، فننال الروح ونصبح أبناء مع الابن. والنظرة إلى عمادنا وما نناله من بنوّة، تصلُ بنا إلى من هو وحده ابن الله، إلى من حلّ عليه الروح القدس من أجل بداية خلق جديد لا ينتهي حتّى يجتمع في شخص المسيح كلّ ما في السماء وما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM