القراءة اللاهوتيَّة والرعائيَّة: في اليوم الثالث... آمن التلاميذ.

 

القراءة اللاهوتيَّة والرعائيَّة:

في اليوم الثالث... آمن التلاميذ

جاء الخبر السابق يرفعنا إلى ذروةٍ تُعلن التجلّي القريب لابن الإنسان، وفيه تلتقي السماء بالأرض. وها هو خبر مدهش. مشهد في قانا الجليل، ضيعة نتنائيل. نصٌّ يرتبط بالمحيط الفلسطينيّ. وأساسُه تقليدٌ سابق، وإن لم يكن له ما يوازيه في الأناجيل الإزائيَّة لكي نتعرَّف على طبيعته وقيمته التاريخيَّة. يتوزَّع كلامُنا في مقاربتين: الأولى تنطلق من 2: 11 وتروح في التحليل الأدبيّ. والثانية تقدِّم قراءة »رمزيَّة«.

1- نوعيَّة الخبر وطريقة كتابته

أ- بعض اليقينات

بدا الخبرُ مركَّزًا على المعجزة، بمناسبة عرس يجتمع فيه الأقارب والأصدقاء. وحدَّدت المقدِّمةُ أنَّه، بالإضافة إلى أمِّ يسوع التي كانت هناك، دُعيَ يسوعُ وتلاميذه. وتدخَّلت أمُّ يسوع لدى ابنها فنالت جوابًا مدهشًا. ومع ذلك، قالت للخدم بأن ينفِّذوا كلَّ ما يأمرهم به. فأمرَهم يسوع بأن يملأوا بالمياه أوعية معدَّة للاغتسالات الطقسيَّة. ولمّا ذاق القيِّم على الوليمة هذا الماء، رأى أنَّ طعمه طعم الخمر، وخمر أفضل من تلك التي قدِّمت في البداية. فآمن التلاميذ بيسوع.

نلقي نظرة على يقينات يعتبرها البعض لا تحتاج إلى برهان.

اليقين الأوَّل: كلام أمِّ يسوع. طلبت مريم من يسوع أن يُجري المعجزة(1). وذلك مثل مرتا التي أخبرت يسوع: »يا ربّ، ذاك الذي تحبُّ مريض« (11: 3). وقد تكون مريم حرَّكت ابنها بأن يجد حلاٌّ للوضع الصعب فيقدِّم الخمر. إنَّ الطريقة اللامباشرة للكلام، قد تجعل إمكانيَّة مثل هذا الطلب أمرًا معقولاً. ولكنَّ أمَّ يسوع اختلفت عن مرتا التي تحدَّثت عن يسوع على أنَّه »الربّ«، وضغطت عليه باسم محبَّته للعازر. أمّا مريم فما رأت ابنها بعدُ يصنع معجزة واحدة، بحسب يوحنّا. بأيِّ حقٍّ تُنسبَ لها، على مستوى التأويل، معرفةٌ خارقة لا تجد سندًا لها في الإنجيل الرابع؟ ثمَّ، لو أنَّ مريم طلبت حقٌّا معجزة، لماذا توجَّهت بعد ذلك إلى الخدم؟ المخرج الوحيد الموافق للنصّ هو أن نفهم كلمتها أنَّها تحقِّق من نقصٍ يُدعى ابنُها ضمنيٌّا لكي يعالجه. بأيِّ طريقة؟ لا يمكن أن يأتي الجواب إلاّ من المخيِّلة، لأنَّ النصَّ لا يقول شيئًا في هذا الموضوع. بحسب البعض، اقترحت مريم على يسوع أن يلجأ إلى نتنائيل الذي كان من قانا... كلُّ هذا لا يهمُّ، شرط أن لا نقرأ في كلام مريم أكثر من لجوء إلى طيبة ابنها الطبيعيَّة.

اليقين الثاني. ارتبط هذا اليقين بسابقه، فتطلَّع إلى لفظ »ساعة« wra في الحوار الذي يلي. وهذا اليقين نقرأه باكرًا في تفسير إيرينه، أسقف ليون في فرنسا:

»حين كانت مريم مستعجلة بأن ترى آية الخمر العجيبة، وأرادت أن تشارك قبل الوقت في اختصار الكأس، ردَّ الربُّ عجلتها اللامناسبة وقال لها: »يا امرأة، ما بيني وبينك؟ ما أتت ساعتي بعد!« انتظر الساعة التي عرفها الآب مسبقًا. لهذا أيضًا، حين أراد الناس مرارًا أن يمسكوه، قيل »لم يضع أحد يده عليه، لأنَّ الساعة لم تكن بعدُ أتت« حيث يُوقَف، ولا زمن الحاش الذي يعرفه الآب« (إيرينه، الهراطقة 3/16: 7، SC 211, p. 315-317).

نترك جانبًا الاهتمام السيكولوجيّ لدى مريم حيث يُجعَل فيها رغبةٌ في أن تشارك قبل الوقت في العشاء الإفخارستيّ. فقراءتُه ترتبط بتفسير هو موضوع جدال، حول ساعة يسوع التي لا ترتبط بالضرورة بساعة الحاش. ثمَّ إنَّ جواب يسوع ليس بالضرورة نفيًا.

في خطِّ إيرينه، ظنَّ القدّيس أوغسطين أنَّه يستطيع أن يحدِّد بأيِّ معنى الساعة لم تأتِ بعدُ:

»طلبت مريم عجيبة، ولكنَّ ]يسوع[ بدا جاهلاً الأحشاء البشريَّة ساعة يقوم بعمل إلهيّ. فبدا وكأنَّه يقول: ما فيّ يصنعُ العجيبة، وأنت ما ولدتِه، فأنت لستِ أمَّ لاهوتي (= أنا). ولكن بما أنَّك ولدتِ في العالم ضعفي، أتعرَّفُ عليك ساعة يُعلَّق هذا الضعف على الصليب. ذاك هو معنى هذا الكلام: »ما جاءت ساعتي بعد«. حينئذٍ عرفها مع أنَّه ما توانى عن معرفتها... عرفها حين مات ذاك الذي ولدته... حينئذٍ أعرفكِ حين يعلَّق على الصليب هذا الضعفُ الذي أنتِ أمُّه« (أوغسطين، مقالات في يوحنّا 8: 9).

بالنسبة إلى القدّيس أوغسطين، ما دامت ساعة تمجيد يسوع لم تأتِ، ينبغي على مريم أن تتدخَّل في رسالة ابنها: فعلى الصليب فقط يرى يسوع دورها فتصبح أمَّ المؤمنين.

مهما كان هذا التفسير جميلاً وقد تبعه كثيرون(2)، فهو لا يرضي المفسِّر لأنَّه يرتبط بمقاربة تضمُّ الإنجيل كلَّه، ولا تراعي مبدأ منهجيٌّا فرض نفسه على الباحثين في أيّامنا: نحن لا نستطيع مباشرة أن نُثبت معنى مقطع بمساعدة نصٍّ آخر لا يكون جزءًا من الوحدة الأدبيَّة عينها، وإن كان هناك بعض التجانس. فمقطعٌ محدَّد كلَّ التحديد مثل الذي نقرأ (2: 1-12)، ينبغي أن يجد ضوءه من داخله، لا من الخارج. فإن فعلْنا، تركنا التأويل ووصلنا إلى التأوين واللاهوت.

اليقين الثالث. التفسير الآتي من القرون الوسطى يحاول أن يمارس الاستعارة والأليغوريّا لهذا العنصر أو ذاك من النصّ. فهو يرى مثلاً في الخمر، الروح القدس أو دم يسوع المراق على الجلجلة، أو أيضًا صورة عن الإفخارستيّا. لا شكَّ في أنَّ هذه الأليغوريّات، شأنها شأن مقاربة القديس أوغسطين للـ »ساعة«، يمكن أن تُعتبَر قراءة ثانية للحدث. ولكن إن حُدِّدتا قبل الوقت فهي تَقرأ عن بُعد المدلولَ الذي يمنحه الخبر للمُعطى الإنجيليّ.

اليقين الرابع. يشير إلى الشخصين الحاضرين في الخبر. يرى معظم الشرّاح أنَّ العريس في الوليمة هو يسوع، وهذا ما يثبت قول المعمدان في 3: 29. مثل هذا الشرح يستند إلى خارج النصِّ قبل الأوان. ورأوا في مريم مرارًا وجه الكنيسة. فإن وجدت هذه النمطيَّة، هذه التيبولوجيّا، أساسًا في رؤ 13، فهي لا تفرض نفسها حين تُحصر نظرتُنا في الخبر.

ب- »الآية« التي جرت في قانا

في هذه المتتالية، يمثِّل النصُّ الميزات الرئيسيَّة في ما يدعوه الشارحون: خبرُ معجزة(3). الوضعُ (آ1-2). طلبُ إلى الربِّ لكي يتدخَّل (آ6-8). التحقُّق من المعجزة (آ9-10)، الإعجابُ في النهاية (آ11). هل تكفي هذه المتتالية لتُبرز الفنَّ الأدبيّ لخبر قانا؟

لا شكَّ في أنَّ آ11 هي شرحٌ من عند الإنجيليّ، وفيها يصف الحدث بأنَّها »عجيبة«: »هذه أولى آيات يسوع صنعها في قانا الحليل فأظهر مجده فآمن به تلاميذه«.

ففي الإنجيل الرابع لا تُدعى المعجزة »عمل قدرة« δυναμιςكما في الأناجيل الإزائيَّة، بل آية shmeion(4). σημειονفهذا اللفظ اليوحنّاويّ يتضمَّن دومًا وجهتين: (1) هو يبيِّن. فالآية تحرِّك إيمان التلاميذ بيسوع. (2) وهو يعبِّر، الآية تكشف مجد الذي أجراها.

»الآية«، تحديدًا، تصيب شيئًا آخر غير نفسها. تُعتبَر، لا في ذاتها أوَّلاً، بل في علاقتها مع الشهود: فالفعلةُ التي تتمّ، تدعوهم لأن يستخلصوا النتيجة أبعد من الدالّ. فالمعجزة، بالسلطة المدهشة التي نلاحظ، تتوخّى أن توجِّهنا إلى الشخص الذي أجراها وإلى كرامته. والإيمان هو الهدف الأوَّل لجميع »الآيات« التي يوردها الإنجيل الرابع. وهذا ما يوضحه يوحنّا في النهاية: الآيات التي أجراها يسوع كُتبت »لكي تؤمنوا« (20: 31). والنتيجة عينها نقرأها هنا: »آمن به تلاميذه« (2: 11). بهذا الفهم للمعجزة، جعل يوحنّا نفسه في أقدم تقليد بيبليّ: بمعجزات دُعيَت »آيات« دلَّ الربُّ على حضوره الخلاصيّ (خر 3: 20) أو بيَّن صدق من أرسله (خر 4: 1ي).

فعند يوحنّا، كما عند الأنبياء، وفي الأناجيل الإزائيَّة، لا تبيِّن الفعلة التي قام بها يسوع عن قدرته فقط، بل تُبرز سرَّه الشخصيّ وبالتالي الخلاصَ الذي يُعطى للبشر. فالعمل الذي يتمُّ هو بشكل خاصّ موقفٌ نقف فيه فيقودنا إلى الإيمان، بحسب اللغة اليوحنّاويَّة. هو »آية«، علامة، تكشف بطريقة ملموسة واقعًا علويٌّا يسمّيه الإنجيليّ هنا: المجد.

فإذا أردنا أن نستشفَّ معنى »المجد«، نعود إلى المطلع. هو مجد اللوغس الذي صار بشرًا، عرفته جماعة المؤمنين على أنَّه مجد »الابن الوحيد« (1: 14). وفي مناخ المطلع التاريخيّ (يو 1: 19ي)، أورد السابق آية من أشعيا فأفهمنا أنَّ »مجد الربِّ سوف يُرى« (1تس 40: 5؛ رج 66: 18-19). وأعلن يسوع لنتنائيل أنَّ التلاميذ يرون »ملائكة الله صاعدين ونازلين على ابن الإنسان« (1: 51). وفي عرس قانا، ها هو يسوع »يُظهر مجدَه«، بحسب شرح أضافَه الإنجيليّ إلى خبر لبثت فيه المعجزة مخفيَّة. فالإيمان وحده يعرف مجد الابن: هذا ما حصل للتلاميذ الآن، كما للنبيّ أشعيا في ما مضى، الذي عنه قال يوحنّا بعد أن أورد منه قولين نبويّين حول لاإيمان الشعب: »قال أشعيا هذا لأنَّه رأى مجده« (12: 41). فعند يوحنّا كما في نصوص الأنبياء، يتميَّز هذا المجدُ بوفرة الخيرات المعطاة وعظمتها.

هاتان الوجهتان (يبيِّن، يعبِّر) في الآية اليوحنّاويَّة، تقابلان تقريبًا التمييز بين »العلامة« و»الرمز« في اللغة الحاليَّة(5). فالعلامة، في ذاتها، تُطلقنا إلى شيء آخر. ولا تهمُّنا بما هي. أمّا الرمز فهو منذ الآن في ذاته إبيفانيا، ظهور واقع سرّي، وحضور ما يدلُّ عليه. لهذا يتطلَّب فعلاً من أجل الفهم ندعوه: عمليَّة رمزيَّة(6). في قانا، اندهش رئيسُ المتَّكأ بعد أن ذاق الخمرة الجيِّدة، ولبث في دهشته. أمّا التلاميذ فأدركوا مجد يسوع، على ما قال القدّيس أوغسطين: كلُّ عمل من اللوغس هو كلمة، ويجب أن نفهمه كوحي سرِّه، فيلزمنا أن نتَّخذ موقفًا تجاهه.(7)

ج- النموذج الأوَّل للآيات

ما اكتفى يوحنّا بأن يدعو معجزة قانا، »آية« ، بل وصفها بأنَّها »آية الآيات« أو »أولى آيات يسوع«. فاستعمال لفظ arch (بداية) يتضمَّن أمرين. الأوَّل. إنَّ نشاط يسوع العجائبيّ عند يوحنّا كما عند سائر الإنجيليّين، يدلُّ على بداية الرسالة العلنيَّة. فبعد أن أعلنه المعمدان وعرفه بعض التلاميذ أنَّه »المسيح«، صار يسوع محرِّكَ العمل الذي قال يوحنّا إنَّه الأوَّل. وسوف يتبع هذا العمل »آية ثانية« أجراها يسوع أيضًا في قانا (4: 54). وبعد ذلك، تُروى آيات. وفي نهاية الإنجيل يُقال لنا: »وصَنع يسوع أمام تلاميذه آيات أخرى كثيرة لم تدوَّن في هذا الكتاب« (20: 13). إذًا، نستطيع أن نترجم آ11: »حين دشَّن يسوع الآيات في قانا...«.

الثاني. مهما كان هذا التفسير صحيحًا ومصيبًا(8)، فهو لا يبيِّن بما فيه الكفاية بُعدَ arch في النصّ. »فالبداية« لا تبدأ فقط تعدادًا، بل تدلُّ على جديد صار منذ الآن حاضرًا. فالإزائيّون استعملوا اللفظ لكي يَدلُّوا بشكل احتفاليّ على ظهور الخبر الطيِّب، الإنجيل (مر 1: 1؛ مت 4: 17؛ لو 3: 23): عبر أقوال يسوع الناصريّ وأعماله، بدأ الله يملك في العالم. وعند يوحنّا، بانت مملكةُ الله فاعلة ساعة أتمَّ يسوعُ ما أتمَّ في أعراس قانا، فأظهر مجده.

أمّا لفظ »مجد« فيضمّ، ما تعبِّر عنه الآية في ذاتها دون أن يحدّد. فمجد يسوع يتجسَّد في جميع الآيات التي يُجري. غير أنَّ كلَّ آية خاصَّة تبيِّن وجهة من سرِّ يسوع المخلِّص. فعودة النظر إلى الأعمى منذ مولده، تكشف »المجد« في أنَّ يسوع دلَّ على نفسه أنَّه نور العالم (8: 12). وإقامة لعازر هي تجلّي المجد، وفيها يكشف يسوع أنَّه القيامة والحياة (11: 25). يترافق خبر المعجزة اليوحنّاويّ، عادة، بخطبة توضح مدلولها الفريد. في قانا، مع بداية الآيات، ما جاءت كلمةٌ تساعدنا على التفسير. فلأنَّ آية الماء الذي صار خمرًا هي »النمط« الرئيسيّ archétype الذي فيه صُوِّرت السلسلة احتُويَت. وبما أنَّ »النمط الرئيسيّ« يوجِّهنا إلى »الفكر« أكثر منه إلى »الحقيقة«، تكلَّمنا عن »النمط الأوَّل« (في خطِّ النصِّ الإنجيليّ) الذي يدلُّ على حقيقة أصيلة ونموذجيَّة معًا. هو »المبدأ« كما قال أوريجان، وهو يضمُّ الآيات الآتية.

د- خبر رمزيّ

كيف يمكن أن نقول إنَّ آية قانا تضمُّ جميع الآيات الآتية؟ نلاحظ أوَّلاً أنَّ المعجزات التي رُويَت هي معجزة فيها عطاء، شأنها شأن تكثير الأرغفة. فقد اختَلفت عن سائر فئات أخبار المعجزات (شفاء، خلاص من الغرق، طرد الشياطين) التي تتوخّى أن تُبرز وجهة من وجهات الخلاص. أمّا المعجزة - العطاء، فهي ترمز إلى مجّانيَّة الحياة ووفرتها كما يمنحها الله للإنسان، حتّى دون أن يُطلَب إيمانٌ سابق: هي مبادرة الله في اللقاء بشعبه.

هذا من جهة. ومن جهة ثانية يقودنا التحليل الأدبيّ إلى أن نبتعد عن تفسير يرى في خبر قانا حدثًا محدَّدًا في وقت معيَّن وزمن. فلو كان النصُّ تقريرًا يذكر فيه الإنجيليّ حدثًا حصل في وليمة العرس، فلماذا كلُّ هذه الفجوات؟ في أخبار المعجزات، يُعرَف المستفيدون ويُحكى عنهم. أمّا هنا، فلا كلام عن العروس، ويشار إلى العريس بشكل لامباشر في النهاية. فكيف نفدت الخمرة؟ ولماذا عرفت مريم، وهي مدعوَّة بين المدعوّات والمدعوّين، قبل المسؤولين عن الوليمة، بهذا النقص؟

مقابل هذا، نلاحظ معترضات غريبة في نصٍّ قصير. لماذا الحوار بين مريم ويسوع يحتلُّ هذا المكان الواسع؟ لماذا الإشارة بالتفصيل إلى عدد الأجران وصفَتِها؟ لماذا التوسُّع في دور الخدم وفي طاعتهم لأوامر السيِّد؟ كلُّ هذا يمكن أن يختفي في خبرٍ يرى الجوهر في معجزة مدهشة.

وأكثر من ذلك. لماذا لم يفعل يسوع بشكل مباشر كما فعل مثلاً في معجزة تكثير الخبزات حيث شكر قبل التوزيع؟ (6: 11). لماذا لم يأمر المياه بسلطته المتسامية، كما فعل مثلاً حين هدَّأ البحر في مر 4: 39؟ نحن لسنا أمام خبر معجزة في المعنى الحصريّ للكلمة، وتدخُّلات الراوي تثبت أنّنا لسنا داخل الفنِّ الأدبيّ: خبر معجزة.

وإذ أعلن الإنجيليّ في النهاية تجلّي المجد، صرَّح أنَّ الحدث يمثِّل نقطة وصول بعد أن عرف إسرائيل المسيح في يسوع الناصريّ، بفم المعمدان وبفم التلاميذ. فأهمِّيَّةُ هذا الوقت الجديد نجده أيضًا في قلب النصّ: فيه تحدَّث يسوع »عن ساعته«. ثمَّ كلام يسوع: »استقوا الآن« (آ8). وأخيرًا كلام رئيس المتَّكأ: »احتفظتَ بالخمرة الجيِّدة إلى الآن« (آ10). كلُّ هذا يسير في الخطِّ عينه. فما هو هذا »الوقت« الذي يُبرزه الخبر؟ هنا يأتي الكلام عن الأجران (2: 6). هي ستَّة ومعدَّة لتطهير اليهود.

هل هذه المعلومة موجَّهة إلى القارئ الذي يجهل العادات اليهوديَّة؟ إن كانت وظيفة الأجران تبرِّر ذكر هذه الآية، وإن كانت سعتها تُبرز وفرةَ العطاء، يبقى أنّ التفاصيل موسَّعة بشكل ملموس أكثر ممّا ينبغي (العدد، المادَّة، الاستعمال الطقسيّ، السعة) في خبر يترك جانبًا معلوماتٍ جوهريَّة في الظاهر.

وبرز وجود الماء: بأمرِ يسوعَ تُملأ الأجران ماء (آ7). وفي آ9، قيل: ذاق رئيس المتَّكأ »الماء الذي صار خمرًا«. ليس الماء هو لتطهير اليهود بل الأجران. وبدا الراوي تارة متحفِّظًا، وطورًا مشدِّدًا. ما شدَّد على المعجزة في ذاتها. ما قال إنَّ الأجران امتلأت خمرًا، ولا أنَّ الخدم استقوا الخمر منها. وعلى مستوى الحدث، لبث التحوُّلُ سرِّيٌّا للحاضرين، ورئيس المتَّكأ لاحظ نوعيَّة الخمرة ولكنَّه لم يُعجَب بصانع المعجزة. وسرَّ الإنجيليّ بأن يورد أقوال يسوع، وتدخُّلات أمِّه، وأعمال الخدم المتتالية. إذًا، الخدم لهم دور. ولكن مع أنَّهم عرفوا مصدر الخمر، لم يُذكَروا بين الذين تبعوا يسوع إلى كفرناحوم (2: 12).

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه الخصائص، جاءت الخاتمة تفرض نفسها: ليس خبر قانا جزءًا من سيرة يسوع. ولكن إن لم يكن من هذا الفنِّ الأدبيّ، فنِّ السيرة، فلا نستطيع القول بأنَّنا أمام الأليغوريّا، حيث نختلق الصورة لكي نعبِّر عن فكرة ما، وحيث يُفسَّر كلُّ عنصر على حدة، وكأنّنا على مستوى الشيفرة. وهكذا نستطيع أن ندعو حدث قانا »خبرًا رمزيٌّا«(9). فهو ككلِّ يكشف، يُحضر غيرَ ما يقول في شكل مباشر وعنه يعبِّر. هنا نكون فطنين، لأنَّ المسيرة في عالم الرمزيَّة مغامرة وصلت بالبعض إلى إنكار واقع العرس وموضع المعجزة.

هـ - خبر ذو طابع ثنائيّ

يتيح لنا ترتيب النصّ بأن نوحِّد هذه المعطيات المختلفة، بما فيها الفجوات والتوسُّعات. فنلاحظ في كلِّ مرحلة من هذه المتتالية، أنَّ الأشخاص يسيرون اثنين اثنين. منذ الآيات الأولى، يلاحظ الراوي نمطين من الأشخاص: من جهة العرس مع أمِّ يسوع، ومن جهة ثانية، يسوع »هو أيضًا« مع تلاميذه. ويَبرز هذا التمايزُ في اختيار الأفعال. أمُّ يسوع »كانت هناك« وكأنَّها في بيتها في العرس. ذُكرت في البداية ووُجدت هناك قبل وصول ابنها. أمّا يسوع »فدُعيَ« كما دُعيَ تلاميذه. ثمَّ إنَّ يسوع يتمايز عن مجموعة المدعوّين.

وتتواصل الثنائيَّة في الحوار بين مريم ويسوع. بالإضافة إلى تمايز بين الاثنين يشير الحوار إلى بعض »التعارض«. حين لفتت مريم التي دُعيَت »أمَّ يسوع« النظرَ إلى نفاد الخمر، أجابها يسوع: »ما لي ولك«. وهي عبارة تجعل مسافة بين الابن والأمّ، وهي مسافة تبرز تسمية غريبة: يا امرأة (لا: يا أمّي) مع كلام: لم تأتِ ساعتي بعد (أو: أما أتت ساعتي؟). مهما كان تفسير هذه الجملة، فمن الأكيد أنَّ ردَّة الفعل لدى يسوع تدلُّ على بعض اللاتوافق.

ولكن بين يسوع وأمِّه اللذين »انفصلا« هكذا، بدأت مسيرةُ اجتماع. حين قالت أمُّ يسوع للخدم: »مهما يقوله لكم فافعلوه«، عرفت المسافة التي اتَّخذها ابنُها، وبالتالي عرفت سلطانه، فعبَّرت عن ثقة تامَّة وهي جاهلة كيف يكون مشروعه في شكل ملموس. فعبْرَ الخدم الذين دفعتهم لتنفيذ ما يأمرهم به يسوع، واصلت الحوار مع ابنها بواسطتهم. فهناك تفصيل غراماطيقيّ يُثبت هذا: فبعد المقطع الطويل عن الأجران، كان ضمير الغائب الجمع: »قال لهم يسوع« (آ7)، والكلام يتوجَّه إلى الخدم الذين ذُكروا في آ5 (»وقالت أمُّه للخدم«). فمريم، شأنها شأن الخدم، هي من أهل العرس وتقف قبالة يسوع. وهكذا يبرز الوضع الثنائيّ مرَّة أخرى.

منذ الآن، يجمع العملُ يسوع والخدم، فتتمّ الأفعال عبر طاعتهم لأمرين متتاليين من قبل يسوع. أطاعوا مرَّة أولى »حين ملأوا الأجران إلى فوق«. ثمَّ »استقوا وناولوا رئيس المتَّكأ«. هنا تنتهي العلاقة الصريحة بين يسوع والعرس، ولكن بنتيجة كلام يسوع لبثت هذه العلاقة حاضرة: فرئيس المتَّكأ لبث جاهلاً حضور يسوع، ولكنَّه جاهر بفاعليَّة عمله. فعلى المستوى الأدبيّ، كان ارتباط بين يسوع والعرس، بوساطة خمر جيِّدة أعطيَت وافرة.

حتّى الآن برزت ثنائيَّة يسوع والعرس. وها هي ثنائيَّة ثانية: وقف رئيس المتَّكأ تجاه العريس في رسمة حوار ينتهي فيه الخبر (آ9). لاحظ رئيس المتَّكأ المعجزة، ولكنَّه لم يَعُد إلى صاحبها. والراوي لم يوجِّه الأنظار إلى صانع العجيبة بل يكتفي، بحسب طريقة يوحنّاويَّة، أن يرفع من قيمة الحدث: لا خمر هنا فحسب، بل خمر من نوعيَّة سامية.(10)

ولكنَّ النصَّ يطلب شيئًا آخر، لأنَّ انتباه القارئ يتوجَّه نحو العريس، الذي هو شخص جديد دخل بشكل جانبيّ. قيل إنَّ رئيس المتَّكأ »دعاه« وكأنَّه كان غائبًا، وفي الواقع كان كذلك حتّى الآن في الخبر. وإذ نسب رئيس المتَّكأ الخمرةَ الطيِّبة إلى مبادرة من العريس، عمل على إخراجه من بين الآخرين: »كلُّ إنسان« يقدِّم... وأنت... مثل هذا التصرُّف لا يسمح لنا أن نحسب هذا الشخص بين »الناس« وفي مجموعة المدعوّين. فإن كان جزءًا لا يتجزَّأ من العرس، فهو يبقى بعيدًا عن سائر الفاعلين، لاسيَّما وإنَّنا لا نراه يفعل شيئًا (تجاه مريم، يسوع، الخدم). فماذا يعني وجود هذا »العريس« الذي يأتي »كما في غير محلِّه« في الثنائيَّة الأساسيَّة: يسوع والعرس؟ والجواب يأتي في القراءة الرمزيَّة.

في آ11، يجعل الراوي من الحدث الذي حصل، نقطةَ الانطلاق لتجمُّع آخر بين يسوع وتلاميذه. ذُكروا في آ2 وما عادوا ذُكروا، ولكنَّهم شهدوا عمل يسوع. والمجد الذي اكتشفوه دفعهم إلى الإيمان به. وهكذا نعود إلى القراءة الرمزيَّة للخبر.

2- قراءة الخبر قراءة رمزيَّة

حين نفسِّر أليغوريٌّا، ننقل كلَّ تفصيل إلى مستوى آخر ونحلِّله بشكل منفصل بحسب معيار خارجيّ (إن لم يكن مصطنعًا). وينتج عن ذلك تلاصقٌ موازٍ للعناصر المختلفة وما يقابلها.(11) أمّا في الخبر الرمزيّ، فيكتشف القارئ وجود واقع واحد يرتِّب (ويضيء) وظيفةَ جميع العناصر (وإن كانت أهمِّيَّتها لامتساوية) التي تلتقي فتعطينا صورة كاملة.

أمّا الخبر الذي نقرأ، فيتحدَّد موقعه على ثلاثة مستويات. الأوَّل، مستوى النصّ (آ1-11) الذي تقود لغتُه مباشرة إلى أن نأخذ في الحسبان رمزيَّة العرس البيبليَّة. والثاني، مستوى الإنجيل الرابع في مجمله. والثالث، مستوى القارئ الذي يتملَّك الخبر حسب وضعه الخاصّ. فحين نميِّز المستوى الذي بحسبه نقرأ النصّ، نتجنَّب خلط المعاني التي تُستخرج. ولكن يبدو أنَّ المستوى لا يكون مستقلاٌّ عن مستوى آخر، بل يبقى مرتبطًا به ارتباطًا باطنيٌّا، مع العلم أنَّ المستوى الأوَّل يكون الأساس.

أمّا نحن فنحاول أن نبيِّن مرمى النصِّ على المستوى الأوَّل، ونستعين بمعطيات بيبليَّة تُسند اللغة اليوحنّاويَّة. بعد ذلك نقرأ الخبر انطلاقًا من معطيات أخرى تبدو واضحة في إنجيل يوحنّا. وبما أنَّ »أمّ يسوع« دُعيت »امرأة« في 19: 25-27، فهذا المقطع يُغني فهمَنا لنصِّ قانا، شرط أن تكون القراءة الجديدة، امتدادًا للمدلول الذي انكشف في قلب الوحدة الأدبيَّة. وفي النهاية، نرسم تأوينًا لهذا المقطع.

تلك كانت مسبَّقة أولى. وهناك مسبَّقة ثانية تتعلَّق بزمنَيْ قراءة النصّ. نذكر هنا أنَّ الزمن الأوَّل هو زمن يسوع الناصريّ وفيه ما فيه من ماضي شعب إسرائيل. فيسوع جاء يُتمُّ وعدًا ناله شعبُ إسرائيل عبر خبرة من العلاقة مع الإله الواحد، إله العهد. هذه الخبرة حاضرة في وجدان سامعي يسوع، ومؤسِّسةٌ لعقليَّتهم الدينيَّة ونظرتهم إلى المستقبل. عن يسوع الناصريّ، يروي الإنجيليّ الأعمال والأقوال التي تبيِّن للذين يحيطون به، التتمَّةَ التي يحملها، وهي تتمَّة توافق الرجاء التقليديّ في إسرائيل كما تتجاوزه بالجديد الإلهيّ الخاصّ. اقتطف الكاتب هذا الجديد الذي ثبَّته حدث الفصح وأقامه إلى الأبد. فبالخبر حاول أن يعيد تحديد »قبل«، لأنَّ يسوع ابن الله، كشف خلال خدمته على الأرض، هويَّته الخاصَّة، ومارس دوره كموحٍ للآب، أمام سامعين وجَّههم إلى »الفهم« إنباءاتٌ تلقَّوها من قبل من عند الله.

الزمن الثاني هو زمن المؤمنين، زمن الإنجيليّ والقرّاء، الذين يعيشون بعد العنصرة والذين يعطيهم الروح ملء فهم أقوال يسوع وأعماله. فبعضُ التفاسير التي لا تتَّضح في الزمن الأوَّل للشهود، يمكن أن نُسقطها على النصّ، على ضوء العمل الذي أتمَّه يسوع، مثلاً العلاقة الحديثة بين آية قانا والإفخارستيّا. يبقى أنَّ هذه التفاسير تقف على أساس ما يقدِّم لها النصّ على المستوى الأوَّل، لأنَّ المجد المعلَن (1: 14؛ 2: 11) هو المجد الذي رآه الشهود في يسوع الناصريّ.

إنَّ تحليل بنية الخبر قادتنا لنعرف اثنين أساسيّين: العرس من جهة ويسوع من جهة أخرى. إلى هذين الاثنين يعود سائر الأشخاص ما عدا العريس. هذه النتيجة سوف توجِّه القراءة الرمزيَّة التي تبدأ بالمعطية المتضمِّنة التي هي الأعراس.

أ- إطار الأعراس

بما أنَّ عرس قانا ليس من النمط السيرويّ، فتيمةُ الأعراس تقدِّم حالاً إلى الفكر صورةً بيبليَّة تقليديَّة، منذ خبرة هوشع الزواجيَّة حتّى نشيد الأناشيد. وحتّى يسوع نفسه الذي قدَّم ملكوت السماء مثل وليمة العرس (مت 22: 2؛ 25: 1). العيد الأرفع لدى البشر، الذي يتحدَّث عن الحبِّ بين الرجل والمرأة المعدَّين لكي يكونا بحسب صورة الله، هذا العيد صار استعارة تعبِّر عن عهد الله مع شعبه، وبشكل خاصّ تحقيقه الإسكاتولوجيّ حين يختمه الله، لا مع إسرائيل فقط، بل أيضًا مع العالم كلِّه. وتكرارُ لفظ »عرس« في بداية النصّ (آ1، 2) تعمَّده الكاتبُ ليدلَّ على الإطار الرمزيّ للحدث.

تحوَّل موقعُ الحدث في الزمان كما تحوّل في المكان. حصل في الجليل (2: 1، 11)، الموضع المفضَّل لدى يسوع. وحصل »في اليوم الثالث«، أيّ تاريخ يعني؟ بعض الشرّاح ظنُّوا أنَّه بالإمكان توزيع الزمان مع لفظ »في الغد« (1: 19-51)، وبناء أسبوع تدشينيٍّ يحمل قيمة رمزيَّة. ولكن يبدو أنَّ الراوي يتطلَّع لا إلى تحديد زمن الحدث في التاريخ، بل إلى ربطه بالأحداث الكبيرة في التاريخ المقدَّس، التي تحصل في »اليوم الثالث«. هذا »التاريخ« يشير إلى منعطف حاسم في تاريخ العهد، مثلاً تيوفانيَّة سيناء الكبيرة (خر 19: 11؛ لو 13: 32-33؛ ق تك 22: 4؛ 42: 18؛ هو 6: 2). تنبَّه القارئ في 1: 51 بأنَّ الأرض والسماء سيتدخَّلان في علاقة مستمرَّة في شخص ابن الإنسان. فانتظر أن يتجلّى الله ويتدخَّل. مثلُ هذا المدخل الاحتفاليّ، يجعله بعدُ أكثر تنبُّهًا.

اعتادت الخمرة أن ترافق العيد في الأعراس، واحتاجت أن تكون وافرة. فمع الحنطة والزيت، كانت الخمرة واحدة من السلع الجوهريَّة لحياة الإنسان (تث 7: 13؛ 11: 14): هي عطيَّة الله التي خُلقت لتكون فرحًا للإنسان وعلامة نجاحه (مز 104: 15؛ ق قض 9: 13؛ سي 31: 27-28؛ زك 10: 7). لهذا فهي تجري أنهارًا في الأعراس الإسكاتولوجيَّة. قال النبيّ عاموس في هذا المجال:

ها أيّام تأتي، يقول الربّ...

تقطر الجبالُ خمرًا،

وتسيل جميع التلال... (عا 9: 13).

والنبيّ أشعيا:

وفي جبل صهيون

يهيّئ الربُّ القدير لكلِّ الشعوب،

مأدبة عامرة بلحوم العجول المسمَّنة

والفراخ والخمور الصرف (أش 25: 6).

وكان يسوع الناصريّ صدى لرمزيَّة الوليمة السماويَّة حين أعلن أنَّه لن يشرب بعد »من خمر الكرمة إلى أن يشربه أيضًا في ملكوت أبيه«(12). ففي قانا، وبانتظار أن يحقَّق ملكوتُ الآب، أعطى يسوع نبيذًا رفيعًا يُتمُّ الخمر الذي سبق وأعطيَ في الإطار الرمزيّ للخبر. فهناك تواصل بين نبيذين، لأنَّ هذا وذاك هما خمرة العرس. وهكذا بلغ العهد، في الصورة، إلى الكمال بفضل عمل يسوع.

من هما المشاركان في هذه الأعراس؟ لا يسوع والبشريَّة فقط، بل إسرائيل والله. رَمزَ إلى إسرائيل أمُّ الله التي ينضمُّ إليها الخدم. لم تُدعَ مريم باسمها، بل باسم ابنها: »أمّ يسوع«. ودُعيَت أيضًا عمدًا »امرأة«. فشأنها شأن »التلميذ الحبيب«، قدرُها يتجاوز شخصيَّتها الفرديَّة. فلقب »امرأة« لا يعود فقط إلى المرأة الأولى، بحيث يجعل من مريم حوّاء الجديدة، بل إلى صهيون المثاليَّة التي صُوِّرت في البيبليا في سمات امرأة، في سمات أمّ (أش 49: 20-22؛ 54: 1؛ 66: 7-11؛ رج يو 16: 21). إنَّ مريم تجسِّد صهيون المسيحانيَّة التي تجمع حولها أولادها في نهاية الأزمنة(13). ففي الحقيقة هي تُجسِّد شعبها.(14)

في إطار عرس لا تظهر فيه العروس، أمّ يسوع حلَّت محلّ صهيون، التي هي شعب الله. والأشخاص الآخرون (الخدم، رئيس المتَّكأ) لا تفسير لهم سوى أننّا نرى في الخدم إسرائيل المهتمّ بأن يطيع مرسَل الله. إنَّهم يعبِّرون عن رغبة المؤمنين الناشطة، في العهد القديم. كلُّ ما يقدرون أن يصنعوا، يصنعونه وهو ملء أجران التطهير ماءً إلى فوق. أمّا رئيس المتَّكأ، فوظيفته في الخبر، أن يشهد دون أن يعلم على تحوُّل الماء خمرًا، بحيث يوجِّه القارئ إلى العريس الذي يرتبط به هذا العرسُ.

أمّا العريس فموقعه غريب. فقد لاحظنا في تحليل البنية الثنائيَّة للخبر، أنَّه لا يمكن أن يكون بسهولة وسط المدعوّين. فنتخيَّل طوعًا أنَّ العريس يمثِّل المسيح شخصيٌّا. وهذا الترميز(15) المهمّ في سياق آخر، قد لا يسري هنا. فيسوع دُعيَ إلى العرس، فوُجد قبالتَه أهل العرس مثل أمِّه والخدم. أمّا العريس فجزء من العرس، أو بالأحرى لا عرس بدونه. غير أنَّ الخبر اليوحنّاويّ يجهل حضوره إلى حين يُذكَر بشكل لا مباشر حين يدعوه رئيس المتَّكأ ليقدِّم له ملاحظته حول الخمرة التي قُدِّمت الآن. ثمَّ في الخبر الثنائيّ، بدا العريس »ثالثًا«، شخصًا من درجة أخرى، يقود اللعبة دون أن يبدو عارفًا، وبدونه لا يحصل شيء. فبما أنَّ العريس لا يمكن أن يكون يسوع، فالعريس يكون الله كما تقول البيبليا. وتعجُّب رئيس المتَّكأ يُفهَم حينذاك: »أنت احتفظت بالخمرة الجيِّدة إلى الآن«. إنَّه أعلن أنَّ الله وبعد أن انتظر طويلاً، استجاب لرغبة شعبه العميقة، فأعطاه الخمرة الجديدة التي تدلّ في النهاية على يسوع.

ولكن لماذا نبقى في العهد القديم؟ بل نخرج منه. قال يسوع: من رآني رأى الآب. فإذا أراد الآب أن يكون حاضرًا في شعبه، فهو يكون في شخص ابنه يسوع المسيح. لهذا، بالنسبة إلى قرّاء يوحنّا في نهاية القرن الأوَّل، يسوع هو العريس كما هو الخبز النازل من السماء ونور العالم. فالإنجيل في النهاية هو اكتشاف شخص يسوع الذي يُخبرنا عن الآب.

ب- الحدث

في نهاية الحوار بين يسوع وأمِّه، يتطلَّع القارئ نحو الذي تكلَّم عن ساعته. فالكلمة ليسوع، الذي أعطى شعبه الخمرة الإسكاتولوجيَّة. وهناك طريقتان لإدراك الحدث: إمّا نريد أن نصل سريعًا إلى النتيجة. وإمّا نمشي في تعرُّجات الخبر.

في نهاية الخبر، حسبَ رئيسُ المتَّكأ أن ما استقاه الخدم في الأجران هو خمر، وخمر أفضل من الأوَّل. في قراءة رمزيَّة لا نستطيع أن نكتفي برؤية معجزة بسيطة. بل هي آية. والدالّ على هذه الآية ليس الخمر في ذاته، بل انتقال الماء إلى خمر. فالخمر الجديد لا يمكن أن يُفصَل عن الماء الذي جاء منه. »استقوا الآن وناولوا رئيس المتَّكأ«. من أين جاء هذا الماء؟ لا يقول النصّ. ولكن، من الأكيد أنهم استقوه من عين الماء في القرية أو من البئر القريبة. إذًا، هي مياه الخلق الأصيلة. وعهد الله الذي صورتُه عرس قانا، أُدرك منذ المرحلة الأولى، لهذا قال إيرينه:

»مع أنَّ للربِّ السلطة بأن يقدِّم الخمر للمدعوّين، دون الانطلاق من أيَّة خليقة موجودة، فهو لم يفعل كذلك... ولكن حين حوَّل الماء خمرًا، أطفأ عطش المدعوّين إلى العرس. وهكذا بيَّن أنَّ الله الذي صنع الأرض وأَمرَها بأن تحمل الثمر، الذي أقام المياه وأجرى الينابيع، هذا الإله منح أيضًا الجنسَ البشريّ في الأزمنة الأخيرة، بوساطة ابنه، بركة الطعام ونعمة الشراب« (إيرينه، الهراطقة 3/11: 551 .p ,112 CS).

وفي خطِّ إيرينه لاحظ آباء الكنيسة رمزَ الماء الذي صار خمرًا: فعهد الله مع شعبه، يمرُّ في العهد الجديد كما المياه تمرُّ في الخمر. وإذ أوجز القدّيس توما الأكويني تفسير الآباء، شدَّد بدوره على تواصل مخطَّط الله:

»ما أراد يسوع أن يصنع الخمر من لا شيء، ولكن انطلاقًا من الماء، ليبيِّن أنَّه لا يريد أن يقيم تعليمًا جديدًا بكلِّيَّته، ولا أن يَنقض التعليم القديم، بل أن يكمِّله. قال: ما جئت لأنقض بل لأكمِّل. فما صوَّرته الشريعةُ القديمة ووعدت به، كشفه المسيح وأوحى به«(16).

فيسوع كشف بفعله أنَّ الزمن جاء لكي يَدخل الشعبُ في اتِّحاد نهائيّ مع الله، وتدخل البشريَّة كلُّها. لهذا كان الخمر الذي ذاقه رئيس المتَّكأ أفضل من الخمر الأوَّل الذي شربه في قانا.

ويمكن أيضًا أن نتبع النصَّ خطوة خطوة فنحدِّد بعض الأمور. ما تصرَّف يسوع فقط بأن يصبح الماء خمرًا، بل لجأ إلى خدمة الخدم، واستفاد من الأجران، وأرسل أمرين اثنين. أمّا التفصيل الأوَّل المدهش فهو الأجران التي من حجر، التي لا تستعمل للشرب (مثل الجرار) بل للتطهير بحسب الطقوس. هذا ما يُثبت الطابع الرمزيّ للخبر، لاسيَّما وأنَّ عدد الأجران ستَّة (أي سبعة ناقص واحد) يتضمَّن فكرة النقص. وحين نأخذ بعين الاعتبار العلاقة التي أقامها السابق بين عماد الماء وعماد الروح (1: 33)، نستطيع أن نفكِّر أنَّ الخمر الذي أعطاه يسوع هو بالنسبة إلى الأجران اليهوديَّة ما هو الروح القدس بالنسبة إلى ماء الطقس الذي يمارسه المعمدان. هذا التقارب مقبول، ولاسيَّما أنَّ معموديَّة يوحنّا صوَّرت مسبقًا التطهير الذي يمنحه الروح في نهاية الأزمنة الحاضرة منذ الآن في يسوع.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM