الفصل الثاني: ماذا نعرف عن يسوع الناصري

الفصل الثاني:

ماذا نعرف عن يسوع الناصري

كثُرت الكتابات عن يسوع المسيح في سنة 2000، وتواصلت في بداية الألفيّة الثالثة. وكانت النوايا متعدّدة والأهداف مختلفة. ومع ذلك، يبقى السؤال مطروحاً: ماذا نعرف عن يسوع الناصريّ، هذا الفلاّح العائش في الجليل، الذي عُرف بالنجار وابن النجّار، لأن هذه المهنة انتقلت في البيت من الجدّ، إلى الأب والابن؟ نستطيع القول إننا نعرف عن يسوع أموراً كثيرة، إذا قابلنا ما نعرفه عنه بما نعرفه عن رجال آخرين عاشوا في القرن الأول المسيحيّ. ولكننا في الواقع نعرف القليل حين نرى ما يطلبه تبّاعه والآخرون من معلومات إضافيّة، وليس أقلّها سنة مولده وموته. من أجل هذا، نعود إلى المصادر ونطرح سؤالاً مثلّثاً: ما علاقة يسوع بالعالم اليهوديّ؟ لماذا رذله شعبه؟ هل كان نبياً من الأنبياء أم فيلسوفاً وحكيماً كعدد من فلاسفة وحكماء العالم القديم؟ وبمختصر الكلام، ما هي علاقته بالتاريخ؟

1 - يسوع والعالم اليهوديّ

أ - بين عالم وعالم

حين نقرأ الأناجيل، ولا سيّما إنجيل متّى، وحين نتذكّر ما طالعناه حول يسوع المسيح في وجهه البشريّ، تطلع علينا صورةٌ تقليديّة تجعل يسوع يتعارض كل التعارض مع معاصريه: من جهة، عالم يهوديّ متعلّق بالشريعة، ملتو ومعوجّ، كأنه قطعة قدّت من صخر لا تميل ولا تتحرّك. ومن جهة أخرى، يسوعَ الذي قدّم ديانة »القلب« وتجاوز عالم القانون لدى المعلّمين المتزمّتين وراء فتاويهم، بحياة باطنيّة عميقة. فالفريسيّون مراؤون، ومعلّمو الشريعة كالقبور المكلّسة. هم قادة عميان، وقادة جهّال. وإذا كان الأعمى يقود الأعمى، أما يقع الاثنان في الحفرة (مت 23:13 ي)؟

ولكن هذه الصورة لا تُنسينا أن يسوع كان يهودياً بحياته وفكره وتصرّفاته، بحيث إن المواقف التي اتّخذها جعلته قريباً من أناس في عصره، من أنبياء ومعلّمين، من »ثائرين« نادوا بمسيح يخلّص الشعب من سلطة العدوّ ويعيد إلى الأمّة كرامتها.

لا شكّ في أن ما قاله يسوع وعمله صدم معاصريه صدمة قاسية، وأن الصراع انتهى بإزالة هذا »المُفتن« الذي يجعل الشغب في الشعب، »فإذا تركناه على هذه الحال، آمن به جميع الناس، فيجيء الرومانيون ويخرّبون هيكلنا وأمّتنا« (يو 11:48). واتُّخذ القرار: »موت رجل واحد فدى الشعب، خير لكم من أن تهلك الأمّة كلها« (آ 50). ومع ذلك، فهذا الاختلاف الأساسيّ الذي لم يَعُد يُطاق، يترافق مع اندماج تام من قبل يسوع في حضارة عصره، وتأثّر عميق بالتطلّعات الدينيّة في أيّامه.

ب - السبت وسائر الممارسات

احتلّ الجدال حول السبت مكانة هامّة في الأناجيل. فهناك ما يُعمل في السبت وهناك ما لا يُعمل، حتّى لو كان قطف سنبلة لنأكل حبّها (مت 12:1 - 2). وطُرح سؤال: هل يحلّ شفاء انسان مريض يوم السبت (آ 10)؟ وكان جواب يسوع في قول مأثور: »جُعل السبت للانسان، وما جُعل الانسان للسبت« (مر 2:27). ودلّ على سلطانه: »إن الانسان هو سيّد السبت« (مت 12:8).

مثلُ هذا الجدال لم يكن غريباً عن فلسطين في القرن الأول المسيحيّ. فالمعلّمون الفرّيسيون قدّموا لائحة من حالات نُعفى فيها من حفظ السبت. حالات فيها تتفوّق حاجة القريب على وصيّة الراحة. في هذا المجال قالت »مخيلتا« (كيل، نهج، أسلوب) في خر 21:13: »السبت لكم، وأنتم لستم للسبت«. حسب مت 33:6، وبّخ يسوع الفرّيسيين لأنهم يحبّون المقاعد الأولى، لأنهم يرغبون في أن يدعوهم الناسُ »رابي« (معلّم). في هذا الإطار، نسمع ما قاله هلال الكبير (70 ق م - 10 ب م): »من استخدم التاج (الذي هو الشريعة) لمصلحته خسر نفسه. ومن أراد إفادة ماديّة من كلمات التوراة، انتزع حياته من هذا العالم« (فصول الآباء، 4:5). في هذا المجال، قال يسوع: »أما أنتم، فلا تسمحوا بأن يدعوكم أحد: يا معلّم، لأنكم كلّكم إخوة، ولكم معلّم واحد« (مت 23:8).

هذا ما يتعلّق بالسبت. وما نقرأه في عظة الجبل (مت 5 - 7) كما جمعه متّى، حول الصوم والصدقة والصلاة... يجد ما يقابله في التلمود، الذي كُتب في القرن الخامس ب م، ولكنه أورد تقاليد قديمة تعود إلى زمن المسيح بل قبل ذاك الزمان. من هذه الأمور، نذكر أولويّة وصيّة المحبّة في ممارسة الشريعة. تحبّ الربّ إلهك من كل قلبك، وكل نفسك، وكل قدرتك. يُصبح هذا القول على المستوى العمليّ: »عاملوا الآخرين مثلما تريدون أن يعاملوكم. هذه هي خلاصة الشريعة وتعاليم الأنبياء« (مت 7:12). وقال بولس الرسول في هذا المجال: »الشريعة كلها تكتمل في وصيّة واحدة: أحبب قريبك مثلما تحبّ نفسك« (غل 5:14).

والقول حول الطاعة الداخليّة للشريعة، لا الطاعة الشكليّة، يجد جذوره في أشعيا النبي، الذي قال بفم الربّ: »هذا الشعب يكرمني بشفتيه، وأما قلبه فبعيد منّي« (29:13). توقّف عنده المعلّمون اليهود، واستعمله يسوع في جداله مع الفريسيين، فكلّمهم بقساوة، لأنهم لا يستخلصون منه ما يجب أن يستخلصوا: »لماذا تخالفون أنتم وصيّة الله من أجل تقاليدكم... يا مراؤون« (مت 15:3، 7)؟ أما عظة الجبل، فتعمّقت في مفهوم الوصيّة التي تمنع القتل، فوصلت إلى الغضب والكلام الجارح (مت 5:21 - 26)، والتي تمنع الزنى فتمنع الرجل من نظرة تحمل الشهوة (آ 27)، لأن العين هي سراج الجسد. وما قاله يسوع عن معاملة العدوّ الذي نحترمه رغم كل شيء، قاله المعلّمون، ولكنهم حصروه في الأقارب والأصدقاء، فجاءت نظراتهم مبتورة، لا شاملة ولا كاملة. أما كلام الربّ، ففتح الوصيّة على مداها: »إن كنتم تحبّون الذين يحبّونكم، فأي أجر لكم؟ وإن كنتم لا تسلّمون إلاّ على إخوتكم، فماذا عملتم أكثر من غيركم« (مت 5:46:47)؟

ج - تواصل أم قطيعة

لا نستطيع القول إن يسوع قطع كل اتصال بالشريعة، ورذل سلطتها، كما فعل مثلاً إبن أخي فيلون الاسكندراني، أو كما يفعل أحد المؤمنين اليوم الذين يعتبرون نفوسهم خارج الكنيسة. فيسوع ظلّ على علاقة بالشريعة. وفي خطّه سوف يقول بولس: »الشريعة مقدّسة، والوصيّة مقدّسة وعادلة وصالحة« (روم 7:12). أما الجدال حول تفسير الشريعة فيعود إلى زمن إرميا. تساءل الناس: هل يستطيع اليهوديّ أن ينقل حملاً يوم السبت (إر 17:19 - 27). كل هذا يعود إلى خر 16:23 (غداً يوم عطلة. تخبزون اليوم ما تريدون أن تخبزون) وإلى نح 13:15 - 22 الذي يتحدّث عن تدنيس يوم السبت في مدينة أورشليم. ولكن القساوة نقرأها في عد 15:32: رجل يحتطب حطباً يوم السبت. الحكم: »يُقتل الرجل قتلاً. ترجمه كلُّ الجماعة رجماً«. كل هذا التشريع حول السبت بدا قاسياً حتّى للفريسيين، لأنه يمنع الأصدقاء من أن يأكلوا معاً. لهذا اخترع الفريسيون حيلة بها يدورون حول الشريعة دون أن يتجاوزوها. رفض الصادوقيون هذه الحيلة التي جاءت أخطر ممّا فعله يسوع حين شفى صاحب اليد اليابسة يوم السبت. غير أن هذا لا يعني أن الفريسيين قطعوا الرباط مع العالم اليهوديّ.

من أجل هذا، لا بدّ من إعادة النظر في كلام يسوع وممارسته، انطلاقاً من التنوّع الكبير في الفكر اليهوديّ، والتسامح الواسع تجاه الآراء المختلفة التي طبعت المجتمع اليهوديّ في زمن يسوع. لهذا، لن نتكلّم عن عالم يهوديّ واحد هاجمه متّى بقساوة حين رأى المهتدين الجدد يؤمّون المجمع اليهوديّ ثم يأتون إلى الكنيسة. عليهم أن يختاروا بين يسوع والفريسيين، بين ذاك الذي هو »وديع ومتواضع القلب« (مت 11:29) وبين الذين »يحبّون مقاعد الشرف في الولائم، ومكان الصدارة في المجامع، والتحيّات في الأسواق« (مت 23:6 - 7).

إن هذه الفئات الفكريّة المتناحرة في إطار العالم اليهوديّ، ما زالت تراعي سلطة التوراة ودور الهيكل، ولكن يسوع سوف يلامس الاثنين: صار الهيكل صنماً صنعته الأيدي، كما قال اسطفانس قبل أن يموت (أع 7:48 - 50). فيجب أن ينقض. وهو سوف يُهدم سنة 70 ب م، على يد الرومان، فتصبح القطيعة كاملة بين العالم اليهودي والعالم المسيحي، وتُختم في مجمع يمنية (على الشاطئ الفلسطيني). والشريعة سقطت في ممارساتها اليوميّة، ولا سيّما في ما يتعلّق بالختان الذي لا يفيد شيئاً بالنسبة إلى المسيحيّ (1 كور 7:19: ليس الختان بشيء ولا عدم الختان)، وبالأطعمة الطاهرة، حيث قال مرقس موجزاً كلام يسوع بمناسبة غسل الأيدي قبل الطعام: »جعل الأطعمة كلها طاهرة« (7:19). وهكذا زال سفرُ اللاويين بشرائعه المتعدّدة الذي يقرأه اليهوديّ أول ما يقرأ من أسفار الشريعة الخمسة.

ونضيف أن يسوع عاش في الخارج كما يعيش كل يهوديّ. فأمّ المجمع، وقرأ من سفر أشعيا، وفسّر نصّ النبوءة. ومضى إلى الهيكل أكثر من مرّة، ووعظ في أروقته. وطلب من الأبرص أن يقوم بواجبه بعد أن طهر (مر 1:44). ولكنه لم يحصر نفسه يوماً في شريعة مهما سما مقامها. فقد صار هو نفسه الشريعة، صار هو الحبّ الذي نسير وراءه. ولم يحصر نفسه يوماً في شعب، مهما كان الدور الذي لعبه هذا الشعب في تهيئة القلوب لعبادة الاله الواحد. فهو سيرسل تلاميذه إلى العالم كله، إلى جميع شعوب الأرض. ولم يحصر نفسه في ممارسات مهما علا قدرُها. فما يهمّه أولاً وأخيراً هو الانسان. هو خلاص الانسان. أن يكون الانسان من البعيدين، أي آتياً من العالم الوثني، أو من القريبين، أي آتياً من العالم اليهوديّ، فالأمر سيّان لديه. الانسان هو الذي يجعل حاجزاً بينه وبين الآخرين لكي يدافع عن نفسه، عن امتيازاته ومصالحه. أما يسوع فألغى كل الحواجز بصليبه وهي حواجز صارت في النهاية جدار عداوة.

2 - لماذا رُذل يسوع في شعبه

أ - موقف مبدأي

بدا يسوع قريباً من هؤلاء المعلّمين الذين جادلهم أكثر من مرّة. ومع ذلك، فقد رفضه شعبه. فضّلوا عليه مجرماً قاتلاً، هو برأبا، وهتفوا كلهم: »دمه علينا وعلى أولادنا« (مت 27:25). لا شكّ في أن يسوع ما جاء يسفك دم أعدائه، وهو من لا أعداء له، وهو من أحبّ البشر حين كانوا خطأة (روم 5:6: ولما كنا ضعفاء، مات المسيح من أجل الخاطئين)، وهو من غفر للرومان (أي الوثنيين) واليهود، فقال للآب السماوي: »إغفر لهم لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون« (لو 23:34). فيسوع جاء ليسفك دمه من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا. جاء ليجمع المشتّتين في واحد، »ليجمع شمل أبناء الله« (يو 11:52). ولهذا كان دمه حقاً على اليهود وعلى غير اليهود من أجل خلاص البشريّة كلها (1 تم 2:4: يريد أن يخلّص جميع الناس).

ويبقى السؤال مطروحاً: لماذا رذل الشعبُ اليهوديّ يسوع؟ فالخلافات بين يسوع والكتبة لا تكفي لكي تفسّر تصرّف عظماء الكهنة الذين ما عادوا يحتملون أقوال يسوع وأعماله. ولكن هناك أمرين يدلاّن أنه إن لم يكن موقف يسوع من الشريعة موضوع خلاف، مع العالم اليهودي، فقد بدا في أي حال على حدود أولئك الذين تعرّفنا إليهم في نهاية القرن الأول المسيحيّ، حين لعنوا كل من يعترف بأن يسوع هو المسيح.

ب - الشريعة وسلطة يسوع

ما ضايق اليهودَ أولاً لدى يسوع، هو جذريّته في التعامل مع الشريعة. ما اكتفى بأن يبقى على المستوى السطحيّ، على مستوى القشور. بل تعمّق في الشريعة وسار فيها إلى أبعد حدود متطلّباتها. وهكذا كان منطقياً مع نفسه. مثلاً، كرّر اليهود المتمرّدون، في خطى رابي هلاّل، أن الحبّ هو ذروة الشريعة. غير أنهم تراجعوا سريعاً، فجعلوا المحبّة على مستوى سائر الفرائض. صارت المحبّة فريضة من الفرائض. ولكن عند ذاك لن تكون محبّة تَفرض علينا أن نحبّ كما الله يحبّ. والمحبّة في نظر يسوع تفرض نفسها فرضاً حاسماً بحيث تسقط أمامها ممارسات التقوى وغيرها. هذا ما فهمه أوغسطس حين قال: أحبب الله وافعل ما تشاء. أحبب القريب ولا تخف من تصرّفاتك تجاهه. فالمحبّة لا يمكن أن تضمر شراً للقريب.

وما يضيف اليهود أيضاً هو أن يسوع قدّم سلطته على أنها لم تأت من بشر. سلطته هي من عند الله. وما يدلّ على حرية سامية تمتّع بها يسوعُ الناصريّ، هو موقفه تجاه الشريعة، وتجاه كل ما قاله الأقدمون. قيل لأبائكم: لا تقتل. أما أنا فأقول لكم. قيل: لا تزن. أما أنا فأقول لكم (مت 5:21 - 48). وما اكتفى بأن قال، بل فعل. حين غفر خطايا المخلّع. بأي سلطان يفعل؟ هل كلمته تكفي؟ أما يحتاج إلى ذبائح؟ عندئذ قال: »سأريكم أن ابن الانسان له سلطان ليغفر الخطايا« (مر 2:10). وكانت المعجزة الخارجيّة (شفاء الكسيح) العلامة الحسيّة أن يسوع يمتلك سلطاناً لا يمتلكه بشر (آ 7:لا يغفر الخطايا إلا الله): يشفي المرضى، يقيم الموتى، يغفر الخطايا، يفسّر الشريعة دون العودة إلى موسى وسائر المعلّمين من بلده. هم قالوا. ولكن قوله يلغي قولهم، ولا سيّما على مستوى بغض الأعداء (مت 5:13)، أو أقلّه يفسّره في كل أبعاده، فلا يعود أمراً محدوداً يجعلنا نفضّل الذبيحة على الرحمة (مت 12:7). أجل، بدا كلام يسوع حول الشريعة جذرياً، سامياً، فترك جانباً تقليد المعلّمين وفرض تقليده هو. مثلُ  هذا الموقف لا يُطاق.

ج - موقف يسوع من الهيكل

نترك جانباً عنصراً آخر يمكن أن يكون سبباً لأزمة بين اليهود ويسوع: حين أعلن يسوع نفسه كالمسيح. فالمسحاء الذين تحدّثوا عن نفوسهم كانوا عديدين. ورابي عقيبة نفسه سوف يسمّي »ابن الكوكب« (بركوخبا) المسيح، خلال الثورة الثانية التي قام بها اليهود على الرومان سنة 135. ومع ذلك، ما قال أحد إن هذا »المعلّم« جدّف. فما أعطى القوّة لكلام يسوع أمام رئيس الكهنة هو أنه أكثرُ من مسيح زمنيّ. هو إبن المبارك. إبن الله. هذا الانسان الذي يرونه أمامهم، هو مَن سيأتي جالساً على سحاب السماء. بل جعل نفسه الله حين قال: أنا هو. فهذه العبارة هي التي قالها الربّ لموسى في العليقة المحترقة: أنا يهوه. أنا هو الذي هو. ولكن يبدو أن اليهود لم يصلوا إلى هذا المستوى من الفهم أمام كلام يسوع، في ذلك الوقت، بل سوف يفهمونه فيما بعد، ولا سيّما تجاه ممارسة الكنيسة واعتراف إيمانها. »فليعلم بنو اسرائيل كلهم، علم اليقين، أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم، رباً ومسيحاً« (أع 2:36). ذاك كان كلام بطرس يوم العنصرة. وسوف يقول بعد شفاء مخلّع »الباب الجميل« في الهيكل: »أنكرتم القدوس البار، وطلبتم العفو عن قاتل. فقتلتم منبع الحياة، ولكن الله أقامه من بين الأموات« (أع 3:14 - 15). وهكذا بدت الشريعة كاذبة، بعد أن وبّخ الروحُ القدس العالمَ على الخطيئة والبرّ والدينونة (يو 16:8).

غير أن العنصر الأهم هو أن يسوع لامس الهيكل، وتحدّى تقاليد قديمة. أيكون رئيسَ الكهنة ليفعل ما فعل؟ »أخذ يطرد الذين يبيعون ويشترون، وقلب مناضد الصيارفة ومقاعد باعة الحمام، ومنع كل من يحمل بضاعة أن يمرّ من داخل الهيكل« (مر 11:15 - 16). نشير هنا إلى أن يسوع طرد الناس من الرواق المخصّص للوثنيين، من رواق الأمم، الذي لم يعتبره اليهود مقدّساً، شأنه شأن رواق الرجال اليهود والنساء اليهوديّات. لا. فرواق الأمم، في نظر يسوع، مقدّس أيضاً.

فما معنى هذا العمل »العنيف« الذي قام به يسوع، »فقلبَ« الطاولة على الجميع، وبرّر عمله بما قاله النبي إرميا محتجاً على الفساد الخلقيّ في طقوس العبادة؟ جاء في الكتاب: »بيتي بيت صلاة لجميع الأمم، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص« (إر 7:11؛ رج مر 11:17). وتبقى رمزيّة الهدم الأقوى، فتتسجّل في منظار مسيحاني يتحدّث عن زوال الهيكل القديم من أجل عهد جديد. حين أصاب يسوع الهيكل، لامس موضعاً مقدّساً يشير إلى حضور الله وسط شعبه. ففعلتُه تنتمي إلى أعمال تدلّ على مجيء الله القريب. وهذا الحضور الجديد لله يجعل كل ما يتعلّق بالذبائح في الهيكل، لاغياً ولا جدوى منه. وهكذا أعلنت فعلةُ يسوع، عن طريق الرمز، هذا الزمنَ الجديد. فبعد يسوع، تتحقّق الوساطة بين الله والتلاميذ في إطار الجماعة.

هنا نفهم كلام يوحنا في هذه المناسبة، حين أضاف: »مع الغنم والبقر« (يو 2:15). أجل، بعد يسوع الذي هو الذبيحة الوحيدة، لم تعد حاجة إلى الغنم والبقر. لهذا، يُلغى وجودها لأنها تجعل من بيت الآب »بيتاً للتجارة« (آ 16). أجل، سيزول هيكل بناه سليمان، ثم أعيد بناؤه بعد المنفى (520 - 518 ق م)، وظلّ هيرودس يجمّله ستاً وأربعين سنة (يو 2:20)، ويحلّ محلّه هيكل آخر. هذا ما شهد به الشهود أمام مجلس اليهود: »نحن سمعناه يقول: سأهدم هذا الهيكل المصنوع بالأيدي، وأبني في ثلاثة أيام هيكلاً آخر غير مصنوع بالأيدي« (مر 14:58). ويتواصل الاتّهام ليسوع في سفر الأعمال، من خلال الكنائس: »ونحن سمعناه (= اسطفانس) يقول: سيهدم يسوع الناصريّ هذا المكان، ويغيّر التقاليد التي ورثناها عن موسى« (6:14).

هكذا فسّر يسوع فعلته لتلاميذه. ففهموا أنه هو الهيكل الجديد. إنه لا يرمز فقط إلى حضور الله في الشعب، في العالم. بل هو هذا الحضور بالذات، حيث قال: »من رآني رأى الآب« (يو 14:9). وقال عنه يوحنا في إنجيله: »ما من أحد رأى الله. ولكن الابن الأوحد الذي في حضن أبيه هو الذي عنه أخبر« (1:18). هذا الابن هو حضور الله في العالم، وإن رفض العالم أن يعرفه. وهو حضور الله في أهل بيته، وإن لم يقبله أهل بيته. فما الحاجة بعد ذلك إلى هيكل نلتقي فيه بالله.

فعلَ يسوع ما فعل، فكلّفته فعلته تعاطفَ عدد من الناس، وتدخّلت السلطات الدينيّة، فانقلب الشعب على ذاك الذي صفّقوا له على طرقات الجليل والسامرة واليهوديّة، على ذاك الذي هتفوا له، خلال الدخول إلى أورشليم، على ذاك الذي أرادوا أن ينصّبوه ملكاً بعد أن أكلوا الخبز وشبعوا. أجل، خسر يسوع كل مساندة شعبيّة. ولما جاء يوم الجمعة العظيمة، هتفت الجموع بعد أن حرّكها رؤساء الكهنة: ليُصلب، ليُصلب. لا ملك لنا إلا قيصر.

3 - علاقة يسوع بالتاريخ

ويُطرح سؤال ثالث حول علاقة يسوع بالتاريخ. هل كان حكيماً من الحكماء وفيلسوفاً، أو هل كان النبيّ المنتظر من أجل نهاية الأزمنة، على ما نقرأ في تث 18:15: »يقيم لكم الربّ إلهكم نبياً من بينكم، من إخوتكم بني قومكم مثلي، فاسمعوا له«. وهذا النبيّ هو في نظر شعب اسرائيل، خلال القرن الأول، ذاك الذي يتحدّث عن مجيء قريب لله، الذي يوقف مسيرة التاريخ، لكي يقيم ملكه على الأرض، انطلاقاً من فلسطين.

أ - يسوع حكيم وفيلسوف

في نظرة أولى، يصوّر يسوع في سمات حكيم من الحكماء، أو معلّم متجوّل، يُحسن إلى البشر في ضيقاتهم، ويعلّمهم الثقة بإله يعتني بهم جميعاً، ويسهر عليهم كما يسهر على زنبق الحقل وطير السماء. قال يسوع في عظة الجبل: »ولماذا يهمّكم اللباس؟ تأمّلوا زنابق الحقل كيف تنمو: لا تغزل ولا تتعب. أقول لكم: إن سليمان في كل مجده لم يلبس مثل واحدة منها« (مت 6:28 - 29). وقال أيضاً: »أنظروا طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تخزن، وأبوكم السماوي يرزقها. أما أنتم أفضل منها كثيراً« (آ 26)؟ وجاء الاستنتاج: »لذلك، لا تهتمّوا فتقولوا: ماذا نأكل، وماذا نشرب، وماذا نلبس« (آ 31)؟

إن يسوع الفيلسوف الحكيم يقدّم نفسه على أنه معلّم حياة روحيّة، تنشر المحبّة، محبّة الله للبشر، ومحبّتنا بعضنا لبعض. لهذا، يجب على أخصّائه أن يعيشوا خبرة فريدة يحسّون فيها أنهم أولاد الله. في هذا المجال، نقرأ ما أوحاه يسوع للصغار، للبسطاء، وأخفاه عن الحكماء والفهماء. أوحى لهم أن الله عيلة، وأن »الأطفال« مدعوّون لأن يعيشوا في شركة مع الآب والابن. قال يسوع: »أحمدك أيها الآب، يا ربّ السماء والأرض، لأنك أظهرتَ للبسطاء ما أخفيتَه عن الحكماء والفهماء. نعم، أيها الآب، هكذا كانت مشيئتك. أبي أعطاني كل شيء. ما من أحد يعرف من هو الابن إلاّ الآب، ولا من هو الآب إلاّ الابن ومن أراد الابن أن يظهره له« (لو 10:21 - 22). وهكذا تكون سعادة التلاميذ كبيرة، لأنهم رأوا ما لم يره الأنبياء، وسمعوا ما لم يسمعه الملوك، وكل هذا بسبب رفقة يسوع لهم. رأوه يعيش معهم، يتكلّم، يعمل، يصلّي، فأخذوا الكثير من حياته واقواله وأعماله.

اعتبر عددٌ من الباحثين، في هذه الآونة الأخيرة، أن يسوع كان حكيماً، وما كان شيئاً آخر. لا شكّ في أنهم يفعلون ما يفعلون ليجعلوا المسيح قريباً من الناس. نجد هذا التيّار بشكل خاص في لبنان مع كتاب يسوع ابن الانسان لجبران خليل جبران، أو خالد لأمين الريحاني، أو مراد لميخائيل نعيمه. في هذا الخط بدا يسوع فلاحاً من الجليل جاءت كرازته مثل اعتبارات الفلاسفة. مثلاً: »أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله«. (مر 12:17). إنه معلّم شعبي قريب من عالم الحكمة، بعيد عن عالم النبوءة. أما الاطار النبويّ المرتبط بمجيء الملكوت في نهاية الأزمنة، فهو يأتي من الكنيسة.

ب - يسوع نبيّ الأزمنة الأخيرة

شدّد ذاك التيّار على يسوع المعلّم الحكيم، ولكنه أغفل أو بالأحرى ألغى الوجهة النبويّة، متلاعباً بالنصوص، مستنداً إلى أناجيل غير قانونيّة (إنجيل توما، إنجيل بطرس)، ومعتبراً إياها وثيقة تاريخيّة. بل إن هذا التيّار توقّف عند ما هو معقول، رافضاً عالم الوحي الذي يجعل يسوع النبيّ يرتبط بأنبياء العهد القديم.

كيف بدا ذاك النبيّ؟ وقف في وجه السلطات في عصره. قالوا له: هيرودوس يريد قتلك. إنصرفْ من هنا. فأفضل لك أن تهرب. ولكن يسوع لم يخف من إبداء رأيه في »ثعلب« مثل هذا الملك (لو 13:32). وأعلن أنه يتابع عمله اليوم وغداً. وفي النهاية، دلّ على نفسه أنه النبيّ. فهو لا يخاف أن يموت في الجليل الذي يحكمه هيرودوس. إذ »لا يجوز أن يهلك نبيّ في خارج أورشليم« (آ 33). وبما أن أورشليم اعتادت أن تقتل الأنبياء، فدورُ يسوع آت، مع أنه عمل الكثير لكي يجمع الشعب كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها (آ 34).

وعمل يسوع ما عمله إرميا حين رأى الناس يتعلّقون بالهيكل ويعتبرون أنهم لا يُصابون بأذى. فبدلاً من الطاعة الحقيقيّة لوصايا الله (إر 7:1 - 15)، وثقوا بحجارة الهيكل وبنظم دينيّة أفرغوها من محتواها. طرد الباعة من الرواق المخصّص للأمم، فجعله موضع صلاة لجميع الشعوب. ولما دلّه الرسل على روعة الحجارة والأبنية (مر 13:1)، قال لهم: »أترى هذه الأبنية العظيمة؟ لن يبقى منها هنا حجر على حجر، بل يُهدم كلّه« (آ 2). ورأى يسوع كنبيّ، شأنه شأن أشعيا وإرميا، ما تؤول إليه أورشليم بعد أن قتلت الأنبياء ورفضت المرسلين إليها.

وكان لهذا »النبيّ«، الذي هو يسوع، كلام الرجاء لأجل الذين ينتظرون الملكوت. فقال قبل مشهد التجلّي: »في الحاضرين هنا من لا يذوقون الموت حتى يشاهدوا ملكوت الله آتياً بقوّة« (مر 9:1). ودلّت معجزاته على رأفته وحنانه. فحين أقام وحيد أرملة نائين الذي كان محمولاً إلى القبر، »سيطر الخوف على الجميع وقالوا وهم يمجّدون الله: ظهر فينا نبيّ عظيم، وافتقد الله شعبه« (لو 7:16). أجل، فعل يسوع في قرية نائين ما فعله إيليا في صرفت صيدا (1 مل 17:23): »أنظري، ابنك حيّ«.

ثم إن معجزات هذا النبيّ دلّت على أن الله دخل بقوّة إلى العالم، فجعل »الشيطان يسقط من السماء كالبرق« (لو 10:18). وأعطى يسوع مثلاً في هذا المجال فقال: »عندما يحرس الرجل القويّ المتسلّح بيته، تكون أمواله في أمان. ولكن إذا هاجمه رجل أقوى منه وغلبه، ينتزع منه كل سلاحه الذي كان يعتمد عليه ويوزّع من سلبه« (لو 11:21 - 22). ظنّ إبليس أنه الأقوى، ولا سيّما في الأرض الوثنيّة، فقال ليسوع الآتي إلى أرض الجراسيّين: »ما لي ولك، يا يسوع ابن الله العليّ«. تبقى في أرضك، وتتركني سيّداً في أرضي. ولكن يسوع هو الأقوى، وهو يسلب الشيطان سلاحه، كما يأخذ منه عالماً اعتبر أنه »يملكه ويعطيه لمن يشاء« (لو 4:6).

وهكذا انقلبت الأمور بفعل يسوع النبيّ، في تاريخ تحوّل فحلّ فيه ملكوتُ الله في مجده. فالمسيح، منذ بداية بشارته، أعلن فقال: »تمّ الزمان، واقترب ملكوت الله« (مر 1:15). الربّ هو الذي جعل الزمن يتمّ والمخلّص يشقّ السماوات وينزل. مع يسوع بدأ الملكوت، صار في وسطنا، فما عاد هنا أو هناك بحيث نركض وراءه ولا ندركه، نبحث عنه ولا نجده. فالملكوت، شأنه شأن كلمة الله، لا نصعد إلى السماء لنأخذه، ولا إلى أعماق البحر (تث 30:11 - 13). بل هو قريب منا، جاء إلينا في شخص يسوع المسيح.

خاتمة

إذا كان يسوع هو النبيّ الذي يدعونا إلى الملكوت، فنداؤه ملحّ لا ينتظر. لا بدّ من المصالحة مع الله. لا بدّ من تجاوب جذريّ مع مشيئة الله. لا بدّ من جواب يحمل محبّة الله إلى البشر، ولا سيّما الصغار والمتألّمين والمهمّشين. ما يميّز يسوع عن جميع الذين سبقوه، هو نداؤه الملحّ. فالحياة أو الموت يرتبطان بجواب نقدّمه تلبية لرغبة الله. لا ليس يسوع رهينة أحد. ولا نستطيع أن نمسكه ونحسبه مُلكاً لنا. فلا هو ملك العالم اليهوديّ، ولا هو ملك العالم المسيحيّ. إنه موضع حوار بين العالم اليهوديّ والعالم المسيحيّ، وموضع حوار بين المسيحيّة وسائر ديانات العالم. انطلق يسوع من أرض محدّدة هي أرض فلسطين، وشعب محدّد وحضارة محدّدة. ولكن لا شيء يحدّه. فهو منّا ومن غيرنا. هو قريب منا وفي الوقت عينه بعيد عنا. إنه يشبه عريس نشيد الأناشيد: حين ظنّت العروس أنها امتلكته، راحت تبحث عنه في الليالي وتسأل عنه. ويشبه رفيق تلميذي عماوس: سمع همومهما. كلّمهما. وكسر الخبز معهما. ولكن حين عرفاه »توارى عن أنظارهما«. ذاك هو وضع يسوع الناصريّ في عالم البشر. دخل في التاريخ ففجّر التاريخ. دخل في العالم، فبدأ منذ تجسّده يحوّل هذا العالم إلى ملكوت الله.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM