خدمة الله لا الآلهة.

 

خدمة الله لا الآلهة

يش 24: 1-2، 14-18

الحياة خيار بين اثنين. بين الله الذي نثق به كلّ الثقة ونسلّمه حياتنا مهما كانت الظواهر. وبين الآلهة العديدة التي تجتذبنا إليها. الأوّل بين هذه الآلهة هو العنف الذي يسيطر علينا فنخضع له، مع أنّ الربّ قال: لا يكن لك إله غيري. والإله الثاني هو الغنى وتكديس المال، بحيث لا نعرف أن نرى »لعازر« الذي عند باب بيتنا فلا نعطيه بعض الفتات المتساقط عن مائدتنا. وفي خطّ هذا الإله، تأتي السرقة وظلم الاخرين واستغلالهم، فتكثر ثروتنا على حساب الآخر. نأخذ بيتهم ونضمّه إلى بيتنا، نأخذ كرمهم ونوسّع ساحات قصورنا. فلا نترك مكانًا لأحد. ولا ننسى الثالث وهو الأكبر في عالمنا: الجنس، الفجور والفسق. من أجل هذا الإله نضحّي بكلّ شيء: بالزوجة، بالأولاد، بالكرامة والشرف. المهم أن نركَع أمام هذا الإله، كما اعتاد الأقدمون أن يفعلوا حتّى في »احتفالاتهم الدينيّة«. طرح يشوع على المجتمعين في شكيم (تلّ البلاطة اليوم، قرب نابلس)، قرب بئر يعقوب سؤالاً واضحًا، وطلب جوابًا حرٌّا لا مواربة فيه. وطُرح السؤال عينه بعد كتابة هذا النصّ في شكله النهائيّ بقرون عديدة: من تريدون أن تعبدوا؟ ويُطرَح السؤال علينا.

ونبدأ فنقرأ النصّ الكتابيّ في سفر يشوع، 24:

1 وجمع يشوع أسباط بني إسرائيل في شكيم،

واستدعى شيوخهم ورؤساءهم وقضاتهم وقادتهم،

فحضروا أمام الربّ.

2 فقال يشوع لجميع الشعب:

»هذا ما قال الربّ إله إسرائيل:

عبْرَ نهر الفرات سكن آباؤكم منذ القديم،

تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور،

وعبدوا آلهة أخرى.

14 فخافوا الربّ واعبدوه بكمال وإخلاص،

وانزعوا الآلهة التي عبدها آباؤكم

في نهر الفرات وفي مصر، واعبدوا الربّ.

15 وإن كان يسوؤكم أن تعبدوه،

فاختاروا لكم اليومَ من تعبدون،

إمّا الآلهة التي عبدها آباؤكم عبر الفرات،

أو آلهة الأموريّين الذين أنتم مقيمون بأرضهم.

أمّا أنا وأهلُ بيتي فنعبد الربّ«.

16 فأجابه الشعب:

»حاشا لنا أن نترك الربّ،

ونعبد آلهة غريبة!

17 لأنّ الربّ إلهنا هو الذي أخرجنا،

نحن وآباءنا من مصر، أرض العبوديّة،

وصنع أمامنا تلك المعجزات العظيمة،

وحفظنا في جميع الطرق التي سلكناها،

وبين جميع الشعوب الذين عبرنا أرضهم.

18 وطرد من أمامنا جميع الشعوب،

وكذلك الأموريّين الساكنين في الأرض قبلنا،

فنحن أيضًا نعبد الربّ لأنّه إلهنا.

1- سياق النصّ

يقدّم ف 24 (آ 1-28) نظرة إلى الوراء، إلى تاريخ شعب إسرائيل كما اقتاده الله. كما نجد دعوة للشعب المقيم الآن في أرضه، أن يقرّ بارتباطه بالله. وها يُطلب منه أن يجدّد تعلّقه بالعهد، لا بشكل خارجيّ وفي حفاظ على متطلّباته وحسب. فالتعلّق يكون روحيٌّا أو يصبح مثل الندى الذي يتبخّر حين يطلع الصباح.

طرح النقد البيبليّ أكثر من سؤال حول هذا النصّ. أما هو تكرار لما في ف 23 الذي يتضمّن هو أيضًا خطبة يشوع؟

2 شختُ وكبرتُ في السنّ.

3 وأنتم رأيتم جميع ما فعل الربّ...

14 وها أنا اليوم راحل كما يرحل سائرُ البشر.

ثمّ إنّ آ 29-31 يمكن أن تكون امتدادًا لما في 23: 16 (في 23: 14 تحدّث يشوع عن موته). وهذا ما نكتشفه إن نحن جمعنا 23: 16 مع 24: 29-31.

23: 16 إذا خالفتم عهدَ الربّ إلهكم الذي أمركم به،

وعبدتم آلهة أخرى وسجدتم لها،

يشتدّ غضب الربّ عليكم

فتزولون عاجلاً من الأرض الصالحة التي أعطاكم.

29 ونقرأ ف 24: وبعد ذلك مات يشوع بن نون، عبد الربّ وهو ابن مئة وعشر سنين.

30 فدفنوه في أرضه، في تمنة سارح التي في جبل أفرايم...

31 وعبد بنو إسرائيل الربّ كلّ أيّام يشوع، وكلَّ أيّام الشيوخ، الذين امتدّت حياتُهم إلى ما بعد يشوع، والذين عرفوا كلَّ ما صنع الربّ لإسرائيل.

وأهمّ شيء هو المعنى الذي نعطيه لما في آ 25-28 حيث نقرأ:

25 فقطع يشوع للشعب عهدًا في ذلك اليوم، وجعل لهم فرائض وأحكامًا في شكيم.

26 وسجّل يشوع هذا الكلام في كتاب شريعة الله، وأخذ حجرًا كبيرًا وأقامه هناك تحت البلّوطة التي عند مقدس الربّ.

27 وقال يشوع لجميع الشعب:

»هذا الحجر يكون شاهدًا بيننا،

لأنّه سمع جميع أقوال الربّ التي كلّمنا بها،

فيكون شاهدًا لئلاّ تُنكروا إلهكم«.

28 ثمّ صرف الشعبَ، كلَّ واحد إلى مُلكه.

في الواقع، نحن أمام عهد. ولكن من أيّ نوع؟ تحدّثت آ 25 عن عقد قطعه يشوع »من أجل« الشعب. ولكن مع من؟ هل الله هو الذي اتّخذ المبادرة، وكان واحدًا من الطرفين؟ أو هو فقط »شاهد« بين القبائل (آ 27)؟ في أيّ حال، تدوينُ كلِّ هذا في كتاب الشريعة، يكفل مضمونَه. ويكوّن رباط حقٍّ مقدّس بين قبائل إسرائيل التي توافقت على العهد.

يبدو أنّ هنا يكمن المعنى الأوّل لهذا النصّ. ثمّ إنّ أمانة الجميع للربّ تكوِّن جزءًا من هذا العهد بين القبائل (آ 27). ونلاحظ أخيرًا أنّ »عبارات« عهد أخرى، كانت دينيّة أكثر من هذا العهد الذي هو سياسيّ أكثر ممّا هو دينيّ. مثلاً، خر 24: 3-8:

3 فجاء موسى وأخبر الشعب بجميع كلام الربّ وأحكامه،

فأجابه الشعبُ بصوت واحد:

»كلّ ما تكلّم الربّ به نعمل به«.

4 فكتب موسى جميع كلام الربّ،

وبكّر في الصباح،

وبنى مذبحًا في أسفل الجبل.

8 فأخذ موسى الدم ورشّه على الشعب وقال:

»هذا هو دمُ العهد الذي عاهدكم به الربّ على جميع هذه الأقوال«.

إنّ يش 24 في وضعه الحاليّ، يمثّل نصًا مركّبًا من عناصر عديدة لحفلة تجديد العهد. جاء القسم الأوّل »تذكيرًا تاريخيٌّا« بحقوق الله التي نراعيها، فنكرمه لأنّه الإله الواحد بعد أن عرفناه المخلّص الوحيد.

2- النصّ الكتابيّ (24: 1-2، 14-18)

أ- الدعوة إلى الاحتفال (آ 1-2)

أخذ يشوع الدور الأوّل هنا، كما في سفر يشوع كلّه، ودعوة الشعب تبقى امتيازًا لدى وسيط العهد، أوّلاً، موسى. ونقرأ خر 19: 10-15:

10 قال له الربّ:

»إذهب إلى الشعب وقل لهم:

طهّروا نفوسكم اليوم وغدًا،

واغسلوا ثيابكم

11 واستعدّوا لليوم الثالث،

ففي اليوم الثالث،

أنزل أمامكم على جبل سيناء

14 فنزل موسى إلى الشعب، وأمرهم أن يطهّروا نفوسهم ويغسلوا ثيابهم

15 وقال:

»كونوا مستعدّين لليوم الثالث ولا تقرَبوا امرأة«.

وفي عد 10: 1-4 نفهم أنّ الربّ أمر موسى بأن يضع له بوقين ليدعو الشعب إلى الاجتماع أو إلى الرحيل. وبعد موسى، لعب يشوع دور الوسيط، صار موسى آخر. فنقرأ عد 27: 18-23:

18 فقال الربُّ لموسى:

»خذ يشوع بن نون، فهو رجل فيه روحُ الربّ،

وضَعْ يدك عليه.

19 وأقمه بمحضر من العازار الكاهن والجماعة كلّها، خلفًا لك

20 واجعل عليه من مهابتك لتسمع له جماعة بني إسرائيل كلّها

22 ... بأمره يخرج بنو إسرائيل وكلّ الجماعة إلى الحرب،

وبأمره يعودون.

وما فعله موسى، وجد صداه في بداية سفر يشوع (3: 7)، بعد عبور الأردنّ:

فقال الربّ ليشوع:

»من هذا اليوم أعظّمك في عيون بني إسرائيل،

حتّى يعلموا أنّي أكون معك،

كما كنتُ مع موسى«.

نلاحظ في النصّ الذي نقرأ تفصيلاً لافتًا: اتّخذ يشوع وحده المبادرة فدعا الشعب. لا إشارة إلى الكهنة ولا إلى اللاويّين بأن يدعوا الشعب أو بأن يكونوا من المدعوّين، لا شكّ بأنّنا نقول، ما سبق وألمحنا عنه: لسنا في الأصل أمام اجتماع »عباديّ« بحصر الكلمة. فإن ارتدى هذا الاجتماع وجهة قدسيّة (أمام الربّ، آ1)، فهو لا يعني الكهنة، وإن يكن العازار جُعل مع يشوع من أجل قيادة الشعب كما قال عد 27: 19. إنّ إغفال كلّ إشارة إلى الكهنة ليس من قبيل الصدف. فهذا يعني في الأصل، أنّ الحاضرين لم يروا في هذا الاحتفال عهدًا مع الربّ. في هذه الفرضيّة تكون آ 1 مقدّمة لقطع العهد الذي ذُكر في آ 25-28 قبل إطلاق كلّ واحد »إلى ميراثه«.

ووجود خطبة يشوع (التي نعود إليها) التي تجعلنا في مناخ »خطب تجديد العهد«، لا تتيح لنا، مع ذلك، أن نماهي بين الاجتماع الذي نقرأ هنا مع ذلك الذي نقرأ في يش 8: 30-35:

30 في ذلك الوقت، بنى يشوع مذبحًا للربّ، إله إسرائيل، في جبل عيبال،

31 بناه كما أمر موسى، عبدُ الربّ، بني إسرائيل، حسب ما هو مكتوب في كتاب شريعة موسى. بناه مذبحًا من حجارة غير منحوتة (خر 20: 24-26) لم يُرفَع عليها حديد. وقدّم بنو إسرائيل على هذا المذبح، محرقات للربّ وذبحوا ذبائح سلامة.

32 ونقش يشوع هناك على الحجارة، بحضور بني إسرائيل، نسخة من الشريعة التي كتبها موسى.

33 وكان جميعُ بني إسرائيل وشيوخُهم وقادتُهم وقضاتُهم واقفين على جانبَيْ تابوت العهد من هنا وهنا، قبالة الكهنة اللاويّين حاملي التابوت...

34 وبعد ذلك، قرأ يشوع جميع ما جاء في كتاب الشريعة...

35 كلَّ كلمة أمر بها موسى بحضور جماعة بني إسرائيل، ومنهم النساء والأطفال والغرباء الذين معهم.

في هذا النصّ، نرى »الكهنة اللاويّين حاملي تابوت عهد الربّ«. ولكنّ الدور الرئيسيّ يبقى ليشوع الذي »يقرأ كلَّ كلمات الشريعة« (آ 34).

منذ زمن قديم جدٌّا، اعتُبرت شكيم موضعًا لاحتفالات العهد، أو تجديده في كنعان. في يش 8: 33، جانبا عيبال وجرزيم، اللذان يُشرفان على سهل شكيم، كأدراج مسرح واسع، يشكّلان إطارًا مهيبًا من أجل الاحتفال. في آ1، 25، ذُكرت شكيم ضمنًا. والجبلان يسمعان قسَم الآتين الجدد (آ 27). ذلك ما كان يحدث في الماضي مع العشائر الكنعانيّة الذين يتبادلون تعهّداتهم أمام »إيل بريت«، إله العهد، إله الاتّفاق (قض 9: 46).

وهكذا يبدو أنّ الكاتب انطلق من خبر قديم جدٌّا يروي اتّفاقًا بين القبائل، عُقد في شكيم، وشهد عليه »حجرٌ كبير نُصب تحت البلّوطة التي في معبد الربّ«، على أحد المرتفعات (شكيم تعني الكتف) التي عرفها أهل البلاد. إذًا، انطلق من خبر قديم يكون الحجر فيه »سامعًا« (آ 27) فوصل إلى خبر يروي احتفالاً بالعهد مع الربّ. أمّا الآن، فالشعب نفسه هو »شاهد على نفسه« (آ 22). وتلك هي المرحلة التي تعنينا.

ونلاحظ في آ 27 أنّ الحجر »سمع جميع أقوال الربّ التي كلّمنا بها«. ولكنّ الله لا يتكلّم أبدًا في هذه النصوص. كما أنّ يشوع لا يقرأ كلمات الله، الشريعة، كما في 8: 34. هذا يعني أنّني على مستويين من القراءة. في الأصل، شعب البلاد يُقيم عهدًا مع يشوع. وفيما بعد، وفي الرجوع من المنفى، جُدِّد العهد على مثال ما فعل يشوع في بداية الدخول إلى كنعان. وهنا نكون أمام بداية ثانية، جديدة. كان خروج أوّل مع موسى وخروج ثان في نبوءة أشعيا. وهنا نحن أمام دخول أوّل ودخول ثانٍ في النصّ الواحد، الذي احتفظ بالقديم، ومنه ذاك الحجر، وتذكّر كلام الله في شريعة يعيدون قراءتها.

ب- عودة إلى التاريخ

هنا نقابل بين 23: 3-5، 9-10 مع 24: 2-13. في الأوّل (23) نقرأ:

3 وأنتم رأيتُم جميع ما فعل الربّ إلهكم بكلّ تلك الأمم من أجلكم، لأنّ الربّ هو المحارب عنكم.

4 انظروا. قسمتُ لكم أرض الأمم الباقية حصصًا لأسباطكم بالقرعة، هذا فضلاً عن أراضي الأمم الذي أبدتُهم من الأردنّ شرقًا إلى البحر المتوسّط غربًا.

5 والربّ إلهكم هو الذي يهزمهم ويطردهم من أمامكم. وتملكون أرضَهم كما قال لكم الربّ إلهكم.

9 الربّ إلهكم طرد من أمامكم أممًا عظيمة، قويّة، ولم يصمد أمامكم أحدٌ إلى هذا اليوم.

الواحد منكم يهزم ألف، لأنّ الربّ إلهكم هو المحارب عنكم كما وعدكم.

وفي 24: 3-13 نقرأ:

3 فأخذتُ إبراهيم أباكم من عبر النهر، وسيّرتُه في أرض كنعان، وأكثرتُ نسله ورزقته إسحق.

5 وأرسلتُ موسى وهارون. وضربتُ مصر بالمعجزات، وبعد ذلك أرجعتكم.

8 ثمّ جئتُ بكم إلى أرض الأموريّين الساكنين شرق الأردنّ فحاربوكم، فسلّمتهم إلى أيديكم ووزّعت عليكم أرضهم.

11 ثمّ عبرتم الأردنّ وجئتم إلى أريحا

13 وأعطيتكم أرضًا ما تعبتم بها، ومدنًا ما بنيتموها، فأقمتم فيها، وكرومًا وزيتونًا ما غرستموها وأنتم اليوم تأكلونها.

نفهم أوّلاً أنّ النصّ كُتب بعد العودة من المنفى، في شكله النهائيّ، وكاتبه يشكر الربّ الذي سمح للشعب بأن يقيم في أرض فلسطين بعد أن خسرها. فيوجز مراحل تاريخ الله منذ إبراهيم: كيف سلك الله معهم منذ دعوة إبراهيم، والآباء »الذين عبدوا آلهة أخرى« (كما فعل المنفيّون في بابل) حتّى الساعة الحاضرة حيث بنو إسرائيل، أبناء هؤلاء الآباء الذين عرفوا عبوديّة مصر، والتحرير، والمسيرة في البرّيّة بما فيها من قساوة. وها هم الآن يمتلكون مدنًا وكرومًا، ما تعبوا في الحصول عليها بل تدخّل الله فمنحهم إيّاها. هذا في ف 24. أمّا في ف 23، فكانت عودةٌ فقط إلى المرحلة الأخيرة من المسيرة مع الله، الدخول إلى أرض كنعان والإقامة فيها.

مثل هذا التذكّر يشكّل عنصرًا جوهريٌّا في الاحتفال بتجديد العهد. ذاك كان الوضع في كلّ معاهدة بين كبير وصغير، بين أوّل وتابعه. الكبير يذكّر الصغير بما فعله له. فيبقى على الصغير أن يبادله الأمانة والطاعة والخدمة.

في تث 6: 21-25، يتذكّر المؤمنون: »كنّا عبيدًا لفرعون بمصر، فأخرجنا الربّ بيد قديرة، وصنع معجزات وعجائب عظيمة... فأمرنا الربّ بأن نعمل بجميع هذه السنن ونخافه وهو إلهنا«. هكذا عمل الله، وهكذا وجب على الشعب أن يعمل. وفي هذا الخطّ، نقرأ النصوص النبويّة حيث يحاكم الله شعبه. يذكّره بما فعل، ويسأله. ويهدّده بالعقاب لأنّه خان العهد (هو 2: 4):

حاكموا أمّكم حاكموها،

فما هي امرأتي ولا أنا رجلها.

لتزحْ زناها عن وجهها،

وفسقها من بين ثدييها.

ويطلب ميخا شهادة السماء والأرض، ويدعو شعبه إلى المحاكمة، في ف 1:

2 إسمعوا يا جميع الشعوب،

وأنصتي أيّتها الأرض وملؤها.

السيّد الربّ شاهد عليكم،

شاهدٌ من هيكله المقدّس.

6 سأجعل السامرة خرابًا،

حقلاً لغرس الكروم،

وألقي حجارَها في الوادي،

وأعرِّي أسس بنيانها.

7 سأحطِّم كلَّ تماثيلها،

وأحرق أوثانها بالنار،

وأجعل أصنامها دمارًا.

الخيانة الأولى هي عبادة الأصنام. يترك الإنسان الله. وما يعتّم أن يترك القريب الذي يُصبح غريبًا، ثمّ عدوٌّا. حينئذ »ينهض الربّ عن كرسيّ قضائه، ويتهيّأ ليدين شعبه« (أش 3: 13). ويوجّه كلامه بشكل خاصّ إلى الشيوخ والحكّام: »نهبتم الكروم، وسلبتم المساكين، وملأتم بيوتكم. ما بالكم تسحقون شعبي وتطحنون وجوه البائسين؟« (آ 14-15). وعد الربّ ونفّذ عهده، وأعطى شعبه الأرض (يش 10: 10). فأين وعد الشعب؟

ج- الاستعداد (24: 14-15)

بدأت الخطبة بنداء: »فخافوا الربّ« (آ 14). وتكرّرت في آ 23: »وجّهوا قلوبكم إلى الربّ«. ذاك هو الأسلوب الاشتراعيّ. »والآن...« بعد أن روى موسى »التاريخ السابق«، قال في تث 4: 1: »والآن يا بني إسرائيل، إسمعوا السنن والأحكام التي أعلّمكم إيّاها لتعملوا بها فتحيوا وتدخلوا وتمتلكوا الأرض التي يعطيكم الربُّ إلهُ آبائكم«. ونقرأ الشيء عينه في تث 10: 12: »والآن يا شعب إسرائيل، ما الذي يطلبه منك الربّ إلاّ أن تخافه، وتسلك في طرقه، وتحبّه وتعبده بكلّ قلبك وكلّ نفسك«.

أفعال الله يعيشها الشعب وكأنّها حاضرة أمامه، وإن حصلت مع الآباء. ذاك كان موقف الذين سبقونا وذاك يكون موقفنا. »فاعلموا الآن وردّدوا في قلوبكم أنّ الربّ هو الإله في السماء من فوق، وفي الأرض من أسفل، ولا إله سواه. فاحفظوا سننه ووصاياه...« (تث 4: 39-40). ونقرأ »كلام موسى« في تث 11: 26-27: ها أنا أتلو عليكم اليوم بركة ولعنة: البركة إن سمعتم لوصايا الربّ إلهكم التي أنا آمركم بها اليوم، واللعنة إن لم تسمعوا لوصايا الربّ إلهكم، وزُغتم عن الطريق التي أنا آمركم بسلوكها اليوم، واتّبعتم آلهة غريبة ما عرفتموها«.

هكذا يتمّ الارتباط مع القسم الأوّل من الخطبة: وضع الربّ حدٌّا لوضع مؤلم. وضع تاريخيّ واجتماعيّ. كنتم عبيدًا في مصر. كنتم منفيّين في بابل، في أرض غريبة. ووضع دينيّ. عبدتم »آلهة غريبة«. آلهة مصر وآلهة بابل.

إن كانت الأرض كلّها للربّ، فهو هيّأ أرض كنعان ليعطيها لشعبه. هؤلاء الخارجون من مصر سوف ينظَّمون فيكونون الشعب الذي يريده الله، وهو يكون إلههم. هذا التعبير الوجوديّ عن العهد، يؤسِّس الله كلَّ متطلّباته، كما قال إر 7: 23:

أمرتهم بأن يسمعوا لي حين أكلّمهم،

فأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا،

ويسلكون في كلّ طريق آمرُهم به لخيرهم.

وإذ تحدّث إرميا (ف 11) عن خيانة العهد، قال:

3 هذا ما قال الربّ إله إسرائيل:

»ملعون من لا يسمع كلمات هذا العهد

4 الذي أمرتُ به آباءكم

يوم أخرجتُهم من أرض مصر،

من أتّون النار وقلت:

إسمعوا لصوتي واعملوا بوصاياي،

فتكونوا لي شعبًا وأكون لكم إلهًا.

وهنا أيضًا. فتنبيه يشوع يلتقي مع متطلّبات تُعتبَر أساسيّة. وتُذكّر دومًا حين يُقطَع العهد بين اثنين. في الشرق يرتبط التابع بكبير يحميه. في التوراة، هو امتلاك، فيه يكون الواحد للآخر: أنتم شعب لي. أنا أمتلككم. أنا إله لكم وأنتم »تمتلكوني«. صرتُ لكم. أهتمّ بكم كما الأمّ تهتمّ بطفلها. نقرأ خر 34:

10 فقال الربّ لموسى:

»ها أنا أقطع عهدًا:

أصنع أمام شعبك معجزات...

فيرى كلُّ الشعب...

14 لا تسجدوا لإله آخر،

لأنّي أنا الربّ إله غيور

15 لا تعاهدوا سكّان تلك الأرض«.

27 وقال الربّ لموسى:

»أكتب هذا الكلام،

لأنّي بحسبه قطعتُ عهدًا

معك ومع بني إسرائيل«.

وراح الأنبياء في الخطّ عينه، فتحدّثوا عن عهد يكون علاقةً بين الأمّ وطفلها، وبين الزوج وزوجته. صار الرباط على مستوى الحبّ والرحمة. وطلب يشوع من الشعب بأن ينقّوا عهدهم مع الربّ. فيُبعدوا الآلهة الغريبة عنهم (آ 24).

د- الدعوة إلى الجواب (24: 15، 19-23)

وحده الله، السامي، المتعالي، يستطيع أن يتّخذ المبادرة فيعقد عهدًا مع البشر. هذا ما نقرأه مثلاً في تك 17:

2 »فأجعل عهدي بيني وبينك، وأكثر نسلك جدٌّا«.

3 فوقع أبرام على وجهه ساجدًا (علامة الخضوع التامّ). فقال له الله:

»هذا هو عهدي معك: تكون أبًا لأمم كثيرة«.

7 »وأقيم عهدًا أبديٌّا بيني وبينك وبين نسلك من بعدك، جيلاً بعد جيل، فأكون لك إلهًا ولنسلك من بعدك«.

9 وقال الله لإبراهيم:

»إحفظ عهدي أنت ونسلك من بعدك، جيلاً بعد جيل.

10 وهذا هو عهدي الذي تحفظونه...«.

هو الربّ من يقطع عهدًا ويُعدّ معاهدة (تك 15: 18). يضع شروطه، فيبقى على المؤمن أن »ينفّذها« لكي يصبح العهد بركة. وإلاّ ينقلب لعنة وخسارة ودمارًا. أمّا سفر الخروج (19: 5-6) فقدّم العهد في ألفاظ أخرى فقال:

5 والآن، إن سمعتم كلامي وحفظتم عهدي،

فإنّكم تكون شعبي الخاصّ بين جميع الشعوب،

فالأرض كلّها لي.

6 وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدّسة.

بادر الله ونادى. ولكن على الشعب أن يسمع النداء، ويقبل بالشروط. هذا ما لا تقوله أخبار الآباء (إبراهيم وإسحق)، التي فيها يقيم الله عهدًا، يؤسّس عهدًا. في ذلك الوقت، كان الله يتصرّف بسلطته الخاصّة ومع شخص واحد، لا مع شعب واحد. مع إبراهيم، ثمّ مع إسحق ويعقوب بالنظر إلى إبراهيم. وحين صار الشعب (الذي ارتبط بهم فيما بعد، فرأى فيهم أصوله) واقعًا مكوّنًا، طُلب منه أن يقبل أو يرفض. »فأجابوا كلّهم« جميع ما تكلّم به الربّ نعمل به. فنقل موسى إلى الربّ جواب الشعب« (خر 19: 8). وفي 24: 3: »فجاء موسى وأخبر الشعب بجميع كلام الربّ وأحكامه، فأجاب جميعُ الشعب بصوت واحد: كلّ ما تكلّم به الربّ نعمل به«.

واهتمّ يشوع هنا طالبًا جوابًا من الشعب، مؤكّدًا قراره الخاصّ بأن »يعبد الربّ« (آ 15). وتجاه التزامه، ترك للشعب حرّيّته بأن يعود إلى الوضع السابق الذي عاشه الآباء: عبادة آلهة أخرى، كما فعل الآباء الذين تعبّدوا للأصنام. أو عبادة آلهة »الأموريّين« الذين يقيموه في وسطهم الآن (هذا يعني أنّهم لم يفنوهم). وعرف يشوع كيف يتعامل مع الجماهير، فشدّد على صعوبة العبادة للربّ: »إله قدّوس، متسامٍ، إله غيور«، لا يحتمل أن يقاسمه أحد حقَّه في شعبه. انتبهوا. احذروا.

وراح يشوع بعيدًا في تحذيره، فذكر العقوبات التي يمكن أن تصيب الشعب إن عصى الربّ: يسيء إليكم. يفنيكم (آ 20). وهنا أيضًا تعود تعابير خطب العهد إلى بنود عامّة يتضمّنها كلُّ اتّفاق من هذا النوع. وتُوضَح العقوبات التي ينالها من يخالف العهد، مع تشديد كبير يكوّن خوفًا يمنع تجاوز طلبات الله.

ه- جواب الشعب (24: 16-24)

»حاشا لنا أن نترك الربّ« (آ 16). وبرّرت الجماعة عزمها، مستعيدة تدخّلات الله الخيّرة التي ذكرها يشوع (آ 17). ثمّ أعلنت التزامها: »نريد نحن أيضًا (مثلك) أن نعبد الربّ، لأنّه هو إلهنا. وأخذت الجماعة منهم مأخذها، فردّدوا مرّتين العبارة عينها: الربّ وحده نعبد (آ 21). »الربّ إلهنا نبعد ولصوته نسمع« (آ 24).

هذا العرض الأصيل للاحتفال بتجديد العهد، لا يشبه ما قاله تث 27: 4-26، يحقّقه يش 8: 30-35، فينتهي بالتزامات احتفاليّة يرافقها القسم: »أنتم شهود على أنفسكم« (آ 22). »إنزعوا الآلهة... ووجّهوا قلوبكم إلى الربّ« (آ 23). يكون الالتزام مقدّسًا، لأنّه يتمّ »أمام الربّ«. ولكنّ الراوي أراد أن يُبرز بشكل خاصّ حماس شعب حرّكه قائدُه. هذا ما أراده فجعلهم واعين، عازمين، بحيث يتجاوزون كلّ تراخٍ وتراجع. ولكنّ الحياة في كنعان تركت وراءها هذه الإلتزامات التي كانت صادقة في ذلك الوقت، فتبخّرت الآن. فكان التوبيخ والتهديد بالمنفى. كما نقرأ في أش 5:

11 ويل للمبكّرين صباحًا في طلب المسكر،

والساهرين الليل كلَّه والخمر تلهبهم.

لا يلتفتون إلى عمل الربّ.

12 ولا يتأمّلون ما صنعت يداه.

13 لذلك سُبيَ شعبي لجهالتهم،

فمات عظماؤه من الجوع،

ويبست عامّته من العطش.

14 فوسّعت الهاوية جوفها،

وفتحت فمها بلا حدّ.

لتبتلع أشراف أورشليم،

وعامّتها وضجيج مباهجها.

ويشتكي إرميا بفم الربّ في الفصل الثاني:

5 »أيّ سوء وجد فيّ آباؤكم

حتّى ابتعدوا عنّي،

وتبعوا آلهة باطلة وصاروا باطلاً.

6 نسوا أن يقولوا:

أين الربّ الذي أخرجنا من مصر

11 هل استبدلت أمّةٌ آلهتها

مع أنّها آلهة مزعومة؟

أمّا شعبي فاستبدل إلهه

وهو عنوان مجده،

بآلهة لا نفع فيها.

12 فانذهلي أيّتها السماء وارتعدي،

واعجبي من ذلك كلّ العجب!

ونقرأ سفر القضاة (2: 11-14) في نظرة لاهوتيّة إلى الشعب.

11 ففعل بنو إسرائيل الشرّ في عيني الربّ، وعبدوا البعل،

12 وتركوا الربّ إله آبائهم الذي أخرجهم من مصر، وتبعوا آلهة أخرى من آلهة الشعوب الذي حولهم، وسجدوا لها وأغاظوا الربّ.

13 تركوه وعبدوا البعل وعشتروت

14 فغضب الربّ على بني إسرائيل، فسلّمهم إلى أيدي الناهبين فنهبوهم.

الخاتمة

الربّ يدعونا اليوم، واليوم نشارك مشاركة فاعلة في تجديد العهد. ذكّر يشوع الشعب بخيرات الله التي رافقتهم منذ ولادتهم حتّى وضعهم الحاليّ كأمّة مختارة ومملكة كهنة وشعب مقدّس. والليتورجيّا الإفخارستيّة تذكّرنا بالخطوط الكبرى لتاريخ الخلاص هذا، الذي جاء المسيح يوصله إلى ملء معناه وكمال فاعليّته. فعلينا نحن أيضًا، بقبولنا، بالآمين التي نقولها، أن نؤكّد إيماننا بالواقع التاريخيّ والروحيّ لأعمال الله هذه. فنتجاوب بكلّ قلبنا وكلِّ قوانا مع نداء يوجّهه إلينا المسيح الذي هو يشوع الجديد، لكي نحدّد موقعنا في عهده. هذا لا يدخلنا فقط في عدد من الشرائع، بل في جماعة صداقة ومشاركة الحياة معه.

وذكّر يشوع الشعب بمتطلّبات مثل هذا الوضع. بصعوباته، بمحنه وتجاربه الممكنة، برجوعات إلى الوراء مهدّدة، بأمانة تكلّف غاليًا وتحتاج إلى أن تتجدّد يومًا بعد يوم. وتذكّرنا الكنيسة أيضًا فتقدّم نفسها لا كيانًا مجدّدًا لا يرتبط بالواقع، بل شعبًا من المؤمنين قد تكون حياتهم في اضطراب بحر هائج شبيه بما عرفه شعب الله الأوّل. ومع ذلك فهي تدعونا إلى التزام جديد في الأمانة، كما فعل يشوع، الذي كان وسيط العهد للآتين إلى شكيم.

ولكنّنا لا نخلط بين الأمانة والجحود، بين التعلّق بالربّ وبعهده وبين الاطمئنان للمستقبل، كما لو كان »خروجنا«، ومسيرتنا في كلّ الطرقات، شبيهًا بملاحة في بحر من الزيت. يبقى علينا أن نقتدي بأهل شكيم، فنوقظ إيماننا ونُعلن اندفاعنا لنحيا العهد الجديد بقلب جديد للسير مع الربّ إلى حيث يريد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM