سفر هوشع

سفر هوشع
1- المقدمة
سفر هوشع هو حديث عن محبة الله لشعبه من خلال حياة نبيه. نحن لا نعرف عن هوشع الا ما تُعلِمنا به هذه النبوءة: تزوج ورُزق ثلاثة أولاد اعطاهم اسماء تتوافق والحالة الدينية والسياسية التي يعيش فيها.
سفر هوشع هو اول الاسفار الاثني عشر في النص العبراني كما في الترجمات اليونانية واللاتينية والسريانية. ولكننا نشير الى ان البسيطة السريانية جعلت اسفار الانبياء الاثني عشر بعد اشعيا وقبل ارميا. حُسب هوشع أقدم الانبياء الاثني عشر، فجُعل في المركز الأول قبل عاموس الذي يسبقه ببضع سنوات. ولكن يبقى ان هوشع هو من اقدم الانبياء الكتَّاب اي الذين ارتبط اسمهم بكتاب خاص.
2- من هو هوشع؟
معنى اسمه: الله يخلص (عد 13: 16؛ 2 مل 15: 30). كان ابن بئيري فانتمى إلى مملكة الشمال التي عرف أرضَها وتاريخها والوضع السياسي والديني والاخلاقي فيها. كان من محيط اجتماعي ارفع من محيط عاموس. كان من ملاّكي الارض الذين ينعمون ببعض البحبوحة. قال بعضهم: كان كاهنا. وقال البعض الآخر: ارتبط بجماعة الانبياء. ولكننا لا نقدر أن نؤكد هذه الأمور التي لا يشير إليها في كتابه. كل ما نكتشفه هو نفسيّة رقيقة وعميقة تتّسم بالعنف والحنان.
هناك حدث يسيطر في حياته: زواجه. ولكن هذا الزواج كان موضوع جدال. قال بعضهم: نحن امام رؤية رآها النبي في خياله. وقال البعض الآخر: نحن امام طريقة مجازية، لا امام حقيقة عاشها النبي. وقال كثير من الشراح: إن الفصل الثالث هو ترداد للفصل الأول، وهو يروي في صيغة الغائب خبراً رواه الفصل الاول في صيغة المتكلم. واعتبر آخرون ايضأ أن المرأة التي يتحدث عنها ف 3 غير جومر التي يتحدث عنها ف 1.
اما نحن فنقول اولاً: نحن أمام زواج حقيقي عقده هوشع مع امرأة عاشت في ظل المعابد الكنعانية ومارست البغاء المكرس الذي يتحد فيه رجل بامرأة مكرسة للاله بعل فيرمز اتحادهما الى اتحاد السماء بالارض ومَنْح الارض الخصب والحياة. اذا كان عمل هوشع يمثل امام معاصريه طبيعة العلاقات بين الله وشعبه، وجب أن يكون هذا العمل حقيقة ملموسة ومنظورة من اجل اقناع شعبه. هنا يتكلم الشراح عن عمل نبوي. فكما ان اشعيا مشى عاريا حافيا ليدل على ما سيصيب مصر (إش 20: 1- 6) وكما امتنع ارميا (16: 1 ي) عن الزواج ليكون آية لشعبه، كذلك تزوج هوشع هذه المرأة الزانية ليدل على تصرف الله مع بني اسرائيل. اجل، لقد حمل هوشع في حياته، وبطريقة رمزية، علاقات الرب بشعبه الخائن. جعل هوشع نفسه مكان الرب وجعل عواطفه تعبّر عن عواطف الرب، وألمَه رمزاً إلى ألم الرب.
ونقول ثانياً إن ف 3 لا يتكلم عن زواج غير الذي نقرأه في ف 1. لسنا امام زواج جديد، بل امام اختبار هوشع مع امرأته اختباراً يعمّق حبّه لها. اما هذا هو حب الله لشعبه رغم خياناته المتكررة؟ عرف هوشع ان امرأته زانية ولا دواء لها. وعرف ان عمله عمل جهل إن تزوج بها، ومع ذلك فعل فتزوجها. ولما تركته استعادها بعد ان دفع المال للمعبد الذي تكرست فيه ليستردها. عاملها بالحب لا بالغضب، وفرض عليها العزلة علَّها تفكر وتتوب. وهكذا يفعل الله مع شعبه: يجرده من كل الخيرات حتى من العلاقة مع ربه. من يدري؟ قد يعود شعب اسرائيل الى نفسه وبالتالي الى ربه. وتعلق هوشع بجومر في خيانتها لأنها خائنة زانية. وتعلق الرب بشعبه في خطيئته ورغم خطيئته التي لا يستطيع ان يخرج منها وحده. ولكن حب الله يخرج الإنسان من خطيئته.
هذه هي جرأة هوشع. عاش مغامرة فريدة في حياته الزوجية، عاش اختباراً افهم فيه الانسان ما هو قلب الله. وسيعبر القديس بولس عن هذه الحقيقية حين يقول: "ولما كنا ضعفاء أمام الخطيئة، مات المسيح من اجل الخاطئين في الوقت الذي حدَّده الله. وقلّما يموت أحد من أجل إنسان بار، أما من أجل إنسان صالح، فربما جرؤ أحد أن يموت. ولكن الله برهن عن محبته لنا بأن المسيح مات من اجلنا ونحن بعد خاطئون" (روم 5: 6- 8).
3- الاطار الذي عاش فيه هوشع
عاش هوشع وتكلم في الربع الثالث من القرن الثامن، في مملكة الشمال، أي اسرائيل التي يسميها يعقوب (12: 3) وافرائيم (4: 17). مارس رسالته النبوية في السنوات الاخيرة ليربعام الثاني (783-743) وفي ايام زكريا (743) وشلوم (743) ومناحيم (743-738) وفقحيا (738-737) و فاقح (737-732) وهوشع (732-724). هل شاهد هوشع دمار السامرة سنة 721 ق م؟ يبدو أنه مات قبل ذالك الوقت بعد ان مارس نشاطه النبوي بين السنوات 750- 730.
كان ذلك العصرُ عصرَ انحطاط. فبعد سنوات من الازدهار عرفها عهدُ يربعام الثاني، خلفه ابنه زكريا ولكنه مات قتلاً بعد حُكمٍ دام ستة اشهر. ولكن شلّوم الذي اغتصب السلطة حكم شهراً واحداً ثم مات بدوره مقتولاً. وملك مناحيم بضعة سنوات وخلفه ابنه فقحيا الذي قُتل بعد ان حكم سنتين. ولكن فاقح الذي اغتصب السلطة حكم بضعة سنوات ثم قتل بدوره على يد هوشع آخر ملوك مملكة اسرائيل.
لا يذكر سفر هوشع الا يربعام ويغفل ذكر سائر ملوك اسرائيل. فهو لذلك يحكم عليهم باسم الرب. قال: "نصبّوا ملوكاً ولم يستشيروني" (8: 4) هؤلاء الملوك اغتصبوا السلطة فلم يستحقوا ان ينتقل اسمهم إلى الأجيال اللاحقة. ويذكر هوشع اسماء ملوك يهوذا وآخرهم حزقيا الذي عاش بعد دمار السامرة. كا انه يشير الى الاضطرابات التي حدثت بعد موت يربعام الثاني: يخبئون شرهم ومؤامرتهم وهم. يُسلّون الملك والرؤساء. كلهم يمارسون الزنى (اي الخيانة في السياسة). انهم كتنور يحميّه الخباز ولا يبتعد عنه منذ عجن الدقيق الى اخماره. فالذين يديرون المؤامرة يشتعلون كالتنور. ترقد نارهم في الليل وفي الصباح تتأجج كنار ملتهبة. كلهم مشتعلون كالتنور. يزيلون رؤساءهم ويتساقط ملوكهم الواحد بعد الآخر وليس من يصرخ، ليَّ (7: 3- 7).
هذه هي الحالة الداخلية، اما الحالة الخارجية فليست افضل منها. فأشوريا تتهيأ لتصير أكبر قوة في الشرق. ولقد بدأ تغلت فلاس الثالث وشلمنصر الخامس وسرجون الثاني حملاتهم على غرب بلاد الرافدين، على المالك الارامية، على مدن فينيقيا، على مملكة اسرائيل، وعلى مدن الفلسطيين. ولم تسلم مملكة يهوذا من هذا المد الاشوري الذي يحدثنا عنه اشعيا النبي. أما مصر، القوة الاخرى المسيطرة في الشرق، فقد بدأت تضعف وما زالت تثير القلاقل حيث تسيطر أشوريا. ويبين لنا هوشع كيف تنتقل ممكلة افرائيم (او اسرائيل) بين الجبارين (7: 11) قبل أن تصل إلى النهاية المأساوية التي لا تُخفى عن نظر النبي الثاقب. فالمد الاشوري لن يتأخر: سيقمع كل مقاومة ويأخذ إلى الاسر نخبة السكان ليخضع البلاد (8: 8: التهم اسرائيل. صار بين الامم كاناء لا رغبة فيه). اما الذين افلتوا من قبضة اشوريا فالتجأوا الى مصر (9: 6).
لا ينتقد النبي فقط السياسة الخارجية والسياسة الداخلية ويحكم عليهما باسم الرب، بل هو يشجب الفساد الأخلاقي العميق (4: 1- 2؛ 6: 7- 10؛ 7: 1) وغياب كل عدالة اجتماعية وضياع كل مسؤولية لدى الرؤساء. ويتوقف بالاخص على الكفر الديني الذى يعتبره أصل كل فساد وسبب كل شقاء. هناك مساومات في الأمور الدينية، فأين متطلبات الرب المطلقة وأين نقاوة الايمان. فالله الذي أخرج شعبه من مصر لا يرضى أن يكون له شريك في أرضه. تلك كانت الحالة في زمن ايليا النبي، وتلك ستكون في زمن هوشع، وهي حالة من الاغراء المخيف. فآلهة كنعان لا تحل محل الرب، ولكنها تقف بقرب الرب لانها مختصة بحياة الزراعة. يهوه هو اله الصحراء، أما بعل فهو إله قوى الطبيعة يعطي المطر والخصب للارض. لم يترك بنو اسرائيل الرب ولكنهم طلبوا رضى آلهة كنعان. هذا ما سماه ايليا: تعرجون بين الجانبين (1 مل 18: 21) اي تميلون مرة الى الرب ومرة إلى بعل. اما هوشع فسماه الزنى، وشبهه بخيانة المرأة لزوجها. كما خانت جومر زوجها وعادت الى ممارساتها القديمة قرب معابد الكنعانيين، هكذا فعل بنو اسرائيل فعادوا الى آلهة تركوها في زمن يشوع (يش 24: 23) وراحوا يطلبون البركة من صنم من الخشب ويشاركون في الولائم المكرسة على رؤوس الجبال (4: 12- 13).
4- تصميم سفر هوشع
نجد ان سفر هوشع مؤلف بطريقة ينتهي فيها بوعد عجيب، فيعود أحبّاء الله ويسكنون في ظله ويزرعون الحنطة ويزهرون كالكرمة ويشتهرون كأعظم خمور لبنان (14: 8). ولكنه ليس من السهل أن نجد تصميماً لمجموعة من الأقوال تلفَّظ بها النبي في أوقات مختلفة نستطيع ان نحدد بعضها. فالفصول الثلاثة الاولى تشير إلى اواخر ايام يربعام الثاني (1: 4 تشير الى ياهو مؤسس السلالة). والفصول 4-14 تشير الى احداث متنوعة. فالقسم الثاني من ف 5 يلمّح إلى الحرب الارامية الافرائمية التي تدخلت فيها اشور من أجل يهوذا، فاستفاد يهوذا ليتوسع على حساب مملكة اسرائيل (5: 10: رؤساء يهوذا يغيّرون الحدود). ونهاية الكتاب (13: 9- 14- 1) تبيّن لنا ان دمار السامرة صار قريباً.
ومع ذلك نقدم تصميماً موزعاً على ثلاثة اقسام. فبعد العنوان (1: 1) نتعرف الى زواج هويثع ومعناه الرمزي (ف 1- 3). تزوج هوشع وأنجب اولاداً أعطاهم إسماً رمزياً، ولكّنه ما عتّم ان تطلّع الى المستقبل الزاهر (3: 1- 3)، وكما خانت جومر رجلها، هكذا خان الشعبُ ربه، ولكن الرب لم يتخلَّ عن شعبه. وعاد هوشع إلى امرأته ففرض عليها وقتاً من الاختبار قبل أن يعود اليها.
القسم الثاني (4: 1-14: 1) يحدّثنا عن جرائم مملكة اسرائيل وعن العقاب الذي نالته. هنا تتوالى أقوال عن الفساد العام، عن الكهنة، عن عبادات مملكة اسرائيل التي صارت كبقرة جموحة. فالكهنة والعظماء والملِك يقودون الشعب إلى هلاكه: حرب بين الاخوة، تحالف مع الغرباء، لهذا ترك الرب شعبه (5: 15). وإن عاد الشعب، فعودته عابرة وجرائمه الماضية والحاضرة كثيرة. فسيعاقب المؤامرات في الداخل، والخراب من الخارج. ويشجب النبي العبادة الخارجية (8: 11- 13) والبزخ في البناء، ويُهدِّد بالمنفى. حينئذ حَسب الشعبُ النبي مجنوناً، ورجلاً قد أضاع عقله (9: 7) فاضطهدوه. ويذكرهم النبي بعقاب بعل فغور، وعقاب الجلجال، ويهدّد ويدعو الى التوبة. سينتقم الرب ولكن الحب سيتغلب ويعود الشعب من النفى (11: 10- 11). إلا ان فساد مملكة اسرائيل يتعدّى كل قياس لذلك يعود الرب ويهدد: سيعاقِب عبَّاد الاوثان وناكري جميله وسينهي الملكية ويهيء الخراب الذي لا مفر منه.
وفي القسم الثالث (14: 2- 10) نقرأ عن توبة مملكة اسرائيل فيعفو الله عنها. ستكون التوبة صادقة ولهذا يقول الرب: سأشفي اسرائيل من خيانته وأحِبُه بسخاء. أكون له كالندى فيزهر كالسوسن ويمد عروقه كاشجار لبنان (14: 5- 6).
5- تعليم سفر هوشع
الموضوع الاساسي في تعليم هوشع هو حب الرب الذي يجهله شعبه. لقد اختار الرب له مملكة اسرائيل زوجة كما يفعل الرجل الغني والسخي، وغمَرها بهداياه. أما هي، فبعد أن عاشت فترة في الامانة الزوجية، أنكرت حبه لها. ويصور هوشع زمن الامانة كنشيد الحب، فيشير بذلك إلى حياة بني اسرائيل مع الرب في البرية. ولكن شعب اسرائيل ترك ربه منذ بعل فغور (9: 10) وقَبْل الدخول الى أرض الميعاد. حقاً، ان تاريخ شعب اسرائيل هو تاريخ خياناته.
وما زالت هذه الخيانات ماثلة امام ناظري النبي. فالملكية خاطئة من اساسها، لأنها وُلدت يوم اراد الشعبُ ان يكون له ملكُ غير الله، وهي خاطئة في انتقالها من شخص إلى آخر، وعاجزة عن أن تقوم برسالتها التي هي إقامة النظام والعدالة. لجأ المك الى الدبلوماسية وتحالف مع الامم الغريبة ونظَّم جيشاً، فصار شعب اسرائيل كسائر الشعوب: استند إلى الوسائل البشرية ولم يعتمد على الرب المخلص الوحيد.
وسيكون النبي قاسياً على الكهنة فيوبخهم على جشعهم الذي يجعلهم يتمنون أن تكثر الخطايا لتكثر الذبائح (4: 8)، وعلى نصائحهم التي تدعو ممثليه ليمارسوا السلب والنهب على الطرقات. انهم جهّال، انهم يشاركون قي عبادة البعل، انهم ينسون واجبهم الاساسي الذي هو تعليم الشعب. وهكذا يُبقون الشعبَ في جهله ويُعطونه مثالاً سيئاً فلا يخرجونه من ضلاله.
ويظهر هذا الضلال في العالم الأخلاقي حيث العصيان للشريعة يجرّ إلى الشواذات والشرور: الكذب، الغش في الاعمال، مضايقة الضعفاء، السلب والنهب والقتل وسائر اعمال العنف. ويظهر هذا الضلال ايضاً في الاطار الديني الذي يشدّد عليه هوشع بصورة خاصة. فالرب هو موضوع عبادة وثنية ولا سيما في بيت ايل حيث يعبدونه بشكل ثور صبَّه يربعام الثاني وسماه النبي ساخراً عجل السامرة" (8: 5). وعلى التلال تُرى المعابد المشرفة حيث يُعبد بعل وعشتاروت مع الرب في ممارسات إباحية. تُبنى الانصابُ والمذابح، وتُصنع الاصنام من المعدن أو من الخشب.
ولكن ما هو أخطر من كل هذا هو التلفيق الذي لا يتوافق ومتطلبات ديانة يهوه. وهذا يدل على الاستعدادات الداخلية لشعب اسرائيل. نفسه مريضة في عمق اعماقها. هو يظن أنه يعرف الله ويخدمه لأنه يلاحقه بالاعياد والذبائح. وهو يظن أنه يقدر ان يحمع في عبادة واحدة إله التقليد الموسوي وآلهة الحقول التي جاءته من ارض كنعان. وهو يعتقد أنه يقدر ان يسمي نفسه شعب الله وفي الوقت نفسه يعصي الله ويتعدى شرائعه. ولكن يهوه إله غيور لا يقبل ان يقاسمه احد مكانته في قلوب المؤمنين، ولا يرضى بعبادة خارجية مهما بذخ فيها الانسان. ما يريده الرب هو قلب الانسان كله، وما يطلبه هو أمانة قلبية ومحبة لعهد قطعه الرب مع شعبه، وبالتالي محبة نحو القريب. فخارجاً عن هذا الموقف الذي يسميه هوشع "معرفة الله" او "البر"، (10: 12) فليس من ديانة حقيقية. قال: أريد رحمة لا ذبيحة، وأفضِّل معرفة الله على الذبائح المتعددة (6: 6).
ولكن شعب اسرائيل رفض أن يعطي قلبه، فما عاد إلى ربه وما أراد ان يعود. فحين تحل به المصيبة ويلتفت الى الذي يقدر وحده أن يعيد اليه الحياة (6: 2)، تكون عودته سطحية ونفعية. هو يبكي على خيرات خسرها، لا على خطاياه وخياناته. وان عاد عن ضلاله، فلا صدق في عودته وقلبه مقسَّم (10: 2). ومع انه يعلن انه صادق فقد نقض العهد. لقد خان وزنى.
بعد هذا كيف يتجنب شعب اسرائيل العقاب؟ عليه أن يحمل وزر خطاياه. ونُحِسُّ من خلال اقوال النبي غضبَ الربُ يرعد ويدَه تثقل على الشعب المتمرد. وبما أن كل هذه التنبيهات وهذه التهديدات لم تنفع، فسيحل بالشعب عقاب يكون عبرة لمن اعتبر، غير أن الله لا ينوي ان يدمّر شعبه. لا شك في أنه الاله العادل، ولكنه ايضاً الزوج الذي يحب زوجته الخائنة والذي لا يقدر أن يتخذ قراراً ضدها. وهو حين يعاقب يتوخّى خلاصة من يعاقب. وما نقرأه في ف 2 يفهمنا عمق قلب الله. سأغويها وأقودها إلى الصحراء وأخاطب قلبها... فتدعوني في ذلك الوقت زوجي. ما اضاع عقل شعب اسرائيل هو كثرة خيرات الأرض، هو الازدهار المادي والنجاح السياسي. فإذا أراد الرب أن يعيد شعبه من ضياعه، جرَّده من كل هذا وأذله وجعله في دنيا الشقاء. حينئذ يتذكر الوقت الذي كان فيه اميناً لربه وسعيداً، فيطلب الرب من جديد ويعود إليه.
هذا ما ترمز اليه صورة الرجوع إلى البرية. حسب بعض الشراح أن هوشع كان نبياً من البدو، لهذا عاد الى الصور الصحراوية. ولكن الأمر هو غير ذلك. فهوشع يحب أرض اسرائيل التي يعيش فيها ومنها يستلهم افكاره. وما يشجبه ليس مدنية الحضر واقتصادَهم، بل التأثير السيّء الذي تتركه المدنية على بني اسرائيل. فبعد أن يزول هذا التأثير لا يعود غنى الارض مُضرّاً. وحين يصالح الرب شعبَه يعطيه من جديد محاصيلَ الارض. اذاً، ليست الصحراء مكاناً، انها حالة نفسية بها يحرم الله شعبه من كل خيرات الارض ليرده اليه.
فهدف الشقاء أن يرد الزوجة الخائنة الى الزوج الذي ما زال يجبها. ويتطلع هوشع إلى أيام المستقبل الحلوة التي فيها يتقبل الرب شعبه التائب بالحب ذاته الذي به قَبِله يوم اختاره. ويبدأ كل شيء من جديد وكأن شيئاً لم يحدث، فتكون خطبة جديدة "في البر والحق والأمانة والرحمة والصدق" (2: 21 ي). ويجيب الشعب الى نداء الرب كما في ايام صباه (2: 17) فينعم بكل الخيرات في عالم تسوده السعادة والسلام.
6- تأثير نبوءة هوشع
ترك تعليم هوشع آثاراً عميقة في العهد القديم. وعلى خطاه شدد الانبياء على ضرورة الديانة الباطنية، على ديانة القلب لا ديانة الشفاه وحسب، على الديانة التي تلزم الانسان كله وتعبر عن نفسها بمحبة الله والقريب. وابتكر هوشع فكرة الزواج ليدل على علاقات الرب بشعبه، فردد الانبياء هذه الفكرة وتوسعوا فيها. فكلم ارميا اورشليم بلسان الرب وقال لها: تذكرت مودتك لما كنت صبية ومحبتك لما كنت خطيبة: سر تِ ورائي في البرية، في ارضٍ لا زرع بها (ار 2: 2؛ رخ 3: 6- 13؛ 31: 22). وتويع حزقيال في هذه الصورة الزواجية في فصلين كاملين. في الاول (حز 16: 1 ي) روى قصة شعب الله بلسان رجل أشفق على فتاة صغيرة فربّاها وزيّنها وتزوّجها، ولكنها أخذت أدوات زينتها فزنت بها وخانت ولي نعمتها. وفي الثاني (حز 23: 1 ي) قابل السامرة واورشليم بامرأتين خانتا عهدها مع الرب. ووجّه اشعيا كلامه الى مدينة اورشليم كأنها شخص حي (اش 54: 8).
ويورد العهد الجديد مقاطع هوشع، فيذكرنا يسوع بأجل اقواله: اريد رحمة لا ذبيحة (مت 9: 13؛ لو 12: 7). ويفسر القديس متى (2: 15) تفسيراً رمزيا ما ورد في هوشع (11: 1: من مصر دعوت ابني) فيطبقه على يسوع الذي سيترك مصر ليعود الى الناصرة. وجعل القديس لوقا (23: 30) على شفتي يسوع التهديد الذي نقرأه في هو 10: 8: يقال للجبال، اسقطي علينا، وللتلال ادفنينا. كان الني قد قال قولاً غيرَ واضح (13: 14)، فاستعاده القديس بولس (1 كور 15: 55) واعطاه بعداً جديداً مطبّقاً اياه على المسيح الذى به منحنا الله النصر على اعدائنا وأولهم الموت. ويطبق القديس بولس (2 كور 11: 2؛ أف 5: 25- 33) والقديس يوحنا (رؤ 19: 7؛ 21: 2؛ 22: 17) رمز زواج الله بشعبه على علاقات المسيح مع الكنيسة. وستتقبل الكنيسة هذا الرمز، فيعلن تقليذ الاباء أن يسوع هو عريس الكنيسة وان الكنيسة هي عروس المسيح. اما الروحانية المسيحية فاعتبرت ان علاقة المسيح بكل نفس مؤمنة هي كعلاقة المسيح بالكنيسة.
الخوري بولس الفغالي

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM