القراءة البحثيَّة: من أجران التطهير إلى خمر الملكوت.

 

القراءة البحثيَّة:

من أجران التطهير إلى خمر الملكوت

الفصل الثاني من الإنجيل الرابع يُمكن أن يكون في إطار الطهارة اليهوديَّة. قيل عن الأجران التي وُضع فيها الماء، »يتطهَّر اليهود بمائها«. والهيكل أيضًا يجب أن يتطهَّر من ذبائح العهد القديم، لهذا حمل يسوع السوط وطرد الغنم والبقر. لا مكان لها هنا بعد اليوم. وكذلك الماء الذي يذكره يوحنّا مرارًا، حلَّ محلَّه الخمر، خمر الوليمة المسيحانيَّة (أش 25: 6-9؛ رؤ 19: 9). وها نحن نقرأ الآية الأولى من آيات الإنجيل السبع: فهي أكثر من معجزة لا تصعب على الله. إنَّها نداء إلى الإيمان، وتحوُّلٌ من شعب إلى شعب. ولكنَّ العرس انتهى في الفراغ. وستنتقل مريم مع الإخوة والتلاميذ إلى العرس الآخر والأخير، الذي لا عرس بعده، عرس الحمل في نهاية الأزمنة.

نبدأ فنكتشف موقع الآية في الإنجيل الرابع قبل الوصول إلى إيمان أمِّ يسوع، وصولاً إلى الذين اعترفوا بالمعجزة.

1- موقع الآية (2: 1-13)

قبل أن نتفحَّص الآية نفسها، نُلقي نظرة إلى موقعها. فسمات موقع الآية له مدلوله في الخبر اليوحنّاويّ: المكان، اليوم، الاحتفال بالعرس.

أ- قانا

ذكرُ قانا يحيط بالخبر مثل إطار (آ1، 12): في البداية عرس في قانا. في النهاية، الآية التي صنعها يسوع في قانا. في خربة قانا اكتُشفت الفخّاريّات الرومانيَّة والبيزنطيَّة(1). وإن كُشف بعض الشيء في كفركنَّه، إلاَّ أنَّ ما اكتُشف لا يعود إلى الحقبة الرومانيَّة الأولى(2).

قانا بلدة نتنائيل (21: 2)، والآية ترتبط »بالتاريخ« وبما حصل من معجزة. وسوف تكون معجزة ثانية في قانا، مع الضابط الوثنيّ (4: 46-54). والإشارة إلى الجليل مع قانا تُفهمنا كيف استَقبلت هذه المنطقةُ يسوع (2: 12؛ 4: 47، 54) وكيف استقبلته اليهوديَّة (2: 13-25؛ 5: 6).

ب- اليوم الثالث

ما يربط الآية الأولى (عرس قانا) بفعلة نبويَّة في الهيكل، يُفهمنا هجومُ الإنجيل. يفهمنا أنَّ أشكال طقوس التطهير قد عفاها الزمن. لهذا كان تطهير الهيكل عند يوحنّا في بداية الرسالة، عكس الإزائيّين حيث تطهير الهيكل جاء قبل الحاش والآلام. منطقتان يهوديَّتان تحيطان بالسامرة: في الأولى، تحوَّل استعمال الأجران. وفي الثانية، اُلغيَت الذبائح. والمفتاح الذي يربط الحدثين هو »اليوم الثالث« في آ1 وفي آ19.

إنَّ »اليوم الثالث« في 2: 1، طَرح أكثر من سؤال على الشرّاح. لا يمكن أن يكون يومًا خاصٌّا بالعرس الذي وصل إليه يسوعُ وتلاميذه. كان العرس يمتدُّ على سبعة أيّام (طو 11: 19؛ يوسف وأسنات 21: 8). أمّا 14 يومًا في عرس طوبيّا فأمرٌ استثنائيّ (8: 19-20) بسبب نجاة سارة من الروح الشرّير. رج سي 22: 21 وما يقال عن سبعة أيّام الحزن. قيل في اليوم الثالث، ساعة العرس يتمُّ في اليوم الرابع، يوم الأربعاء(3) بالنسبة إلى العذراء، وفي اليوم الخامس بالنسبة إلى الأرملة (تلمود فلسطين، كتوبيم 1: 1).

اقتُرح حلٌّ: اليوم الثالث في تقليد العنصرة وسيناء(4). ولكن بالرغم من مقابلات تفصيليَّة، لم يكن هذا الاقتراح مقنعًا للقارئ القديم ولا للقارئ المعاصر. فإن أراد يوحنّا للنبيذ أن يرمز هنا إلى عطيَّة التوراة، يمكن أن نجد عونًا في السرد الإنجيليّ. فالارتباط القديم بالفصح وسيناء يبقى موضوعَ تساؤل(5)، ويوحنّا لا يربط البنفماتولوجيّا عنده ببواكير الفصح(6). فإن كان هناك من تلميح بيبليّ خاصّ، فمجيء الربِّ على سيناء في اليوم الثالث قد يُعطي معنى (خر 19: 11، 16)، ولكن من المعقول في السياق اليوحنّاويّ أن يكون هناك تلميح إلى التقليد البيبليّ حول القيامة في اليوم الثالث (هو 6: 2). فمن الصعب أن نضع اليوم الثالث مع خلفيَّة ضيِّقة في سيناء، حين تكون العبارة معروفة في الكتاب المقدَّس (تك 22: 4؛ 31: 22؛ 34: 25؛ 40: 20؛ 42: 18؛ لا 7: 17-18؛ 19: 6-7؛ عد 7: 24؛ 19: 12، 19؛ 29: 20؛ 31: 19). في تك ربا 56: 1، اليوم الثالث يحيلنا إلى القيامة (هو 6: 2) والوحي (خر 19: 16) ويونان (يون 2: 1) وزمن العودة من المنفى (عز 8: 32) واستحقاق إبراهيم (22: 4). هو نصٌّ يعود إلى أحد القوّالين، رابّي لاوي، في القرن الثالث المسيحيّ.

بل إنَّ يوحنّا يعود بكلِّ بساطة إلى اليوم الثالث (أي: يومان) بعد الأحداث التي رواها الآن، ليسمح ليسوع بأن يسافر إلى الجليل. فهناك عبارات مثل: اليوم الذي بعد الغد، أو قبل الأمس. رج خر 19: 11، 15، 16؛ 1صم 20: 12. هذا لا يعني أنَّه لم يكن ليوحنّا أسبابه الخاصَّة لما ذكر اليوم الثالث، فجعله في بداية المقطع. فإن تطلَّع الإنجيل إلى مدلول لاهوتيّ، فيجب أن نتطلَّع إلى تقليد قيامة يسوع في اليوم الثالث، وهذا ما يوافق 2: 19-20، ولاسيَّما إذا عرفنا أنَّ »ثلاثة« و»الثالث« يترافقان مع »اليوم« في الأناجيل. وكما سبق وقلنا، هناك تضمين بين 2: 1 و2: 18-19، وكأنَّ آية قانا هي البداية والكلام عن القيامة هو النهاية.

وتضمَّن 2: 1-11 الثمن الذي دفعه يسوع في »هجمته« على النظم اليهوديَّة وإن اعتبرنا أنَّ هذه الهجمة هي من أجل الإصلاح داخل العالم اليهوديّ. وهذا الثمن واضح في جواب يسوع، بأنَّ هذه الآية تتطلَّع نحو ساعة موته (2: 4).

2- إيمان أمِّ يسوع (2: 3ب-5)

مع أنَّ يسوع أوضح أنَّ أمَّه لا يمكن أن تطلب نعمةً من يسوع بسبب قرابتها به(7)، فإيمانها صار حافزًا لعملها. وطلبتُها اللامباشرة دلَّت بما فيه الكفاية على احترامها لابنها الشابّ، وبيَّنت أنَّ إيمانًا مجدَّدًا يعمل لها ما تطلب.

أ- أمُّ يسوع (2: 3، 5)

دعت سائر الأناجيل مريم باسمها، لا يوحنّا. ولا يُعقَل أن يكون يوحنّا تحاشى الخلط مع مريم أخرى (11: 1-2، 19، 20، 28، 31-32، 45؛ 12: 3)، ساعة هو لم يذكر سوى مريم المجدليَّة، التي لا يمكن أن تكون مريم بيت عنيا (19: 25؛ 20: 1، 11، 16، 18؛ رج 11: 1) كما ذكر الاسم وسميَّه (14: 22). قد يكون يوحنّا تبع مثالاً تشهد له النصوص القديمة. فالكتَّاب يدعون امرأة من النساء »أمَّ فلان وفلان« (1مل 17: 19-24؛ 2مل 4: 1ي). ولكن حيث يمكن أن يُفتَرض أنَّ أسماء بعض النساء (4: 7) أو الرجال (4: 46؛ 5: 5؛ 9: 1) لا تنتقل في التقليد، قليل من المسيحيّين يمكن أن يجهلوا اسم أمِّ يسوع. ورد مرَّة في مرقس وأكثر من مرَّة في لوقا ومتّى. كان يوحنّا مستقلاٌّ عنهم، ولكن هذا لا يعني أنَّه جهل معلومة سرَتْ في الكنيسة الأولى وانتشرت. وكما في موضوع التلميذ الحبيب، أشخاص عديدون أُهمل اسمُهم لكي يتماهى معهم التلميذ كنموذج إيجابيّ في اتِّباع يسوع (لو 14: 12).

كان لأمِّ يسوع موقع خاص في بيت العريس، لتعرف أنَّ الخمر نفدت(8). فوجَّهت يسوع نحو الوضع. ثمَّ نحن لا ننسى أنَّ النساء هنَّ المكلَّفات بتأمين الطعام والشراب. رأت مريم الحاجة، فتدخَّلت وهي »العارفة« بإيمانها أنَّ ابنها يفعل. فالنصُّ لا يقول إنّ مريم آمنت، بل التلاميذ فقط. ولو لم تؤمن لما قالت للخدم: »افعلوا ما يأمركم به«. وإيمان مريم جعلها، على الصليب، تؤمن بالقيامة قبل القيامة: كانت واقفة، يقول الإنجيل (يو 19: 20)، فما احتاجت أن يأتي إليها يسوع بعد قيامته. فقد عاشت القيامة ساعة كان ابنها بعدُ على الصليب.

في أيِّ حال، طلبُ مريم يشبه طلبَ المؤمنين في المزامير. فهم متأكِّدون أنَّهم ينالون ما طلبوا قبل أن ينالوه. رج تك 32: 26-30 (يعقوب)؛ خر 33: 12-34: 9 (موسى)؛ 1مل 18: 36-37 (إيليّا)؛ 2مل 2: 2، 4، 6، 9 (إليشاع)؛ 2مل 4: 14-28 (الشونميَّة). في الإنجيل، لمست النازفة يسوع ولا يحقُّ لها أن تلمسه لأنَّها نجسة (لا 15: 25-27). ولكنَّها فعلت لأنَّها آمنت (مر 5: 27-34). ونقول الشيء عينه عن المرأة الكنعانيَّة (مر 7: 24-30) وعن برتيماوس (مر 10: 46-52). وما حرَّك يسوع لإقامة لعازر هو إيمان الأختين وحزنهما (11: 32-33).

ب- جواب يسوع (21: 4)

جواب يسوع في آ4 هو »زجر« كما في 4: 48 (أنتم لا تؤمنون إلاّ إذا رأيتم العجائب). إنَّه تحسُّر قبل أن يكون رفضًا للعمل. لن نعود إلى نداء يسوع: يا امرأة. بما أنَّ مقام الأمِّ رفيع، ندعوها يا سيِّدتي kuria للدلالة على الاحترام. وبحث شرّاحٌ عن معنى رمزيّ في هذه التسمية: هذه المرأة تمثِّل إسرائيل، أو حوّاء الجديدة وأمّ إسرائيل الجديد، وأمّ الكنيسة(9). ويفسَّر هذا اللفظُ على ضوء رؤ 19: 26، فيُقال فيها إنَّها تمثِّل الكنيسة وتكون مثالاً للتلميذ الحبيب الذي هو بدوره مثال لكلِّ تلميذ.

في إطار الدور الكبير الذي يُعطى لإكرام الوالدين في العالم اليهوديّ (سي 3: 7-8؛ يوسيفس، أبيّون 2: 206؛ فيلون، الظلمة 17؛ سيب 1: 74-75؛ يوب 7: 20؛ 35: 1-6؛ 11-13)، بل في عالم البحر المتوسِّط (شيشرون، الصداقة 8: 27؛ هيزيود، الأشغال والأيّام 182-185، 331-332)، جعل يسوع مسافة بينه وبين أمِّه، كما نجد أيضًا في التقليد الإزائيّ (مر 3: 34-35)(10). هي تقترب منه، لا لأنَّه ابنها، بل كصانع معجزة. وأجابها لا كأنَّه ابنها بل كأنَّه ربُّها. هذا الجواب يقابل 7: 6-8 حيث سوف يعمل فيما بعد ما يطلب منه. هذا يبيِّن ارتباطه بزمن الله(11)، رج 4: 4. ولكن في هذه الحالة، ومع إيمان أمّه (آ5) هذا النصّ ليس فقط برهانًا آخر. فمتتالية الطلب (2: 5 - 7)، والعمل المؤخَّر (2: 4؛ 4: 48) وتكرار الطلب (2: 5/4: 49)، كلُّ هذا يوازى مع 4: 47-49 بحيث تصبح أمّ يسوع مثال الإيمان للتلميذ شأنها شأن سائر النساء في الإنجيل، مع أنَّ إيمانها لم يتشكَّك بعد بفهم الصليب، وقد يكون وضع حاجزًا جزئيٌّا ليجعل إيمانها يكبر كما في 4: 48-50؛ 6: 5-6 وفي أماكن أخرى من تقليد يسوع (مر 7: 27؛ مت 8: 7) والسؤال. وهنا قال القديس أوغسطين: يجب أن تتعلَّم أنَّ علاقتها بيسوع كتلميذة أهمّ من علاقتها كأمّ (رسالة 243 إلى Lactus: في البتوليَّة 3؛ مقالات في يو 10: 3، 2).

وينمو عنصرُ الرفض عند يسوع في ما يلي من كلام. ففي العهد القديم وفي التقليد الإنجيليّ (مر 1: 24؛ لو 4: 34)، كما في العادات اليونانيَّة والرومانيَّة، جملة مثل »ما لي ولك يا امرأة« تتضمَّن الابتعاد والعداوة. أقرَّ الشرّاح بهذا الابتعاد، ولكن اختلفوا في ما قدَّموا من أسباب: ابتعد يسوع من حلقة سلطة الوالدين(12)، وطالب بأن يرافق الإيمانُ الآية (4: 47ي؛ 11: 3-4؛ رج 3: 2-3).... أمّا السبب الأوَّل لهذا الرفض فهو أنَّ أمَّه لم تفهم ما تكلِّفه هذه الآية: هي بداية الطريق إلى ساعته، إلى الصليب. وهكذا تحدَّث يوحنّا عن »بداية« آيات يسوع (2: 11)، فعاد إلى »بداية« حياته العلنيَّة (6: 64؛ 8: 25؛ 15: 27؛ 16: 4) التي تكون ذروتُها في الساعة الأخيرة.

وواصلت مريم تدخُّلَها، فطلبت من الخدم أن يعملوا ما يقوله لهم، فعرفت سلطة يسوع وبيَّنت انتظارها بأنه سيفعل شيئًا لكي يبدِّل الحالة. ولمّا قالت ما قالت، أقرَّت بأنَّ يسوع يتجاوب مع طلبها بطرق لامنتظرة. شابهت تلاميذَ يسوع الأوَّلين، الذين بادروا فتبعوا يسوع (1: 37)، بل تركوا يسوع ينظِّم التوقيت (1: 38). غير أنَّها كانت واثقة بأنَّ يسوع يمنحها ما طلبت. قد يقول بعضهم إنَّ يسوع أُجبر على الطاعة لأمِّه لكي يُتمَّ الشريعة التي تطالب بإكرام الوالدين. ولكن لا نجد هنا الخبر كلَّه. فأمُّ يسوع هي هنا كمثال الإيمان، والإيمان هو العنصر الأوَّل في هذه الآية، كما هو النتيجة (2: 11).

3- الرحمة قبل الطقوس (2: 6)

ماذا في كلام يوحنّا عن الأجران؟ هي هنا من أجل الطهارة الطقسيَّة (2: 6؛ رج 3: 25). يرد اللفظ υδρια (الجرَّة) في 4: 28 مع الكلام إلى السامريَّة على بئر يعقوب. كما هو تلميح في خبر زواج إسحق (تك 24: 14-46) حيث تأتي رفقة إلى العين وهي تحمل جرَّتها. أمّا السرد اليوحنّاويّ فيجلعنا قريبين من الفصح (2: 13؛ رج 11: 55). وهنا أيضًا تلميح إلى التوراة مع لفظ λιθινος(من حجر). يرد هذا اللفظ 21 مرَّة في السبعينيَّة، منها 13 في الكلام عن لوحي الشريعة، واثنان يقودان إلى الله الذي يحوِّل قلب شعبه من الحجر إلى اللحم (حز 11: 19؛ 36: 26؛ رج 2كو 3: 3). كانت الأجران (أو: الجرار) من حجر، بحيث لا تكون سريعة العطب تجاه النجاسة اللاويَّة. غير أنَّ هذه الأجران سوف يتحوَّل استعمالُها إلى استعمال آخر. ففي عالم يوحنّا الرمزيّ نتطلَّع إلى أمور أخرى: عماد يسوع أعظم من التطهير التقليديّ (3: 25-26)، بحيث ثُمِّنت الطهارة ساعة طُلب موت يسوع (18: 28). أمّا السامريَّة فحين اكتشفت مياه يسوع الحيَّة، تركت جرَّتها وراءها. ففي محيط يوحنّا وسامعيه، طهارة المياه تستبعد أيضًا سائر العناصر الممزوجة فيها. ويُذكر النبيذ بشكل خاصّ كمادّة يمكن أن يُمزَج بالماء إن كان صالحًا للتطهير.

يرى الفرّيسيّون المتشدِّدون في تحوُّل مضمون الأجران عن هدفها الطقسيّ (2: 6)، عدمَ احترام لتقليد الطهارة بحسب الشريعة، بل نقضًا للشريعة (مثلاً، آنية مقدَّسة تستعمل في الحياة العاديَّة، رج دا 5: 2-4 وآنية الذهب التي أُخذت من الهيكل). أمّا يسوع فاعتبر كرامة أصدقائه أهمَّ شيء بالنسبة إليه. فالعرس يتطلَّب استعدادات هامَّة، وإنسان ثريّ يدفع كلَّ ما يقدر من أجل وليمة عرس ابنه. والخزي الكبير هو أن ينفد النبيذ. ومع أنَّ الحياة لم تكن في خطر، قدّر يسوع الحاجة إلى الخمر أكثر ممّا قدَّر معاصروه أهمِّيَّة الطقوس. هذا التصرُّف يقابل الصورة التي نراها في الأناجيل الإزائيَّة حين يلمس يسوع النجاسة (مر 1: 41؛ رج 5: 30-34، 41) ويجعل غسل الأيدي قبل الطعام أمرًا نسبيٌّا (مر 7: 1-15)، ويعتبر الطهارة الطقسيَّة أقلّ أهمَّيَّة من الحاجة البشريَّة (لو 10: 31-37). وقال يسوع: »أريد رحمة لا ذبيحة« (مت 9: 13؛ 12: 7).

استعمال الأجران من أجل التطهير يطرح سؤالاً في الحلقات التقويَّة، بحيث نظنُّ أنَّ مضيف يسوع كان أقلَّ غيرة من الفرّيسيّين في هذا المجال. نشير هنا إلى أنَّ مثل هذه الأجران وُجدت في أماكن عديدة، كما اعتاد الأرستقراطيّون في أورشليم أن يزيِّنوا بيوتهم بمثل هذه الأحواض من أجل اغتسال اليدين قبل الطعام. كان ماءُ التطهير من نبع جارٍ أو من المطر. أمّا هنا، فأُخذ الماء من البئر على ما يبدو. ولكن يُطرح السؤال: لماذا كلُّ هذه المياه (650 ليترًا)؟ وبالتالي لماذا كلُّ هذا الخمر؟ رج 6: 10؛ 21: 11. من جهة، للكلام عن معجزةٍ تلفتُ النظر، وإلاّ لن يرى الناس تحوُّل قنينة أو وعاء صغير. نلاحظ هنا أنَّ القدّيس أوغسطين انطلق من الرقم ستَّة لكي يصل إلى أيّام الخلق (مقالات في يوحنّا 9/6: 1-3). وأراد يوحنّا أن ينطلق من وفرة الخمر ليصل إلى عطيَّة الروح القدس (3: 34؛ رج 7: 37-39).

4- من يعرف ومن لا يعرف (2: 7-10)

أشار يوحنّا إلى كِبَر الأجران ليدلَّ على أنَّ هذه الكميَّة الوافرة أكثر من كافية للوقت المتبقّي من العيد. وبالنظر إلى هذه الوفرة، تعليمةُ يسوع بأن »يملأوا« الأجران، تدعونا إلى أن نقابل لغة يوحنّا في »الملء«. لا ملء الطعام فقط (6: 12، 13، 26)، بل ملء الفرح (3: 29؛ 15: 11؛ 16: 24؛ 17: 11)، وملء النعمة والحقّ (1: 14، 16). πληρης عادة. وهنا γεμιξωالذي يظهر فقط في 2: 7 وفي 6: 13: املأوا γεμισατε. هنا نفهم أنَّ يسوع يعطي وفرة الغنى المادّيّ، كما يُعطي وفرة الغنى الروحيّ (10: 10). ملأ الخدمُ الأجران »إلى فوق« εως ανω. رج 8: 23 حيث يقول يسوع: أنا من فوق ανω. يعني البعد العموديّ مع عطاء الروح »بغير حساب« (3: 34) εκ μετρου. لا يُدرك القارئُ هذا التلميح لدى القراءة الأولى، غير أنَّ استعمال الرمزيَّة في الخبر اليوحنّاويّ بشكل متواتر، مع تفسير لاحق، يقوده (أو: السامع) في هذه الطريق. فحين يورد نيقوديمس في 3: 2 آيتي 2: 1-25، يلفت انتباهنا إلى »الماء« في 3: 5، الذي يرمز إلى العماد في الروح.

داخل الخبر اليوحنّاوي، لم تبقَ معجزة يسوع في قانا أمرًا فرديٌّا (2: 9). ومع ذلك، فالطابع النسبيّ للمعجزة (في 3: 2 نقرأσημεια، الآيات في صيغة الجمع) يعارض بقوَّة المعجزات العلنيَّة، مثل طلب الآية في الهيكل (2: 18). ما من أحد في هذا الخبر يجهل أنَّ المعجزة حصلت. فرئيس المتَّكأ اختبر المعجزة، ولكنَّه لم يفهم ماذا اختبر (2: 7).

رئيس المتَّكأ هو هنا، باسم العريس. يلاحظ النقص، يذوق الطعام والشراب قبل أن يقدَّما. دُعيَ في الحضارة اليونانيَّة والرومانيَّة: القائد ηγουμενος وله يحقُّ كلُّ إكرام إن قام بواجبه خير قيام (سي 32: 1-2). وإن كانت الوليمة لأحد الفرّيسيّن، فهذا »القائد« يهتمُّ بالطهارة الطقسيَّة للخمر الذي يُقدَّم، وإن لم يكن المدعوُّون مهتمِّين بهذا الأمر. وحين يرى أنَّ المدعوّين أكثروا من الشراب بحيث أضاعوا رشدهم (أس 1: 10)، يقدِّم لهم من النبيذ الخفيف.

والتعارض بدا بين الذين تعرَّفوا إلى المعجزة، وبين الذين لم يفهموا شيئًا. ومع أنَّ الأمر لا يدلُّ دومًا على الجهل أو على الموقف السلبيّ (1: 48)، فيوحنّا يستعمل ποθεν (من أين) ليتحدَّث عن جهل المحاورين أو الذين من الخارج الذين لا يقدرون أن يفهموا عمل الله الذي هو »فوق« (3: 8؛ 4: 11؛ 6: 5؛ 7: 27-28؛ 8: 14؛ 9: 29-30؛ 19: 9). وأمُّ يسوع لم تكن من الأشراف في المجتمع القديم، وإيمانُها البعيد عن الشبهة (مثل نيقوديمس مثلاً) حرَّك المعجزة (3: 3-5). أشار يوحنّا إلى معرفة الخدم في 2: 9، ليعطي دليلاً ملموسًا أنَّ الذين استقوا لم يكونوا جاهلين بأنَّ المعجزة حصلت. وفي الوقت عينه، هذه الإشارة بيَّنت التعارض بين معرفتهم وعدم المعرفة عند رئيس المتَّكأ في إطار السرِّ المسيحانيّ، كما التعارض بين نيقوديمس والمرأة السامريَّة، أو بين »النخبة المثقَّفة« والناس البسطاء المنفتحين على نداء الربّ (7: 46-52). هؤلاء هم المهمَّشون، كما كان الوضع في الجماعة اليوحنّاويَّة تجاه الطبقة المتسلِّطة (يو 9: 24-34). نالوا وحيًا لا يصل إليه العالم الواسع (14: 17، 21-23). نحن لا نضغط على هذا الوضع، ولكن يبقى أنَّ يوحنّا أبرز إيمانَ التلاميذ وحدهم (2: 11).

5- أظهر مجده (2: 11)

حين أوضح يوحنّا فقال إنَّ هذه الآية هي »الأولى« (2: 11)، قدَّم نموذجًا لآيات يسوع بشكل عامّ. أعلن المطلع أنَّ يسوع كشف مجد أبيه لأتباعه، كما الله كشف مجدَه لموسى على الجبل، وهو مجد »مملوء نعمةً وحقٌّا« (1: 14-18). إن كشفتْ هذه الآية شخصَ يسوع، فسمحت له أن يبيِّن هدفه بالنسبة إلى العرس وأبرزت تمجيد يسوع الأخير الذي يبدأ على الصليب (12: 23-25). وإذ قلَّـل من قـدر الجـرار المعدَّة للتـطهير، بدأ يقوم بأعمال لا بدَّ منها من أجل الـ »ساعة« (2: 4؛ رج 2: 19).

الرأي العامّ مهمّ في الإنجيل، والخزي يلحق أهل العريس إن نفد الخمر، لسنوات عديدة. أنقذ يسوع كرامةَ مضيفيه فأمَّن لهم الخمر، فنما في الوقت عينه ''مجده'' δοζα أو كرامته، وإن بشكل خفيّ لا بشكل علنيّ. غير أنَّ القول حول يسوع الذي كشف مجده، يشير إلى الكشف البيبليّ للمجد الإلهيّ، كما نجده في الإنجيل (12: 41).

فكلُّ آيات يسوع يحيط بها تشديدٌ على المجد، في ارتباط صريح مع الآيتين الأولى والأخيرة بواسطة هذا العنوان (2: 11؛ 11: 40: تشاهدين مجد الله). يكون يوحنّا هنا صدى لما في خر 16: 7 حيث رأى إسرئيل »مجد« الله في آياته من أجلهم في البرّيَّة: قدَّم لهم الطعام بحسب رغبتهم مع أنَّهم لم يؤمنوا. والسبعينيَّة ربطت ربطًا صريحًا الآيات مع المجد في عد 14: 22، وكذلك في حياة موسى. لا شكَّ في أنَّ يسوع لا يكون قرب موسى في هذه المقابلة، بل إنَّ الله كشف مجده لإسرائيل ساعة كان موسى يقود إسرائيل. بعد ذلك، قدَّم يوحنّا في إنجيله المفتاح الفساريّ لجلوس يسوع في المجد في 12: 41: يسوع هو الربّ الذي رآه أشعيا في رؤيته (6: 1-5).

أن »يُظهر« يسوعُ مجدَه أمرٌ لافتٌ في السياق اليوحنّاويّ (1: 31؛ 14: 21-22؛ 16: 14-15؛ 17: 6؛ 21: 1، 14). فالفعل ξανεροω (1: 31؛ 3: 21؛ 7: 4؛ 9: 3؛ 17: 6؛ 21: 1، 14) يعود إلى »أعمال« يكشف فيها يسوع عن شخصه وعن هويَّته. سواء من أجل الشعب (3: 21) أو الله (9: 3)، وخصوصًا من أجل كشف شخصيَّة يسوع (1: 31؛ 7: 4؛ 21: 1، 14) أو من أجل كشف الآب (17: 66). رج 1يو 1: 2، 2: 28-3: 2 (فكر إسكاتولوجيّ)؛ 3: 5، 8؛ 4: 9. مثل هذه اللغة تصوِّر الوحي الإلهيّ (رؤ 15: 4؛ رسالة أرستيس 132-133)، وإن لم يكن من حاجة إلى ذلك (1يو 2: 19). هناك لفظ مقابل δεικνυς يطبَّق لتبيان واقع قيامة يسوع (20: 20 أو في 2: 18)، وخصوصًا شخص الآب (5: 20؛ 10: 32؛ 14: 8-9).

حين آمن التلاميذ، تجاوبوا مع آية يسوع بشكل نموذجيّ من أجل المؤمنين (مع أنَّ أرفع شكل التلمذة يتجاوز الآية من أجل الإيمان، 20: 29-31). ما يُدهش هو الجواب المثالي لأخبار المعجزات القديمة، بما فيها تلك التي نقرأ عند الإزائيّين. أمّا يوحنّا فأبرز اللقاء بين المعجزات والإيمان، الذي هو حاضر أيضًا عند الإزائيّين وفي العالم القديم اليونانيّ والرومانيّ. تحدَّث يوحنّا مرارًا عن الآيات (2: 11، 18، 23؛ 3: 2؛ 4: 48، 54؛ 6: 2، 14، 26، 30) في ارتباط مع رأى أو آمن (2: 11، 23؛ 4: 48؛ 6: 30). فحين رأى إسرائيل كيف دمَّر الربُّ المصريّين، آمن بالربّ وبعبده موسى (خر 14: 31). هذا النصّ أعلم يوحنّا بكرستولوجيّا تتفوَّق على موسى (يو 14: 1).

كما قلنا أعلاه، هذا المقطع يشير إلى متطلِّبات التلمذة في وضع يوحنّا خارج العالم السرديّ. فإذا كانت النخبة اليهوديَّة وسلطات المجمع تمثِّل المعارضة الأولى في الإنجيل الرابع، فنحن لا ندهش إن كان الخدم وحدهم عرفوا من أين جاءت الخمر (2: 9)، هذا إذا جعلنا التلاميذ جانبًا. فالذين لا يملكون القوَّة، يعرفون وحدهم قيمة الآية التي تدلُّ على يسوع.(13)

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM