القراءة البحثيَّة: من الهيكل القديم إلى الهيكل الجديد

 

القراءة البحثيَّة:

من الهيكل القديم إلى الهيكل الجديد

حين وضع يسوع جانبًا الهدف الطقسيّ الذي لأجله جُعلت هذه الأجران (2: 6)، بدأ طريقًا من الصراع سوف يقوده إلى »ساعته« الأخيرة، ساعة الموت (2: 4). والمقطع الذي نقرأ (2: 13ي) يَعرض المتطلِّبات لكي تتمَّ الآلام والموت والقيامة: يجب أن يُدمَّر جسدُ يسوع قبل قيامته، كعلامة وحدث يَحلاّن محلّ نظام الهيكل القديم(1). فالكتاب المقدَّس وتعليم يسوع (2: 17، 22) يؤكِّدان هذه الحقيقة قبل أن تحصل (13: 19؛ 14: 29). والروح القدس، في النهاية، يدفع التلاميذ لكي يفهموا تنبيه يسوع (14: 29: أخبرتُكم بهذا قبل أن يحدُث). ابتعد يوحنّا عن الأناجيل الإزائيَّة في خبر ما فعله يسوع في الهيكل(2)، فأبرز التعارض في أجوبة معارضي يسوع وتلاميذه(3). فحوار يسوع مع نيقوديمس سوف يُوضح قيمةَ الحياة الجديدة التي تحلُّ محلَّ الطرق العتيقة.

كانت 2: 12 انتقالاً بين عرس قانا (2: 1-11) وطرد الباعة (2: 13-22) على المستوى الجغرافيّ (نزل من قانا إلى شاطئ البحيرة) والكرونولوجيّ، وهذا ما أعطانا معلومة تاريخيَّة ضروريَّة حول إقامة يسوع الناصريّ في كفرناحوم، وفسَّر لماذا ماهاه التقليد مع جماعتَي الناصرة وكفرناحوم (مت 4: 13). أصلُ يسوع في كفرناحوم كما في الناصرة (1: 46) ليس اختراعًا من الكنيسة الأولى. ومع أنَّ كفرناحوم كانت واسعة بالنسبة إلى ما يحيط بها مع ألف نفس أو أكثر(4)، فإن يوسيفس، ابن أورشليم، اعتبر كفرناحوم »قرية« لا تتميَّز في شيء عمّا يحيط بها (سيرة 403).

ووجود »المينيم« (المسيحيّين المرفوضين من قبل اليهود) في كفرناحوم، يشير إلى وجود جماعة مسيحيَّة في البلدة. غير أنَّ يوحنّا لا يجعل كفرناحوم مركزًا على مثال الإزائيّين، بل بيت صيدا التي حلَّت محلَّها (1: 44). وصارت قانا موضع الإيمان والمعجزة (2: 12؛ 4: 46). معنى الاسم: قرية ناحوم، أو التعزية. استندت أوَّلاً إلى الزراعة قبل صيد السمك، شأنها شأن قرى الجليل Horsley, p. 194.

هل أقامت أمُّ يسوع وإخوته معه؟ هذا ليس بواضح. فالكاتب لا يقول لنا إنَّهم أقاموا أيضًا في كفرناحوم. كما لا يمكن أن نعرف إن كان ليسوع بيتٌ في كفرناحوم (مت 4: 13؛ مر 1: 21؛ 2: 1؛ 9: 33). ما يَلفت الانتباه، في 2: 2، هو أنَّ تلاميذ يسوع لبثوا معه وكأنَّهم في »أسرة« صغيرة. هذا يعني علاقة حميمة يشير إليها فعل »أقام« (1: 38-39). وتتواصل هذه العلاقة (8: 31؛ 35؛ 14: 23؛ 15: 4). إنَّهم صاروا امتدادًا »لبيته« (20: 7؛ رج مر 3: 34-35).

1- تطهير الهيكل

لا نستطيع أن نوفِّق يوحنّا والإزائيّين، إلاّ إذا قلنا إنَّ يسوع طهَّر الهيكل مرَّتين! ولكن هذا مستحيل. هناك تقليد واحد أخذ به كلٌّ من الإنجيليّين الأربعة، وفيه شدَّدوا على ارتباط هذا الحدث بالحاش والآلام. ثمَّ كيَّف يوحنا الخبر بحسب نظرته، لتكون المواجهة مع التقاليد القديمة، بداية المسيرة.

ذُكر الفصح هنا فأحاط بهذه الوحدة النصوصيَّة (2: 13، 23). والسياق اللافت كوَّن كلام يسوع حول موته في هذه القطعة (2: 19). فهذا الفصح (2: 13) مع الفصح الأخير (13: 1؛ 18: 28، 39؛ 19: 14) يحيطان بخدمة يسوع في الإنجيل الرابع. شدَّد الشرّاح على تقليد يقول إنَّ تكرار الفصح في يوحنّا يقدِّم الخطوط الكرونولوجيَّة العريضة لرسالة يسوع العلنيَّة Lightfoot, Gospel, p. 148. ولكنَّهم نسوا المدلول الرمزيّ الذي وجده يوحنّا في الفصح(5). لم يقرأوا فقط الأناجيل الإزائيَّة والخطوط العريضة في مرقس، بل عادوا إلى أوائل المسيحيَّة التي احتفلت بالعشاء الأخير الذي ضُمَّت إليه أحداثُ الحاش والآلام (1كو 5: 7؛ 11: 23-25)، بل قرأوا تطهير الهيكل في هذا السياق (عيد المظالّ Manson, Servant-Messiah, p. 78).

لا يُعقل أن يكون يسوع أراد أن يتحدَّى نظام الهيكل فيقلب الموائد، ثمَّ يتابع خدمته العلنيَّة سنتين أو ثلاث سنوات، وبعد ذلك يزور أورشليم مع عداء متنامٍ عليه (7: 30-52؛ 8: 59؛ 10: 20-21، 31، 39؛ 11: 46-57). أمّا يوحنّا فيلمِّح إلى معرفة عامَّة حول تطهير ساحة الهيكل في التقليد، ويفتتح خدمة يسوع في هذه النظرة اللاهوتيَّة. فالآن، خدمة يسوع كلّها هي أسبوع الآلام الذي تظلِّله »الساعة« (2: 4).

ما من أحد يمكنه أن ينكر أنَّ يسوع زار أورشليم مرارًا (مت 23: 37-38: كم مرَّة). لقد صوِّر يسوع حاجٌّا مع حجّاج الجليل. وإن كانت الطريق تحتاج إلى ثلاثة أيّام، إلاَّ أنَّ كثيرين كانوا يصعدون أكثر من مرَّة في السنة إلى العيد. هم ينطلقون عادة في مجموعات، لا أفرادًا (يوسيفس، الحرب 2: 232؛ فيلون، الشرائع الخاصَّة 1: 69 Sanders, Judaism, p. 128). ممّا يعني أن يكون يسوع مضى مع إخوته (7: 10) أو مع تلاميذه (2: 12-13).

بما أنَّ هذا المقطع يتيح لنا ويدعونا أن نتفحَّص الأمور في تقاليد أوسع، نتوقَّف عند سمات تاريخيَّة تقليديَّة يتوسَّع فيها يوحنّا. ففي السياق اليوحنّاويّ، يلفت النظر أنَّ يسوع أبعد طَقسَ التطهير لدى اليهود (2: 6)، بل بلبل العيد لدى اليهود (2: 13)(6). فالرباط هو بين مقطعين يتطلَّعان إلى »ساعته« (2: 4) وتدمير جسده (2: 19-21). فالصليب يظلِّل الإنجيل منذ الآن، ووضعُ تطهير الهيكل في هذا الموضع من الإنجيل، يُشرف على رسالة يسوع كلِّها. وهناك علاقات بين 2: 1-11 و2: 13-23 وذكر اليوم الثالث (2: 1، 19). وقدَّم يسوع علامة (2: 18-19) تدلُّ على مجده (2: 11).

إنَّ هيكل أورشليم هو، بالنسبة إلى يسوع، موضع صراع في هذا الإنجيل. فيسوع يهاجم هنا كرامة الهيكل (2: 14-15)، ثمَّ يجد في الهيكل من يتآمر عليه (5: 14-16). وأخيرًا يلتقي في الهيكل من يريد أن يقتله (8: 59). ومع ذلك، فهو يعلِّم في الهيكل (7: 14؛ 18: 20) غير أنَّ تعليمه يتضمَّن هجومًا على السلطات الدينيَّة (7: 28؛ 8: 20؛ 10: 23؛ رج 11: 56). ويوم كان في الهيكل أعلن يسوع أنَّه هو حجر الأساس في الهيكل الجديد (7: 37-39).

ناقش البعض تاريخيَّة ما عمله يسوع هنا. Sanders, Jesus and Judaism, p. 11 فاعتبر أنَّ الحدث لا شكَّ فيه. ولكن كيف يمكن أن يحصل مثل هذا العمل الواسع، ولا تتدخَّل الفرقة الرومانيَّة المقيمة في قلعة أنطونيا. لهذا اقترح آخرون أن يكون العمل فرديٌّا بحيث لم يلفت انتباه الحامية التي تحرس ساحات الهيكل.

والتجّار؟ لا يمكن أن يكونوا في الأروقة حيث يجتمع المصلّون والحجّاج. ربَّما اقتربوا وأخذوا بعض رواق الأمم، في خطِّ ما يرويه مر 11: 15، ممّا جعل الربَّ يعلن: »بيتي بيت صلاة لجميع الأمم« (آ17).

والحيوانات في الهيكل؟ هي تنجِّس الهيكل ببولها وروثها. لهذا لا يمكن أن تكون في الأروقة. ولكن ماذا يمنع هذه الحيوانات قبل أن تُذبَح بوقت قصير، أن تنجِّس الهيكل؟ في أيِّ حال، تحتاج الأعياد إلى الذبائح الكثيرة. وتفرَّد يوحنّا في الكلام عن السوط، بالنسبة إلى البقر والغنم. وبما أنَّ يسوع كلَّم باعة الحمام، فهذا يعني أنَّهم لبثوا هنا وما طردهم.

2- تحدّي الهيكل ومعارضته (1: 26)

لماذا تحدَّى يسوع الهيكل؟ ولماذا عارض نظامه الذبائحيّ؟ لا شكَّ بأنَّ تكون الفكرة الأخيرة، أن لا حاجة بعدُ إلى هذه الذبائح، التي لم تستطع أن تخلِّص المؤمنين من خطاياهم. فالذبيحة الوحيدة في العهد الجديد، هي ذبيحة يسوع. طُهِّر الهيكل من أجل احتفال من نوع آخر. وهكذا نكون أمام فعلة رمزيَّة.(7)

وتحدَّث شرّاح عن هذا العمل من وجهة الاستغلال الاقتصاديّ، لأنَّ أورشليم كانت مركزًا تجاريٌّا هامٌّا، ولاسيَّما بالنسبة إلى السوّاح. أمور عديدة تُشرى، وليس آخرها النصوص الكتابيَّة. ولكنَّنا لا ننسى أنَّ مالاً كثيرًا كان يُدفَع، للاويّين والفقراء، للقيام بنفقات الهيكل، وتأمين الإصلاحات فيه. قالوا: يحتجّ يسوع على هذا المناخ من التجارة. وقابل بعضُ الشرّاح ما يحصل اليوم بجانب القبر المقدَّس: هناك البيع والشراء وهناك أيضًا السخاء تجاه المحتاجين(8). نشير هنا إلى أنَّ الحكماء، في القرن الثاني، منعوا كلَّ تجارة بالأمور المقدَّسة: أمّا اللفائف فتكون لإكرام الله، لا للربح والاستغلال.

وركَّز شرّاح على عبادة الأمم (الوثنيَّة) الآتية للصلاة. فالهيكل يستقبل اليهود وغير اليهود، منذ سليمان (1مل 8: 41-43، وكذلك الغريب). وفي الهيكل الثاني استُقبل الأمم أيضًا. بل استند يوسيفس إلى وحدانيَّة الله لكي يبيِّن أنَّه لن يكون سوى هيكل واحد (أبيّون 2: 193). ولكن بالنظر إلى اعتبارات حول الطهارة، أُبعد الأممُ (شأنهم شأن الحيوانات) من الأروقة القريبة من الأمكنة المقدَّسة (أبيّون 1: 103). وهذا الاستبعاد يتواصل في الهيكل الإسكاتولوجيّ (زك 14: 21؛ المغارة الرابعة 174/3: 2-4). وكذلك النساء في فترات النجاسة (أبيّون 2: 104). فمثلُ هذا النشاط التجاريّ في الرواق الخارجيّ يمنع المؤمنين من تأدية عبادتهم. في هذا الإطار عينه، وإن لم يمنع التجّارُ الأممَ من الصلاة، إلاَّ أنَّها بنية تعبِّر عن إيديولوجيَّة انفصال تستبعد الأمم بشكل عامّ، وهذا ما رفضه يسوع(9). إذًا، يمكن أن يكون فصلُ الامم المصدر الأخير لمعارضة يسوع. فمرقس فهِمَ عمل يسوع بهذه الطريقة (مر 11: 7).(10)

3- دينونة الهيكل والحكم عليه

إنَّ ما فعله يسوع هنا، هو تحدٍّ للأرستوقراطيَّة الأورشليميَّة التي تُشرف على نظام الهيكل، في ارتباط مع نبوءة يسوع حول دمار الهيكل. ويسوع المرقسيّ حين قلب الموائد، أورد إر 7: 11 حول دمار الهيكل (مر 11: 17).

شكَّ بعض الشرّاح في أن يكون يسوع أنبأ بدمار الهيكل، ونسبوا هذا الكلام إلى مرقس في بناء لاهوتيّ. وإذ فعلوا هذا، أهملوا تقاليد عديدة مثل يو 2: 19 مع اتِّهام يسوع خلال المحاكمة بأنَّه تحدَّث عن تدمير الهيكل (مر 14: 58؛ أع 6: 14، و2 تس 2: 4، Matthew, p. 565-566, 574-576 . فهناك أشخاص غير يسوع تحدَّثوا عن دمار الهيكل (يوسيفس، الحرب 6: 300-309؛ وص موسى 6: 8-9). ويكون كلام يسوع في خطِّ الأنبياء الذين اعتادوا أن يهدِّدوا المدن الرافضة لله. في هذا الإطار، هدَّد المعلِّمون اليهود، في معرض امتداحهم للهيكل، أنَّ دينونته بدأت وأورشليم غارقة في الخطيئة (تلمود فلسطين، تعن 4: 5. كلام عن الزنى في المعنى المادّيّ وفي المعنى الرمزيّ).

فالذين تنبَّأوا ضدَّ الهيكل، فعلوا في معارضة للكهنوت الأرستوقراطيّ الذي يشرف عليه. رج تفسير حبقوق 9: 6-7؛ وص لاوي 15: 1؛ وص موسى 5: 4؛ 7: 8-9. وكذا نقول عن النصوص الجليانيَّة.(11)

بما أنَّ الرومان استعملوا الوظائف الدينيَّة العامَّة، بما فيها الكهنوت، كأدوات سياسيَّة، لا نتعجَّب إن كانوا مارسوا ضغوطًا لاختيار عظيم الكهنة في أورشليم، وهذا ما كان يغيظ المؤمنين المتشدِّدين (يوسيفس، العاديّات 18: 26، 95). وهكذا رأى بعضهم في فعلة يسوع رمزًا إلى طهارة طقسيَّة، في ردَّة فعل على مثل هذا النجاسة الخلقيَّة. وفي النهاية، صُوِّر يسوع هنا كتابع لقواعد الطهارة الفرّيسيَّة في استنتاج منطقيّ. وهذا ما يجعله في خطِّ حركة تجديد بيبليَّة (ملا 3: 1-4). أشار بعضُهم إلى نجاسة رؤساء الهيكل، ولكن الانجيل لا يتحدّث عن هذه النقطة. وبيَّن آخرون أن اهتمام يسوع يالطهارة يبدأ بالطقوس، وهكذا اعتقدوا أنَّ عمل يسوع رمزَ إلى أمرٍ دراماتيكيّ أكبر من تطهير الهيكل، رمز إلى دماره(12). والكلام عن التطهير لا يتنافى والنبوءة عن الدينونة. ففي نظر يسوع، هؤلاء الرؤساء ينجِّسون الهيكل، ولهذا حكم عليهم.

اعتبر ساندرس(13) أنَّ يسوع اعتقد بأنَّ الله يتدخَّل مباشرة ليقيم ملكوته، لهذا شرع يؤسِّس لهذا الملكوت، الذي فيه يكون الهيكل جديدًا أو طاهرًا ليمكن أن تتمَّ فيه شعائرُ العبادة. لا بأس في عرض ساندرس في كلام عن الهيكل الإسكاتولوجيّ سواء بناه الله أم البشر. هذا الأمل حرَّك الناس بشكل خاصّ بعد سنة 70ب.م. هناك نقود تعود إلى سنة 132 ب.م. خلال ثورة ابن الكوكب، وهي تبيِّن الأمل بإعادة بناء الهيكل بعد سنة 70ب.م. مدوَّنات 81-178 CARMON. ونصوص أخرى مثل 2با 4: 3؛ 32: 4. تلمود بابل، روش هاشنه 2: 9؛ شبت 1: 13؛ تلمود فلسطين بركوت 1: 5؛ تك ربا 65: 23؛ عد ربا 14: 8؛ 15: 10. ونحن لا ننسى الصلاة من أجل أورشليم، كما في صلاة الوقوف (ع م ي د ه)(14).

عن هذا الأمل، تحدَّثت مخطوطات قمران (المغارة الرابعة 174/3: 2؛ 509/4: 2-12؛ 511/ فتيتة 35؛ المغارة الحادية عشرة، عمود 30-45) ووثائق أخرى كثيرة مثل 1أخن 90: 28-29؛ طو 13: 10؛ 14: 5؛ سيب 3: 657-660، 702، 772-774. نشير إلى أنَّ 1أخن 91: 13 يشير إلى الهيكل الآتي. وتحدّثوا عن إعادة الآنية المقدَّسة(15)، وتابوت العهد (2مك 2: 4-7: 2؛ 2با 6: 7-9) والمنّ (2با 29: 8). كلُّ هذا يعني تجديد الهيكل في نهية الزمن. وكثير من معاصري يسوع شدَّدوا على الهيكل الجديد أو المجدَّد بسبب نجاسة الكهنوت: يُطهَّر ويحلُّ محلَّه هيكلٌ آخر.

مثل هذه المعلومة تؤيِّد التقليد الإلهيّ، ولكنَّها لا تعني أنَّ تفسير يوحنّا عن الهيكل ابتعد عن المدلول الذي أراده يسوع. ساعة تحدَّث يسوع عن دمار الهيكل، تحدَّث في إطار إسكاتولوجيّ، ولكنَّ التقليد لا يقول بوضوح إن كان هذا التجديد مادّيٌّا، بحيث تراه العين وتلمسه اليد. أمّا معاصرو يسوع، وإن نظروا إلى التجديد الإسكاتولوجيّ، فقد أضافوا إلى المعنى المادّيّ المعنى الروحيّ. انتظرنا هذا الموقف عند فيلون، فإذا هو بالأحرى في قمران، حيث يقوم الهيكلُ الحقيقيّ من أجل الجماعة (نج 8: 5، 8-9؛ 9: 6؛ وثيقة صادوق 3: 19أ؛ 2: 10، 13ب؛ المغارة الرابعة 511)(16). إن استعمال مز 118 في تهاليل العيد، يدلُّ على صدق الإيراد في التقليد الإزائيّ (مر 12: 10-11؛ رج 11: 9-10؛ 14: 26). ممّا يشير إلى أنَّ يسوع تطلَّع إلى الهيكل الجديد حيث يكون هو حجرَ الزاوية (حسب التقليد المسيحيّ الأوَّل، مر 12: 10؛ أع 4: 11؛ أف 2: 20؛ 1بط 2: 6-7؛ رج 1كو3: 10-11؛ رؤ 21: 14).

إذا كان الأمر هكذا، فتبّاعه العديدون فهموا حسنًا حين تحدّثوا عن الهيكل الروحيّ (1كو 3: 16؛ أف 2: 20-22؛ 1بط 2: 5؛ رج لو 19: 40-44؛ روم 9: 32-33). ثمَّ راعي هرماس، الرؤى 3: 2، 5-6؛ 3: 9 مع البرج الذي صار الهيكل في 1أخن 89: 49-50. أمّا AUNE, Prophecy فيعلن أنَّ يسوع تطلَّع إلى بقيَّة الجماعة الإسكاتولوجيَّة، كما في مخطوطات قمران. أمّا Dodd في , 611.p noitidar, ، فاعتقد أنَّ يو 2: 21 يقابل كلام بولس الرسول عن الجسم (روم 12: 4-6؛ 1كو 12: 12؛ رج الرسائل الإقليميَّة 37: 15) والكنيسة التي هي هيكل. غير أنَّ استعارة الجسم تنطبق أيضًا على الدولة كما على جماعات أخرى. ممّا يعني أنَّها لا ترتبط بالضرورة، بالهيكل. فهذا النصّ يشير، على ما يبدو، إلى جسد يسوع، وهو مدلول عرفتْه الكنيسةُ فيما بعد في توسُّع لصورة الهيكل في 14: 23.

ولكن قبل أن يكون يسوع حجر الزاوية، عليه أن يُرذَل من قبل البنّائين، أي رؤساء الهيكل (مر 12: 10-12). فمعارضة الهيكل تولِّد العداوة في أكثر من تيّار يهوديّ (يوسيفس، العاديّات 18: 262؛ فيلون، الوفادة 159-192، 194-، 212-215؛ رسالة أرستيس 92-99) وتصل بالإنسان إلى الاستشهاد والموت بيد السلطات.(17)

4- ظلال الموت والقيامة (2: 17-22)

أضاف يوحنّا بين قوسين التفسير اللاهوتيّ إلى الحدث (2: 17-22) مع تضمين: »تذكَّرَ« التلاميذُ الكتبَ، وتعليمَ يسوع الأخير حول الكتب (2: 17، 22). وإذ كان يسوع في طريقه إلى الآب في الموت والقيامة، أعدَّ الطريق لتلاميذه لكي ينضمُّوا إليه (14: 3) بحيث صار موتُه وقيامتُه الأساسَ للهيكل الجديد في اللاهوت اليوحنّاويّ. فلغة »البيت« و»الهيكل« في الإنجيل الرابع، تدعونا إلى مقابلة بين الهيكل القديم والهيكل الجديد. فهيكل هيرودس كان موقع حضور يسوع (10: 23) والتعليم (7: 14، 28؛ 8: 20؛ 18: 20) والشفاء (5: 14) والرذل (8: 59؛ 11: 56). غير أنَّ الابن يبقى في »بيت« الآب (8: 35). ويُعدُّ »غرَفًا« لتابعيه ليقيموا معه هناك (14: 2، 23). في الجوهر، أراد يسوع أن يبيِّن أنَّه الهيكل الجديد (2: 14-26) وموضع حضور الله مع شعبه (رؤ 21: 22).

في التقليد البيبليّ يشرح النبيّ فعلة مميَّزة قام بها ويقدِّم التعليم. ذاك ما فعله يسوع: ردَّ على نشاطه في الهيكل وأعلن كلامًا تضمَّن الكتب المقدَّسة Borg, Conflict, p. 173. اختلف يوحنّا عن مرقس، فما أورد أش 56: 7؛ إر 7: 1. فاقترح بعضهم بأنَّه عاد إلى زك 14: 21. ولكنَّ الرباط بين النصّين لا يُسند تلميحًا مرتكزًا على الألفاظ. بعد ذلك، شدَّد يو 2: 16 على عداوة ليسوع تختلف عمّا نقرأ في خبر مرقس. فالذين دنَّسوا هنا بيت الآب، فعلوا مع البضاعة التي حملوا. أمّا في مرقس، فدنَّسوا البيت حين جعلوه ملجأ للخطيئة، لا شهادة للأمم. ومع ذلك، ردَّد يوحنّا أساس التقليد الذي نجده في الخطِّ المرقسيّ: الذين يدبِّرون الهيكل ينجِّسونه، لهذا عارض يسوع سلطتهم. ففي الإنجيل الرابع، يسوع نفسه يكون الهيكل الجديد (2: 19-21)، وهذا ما يقابل تقليد مرقس حول حجر الزاوية وما فيه من ثبات.(18)

شدَّد التقليد اليهوديّ على الغيرة لشريعة الله ولهيكل الله، وهي غيرة يمكن أن نعبِّر عنها بالعنف، كما فعل فنحاس (عد 25: 11). »فالغيور« يستطيع أن يقتل شخصًا أتى ليسرق آنية الهيكل. في هذا الخطِّ عاش المسيحيّون الأوَّلون فشاركوا غيرة فنحاس، قبل أن ينتظم »الغيورون« في ثورة ضدَّ الرومان. فبعد سنة 70، كان اختلاف بين »غيرة« يسوع، وغيرة هؤلاء الثائرين. ثم تحوَّلت هذه الغيرة إلى وطنيَّة متطرِّفة (1مك 2: 24-27: يوسيفس، العاديّات 12: 2؛ فيلون، الشرائع 2: 253؛ 3: 126؛ خر ربا 1: 29؛ ق فل 3: 6). فالغيرة من أجل الله لا تنحصر في الثورة، بل يمكن أن تكون اهتمامًا بشريعة الله (مز 119: 139؛ 1مك 2: 50؛ 2مك 4: 2؛ نج 9: 23؛ ق غل 1: 14؛ أع 22: 3). في فيلون (الوفادة 119) نتعرَّف إلى غيرة غايوس تجاه الذين لا شريعة لهم. أمّا يسوع فدلَّ على غيرته من أجل كرامة أبيه، عبر الإنجيل (5: 43؛ 8: 29، 49؛ 17: 4).

غيرة المرتِّل من أجل بيت الله (مز 69: 9. في السبعينيَّة 68: 10) تقوده إلى الألم، فتقدِّم نموذجًا لغيرة يسوع. كما هذه الغيرة »أشعلت« المرتِّل، كذلك أشعلت يسوعَ الذي قدَّم حياته للآخرين في موته (6: 51-53). ومسيحيّو يوحنّا يتذكَّرون أنَّ ربَّهم عارض، لا الإرثَ اليهوديّ عينه، بل أولئك الذين اعتبرهم الحارسين اللاشرعيّين. عبر الإنجيل، يسوع هو غيور على مشيئة أبيه، وفي النهاية يموت إطاعة لهذه المشيئة (10: 17-18؛ 14: 31). هذا يتضمَّن في التقليد التاريخيّ (الذي نجده أيضًا عند الإزائيّين) أنَّ يسوع لم ينبئ فقط بموته، بل حرَّك هذا الموت طوعًا. ما من أحد يستطيع أن يكون ضدَّ الهيكل كما فعل يسوع، بحيث لا ينتظر معاملة بالمثل قاسية من لدن السلطات. فسلطات الهيكل التي كانت مواقفُها معروفة في الحفاظ على السلام بين الرومان والشعب، يحقُّ لها أن تعاقب من يتجاوز قداسة الهيكل بالموت، في هذه الحالة فقط. أمّا يسوع، فحين قلب الموائد، ما نجَّس الرواق الداخليّ، بل عارض سلطة الرؤساء فوجد اتِّهامًا لتنفيذ الحكم فيه.

بدت السلطات جاهلة لآية يسوع التي عرفها التلاميذ (2: 1-11) فطلبوا الآن آية (2: 18. ثمَّ 6: 30). في منطق معاصري يسوع، تصرفٌ بسلطة الله يستطيع أن يبيِّن ذلك بشكل فائق الطبيعة. أخذ يوحنّا طلب الرؤساء آيةً من تقليد يسوع الحقيقيّ، كما نقرأ في مر 8: 11. أمّا يسوع فطبَّقه على القيامة، وذلك باكرًا، بحيث ورد في المعين (لو 11: 30؛ مت 16: 1-4). مقابل هذا، فالذين لا قوَّة لهم (32: 9) والمنفتحون بين جماعة المقتدرين (3: 2) عرفوا منذ الآن آيات تدلُّ على يسوع. هناك بعض الأشخاص يحتاجون إلى آية صغيرة لكي يؤمنوا (1: 48-49؛ 4: 18-19، 29) مقابل اليهود الذين يطلبون آيات خاصَّة لكي يؤمنوا.

حين دعاهم يسوع لكي »يدمِّروا« هيكل جسده (2: 19)، أي ليقتلوه (8: 28)، وقف في خطِّ التقليد النبويّ مع أمر هاكم ironique (مت 23: 32). وبدون أنوار خاصَّة، فُرض على سامعيه أن يفسِّروا هذه الهكمة ironie بشكل خاطئ. فخصوم يسوع لا يعرفون أن يفسِّروا أقوال يسوع (مثل نيقوديمس والولادة الجديدة) فيقدِّم لهم الإنجيلُ التفسيرَ الموحى. فأقوال يسوع يمكن أن تُفهَم في عودة إلى الهيكل الحجريّ كما فهمه »الشهودُ الكذبة« في التقليد المرقسيّ (مر 15: 29؛ ر. أع 6: 14). كما نستطيع أن نتكلَّم عن بناء الهيكل الثاني وكأنَّه يقوم εγειρειν في سيب 3: 290؛ رج طو 13: 16 مع كلام عن الهيكل الإسكاتولوجيّ الذي يمكن أن يُبنى οικοδομηθησεται. إنَّ فعل »أقام«εγειρω في يوحنّا يُفهَم بطريقتين: المحاورون يبقون في الخارج ولا يصلون إلى مدلوله. أمّا الذين في الداخل، فيفقهون معناه.

»في ثلاثة أيّام« تقابل »في اليوم الثالث«. فقسمٌ من النهار يُعتَبر نهارًا كاملاً(19). في بعض التقاليد اللاأكيدة، تبقى النفسُ قرب الجسد ثلاثة أيّام بعد الموت (تك ربا 100: 7؛ أوريبيد، هيكوبا 32، لأنَّه لم يكن مدفن. ثمَّ أوريبيد Alceste، 5411-6411)، من أجل التطهير في اليوم الثالث. هناك طقس جنائزيّ في اليوم الثالث كما قال Aristophane في Lysistrata 613. نستطيع أن نفكِّر في القيامة أو العودة إلى الحياة (هو 6: 2؛ يون 1: 17). غير أنَّ لليوم الثالث المعاني العديدة (مثلاً، فترة قصيرة، يوسيفس، السيرة 205، 229-268). ولكن بالنسبة إلى قرّاء يوحنّا لم يكن شكٌّ في مفهومهم: ما يجهله المعارضون يعرفه المؤمنون، وهم يوجِّهون أنظارهم إلى القيامة.

إنَّ كلام يسوع حول إعادة بناء الهيكل، يمكن أن يلمِّح إلى الرجاء المسيحانيّ. غير أنَّ هذا التلميح يبقى نادرًا. ولاسيّما أن هذا البقاء يرتبط بالله (يوب 1: 17؛ فسقتا ربا 1: 2 وص موسى 2: 4). سمع خصوم يسوع قوله هذا (5: 8؛ 8: 58-59؛ 10: 33)، فاعتبروه تجديفًا وإساءة إلى شريعتهم. ولكنَّهم في هذه النقطة لم يفهموه (2: 20؛ رج 3: 4). فيسوع نفسه هو أساس الهيكل الجديد (7: 37-39) وموضع العبادة (4: 23-24) والوحي (1: 51)(20). وفي الهكمة التي تميِّز هذا الإنجيل، اللافهم يبيِّن بعض الصحيح، وهم إذ يقتلون يسوع، يُدعَون إلى تدمير هيكل هيرودس (11: 48).

5- إيمان لا يمكن الوثوق به (2: 23-25)

هذا المقطع القصير يشكل انتقالة تربط أولئك الذين تجاوبوا مع آيات يسوع في 2: 1-22، مع إيمان نيقوديمس الناقص (3: 1-10). في 2: 1-11، تجاوب التلاميذ مع آية يسوع فآمنوا. أمّا 2: 23-24 فأوضحت أنَّ الإيمان الذي يطلب آية يبقى ناقصًا إن لم يكن تقدُّمٌ نحو التلمذة. حرفيٌّا: يسوع لم يؤمن (= لم يصدِّق) أولئك الذين آمنوا به. لقد تأسَّس جواب يسوع على معرفته بطباع الناس (2: 24-25)، التي تؤثِّر على تصرُّفاتهم (3: 20-21). إذ تحدَّث يوحنّا عن معرفة يسوع للطبع البشريّ، أكدَّ مرَّة أخرى ألوهيَّته.

ممّا لا شكَّ فيه أنَّ الله يعرف كلَّ شيء، حتّى قلوب البشر. وفي العصر القديم، لم يكن الله العارفَ الوحيد. فقد كان كلام عن السحرة بمعرفةٍ تأتيهم من روح يقودهم، أو عن بعض الفلاسفة الذين يلمّون بعلم الفراسة. والأنبياء عرفوا بعض ما يفوق الطبيعة، بما فيها تفكير الناس (1مل 14: 5؛ 2مل 4: 27؛ 5: 26؛ 6: 12؛ يوسف وأسنات 6: 6؛ 23: 8؛ تر نيوفيتي حول تك 41: 45 ومعرفة يوسف). لقد تصرَّف يسوع بحسب التقليد الإزائيّ (مر 2: 8؛ 5: 30). وفي بعض التقاليد أيضًا، ينفِّذ المسيح الدينونة في نهاية الزمن بحسب نظرة علويَّة. والتنظير اليهوديّ المتأخِّر تحدَّث عن صبر الله وطول أناته.

ولكن ما من مائت يعرف كلَّ شيء حول الخليقة والجنس البشريّ، كما قالت 1يو 3: 20 (الله يعلم كلَّ شيء). وأقرَّ العالم اليهوديّ والأمميّ أنَّ الله وحده يعرف كلَّ شيء(21)، كما يعرف أفكار البشر وأعمالهم(22). فالله الذي يعرف القلب ويبحث عنه (مز 7: 9؛ إر 17: 10)، هو لقب قريب من البشر (تك ربا 67: 8؛ أعمال بولس 3: 24) والشعب اليهوديّ دعا الله قبل القرن الأوَّل المسيحيّ επισκοπος: ذاك الذي ينظر من فوق(23)، يُشرف (من هنا الأسقف) ولا سيَّما في ما يتعلَّق بقلب الإنسان، فالله الذي يرَى يبقى ذاك الذي لا يُرى. وهذا ما يتيح ليوحنّا أن يؤكِّد أيضًا الوهيّة يسوع. فمعرفة يسوع للقلب البشريّ، تظهر منذ الآن في الخبر (11:42، 48) وتتواصل في ما يورده يسوع من كلام أمام اليهود (5:42؛ 6:15، 16، 64؛ 16:19، 30).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM