الوجهة اللاهوتيَّة والرعائيَّة: من هيكل الحجر إلى هيكل جسد الربّ.

 

الوجهة اللاهوتيَّة والرعائيَّة:

من هيكل الحجر إلى هيكل جسد الربّ

انتهى المطلع التاريخيّ في تكوين مجموعة صغيرة من التلاميذ حول يسوع، وحول وحي النظام الجديد الذي دخل فيه مع يسوع. وأورد الإنجيليّ بشكل انتقالة، أنَّهم مضوا إلى كفرناحوم. واختلف يوحنّا عن الإزائيّين الذين اعتبروا أنَّ يسوع دشَّن كرازته ونشاطه العجائبيّ في كفرناحوم، ممّا أشار إلى عمل واحدٍ ليسوع في هذه المدينة التي كانت محطَّة، وصولاً إلى الفصح وما يحصل في ذلك العيد.

1- يسوع تجاه الهيكل

أعطى المناخُ الفصحيّ وإطارُ الهيكل للخبر الذي يبدأ في آ13، مدلولاً خاصٌّا. ولكنَّ الحدث المرويّ لا يمكن أن يُحصَر في أحد الأخبار المتفرِّقة التي نعوِنُها: »طرد الباعة من الهيكل«، أو: »تطهير الهيكل«. فإن حافظنا على هذا العنوان، تجاهلنا الفرق بين يوحنّا والأناجيل الإزائيَّة، في تفسير الحدث التاريخيّ(1). استعاد يوحنّا الخبر، ولكنَّه أضاف قولاً نبويٌّا ليسوع. وهذا ما يوافق جوهرَ ما نسبه شهود الزور إلى يسوع خلال المحاكمة أمام السنهدرين أو المحكمة الدينيَّة العليا: »سمعناه يقول: ''أنا أهدم هذا المعبد المصنوع بيد بشر، وفي ثلاثة أيّام أبني آخر غير مصنوع بيد البشر« (مر 14: 58؛ رج مت 26: 61؛ أع 6: 14، بالنسبة إلى إسطفانس). في إنجيل يوحنّا، عاد قول الشهود مصحَّحًا، فبدا شهادة حقيقيَّة في فم يسوع نفسه.

انطلق يوحنّا من تقليدين مختلفين في الأصل، فقدَّم خبرًا موحَّدًا، ذا كثافة لاهوتيَّة مميَّزة.

أ- موقع الخبر في الإنجيل

إنَّ موقع الخبر لافتٌ للنظر. فهو يندرج بشكل طبيعيّ في متتالية كرونولوجيَّة. في الواقع، هو نصٌّ منعزل لا يرتبط بما قبله ولا بما بعده. وإن حصل الحدث حقٌّا بمناسبة صعود يسوع إلى أورشليم، فالإزائيّون لا يربطونه بالفصح الأخير ليسوع الناصريّ. عند يوحنّا حصل، لا بعد دخول يسوع الظافر إلى أورشليم، بل في بداية الحياة العلنيَّة. بما أنَّنا لا نقدر أن نقول إنَّ هناك حدثين لطرد الباعة من الهيكل(2) يجب أن نختار بين تاريخ وتاريخ. أخذ المؤرِّخون إجمالاً بالتاريخ الذي نقرأه في التقليد الإزائيّ(3)، لأنَّ فعلة يسوع تكون معقولة، إن كان معروفًا في أورشليم. في هذه الحالة، نستطيع القول إنَّ يوحنّا بدَّل محلّ الحدث فجعله في بداية رسالة يسوع.

ولكن، لماذا هذا الاستباق؟ سببٌ أوَّل نجده في السياق السابق: إنَّه حمل الله الآتي لكي يطهِّر الهيكل، والنبي ملاخي كان قد ربط بالهيكل مجيءَ الربّ الإسكاتولوجيّ والمطهِّر:

وفجأة يأتي في هيكله الربُّ الذي تطلبون... فمن يحتمل يوم مجيئه؟... يطهِّر أبناء لاوي (ملا 3: 1-3).

أورد الإزائيّون من هذه النبوءة المطلع فقط: »ها أنا أرسل ملاكي فيهيّئ الطريق أمامي«. وطبَّقه على كرازة المعمدان (مت 3: 1؛ مر 1: 2) 822.p ,naeJ ,ysioL وهكذا بيَّن الإنجيليّ تحقيق القول عينه كمقدِّمة لنشاط يسوع العلنيّ، بعد أن كُلِّف بدور سامٍ يخصُّ يهوه، الربّ.

نجد أنَّ هذا السبب لا يفرض نفسه. فإن واجهنا نصَّ يوحنّا مع نصِّ لوقا، تبيّن سببٌ أدبيّ. استبق لوقا في بداية حياة يسوع العلنيَّة، زيارةَ يسوع إلى مجمع الناصرة (لو 4: 16-30؛ رج مت 13: 53-58= مر 6: 1-6): ففي هذا الموضع، موضع الصلاة والاستماع إلى كلمة الله، قام يسوع وأعلن أنَّه مرسَل الله ومكمِّل الكتب المقدَّسة. اصطدم مواطنوه بهذا »الاعتداد« وهدَّدوه بالموت. ولكنَّ يسوع أفلت منهم. هذا النصّ يُعطي في »قادوميَّة« رسالةَ يسوع ومصيره، مع ذروة في موته وفي قيامته.

إذ استبق يوحنّا مشهد الهيكل، عرض بطريقته نظرة شميليَّة (وكأنَّها هوَّة) لما يلهم رسالة يسوع، لما وصلت إليه (الهيكل الجديد) وبأيِّ طريق. فيسوع الناصريّ، منذ وصوله إلى المدينة المقدَّسة، بدا متوجِّهًا بكلِّيَّته نحو مجد أبيه، ثمَّ قدَّم نفسه سيِّدًا لمصيره، كذلك الذي به يقترب المؤمنون من الله ذاته. طهَّر يسوع هيكل أورشليم حيث أراد الله أن يقيم وسط شعبه، ولكن لكي يعلن أبعد من ذلك، ليعلن الهيكل الجديد الذي يكوِّنه هو في بشريَّته، والذي سيكونه بعد قيامته بالنسبة إلى الذين يؤمنون به.

عبر هذه التيمات thèmes ، قدَّم الخبر في لوحة كبيرة سرَّ شخص يسوع، كما حدَّده بالنسبة إلى الله أبيه، بالنسبة إلى ماضي شعبه حامل العهد، بالنسبة إلى التلاميذ.

وهناك ملاحظة أخرى ممكنة. بما أنَّ هذا الخبر مركَّز في داخل تيمات الهيكل، حول إعلان يسوع لموته وقيامته، فهذا الخبر العائد إلى بداية نشاط يسوع في المدينة المقدَّسة، هو امتداد لخبر موته وقيامته، الفاعلة في نهاية الإنجيل بحيث أعطى مسبقًا تفسيرًا للحدث الذي فيه تجد مسيرةُ يسوع ذروتها. في هذا المنظار، حلَّ تدخُّلُ الإنجيليّ الصريح في آ22 (تذكر التلاميذ) محلّ ما نقرأ في 19: 35: الذي رأى شهد، وشهادته حقٌّ هي، وهو يعرف أنَّه يقول الحقيقة، كي تؤمنوا أنتم أيضًا.

فالسياق المباشر يُثبت الطابع المنعزل للخبر اليوحنّاويّ. فإن وُجد يسوع للمرَّة الأولى في اتِّصال مع »اليهود« الذين تحرّوا قضيَّة المعمدان، إلاّ أنَّ هذا ليس المشهد الأوَّل للجدال الكبير الذي فيه يواجه يسوع السلطات اليهوديَّة، كما يُروى في ف 5-10. بعد هذا الحدث، التقى يسوع في أمكنة مختلفة أشخاصًا متعدِّدين: نيقوديمس، السامريَّة ومواطنيها، الضابط الملكيّ (ف 3-4)، هذا بالإضافة إلى المتتالية التي تتحدَّث عن نشاطه العماديّ وعن السابق. إذًا، حدثُ الهيكل يقوم في ذاته، ويتَّخذ معنى رمزيٌّا، شأنه شأن حدث قانا.

ب- موقع الهيكل

حين نقرأ الخبر كلَّه، ما يفرض نفسه علينا هو حضور الهيكل. في آ13-14 ιερονi يدلُّ على العمارة كلِّها حيث يجتمع الحجّاج. ثمَّ في تعارض أدبيّ »بيت أبي« في أوَّل قول تفوَّه به يسوع (آ16). ما أراد يسوع أن يعرف من الهيكل، وفي تناسق مع الإيمان اليهوديّ، سوى مسكن الله الذي يدعوه أباه. ثمَّ يقول ναος (معبد، آ19) في جوابه إلى اليهود الذين يطلبون منه آية، وهو موضع الحضور في داخل الهيكل في امتداد للكلام السابق. أمّا يسوع فعارض »هذا المعبد« بمعبدٍ آتٍ. أشار إليه فقط بالضمير (الهاء في »أقيمه«)، فكان المعبدُ الآتي في تواصلٍ مع الحالي. غير أنَّ عبارة »في ثلاثة أيّام« توجِّهنا نحو المعبد الإسكاتولوجيّ. وأخيرًا ترجم الإنجيليّ ما قاله يسوع: »المعبد الذي هو جسده« (آ21). أما يعني هذا أنَّ جسد يسوع هو معبد الله، ما يمثِّله البناء من حجر وما سيكون المعبد الآتي؟

وهناك عنصر آخر يعمل على توحيد النصّ: حضورُ التلاميذ الصامت. مرَّتين يتذكَّرون (آ17، 22): في الأولى، يتذكَّرون الكتب المقدَّسة ويفهمون عبرها ما دفع يسوع لكي يقوم بفعلته. وفي الثانية، يتذكَّرون كلمته على ضوء القيامة (آ19). فبفضل »التذكُّر« الثاني الذي أعدَّه »التذكُّر« الأوَّل، ينفتح الخبرُ على زمن الكنيسة اللامحدود. ففي نصوص الإزائيَّة، المقابلة لخبرنا، لا يُذكَر التلاميذ في مسيرة الحدث ولا بالنسبة إليه. هم ضروريّون هنا، لأنَّه ليس من »هيكل« بدون حضور المؤمنين.

وفي النهاية، حين يقول النصّ: »آمن تلاميذُه... بالكلمة التي قالها يسوع«، فمقالُهم لا يتوخّى فقط أن يؤكِّد أنّهم آمنوا بإعلان يسوع الفصحيّ (مع فعل: هدم، أقام). من جهة، تذكُّرُهم جاء بعد الخبرة التي كانت لهم مع القائم من الموت. ومن جهة ثانية، لم يكن ذاك مرمى كلمة يسوع في آ19. بعد الفصح، آمنوا بأنَّ القائم من الموت، هو الهيكل الجديد.

في قانا، شرع التلاميذ يؤمنون بأنَّ العهد الكامل يتدشَّن مع يسوع. وتجاه فعلة يسوع في الهيكل، ولجوا، عبر الكتب المقدَّسة، الدافعَ العميق نحو ذلك الذي عرفوه كالمسيح. فبعد الفصح، سوف يؤمنون أنَّ يسوع الممجَّد هو حقٌّا للبشر، معبد الحضور الإلهيّ. من أجل هذا دَعوْنا هذا النصّ: يسوع والهيكل. هما يسيران معًا خلال حياة يسوع العلنيَّة، بانتظار أن يحلَّ هيكلٌ محلَّ هيكل، أن يحلَّ هيكل جسد الربّ محلّ هيكل ملموس »لن يبقى منه حجر على حجر، بل يُهدَم كلُّه« (مر 13: 2).

2- مسيرة الخبر

يتوزَّع التأليف في أربعة أقسام مع مقدِّمة حول الزمان والمكان (2: 13). (1) صورة تفصيليَّة لفعلة يسوع مع قول يبرّرها (2: 14-16). (2) بعد ذلك مباشرة، ردَّتان فعل خاصَّتان: أعجب التلاميذ بيسوع. أمّا اليهود (وقد يكونون موظَّفين في الهيكل) فعارضوه (2: 17-18). (3) جواب يسوع لهؤلاء بإعلان احتفاليّ يُبعدونه باستخفاف (2: 19-20). (4) بعد صمت يسوع، فسَّر الإنجيليّ هذا الإعلان، فآمن التلاميذ بالكتاب وبكلمة قالها يسوع (2: 21-22).

أ- موقع الحدث

واقترب فصحُ اليهود، فصعد يسوع إلى أورشليم ووَجد في الهيكل... (2: 13-14آ).

يتحدَّد موقعُ الحدث خلال واحد من الفصحين اللذين ترافقهما حاشية (في الإنجيل الرابع) تقول بأنَّ يسوع صعد إلى أورشليم. إنَّ لفظ »الفصح« ذُكر في المطلع (2: 13) واستُعيد حالاً بعد الخبر (2: 23) فهيَّأ القارئ لكي يرى الفصح المسيحيّ يقف فوق فصح إسرائيل. مرَّتين يذكر النصُّ قيامة يسوع (آ19، 22). ولكنَّ الفصح اليهوديّ وحده، مع إشارة إلى »الصعود« إلى أورشليم، يذكِّرنا بالحجِّ الكبير إلى الهيكل، فيدلُّ على وقت احتفاليّ.

فإن »صعد« يسوع إلى المدينة المقدَّسة، فلكي يمضي إلى الهيكل للصلاة في هذا الموضع الذي هو فخر شعبه. بناء كبير، محيطه حوالي 1500 م. أعاد بناءه هيرودس الكبير ولكنَّه دُمِّر سنة 70ب.م. وتضمَّن قسمين: السور الذي يماهونه مع الهيكل iιερον والمعبد في المعنى الحصريّ للفظ ναος ، هو موضع الصلاة والذبائح اليوميَّة والاحتفال بالأعياد الليتورجيَّة. إنَّه قلب حياة الشعب. كلَّ سنة، يأتي إليه كلُّ يهوديّ ورع حاجٌّا للقاء الربّ. وهذه الممارسة الدينيَّة تجرُّ وراءها عادات لا ترتبط بالتقوى في شكل من الأشكال: بيع الحيوانات من أجل الذبائح، تصريف المال المفروض من أجل شراء الحيوانات والتقدمات.(4)

بحسب الإزائيّين، دلَّ يسوع على احترام عميق للهيكل. كان يعلِّم فيه كلَّ يوم. تنبَّه إلى حركات التقوى الحقيقيَّة، فمنع الناس المعجَّلين من عبور الساحة التي كانت »قادوميَّة« (مر 11: 16) تسهِّل التجارة، وانتقد ديانة شكليَّة فيها عدد من الانحرافات. وهكذا جاءت فعلتُه تجاه التجّار موافقة لتصرُّفه تجاه الهيكل، بعد أن أُعجب بجماله مع تلاميذه (مر 13: 1-3).

ب- المسيح يطهِّر الهيكل

ورأى في الهيكل... بيتًا للتجارة (2: 14-16).

يمكن أن نقابل هذا النصّ مع الأناجيل الإزائيَّة (مت 21: 12-13= مر 11: 15، 17، لو 19: 45-46). الفروقات الخارجيَّة بسيطة. يُذكَر السوطُ فينال الخبر وجهًا دراماتيكيٌّا. ويتكرَّر الكلام عن البقر والغنم من أجل الذبائح. مثلُ هذا التكرار له معناه: حسب يوحنّا، لا يكتفي حملُ الله بأن يُعيد النظام إلى الهيكل، بل يدلُّ بحضوره، أنَّ الطقوس الذبائحيَّة راحت بلا رجعة. وبما أنَّ الإنجيليّ يماهي الهيكل وجسد يسوع، فالعبور من نظام ذبائحيّ إلى نظام شخصيّ يجد رمزيَّته في هذا الخبر. منذ الآن، تتمُّ المصالحة مع الله، لا بواسطة ذبائح تفرضها الشريعة، بل بعطاء يسوع ذاته.

والقول اليوحنّاويّ الذي يرافق فعلة يسوع ويبرِّرها، يختلف عمّا هو في التقليد الإزائيّ. أورد يسوع نصٌّا من الكتاب المقدَّس، جعلته الكنيسة في فم يسوع الناصريّ: فيسوع ما اعتاد أن يورد الكتاب ليبرِّر أعماله وأقواله، بل فقط في الجدالات. فالكتاب لا يمكن أن يكون له مجموعة نصوص يستقي منها لكي يؤدّي حسابًا عن تصرُّفه، هضمه فكرُه وفسَّرته كلمتُه. أمّا الكنيسة الأولى فاحتاجت إلى مجموعة استشهادات لكي تؤسِّس إيمانها وتدافع عنه(5). تلك فريضة تتيح لنا أن نُعيد بناء ما حصل. تذكَّر التقليد كلامًا قيل في هذه المناسبة، فبحث في الكتاب واختار نصَّ أشعيا: »بيتي يُدعى بيت صلاة لجميع الشعوب« أش 56:7). أما يوحنا فجعل في فم يسوع قولاً يقابل بين »بيت أبي« و»بيت تجارة«. وأورد زك 14: 21: »لن يكون تجّار في بيت ربِّ الجنود، في ذلك اليوم«. وقال يسوع: »بيت أبي« بحسب عبارة تتردَّد على شفتيه. فهيكل إسرائيل هو في نظر يسوع هيكل الله في إسرائيل، بحيث لا يكون شيء يشوِّه قداسته.

ج- غيرة بيتك

فتذكَّر تلاميذه... عملك هذا؟ (2: 17-18)

لم يفسِّر الإزائيّون فعلة يسوع في الخبر. فهي تبدو عمل »مصلحٍ« من المصلحين. استند إلى قول نبويّ فذكَّرهم بالمعنى الحقيقيّ لشعائر العبادة. وإن هي امتلكت بُعدًا مسيحانيٌّا فبفضل السياق الذي وردت فيه. دخل يسوع إلى أورشليم كالمسيح، وحينئذٍ طرد الباعة من الهيكل، ثمَّ دلَّ بفعلة التينة الميبَّسة، أنَّ عالمًا يهوديٌّا صار عقيمًا وها هو يمضي إلى الموت. ولمّا سألته السلطة، لم يُعطِ جوابًا (مر 11: 1-33). وبعد سلسلة من الأمثال والجدالات، ترد النبوءة حول الدمار الكامل للهيكل (مر 13: 2). فالذي يُعلن نهايةَ عالمٍ يهوديّ هو المسيح. وإن هو طهَّر الهيكل فلكي يردَّ له دوره وفي الوقت عينه يبيِّن أقواله. وأخيرًا، في محاكمة يسوع، أرادت شهادةُ زور أن ترى في قول من أقوال يسوع اتِّهامًا ضدَّ الذي يعتبر نفسه المسيح (مر 14: 58 وز).

لا ينتهي الخبر اليوحنّاويّ فقط بالفعلة، بل يلاحظ في الحال ردَّتَي فعل: هو عمل شجاع بالنسبة إلى التلاميذ. هو عمل يجب أن يُشجَب في نظر اليهود. ولكن لا هذه الفئة ولا تلك تطرح سؤالاً حول »الفعلة النبويَّة«. بل حول الشخص الذي قام بمثل هذا العمل. تذكَّر التلاميذ مقطعًا من مز 69، حيث المصلّي ينسب الاضطهادات التي يحتمل إلى »غيرة بيتك التي أكلتني«. بحسب قراءة الكنيسة الأولى، نحن أمام مزمور مسيحانيّ. وحين يورده المؤمن، يقرأ فيه طوعًا مصير يسوع المأساويّ، لا سيَّما وأنَّ النصَّ الأصليَّ للمزمور قد تحوَّل. فبدلاً من الماضي: »أكلتني«، نقرأ المضارع: »تأكلني«. فيفكِّر القارئ حالاً أنَّ الإنجيل أعلن موت يسوع أو أقلَّه استشفَّه.

هل نسب الإنجيليّ هذا الفهم إلى التلاميذ؟ هذا غير معقول، فيبدو وكأنَّنا ننسب إليهم مسبقًا نظرة إلى مسيح معدٍّ لموت مأساويّ. كما يبدو أنَّنا نتجاهل أنَّ النصّ يميِّز مرحلتين في فهم سرِّ يسوع. في هذه الآية، بدا لهم يسوع الناصريّ »مشغوفًا« من أجل قضيَّة الله. والفعل »أكل« يعني في استعارة »احترق«. ففي هذه الفعلة، رأى التلاميذ بداية نشاط فيه حرارة تستعمل من دون مساومة. هم في حضرة »البارّ« الذي يشبه فنحاس (عد 25: 11) أو إيليّا (1مل 19: 10، 14) أو متتيا (1مك 2: 24-26؛ رج سي 48: 2؛ مز 119: 139)، والذي يدافع طوال حياته عن كرامة الله. رأى التلاميذ أنَّ مثل هذا الموقف يليق بالمسيح، وفهموا الكتب في هذا العمق. ذاك هو موقف التلميذ الأمين الذي يتفرَّس في معلِّمه »ويقرأ«.

تجاه التلاميذ، وفي تعارض معهم، بدأ »اليهود« جدالاً مع يسوع. طرح الإزائيّون سؤالاً عن سلطة يسوع: »لماذا تفعل هذا؟« أي لماذا طردت الباعة من الهيكل؟ عند مرقس ولوقا، سبق السؤال عبارة: »طلبوا أن يميتوه« (مت 21: 23= مر 11: 28= لو 20: 2. ثمَّ مر 11: 18= لو 19: 47). أمّا عند يوحنّا، وفي قلب الخبر، اعترض »اليهود«: طلبوا برهانًا يشرِّع الفعلة التي قام بها يسوع. إذًا، أدركوا أنَّها فعلة نبيّ يجب أن يُمتحَن ليُعرَف »معدنُه«. وفي التقليد الإنجيليّ، طلبُ آية يعني التماس معجزة ساطعة تعفي من الإيمان (6: 30، الملاحظة عينها). وفي الواقع، بيَّن موقف مجادلي يسوع أنَّهم انغلقوا على كلامه. أمّا العلاقة التي وضعها التقليد بين فعلة متحدِّية ليسوع وبين موته، فالخبر سيبيّنها ولكن بشكل آخر.

د- اهدموا... وأنا أبنيه

فأجابهم يسوع... في ثلاثة أيّام (2: 19-20).

بحسب الإزائيّين، لم يُجب يسوع على سؤال السلطات (مت 21: 27= مر 11: 33= لو 20: 8). وعند يوحنّا، ردَّ على ما حُسب أن فعلته عمل قدرة: يقيم البناء المهدوم في ثلاثة أيّام. القارئ الذي يعرف موضوع كلام يسوع، قد يجد هنا صدى لما في الأناجيل الإزائيَّة، حيث أعلن يسوع حين تحدُّوه فطلب آية: »جيل شرّير فاسق يطلب آية ولن يكون له سوى آية النبيّ يونان« (مت 12: 39).

ولكن إن أعلن عن آية، فهي تأتي في المستقبل: لا يُرضي يسوعُ ما طلبه اليهود بشكل مباشر. بل أبرز هنا المرمى الحاليّ للجدال. هناك مدى مقدَّس لا بدَّ من تطهيره، إكرامًا لله. وأكثر من ذلك، هناك المعبد ναος أو المَقدِس. خلط اليهود بين الهيكل ιερον والمعبد فتحدَّثوا عن البناء ككلّ. ولكن هذا التحوُّل نقلنا من الرامز إلى المرموز، من هيكل الحجر إلى موضع الحضور الإلهيّ. وهكذا أعلن قولُ يسوع حدثين: دمار الهيكل وقيامه. ففي الأسلوب النبويّ، صيغة الأمر »اهدموا هذا الهيكل« ليست أمرًا يجب أن ينفَّذ. بل هي شرطيَّة: إن لبثتم تتصرَّفون بهذه الطريقة، سيحصل شيء ما. فإلى الحجّاج الآتين إلى معبد بيت إيل، صرخ عاموس: »تعالوا إلى بيت إيل واخطأوا« (عا 4: 4). هو ما أراد أن يشجِّع الخطيئة، بل أن يبرز الهوَّة التي تفصل التقوى في المعبد وممارسة الخطيئة. هذه الصيغة الأمريَّة نجدها أيضًا في توبيخ يسوع للكتبة والفرّيسيّين. »فاملأوا الآن كيل آبائكم« (مت 23: 32). فقساوة الشعب المختار تقود هيكل أورشليم إلى الدمار.

تطلَّع يسوع إلى دمار الهيكل، لا كأنَّه ينوي على تدميره ويريد، خلافًا لما نسب إليه شهود الزور خلال محاكمته، والعابرون عند الصليب (مر 13: 2؛ مت 26: 61؛ 27: 40)، بل كنتيجة السلوك الخاطئ في شعبه. وهكذا بان أنَّه وارث الأنبياء ولا سيَّما إرميا الذي أعلن دمار هيكل سليمان (إر 7: 1ي؛ رج أش 1: 11-17؛ حز 8: 7-18): هم يصنعون الشرَّ ولا يتوقَّفون، ويستندون إلى وجود العمارة المقدَّسة في مدينتهم وكأنَّها كفيل سحريّ للخلاص.

وفي زمن يسوع أيضًا، كان طلاق بين سلوك الإنسان وورعه، ممّا أدّى إلى ردّات فعل في إسرائيل. فالأسيانيوّن شجبوا شعائر العبادة التي تُقام في الهيكل (بعد أن صار الكهنوت لاشرعيٌّا)، واعتبروا جماعتَهم هيكلاً روحيٌّا فيه ينال الله العبادة الحقَّة. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، حدَّدت الأسفار الجليانيَّة (المنحولة) في السماء موضع الهيكل الحقيقيّ »الذي لم تصنعه الأيدي البشريَّة« (أع 7: 48، كما قال إسطفانس). كانت ردَّةُ الفعل عند يسوع مختلفة: إن هو طهَّر هيكل أورشليم فلأنَّه يقدِّره حقَّ قدره. هو لا »يشجبه« كما هو. وإن تطلَّع إلى دماره، فبسبب قساوة معاصريه. وما توقَّف عند هذا الحدّ، بل أكَّد حالاً على إعادة البناء. وجاء تأكيده في رسمة متعارضة: دمَّر، أقام، كما في إرميا (إر 1: 10؛ 18: 7-10؛ 24: 6؛ 31: 28؛ 42: 10؛ 45: 4؛ رج سي 49: 7)، مع اختلاف بسيط: حسب النبيّ، الله يدمِّر ويُقيم. ويسوع تكلَّم فقط عن سلطته بأن يقيم (= يعيد البناء) المعبد. وهكذا جعل نفسه في خطِّ التقليد البيبليّ القديم الذي عارض دومًا القيمة المطلقة لمعبد حجر، لهذا البناء البشريّ الذي رفضه النبيّ ناتان (2صم 7: 4ي)، وشجبه الأنبياء: »السماء عرشي والأرض موطئ قدميّ. فأيَّ بيت تبنون لي وماذا يكون موضع راحتي؟« (أش 66: 1). ويسوع أعلن يومًا، في جرأة، »ها هنا أعظم من الهيكل« (أي: في شخصي، مت 12: 6). وفي الكلام الاحتفاليّ الذي نقرأ، جَعل يسوع قبالة الهيكل الذي سيدمَّر، »معبدًا« يستعدُّ لأن يقيمه.

ما هو هذا المعبد الجديد؟ نترك شهود الزور يحدِّدون: »أَبني آخر« (مر 14: 58). حسب يوحنّا، أعلن يسوع أنَّه »يقيمه« (الضمير، الهاء) »في ثلاثة أيّام«. هو المعبد عينه الذي يعاد بناؤه. في قانا، الخمر المعطاة جاءت من مياه صُبَّت في أجران النظام اليهوديّ. وهنا، هيكل إسرائيل يُعاد بناؤه. وهكذا بيَّن الإنجيليّ مرَّة أخرى أنَّ عطاء الربِّ لشعبه لا يزيحه الجديدُ الذي حمله يسوع. وكيف يتجدَّد الهيكل؟ هذا ما لا يقوله يسوع تاركًا لمحاوريه مدى يتخيِّلون فيه. لو استعدُّوا أن يروا في يسوع إنسانًا »الله معه« (3: 2، كما قال نيقوديمُس)، لاستطاعوا بمعرفتهم للنبوءات، أن يفكِّروا في الهيكل الآتي الذي فيه يسطع مجد الله(6). والعبارة »في ثلاثة أيّام« وجَّهتهم في هذا الخطّ، وهي تعني في معنى أوَّل، بعد وقت قصير، كما تتسجَّل في إعلان الهيكل الإسكاتولوجيّ. ولكن بدلاً من ذلك، اصطدموا بذاك الذي يتكلَّم. فهموا أنَّ يسوع يقدِّم جديدًا. رأوا شخص يسوع ينتصب أمامهم ويقلقهم، وكأنَّه يأخذ سلطة خاصَّة بالله، فيعيد بناء معبد دمَّرته خطاياهم. تشكَّكوا فاستبعدوا كلَّ رجوع إلى الهيكل الإسكاتولوجيّ، وقابلوا بين 46 سنة وثلاثة أيّام. ولكنَّ السؤال حول يسوع يُطرَح منذ الآن على مسؤولي الهيكل. هنا صمتَ يسوع، وتكلَّمَ الإنجيليّ .

هـ- وفسَّر الإنجيليّ

وكان يسوع يعني هيكل جسده (يو 2: 21)

جاء الإنجيليّ، على ضوء الإيمان الفصحيّ، يفسِّر ويبيِّن للقارئ المعنى العميق لما قاله يسوع. ودفعَنا هذا التفسيرُ إلى التأمُّل. أراد أن ينير القارئ فيفسِّر له أنَّ يسوع تكلَّم عن »معبد هو جسده«. ولكن بالنسبة إلى القارئ، أعلن يسوع دمار الهيكل في ذاته وقيامه. كيف ننتقل من كلام يسوع إلى التفسير اليوحنّاويّ؟

يُقال عادة إنَّ يسوع في آ19 تحدَّث فقط عن جسده. في هذه الحالة، هل يمكن أن يُفهَم؟ في الواقع، لبث اليهود يتحدَّثون عن هيكل الحجر (2: 20، مثل نيقوديمس والسامريَّة، في كلام عن الولادة وعن الماء). وتخيَّل بعضهم في شكل اعتباطيّ، بأنَّ يسوع جعل يده على صدره حين تكلَّم! ولمّا تُرك هذا المخرج، اتَّهم آخرون اليهود بالنوايا السيِّئة. قالوا: في كلِّ اللغات، صورة الجسد الذي هو هيكل النفس أمرٌ معروف. ولكن لا العهد القديم، ولا يوحنّا يقدِّمان أساسًا لهذه الفرضيَّة. ومع ذلك تطلَّع بعضهم إلى معنى آراميّ قد يكون يسوع استعمله: (بيت) الذي يعني أيضًا هيكل أورشليم (المسكن). فيكون يسوع لعب على اللُبس في اللفظ، فتطلَّع إلى جسده على أنَّه »مسكن« ذاته. ولكنَّ هذا يفرض علينا أن نتخلّى عن المدلول الخاصّ للفظ ναος وبالتالي أن لا نفكِّر في »المعبد« لكي نجد فقط في كلام يسوع إعلانًا رمزيَّا عن الموت والقيامة. وهكذا يُعذَر المحاورون لأنَّهم لم يَلِجوا السرّ: لا تكون الآية واضحة بالضرورة حين نعلنها، وتصبح واضحة حين تتمّ. وهكذا نعود إلى آية يونان.

لا شكَّ في أنَّ كلام يسوع يوافق في شكل من الأشكال كلامًا يعلن آية يونان، وكلاهما يصيبان حدث الفصح. ولكنَّ في يوحنّا مدلولاً خاصٌّا بالهيكل لا نجده في الإزائيّين. فليس من قبيل الصدف أن يستعيد الإنجيليّ ما احتفظ به التقليد الإزائيّ بشكل اتِّهام على يسوع، ليكوِّن مضمونَه ويُبرز بُعدَه. وأخيرًا، يتواصل الحوار اليوحنّاويّ بقدر فهم السامعين الذين فقهوا أنَّ يسوع يرجع إلى الهيكل (كما في ردِّهم). ما استطاع يسوع فقط أن يدلَّ على جسده، وإلاّ كان كلامُه غير مفهوم، وهذا ما لا يرضى به الإنجيل الرابع.

لهذا يليق بنا أن نختار قراءة أخرى. في آ19 تكلَّم يسوع في الوقت نفسه، عن الهيكل وعن جسده. ففي الإنجيل الرابع يستعيد يسوع مرارًا رموزًا هامَّة في الكتب ليدلَّ على هويَّته بالنسبة إلى المؤمنين، فيكتشف مقابلات خفيَّة بين حقائق العهد الأوَّل وحقائق العهد الجديد. وهنا، الرمزُ البيبليّ للهيكل يؤسِّس ما يكشفه يسوع عن شخصه: ما كان الهيكل يرمز إليه، أي حضور الله وسكناه وسط البشر، صار حقيقةً في يسوع. أعلن يسوع تدمير البناء وأعلن عن عزمه بأن يقيمه في وقت قصير. وباني هذا الهيكل الجديد هو يسوع. وهكذا أفهم يسوع اليهود أنَّه يعيد بشكل نهائيّ بناء هذا الهيكل الذي يهدمون. هل تقبَّل الرسل هذا الكلامَ وفهموه؟ المهمّ أنَّهم ظلُّوا منفتحين على مستقبل يتجاوزهم الآن وينكشف لهم في ما بعد.

و- وآمن التلاميذ

فلمّا قام من بين الأموات، تذكَّر تلاميذه هذا الكلام، فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي قاله يسوع (2: 22).

وواصل الإنجيليّ التفسير السابق مُبرزًا إيمان التلاميذ بعد الفصح والقيامة، وصوّر قبول كلام يسوع بشكل »تذكُّر«: والتذكُّر هو تعميق للإيمان كما قال الربّ: »البارقليط، الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي يعلِّمكم كلَّ شيء ويذكِّركم υρομνησειكلَّ ما قلتُ لكم« (14: 26). وهكذا نكتشف في الوضع البعدفصحيّ استنارة الروح الذي يقود المؤمن إلى الحقيقة كلِّها فيمجَّد يسوع (16: 13) واللافت أنَّ الفعل المستعمل في 2: εμνησθσαν17 ، ويدلُّ على فهم التلاميذ قبل الفصح، هو ذاك المستعمَل بعد الفصح. فالكتاب يلعب وظيفة الروح. والكتاب يذكّر الشعب مرارًا بما صنعه الله من أجله. وهكذا يُدعى المؤمن لكي يكتشف الله ويتعرَّف إلى قصده. وبحسب يوحنّا، الروح هو الذي يُحضِر، بعد الفصح، أعمالَ يسوع الناصريّ إلى حافظة التلاميذ فينير مدلولها في العمق، ويؤمِّنها في حاضرهم. والذي »آمن« به التلاميذ هو الكتاب المقدَّس لأنَّه يبقى أبدًا الأساس من أجل فهم سرِّ الله: »لا يقدر أحدٌ أن ينقض الكتاب« (10: 35).

وأيَّ كتاب نقرأ في آ22؟ يبدو أنَّه مز 69 الذي ورد في آ17، ونحن نقرأه على ضوء الفصح. في الحال، فهم التلاميذ هذا المزمور على أنَّه كلام حول غيرة المسيح من أجل الله. واستشفوا أنَّ المسيح سوف يواجه »حربًا«. وهكذا كانوا تجاه حاشه وآلامه، وتجاه خلاص صهيون وإعادة بنائها (مز 69: 36). بعد القيامة، جعل الكتابُ المسيحيّين قادرين على مقاربة سرِّ الصليب.

وكلام يسوع هو أيضًا موضوع الإيمان مثل الكتب المقدَّسة. فما معناه بالنسبة إلى التلاميذ؟ »اهدموا هذا الهيكل... أي جسدي«. لا يستصعب المسيحيّ أن يقبل بهذا، لأنَّ يسوع مات والهيكل دُمِّر سنة 70 ب.م. وقد رأت الجماعة المسيحيَّة الأولى في دمار الهيكل صدى لموت يسوع. وعبارة »أقيمه في اليوم الثالث« تعني قيامة يسوع في اليوم الثالث.

في عرس قانا، بيَّن يسوع عبر الرمز، انتقالاً في علاقة البشر بالله. وهنا، بواسطة رمز الهيكل، كشف في الوقت عينه مسيرته الفصحيَّة والثمرة التي تنتج عنها: فعبر قيامته يتجدَّد الهيكل الذي هو رمز حضور الله في العالم. ففي يسوع القائم من الموت، الله حاضر على البشر في شكل نهائيّ، وفي شكل نهائيّ صار البشر حاضرين لدى الله. الهيكل الجديد هو يسوع الحيّ والممجَّد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM