الميمر الخامس:الشابُّ الغنيّ.

الميمر الخامس

الشابُّ الغنيّ[1]

 

يا ربَّنا، كلمتك ملأى بالنور لمن يحبُّها

هب لي كلمتك لكي أمشي فيها بلا عثرات.

 

طريق العالم

مظلمةٌ طريق العالم، وأنت تنيرها (مز 119: 105)، يا ابن الله،

بك يا ربّي أسير، لأنَّك محبوبٌ جدًّا لمن يلازمك.

5      طريقُ العالم خطيرة، ومملوءة بكلِّ العثرات

ويل لمن يمشي فيها: كم هو مسكين[2]!

مظلمٌ وماكرٌ العالم الشرّير، ومملوءٌ بالفخاخ

والمزالق وكلِّ الشرور لمن يسير فيه.

أنت يا ربَّنا، الرفيق الصالح والنور العظيم،

10     والطريق المملوءة بالحياة والخيرات لمن يسير فيها (يو 14: 6).

طوباه من يبغض الغنى والمقتنيات،

ويحني كتفه ويحمل سير (مت 11: 29) فقرك

فالذي ما اقتنى شيئًا في العالم، إذا اقتناك

هو أغنى من أغنياء العالم كلِّه.

15     إن اقتنى الإنسان العالمَ كلَّه وما اقتناك أنتَ

فهو فقيرٌ ومعوزٌ وخجِلٌ وحقيرٌ ومليء بالويلات.

أنت قنيةٌ كبرى، يا ربَّنا، يا ابن الله

ومرجانة لا تُسرَق ممَّن اقتناها (مت 13: 45-46).

 

كاذبٌ فلا نثق به

كاذبٌ العالم ومن يتَّكل على مقتناه

20     يُضلُّ نفسه لأنَّ الغنى الذي وَجد ليس بحقيقيّ.

البارحة نبتَ، واليوم اغتنى، ولن يكون غدًا

فأين هو الغنى الذي لم يعد صاحبُه موجودًا لكي يفرح بها.

بغنى الحلم لا يَفرَحُ إلاَّ الجاهل

وقنية يوم واحد لا يحبُّها (الإنسان).

25     ينام الإنسان غنيًّا، وحين يستيقظ لا وجود للغنى

فلماذا يفرح إلاَّ أنَّه ضلَّ بالكذب؟

أيُّها المقتني، لو أنَّ المقتنى لم يكن عابرًا (زائلاً)

فأنت تزول من مقتناك، أيُّها المقتني.

فإمّا يتركك وأنت تتطلَّع إليه وهو يزول منك

30     وإمّا تتخلّى عنه أنت لآخرين وإن كنتَ لا تريد.

لا حيلة ليكون غناك كلُّه لك

إلاَّ إذا أبغضته ووزَّعتَه على المحتاجين.

إن كان لك فهَبْه إذًا لمن هو محتاج

ليكون موجودًا لك حين تحتاجه، مع الأرباح.

35     لماذا يُضلّك ويحثُّك ويبيبلك

فتركض كلَّ يوم على ربحٍ لا نفع فيه؟

ها أنت تركض لتضيف كلَّ يوم على مقتناك،

وحين تجمعه تتركه كلَّه في ساعة واحدة،

ها أنت حكيم، ها أنت مستنير، ها أنت راكض،

40     ها أنت مجتهد، ها أنت ماهر، ها أنت جامع

والاجتهاد والحكمة والاستنارة

ملأت بيتك بكلِّ الخيرات الكثيرة

لو وصل إليك القليلُ من وهج الحمّى

بطل اجتهادك كلُّه واستنارتُك.

45     والحكمة كلُّها تبطل ومحبَّة الغنى معها

وتصبح مبغضةً لك كلُّ هذه التي أحببتَ.

وتصير عبدًا مطيعًا للمرض

وتتخلّى عن مقتناك، لأنَّه لا ينجِّيك.

 

أين هو سعيك

أين هو سعيك، أين هي حكمتك كلُّها؟

50     أين هو اهتمامك بعد أن انشغلت بالأرباح؟

ها أنت ضعيف، ها أنت محتار، ها أنت منشغل.

ها أنت تحترق بالحمّى، فمن يروِّح عنك؟

نادِ مقتناك، اجلب ذهبك، اجمع غناك

فإن نجّاك من الضيق، فهو لك.

55     وإذا الغنى لا يقدر أن يُطفئ الحمّى،

فكيف ينفع؟ وإذا كان لا ينفع، فما منفعته؟

لا تتعبْ فيه لأنَّه لا يحبُّك كما تحبُّه.

هو ليس لك، فلماذا تشقى بما ليس لك؟

ها أنت تضعه وتحرسه وتحذر لئلاَّ يمضي.

60     فهو يبقى وأنت تؤخذ، فماذا تصنع؟

إن أردتَ يسهلُ أن يكون غناك لك

حين يُرسَل في الطريق الملكيَّة (الصدقة) بيد الفقراء.

يتقدَّمُك إلى الموضع الرفيع المملوء بالخيرات

ويكون كلُّه لك لكي تتصرَّف به.

65     لماذا تركض لتعدَّ بيتًا لا يكون لك؟

مسكنك مظلَّة (أي 8: 19) وأنت معجَّلٌ كثيرًا بأموره.

المظلَّة الزمنيَّة سوف تستأصَل وتُقفَل

فاهتمَّ ببنيانك العظيم لأنَّه أبديّ (2 كو 5: 1).

لا تتعب وتنشط كثيرًا من أجل أمور غريبة

70     لأنَّ كلَّ ما يبقى هنا منك، ليس لك.

 

أين هي حكمتك؟

لماذا تضلُّ وأنت حكيم، يا من تجد؟

ولماذا تجدُّ لأمور فارغة، أيُّها الحكيم؟

لماذا تحبُّ بيتًا سيسقط، أيُّها العارف؟

فها النفس سقطت في الإثم وأنت لا تقيمها.

75     ابنِ، ابنِ نفسك التي صرعتها بإثم يديك.

وبعد ذلك تهتمّ لك تبني بيتًا ليس لك.

يأثمُ من يبني بيتًا ويملأه بالخيرات

ونفسُه التي هي مقصورة الملك، خربة.

استخففتَ بما لك، واجتهدتَ في ما ليس لك،

80     نفسك اقتُلعت، وبيتك عامرٌ ومملوء بالخيرات.

ما أردتُ أن أكون لك معلِّمًا، أيُّها الصديق الطيِّب

فلا إنسان تنقصه المعرفة: كيف يعيش؟

كلُّ إنسان حكيم، كلُّ إنسان يعرف ما يفيده.

وفي كلِّ إنسانٍ هناك المعرفة: ماذا يفعل؟

85     كلُّ إنسان يعرف، ولكنَّ كلَّ إنسان لا يريد أن يفعل.

فالإرادة الطيِّبة تنقص، لا المعرفة

فالطريق المدخلة إلى الحياة ممهَّدة ومليئة بالنور،

وصُفَّت فيها كلُّ الوصايا مثل النيِّرات.

فمن طلب أن يدخل الحياة، (يجد) الباب مفتوحًا

90     وإن لم يُرد لا يطلبون منه وحالاً يدخل.

ليس المعلِّمون ناقصين في هذا العالم الشرّير،

فالعالم هو الذي أبغض التعليم في بيت الله.

الله نفسه صار معلِّمًا للبشر،

وفقَّههم بالوصايا التي وضعها في الكتب.

95     وهبَ الناموس (الشريعة) المملوء نورًا من جبل سيناء

وبالفرائض مهَّد الطريق إلى بيت الملكوت.

وأرسل ابنه مثل نهار النور العظيم

والعالمُ كلُّه استنارَ به وصار جميلاً واقتنى الحياة.

 

الشابُّ سأل

بعد هذا التعليم المملوء دهشة،

100   بحيث إنَّ العالم كلَّه تعلَّم واستنارَ مثل النهار،

سأل أحدُ المحتاجين ابن الله:

"ماذا أعملُ لأرثَ الحياة في بيت الله؟" (مت 19: 16)

الشابُّ المتبختر، الفارغ، المملوء بالهذر،

في الإثمِ سأل حيث لا حاجة إلى السؤال

105   بروح مترفِّعة وبوجدان مملوء تبخترًا.

صنعَ سؤاله ليدلَّ في نفسه أنَّه عارف

ومن كلمته يُعرَف الإنسان أنَّه غير عارف،

لأنَّه لو عرف لما كان سأل: ماذا أصنع؟

قُلْ لي، أيُّها الشقيّ: هل أنت حكيم؟ أو أنت جاهل؟

110   هل طلبتَ أن تتعلَّم أو أردتَ أن تكون معلِّمًا؟

كشف الله طريق الحياة للجنس البشريِّ كلِّه

ليسلكوا فيه بدون خفاء.

فإن كنتَ إلى الآن لم ترَ طريق الحياة

فلماذا هو خفيّ، مع أنَّه جليّ، إن أنت حكيم؟

115   إن عرفت وسألت، فأنت وقح

وإن لم تعرف حتّى الآن فأنت بليد.

وفي كلِّ الأحوال (تبدو) من سؤالك ناقصًا.

فالغنى نفخك وها أنت تتكلَّم وتزيد[3]:

"ماذا أصنع لأرثَ الحياة؟" سأل (الشابُّ).

120   ذاك الذي يعرف كلَّ شيء (مز 7: 9) ويتطلَّع في أفكار القلب (لو 2: 35)

برَّر نفسَه، وصعد وقام (واقفًا) على ترفُّعه

وشرع يتكلَّم مع مخلِّصنا مثل أناس مميَّز.

طلب أن يبيِّن نفسه أمام الجمع أنَّه حكيم

خرج وراء الحياة الجديدة لكي يقتنيها.

 

125   غنيًّا كان وتكلَّم متَّكلاً على غناه،

فروحُ الغنى يرفع صوته في الجماعات.

فالمسكين (الفقير)، حيثما يكون، يُسكِّر فمه

ولا يهب له العالم المجال لكي يتكلَّم.

يصمت المسكين ولا ينصتون إطلاقًا إلى كلامه

130   ولا يهبون له (الفرصة) ليتكلَّم ولو كان حكيمًا.

فالغنيّ، وإن بليدًا، روحه مترفِّعة،

وكلمته جليَّة ويُعطى المجال لكي يتكلَّم.

مثل غنيٍّ طلب الشابُّ الجاهل أن يتكلَّم مع مخلًِّصنا،

فظنَّ أنَّه ينال المديح.

135   "ماذا أصنعُ لأرثَ الحياة؟" سأله.

كلمة جليَّة لا تحتاج إلى سؤال

سمعه ربُّنا لأنَّه عرفه قبل أن يتكلَّم[4]،

وأطال روحه بتواضعه، تجاه هذا الترفُّع.

 

موسى والمسيح

قال ربُّنا: "أتطلب أن تحيا، احفظِ الوصايا".

140   فوضع[5] على جرحه الضمادَ الأوَّل الذي وضعه موسى

ما بدَّل الضماد حين رأى أنَّه ما انتفع

من الضماد الأوَّل الذي وضعه النبيُّ العظيم.

بضمادٍ عظيم أتى موسى من جبل سيناء،

فضمَّد به جرحَ الشعب (أو: العالم) الذي كان مضروبًا.

145   مثل العقار المملوء حنانًا للمضروبين (للمجروحين)

وضع (موسى) ناموسًا (شريعة) للشعب وضمَّده فتحسَّن.

ولمّا زال جرحُ الإثم من ورمه،

أتى ابنُ الله وبدَّل له الضماد (وأعطاه ضمادًا) آخر.

 

أمر موسى ألاَّ يزني الإنسان ومنع الزنى (خر 20: 14)

150   وقال ربُّه ألاَّ ينظر (الإنسان) إلى امرأة فيشتهيها (مت 5: 28).

بتعليمه المملوء دهشة، منع ابن الله عن الإنسان

الفكر الذي يُولِّد الفجور.

وهذا الضماد الذي لا يترك أثرًا للجرح

وضعه للنفس ربُّ موسى حين ضمَّدها

155   أمرَ موسى ألاَّ يشتهي الإنسان ما ليس له.

وعلَّم النفس ألاَّ تطمع بزيادة (خر 20: 17).

أمّا ربُّنا فأتى وعلَّم البشر

بأن يهبوا للمحتاج حتّى ما هو لهم (مت 5: 40-42).

 

المعلِّم والطبيب

بدَّل ابن الله الضمادَ لجرح العالم

160   لكنَّ فكر الطبيب هو هو ولم يتبدَّل.

لاطف الجرح شيئًا فشيئًا حين ضمَّده،

لئلاَّ يهرب المريض منه إن هو عصَّه

لو قال للذي يزني: لا تزنِ،

لما كان سمع لأنَّ كلمته تكون له قاسية جدًّا.

165   ولو قال لمن يسلب رفاقه:

أنفقْ، أعطِ ممّا لك، لما كان استجاب.

قبل كلِّ شيء منع رخم الشرِّ من متجاوزي (الوصايا)

ليصمتوا أوَّلاً عن الشرور التي تُصنَع.

بالناموس كما بالسلاسل والأكبال، كبَّلَ

170   العالمَ الشرّير لكي يصمتَ عن الشرور.

لمّا تمرَّن الناس لكي يتعلَّموا الأمور الحسنة

أصعدهم درجة أخرى نحو الأمور الطيِّبة.

 

"مثل معلِّم ممتلئ حبًّا نحو تلاميذه

اجتذبهم شيئًا فشيئًا نحو تعليمه.

175   والمعلِّم الماهر لا يكتب للطفل شيئًا،

إلاَّ بعد أن يكرِّر له القراءة الأولى التي أخذ.

والطبيب الصالح لا يبدِّل الضماد للجرح

إن لم يبيِّن الجرحُ نفسه أنَّه تحسَّن.

ومن أجل هذا، طبيبنا ومعلِّمنا (الذي يكتب)، ابن الله،

180   ما أضاف تعليمًا لذلك الغنيّ

بل طلب منه أن يتمرَّس (يمرِّس نفسه)

في الناموس الأوَّل، ثمَّ يعتلي إلى الناموس الروحيّ[6].

 

الشابُّ الغنيُّ ووصايا موسى

اثبُتْ، أيُّها الشابّ، على وصايا موسى العظيم

واقرأ في الناموس واصنع كلَّ ما كُتب فيه.

185   إذا كنتَ لا تتمسَّك، إذا كنتَ لا تردِّد، إذا كنتَ لا تصنع،

لن أزيد علمك ماذا تصنع.

فهذا الناموس يدخلك إلى الحياة الجديدة

اقرأ فيه، اقرأ فيه، وهو يعلِّمك ماذا تصنع.

 

"وإذا طلبتَ أن تدخل الحياة، احفظ الوصايا،

190   قال الجاهل: "أيٌّ هو لكي أحفظها؟" (مت 19: 18)

فهذا الناقص ما كان يعرفها معرفة.

من أجل هذا، سأل لتيعلَّم ما هي.

رمى (اعتبر) نفسه مثل صدِّيق (بارّ) ومثل حكيم،

فبيَّن أنَّه خاطئ وبليد.

195   ما أدرك الجاهل الوقح البرارة

ولا عرف بوجودها، ولا التقى بالحكمة.

ولا عرف الوصايا الإلهيَّة

التي بها يحيا العالم.

وإذ هو لم يقرأها ولم يحفظها، اقترب إلى ربِّنا

200   ليسأله في الجمع على عيون الكثيرين.

"تعرقل"، قام، عُرِّي بأنَّه غير عارفٍ،

بل جاهل دخل في موضوع لا يعرفه.

سأل الشقيّ: "ماذا أصنع لأرث الحياة؟"

فقيل له: "احفظ الوصايا". وهو لم يكن يعرفها

205   وشرع يعقِّب: "ما هي لكي أحفظَها؟"

فكرَّرها المعلِّم الماهر[7] ولم يملَّ:

"لا تقتل ولا تزنِ ولا تسرق

لا تشهد أبدًا شهادة زور في العالم

أكرم أباك وأمَّك تكُنْ لك الحياة" (مت 19: 18-19).

210   فبالوصايا يحيا من يحفظها.

 

شرع المتبختر يتصرَّف بالكذب،

فقال: "هذه كلُّها حفظتها".

كذب كثيرًا، تواقح كثيرًا، ضلَّ كثيرًا

وبالترفُّع سقط في فخِّ الكذب.

215   بما أنَّه تواقح وسأل بدوره معرفة،

تبلبل وشرع يكذب.

من ضمن أنَّه حفظ الوصايا كلَّها

ولكنَّه كذب حين قال إنَّه حفظها منذ طفولته.

إذ كان الشابُّ لا يعرف ما هي،

220   فكيف حفظها كلَّها منذ الطفولة، كما قال؟

في شبابه كان بليدًا ومحتقرًا ومملوءًا بالطيش

وفي طفولته، ماذا كان يعرف سوى أن يخطأ؟

ما أراد ربُّنا أن يلقِّنه تعليمه

الروحيّ، لأنَّه رآه على مستوى بشريّ[8].

225   وعلى هذا تركه في يدَيْ موسى المعلِّم ليؤدِّبَه،

ثمَّ يهب له أن يقرأ في كتاب الكمال.

وشرع يكذب على الوصايا أنَّه حفظها

وصنعها وأكملها منذ طفولته.

وبهذا القرن العالي (الرأس المرفوع) شرع الجاهل يقرقر

230   ويرفع صوته ويكثر كلمات الكذب:

"ها أنا حفظتُ الوصايا منذ طفولتي

فأضِفْ لي أنت شيئًا جديدًا من تعليمك".

 

قُلْ لي، أيُّها الشابّ

(أجاب يسوع): "قلْ لي أيُّها الشابّ، احتقرتَ موسى وفرائضه،

فهل تطلب منّي أن أكلِّمك أيضًا بالمزيد؟

 

235   كلُّ وصايا حُفظت، كما تقول

وها أنت تطلب أيضًا وصايا أخرى جديدة".

 

إذًا، أنتَ أعلى من الناموس ومن الوصايا

ومن موسى الذي وضع الناموس.

وأنتَ كامل، وأنت روحيّ، كما تقول

240   وأردتَ أن تسمع كلامًا كاملاً، روحيًّا.

وأنا لي كلام عظيم وروحيّ

وأشفقتُ عليك شفقة لأنّي وجدتك جسديًّا.

جرح نفسك ليس بسليم ليأتي إلى الكمال

ولهذا تركتك لموسى الطبيب فيراك.

245   ما فسَّرتَ هذا الهجين[9] الذي تركه موسى

ولهذا ما وهبتُ لك الأفكار العظيمة[10].

أنت ناقص بالنسبة إلى (العهد) العتيق لأنَّك ما أحطَتَ به.

وها أنت تجزم أنَّك تقرأ (العهد) الجديد وتستنير[11].

لا ينقصني الكلام الرفيع[12] فأقرِّبه لك.

250   ولكن لا أذُن روحيَّة لك تسمع

إن أردتَ أن تكون كاملاً، كما تقول.

فامضِ وبعْ مقتناك كلَّه وهبْه للمحتاجين (مت 19: 21)

لا تقتنِ لك في العالم شيئًا ممّا اقتَنيتَ،

وإن تركت لك (قميصين) اثنين تلبسهما، لست كاملاً (مر 6: 9).

255   وكلُّ ما لك في الأرض توزِّعه على المساكين

ولا تتركُ لك من مقتناك شيئًا واحدًا.

فكلُّ الأموال التي لك وممتلكاتك، بِعْها

مع أمورك، وهبْها للمحتاجين ولا تشفق.

هبْ للمساكين كلَّ ما هو لك (مت 19: 21) وأنت فرحٌ (2 كو 9: 7)

260   فيُوضَع لك كنزٌ في السماء، وتعالَ ورائي.

وحين تُفرَغ من أمور العالم الشرّير

أعلِّمك أنا كيف تحيا مع تلاميذي.

 

خاف ذاك الشابُّ وتراجع

سمع الشابُّ كلامًا أرفع من الناموس (من العهد القديم)

فخاف من الوضع لأنَّه رأى أنَّه ليس كفوءًا له.

265   الطلبُ مزَّق جرحه العميق فضعف التعيس

وما استطاع أن يحتمل التمزيق لأنَّه كان مريضًا.

انكسر قلبُه من التعليم الروحانيّ

لأنَّه كان متمسِّكًا بذاك المقتني الجسديّ.

نظر أين هي درجة الكمال الرفيعة

270   فصُرع وسقط وما استطاع أن يصعد (يرتقي).

كان مضطربًا بأمور حزينة

فما استطاع أن يجيب على كلمة ربِّنا.

صعد الضيق كالدخان من وجدانه،

فانطفأ نورُ وجهه وتلاشى من الحزن.

275   الألمُ الداخليّ برَّر الجمال الخارجيّ وأخذه

ورآه الجمعُ كلُّه أنَّه بفيض فاحتقرَه وأكثرَ.

تبدَّل اللونُ في وجهه الذي كان مُزهرًا،

واحتُقرت كلمتُه الرفيعة لأنَّه كان غنيًّا[13].

أحنى رأسه وهو من مشى بعنق مترفِّعة،

280   وسقطت روحُه لأنَّه ظنَّ أنَّه بارٌّ صدِّيق.

رأى الطريق التي يسير فيها من هو كامل،

فانعطف وما استطاع أن يسير فيها.

فرأى كلُّ الجمع وعرفه أنَّه دجّال،

وأنَّه ثرثار ومتشامخ وغير صادق.

 

تصرُّف الله مع هذا الشابّ

285   فظهر تواضعُ ابن الله

وحكمته وتعليمه، كم هو نيِّر.

وعرف الجمع[14] بأنَّه أشفق إشفاقًا على الغنيّ

فما أسرَّ لك منذ البداية بهذا التعليم.

تراءت مراحمُه وعذوبتُه:

290   كم يريدُ أن يحيا كلُّ إنسان حيثُ هو موجود (حز 33: 11).

وكم يشفي الناس دون أن يفضحهم،

بل يطيل روحه ويضمِّد (جراحهم) بتواضع.

طلب الشابُّ منه: ماذا أصنعُ لأرث[15] الحياة

وكان (الربُّ) يعرف (يو 2: 25) أنَّه لن يقبل التعليم.

295   وإذ عرفه ما وبَّخه قدَّام الكثيرين

لأنَّه ما اعتاد أن يفضح من يقترب منه.

ما قال له: أنت لا تقدر، أنت لست كفوءًا،

أنت لست صادقًا. أنا دجّال فاتقل من هنا وامضِ.

لكنَّه قبلَهُ وأصغى إليه وسمعه بعذوبة

300   ووضع له الضماد. فإن سمع له وشفاه.

فلو سمع له حين قال له: احفظ الوصايا،

وذهب فحفظها لما كانت أتت عليه تلك الفضيحة.

لكنَّه طلب أن يختطف درجة ليست له

فقط وصار أضحوكة في الجمع: كم تجاسرَ!

305   محبَّةُ العالم قبضَتْ عليه كما الحمّى

فجعلته صامتًا وما استطاع أن يتكلَّم.

أُسِرَ بذهبه وبمقتناه. ولأنَّه طلب (أو: أراد)

من ابن الله أن يحلَّه منهما، انطفأ (ذاك) الضعيف.

 

طريق الحياة رفيعة...

طريق الحياة رفيعة جدًّا وأرفع من السائرين،

310   وقليلون هم الناس الذين يسلكون إلى ذاك الموضع الرفيع (مت 7: 14)

ففيها الأميال[16] ومراحل البرارة

وفيها لكلِّ الطغمات مكان يسيرون فيه.

فإن سقى إنسانٌ كأس ماء للعطشان (مت 10: 42)

يسير فيها وله أجرٌ من الإله البارّ.

315   وأن يقول فقط على قريبه الكلمة الصالحة

فهو قريب من طريق الحياة ويسير فيها.

وحين يضيف على الحسنات فله المجال[17]

أن يمشي في الطريق التي تدخل إلى الحياة، مستنيرًا.

لو بقيَ ذاك الغنيّ على وصايا

320   موسى العظيمة، لسهُلَ عليه أن يرث الحياة الجديدة.

ولو باع كلَّ ما اقتنى كما أمره (الربّ)

ووهب للمحتاجين لكان يحيا أيضًا وهو يجري في طريقه.

لم يكن كفوءًا لرفعة الدرب العالية

ولو وزَّع كلَّ غناه على المساكين.

 

تقدَّم في السير وراء يسوع

325   كان لربِّنا كلام آخر يكلِّمه به

ولهذا قال له: تعالَ ورائي (مت 19: 21).

حين يوزِّع (الإنسان) كلَّ مقتناه (أو: غناه) على المساكين

لا يصير بهذا كاملاً وروحانيًّا.

يُفرَغ الإنسانُ إفراغًا من الأموال

330   حين يوزِّع كلَّ مقتناه ليقتني حياته.

ويُلقي عنه ثقل العالم ليسهل عليه

أن يركض في طريق البرِّ ولا يكون مكبَّلاً.

"اذهب، بعْ، وهبْ للمحتاجين وتعالَ ورائي

فأبيِّن لكَ طريق الكمال".

335   لو باع ومضى وراءه كما قال له

لكان سمع أيضًا كلامًا أعلى من الأوَّل.

كان قال له لو أراد أن يمضي وراءه:

إن ضُربتَ هيِّئ خدَّك لمن يضربك (مت 5: 39).

وإن أخذ منك قميصَك أناسٌ أشرار،

340   خلِّه في أيديهم واتركهم يأخذون أيضًا معطفك (مت 5: 40).

وإن أبغضوك، وإن اضطهدوك، باركهم

وصلِّ عليهم (مت 5: 44) حين يضربونك وأحبَّهم.

وإن حاكموك، لا تهتمَّ بما تتكلَّم (مت 10: 19-20).

وإن لاحقوك انتقل بحبٍّ ولا تتذمَّر (مت 10: 23).

345   ولا تأخذْ لك عصًا في الطريق ولا مزودًا

ولا كيسًا ولا قوتَ كلِّ يوم (مت 10: 10).

ولا تهتمَّ أبدًا بما تأكلُ إن أنت تلميذي (مت 6: 31)

وإن استزدتَ على هذه فأنتَ من الشرّير (مت 5: 37)

 

ضعُفَ ذاك الغنيّ حين سمع هذه

350   وخاف وارتخى وما قويَ على سماعها.

سمع صوتَ المقتني الذي يُباع فتبلبل

لأنَّه ما رغب في أن يبيعَ شيئًا من مقتناه.

أحبَّ ذاك المقتنى المليء بالزمن (أو: الزمنيّ)

أكثر من كلِّ طريق الكمال العظيمة.

355   ولأنَّه سمع أنَّ عليه أن يوزِّع على المساكين

لم يقدر أن يسمع لأنَّ محبَّة الغنى ملأته كلَّه.

حين يبيع إنسانٌ كلَّ مقتناه ويهبُ للمحتاجين

يشرع في طلب المسيرة في طريق الكمال.

 

الشجرة والثمار

كما الشجرة حين تُقلَع من مكان أوَّل

360   ليضعوها في مكان آخر تتطلَّب جهدًا،

وحين يوزِّعُ إنسانٌ كلَّ مقتناه على المساكين

استأصل حتّى الآن نفسه من العالم مثل الشجرة.

ويتطلَّب التعب أن "ينصب" نفسه في العالم الجديد

ويتطلَّب السقي وكلّ تدبير البرارة.

365   وإن لم يحبَّ مبغضيه كما أُمرَ

وإن لم يقبل أن يهيِّئ الخدَّ لمن يضربه

وإن تراخى واهتمَّ بالخدِّ لا ينجح

في أرض الحياة حيث "نُصب" هناك مثل شجرة.

من هنا يُستأصَل حين يأخذ المساكين مقتناه

370   "ويُنصَب" هناك ويستلزم الكثير من أجل تربيته.

فإن لم تسقِه التدابيرُ الإلهيَّة

لا يُوهَب له أن يُعطي الثمار في العالم الجديد.

فحين يُستأصَل من العالم ويُوزَّع غناه

لا ينجح هناك إذا لم تكن حياته روحيَّة.

375   وهو لا يهب الثمار حين "يُنصَب" في أرض الحياة

إذا تاه وجدانه على أمور العالم.

ولأنَّه لا يقتني شيئًا في العالم ينذر أن يرث

الحياة الجديدة إن اشتهى أن يقتني شيئًا.

ولهذا أشفق ربُّنا على الغنيّ

380   إذ لم يبيِّن له أيَّها طريق الكمال.

لأنَّه عرف أنَّه لا يقدر أن يسير فيها

لأنَّه أُسر كثيرًا بالمقتنى فلا يتخلّى عنه.

وبما أنَّ الشابَّ اضطرَّ ربَّنا علَّمه ماذا يصنع

ولمّا تعلَّم ما أراد أن يُصنع ما به أُمر،

385   محبَّة الغنى خنقت نفسه التي كانت مُظلمة.

إيّاك نقتني يا ربّ، لأنَّك الغنى العظيم لمن يقتنيك[18].

 

كمل الميمر على الشابِّ الذي قال لربِّنا: ماذا أصنع لأرث الحياة الأبديَّة. وضعه الطوباويّ مار يعقوب الملفان.

 


[1] الميمر 11، على ذلك الذي قال لربِّنا: ماذا أصنع لأرث الحياة الأبديَّة؟ (مت 19: 16؛ مر 10: 17؛ لو 18: 18. بيجان، الجزء الأوَّل، ص 248-267.

[2] في مخطوط آخر: بالفخاخ والهوّات والمعاثر، ويل لمن يمشي عليها!

[3] هو عكس أيّوب الذي رفض أن يتكلَّم بعد حين كشف له الله عظمة الكون (أي 40: 4).

[4] ذاك كان وضع الربِّ قبل أن يأتي إليه نيقوديمس (يو 2: 25).

[5] ---. تركنا النصّ: ---: ترك

[6] حرفيًّا: ---: الروحانيَّة.

[7] ---: أو: ---.

[8] ---. من لحم ودم، ضعيف. أفكاره أفكار البشر.

[9] ---: المزيج الذي فيه بعض العيب.

[10] ---. أو: السامية: ---. هي أسفار العهد الجديد تجاه أسفار العهد القديم.

[11] من هو جسديّ (---) يقرأ العهد العتيق (---)، والروحانيّ وحده يقرأ العهد الجديد (أو: الحديث): ---.

[12] ---. أو: الآخر: ---.

[13] جاء سؤال ذاك الشابّ "رفيعًا" وهو يطلب الكمال. أمّا الآن، فلم يعد من قيمة لكلمته.

[14] ---. قراءة بديلة: كلّ إنسان: ---.

[15] ---. أو: لأستفيد: --

[16] الميل. كانت توضع على الطرقات علامات تدلُّ على كلِّ محطَّة. في الفرنسيَّة ---. يساوي ألفي خطوة أو ---: 1481،5 م.

[17] ---. أو: الأجر. ---

[18] موضوع هذا الميمر كلام الشابّ الغنيّ الذي سأل ربَّنا: ماذا يعمل ليرث الحياة الأبديَّة. قابل السروجيّ بين طريق وطريق. طريق العالم هو كاذب، لذلك فنحن لا نثق به. ويُطرَح السؤال على المؤمن: وأنتَ إلى أين تسعى؟ وأيُّ حكمة تنير طريقك؟ وفي أيِّ حال، المعرفة لا تكفي، لهذا يجب أن نعمل. وهنا، الشابُّ الغنيّ سأل والربُّ أجاب. دلَّ الشابُّ على تكبُّره وتشامخه، وربُّنا على تواضعه وشفقته. فمع أنَّه عرف نوايا ذاك الشابّ، ما رفضه، بل أجابه على سؤاله. غير أنَّ الغنى منع هذا الشابّ من السماع. جاءه يسوع كالطبيب فرفض الدواء. جاءه كالمعلِّم فرفض التعليم. لبث هذا الشابّ على مستوى موسى والعهد القديم، فما استعدَّ للانتقال إلى يسوع والعهد الجديد. لهذا أضاع طريق الكمال الذي نجد مضمونه في عظة الجبل (مت 5-7) أو في خطبة الإرسال (مت 10: 1ي)، حافظ السروجيّ على العهد القديم ووصايا موسى. غير أنَّ جواب الشابِّ دلَّ على أنَّه فرّيسيّ يعتبر نفسه كاملاً. ولكن من يجسر أن يقول إنَّه حفظ الوصايا كلَّها؟ ولمّا "تحدَّاه" يسوع في أن يتخلّى عن كلِّ شيء، خاف، تراجع ومضى حزينًا. سأل عن طريق الحياة فرآها رفيعة، ودعاه يسوع لاتِّباعه ففضَّل اتِّباع غناه.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM