سفر حزقبال
 

 

سفر حزقبال
1- المقدمة:
حزقيال هو النبي الذي أراد الله بواسطته أن يُسمع كلامه الى شعبه وهو بعيد عن أرضه الأم، مسي مع المسبيين، مشرَّد مع المشرَّدين، وغريب في أرض غريبة مع نخبة بني اسرائيل الذين سباهم نبوكد نصّر في حملته الاولى على اورشليم (597 ق. م.). أراد الله ان يرّف شعبه ان بينهم نبياً مرسلاً من قبله، فيكون لهم مؤنّبا على خطاياهم وقساوة قلوبهم. وبعد تهديم أورشليم وهيكلها، أراده الله أن يكون حاملاً رسالة خلاص إلى شعبٍ غلبه اليأس وفقد كلَّ أمل بالعودة إلى ارضه.
لذلك حمل حزقيال في صوته كلمة الله إلى ضمير شعبه الخاطئ وحمل في ضميره صوت شعبه المقهور إلى الله ليفتح ثغرة في سمائه المغلقة في وجههم. وانفتاح السماوات المغلقة هو بدء نبوءة حزقيال (1: 1)، كما ان رسالة الخلاص وعودة الله الى ارضه ومدينته هي خاتمة نبوءة هذا الكاهن والنبى العظيم (48: 35).
2- مضمون كتاب حزقيال:
نجد في سفر حزقيال مقدمة وثلاثة مواضيع تبرز في الشكل التالي:
مقدمة: دعوة النبي (1: 1- 3: 15).
أ- نبوءات ضد يهوذا واسرائيل (3: 22- 24: 1).
ب- نبوءات ضد الامم (25: 1- 32: 1).
جـ- نبوءات خلاصية ليهوذا واسرائيل (ف 33- 37 و38- 48).
أ- من خدمة المذبح الى خدمة الكلمة: دعوة حزقيال:
نقرأ في الفصل الاول الآية 3، ان حزقيال هو ابن بوذي الكاهن؛ والمعروف ان الكهنوت في العهد القديم هو لذرية هارون وسبط لاوي. فحزقيال كاهن ابن كاهن، عمله خدمة الطقوس والعبادات في هيكل اورشليم.
ولكن الهيكل هو في اورشليم. أما كاهننا فمسي مع كثيرين من ابناء شعبه الى ارض الكلدنيين (1/3): لا خدمة كهنوتية يستطيع تأديتها، ولا ذبائح يقدمها. غير أن الله اختاره لرسالة جديدة ومختلفة عن تلك التي ورثها عن أبيه وأجداده.
فيمكن القول اذاً أن الله نقل هيكله إلى جسد هذا الكاهن المسي، فوضع يده عليه (1: 3) واحلّ فيه روحه (2: 3) فصار الكلمة الحيّة الناطقة باسمه: تارة للتأنيب والتوبيخ (ف 4- 24) وطورا للتعزية والتشجيع (ف 33- 48).
أماكن تفصيل دعوته فقد تمت من خلال رؤيا إلهية (الفصل الاول) رآها حزقيال وطلب الله منه على اثرها ان يكون نبياً بين شعب اسرائيل في الجلاء (2: 1- 3: 15).
تتميز هذه الرؤيا باسلوب قصص الدعوة الكلاسيكية في العهد القديم (راجع دعوة اشعيا الفصل 6). ووصف الرؤيا يتركز خاصة على عناصر النار والريح والضباب التي تميّز الظهورات الالهية في الكتاب المقدس (راجع سفر الخروج ف 19- 20 وسفر الملوك الاول ف 19). والمعروف ان الله يُظهر نفسه خاصة في أوقات المحنة والشدائد، ليبيّن عظمة الوهيته وحضوره بين شعبه. من هنا فظهور الله لحزقيال في ارض غريبة هو تأكيد على مرافقته لشعبه المنفيّ وقدرته على تخليصه وان كان ذلك في ارض لا تعرفه ولا تعترف به إلهاً. كا أن الغاية الاساسية بالنسبة الى المدعو هي ان يعرف هو بنفسه ويعرف الذين ارسل اليهم ان دعوته حقيقية وان كلمته هي كلمة الله نفسه. فكما أرسل الله موسى إلى مصر (خروج ف 3- 4) واشعيا (ف 6) وأرميا (1: 4- 19) وغيرهم، كذلك يرسل حزقيال:
يا ابن الانسان، إني أرسلك إلى بني اسرائيل... فتقول لهم: هكذا قال السيد الرب ... (3: 3- 4).
ب- نبوءات ضد يهوذا واسرائيل (3: 22- 24: 27)
يتميّز هذا القسم من كتاب حزقيال بتأنيب شديد اللهجة يوجهه النبي إلى شعبه الخاطئ والمستمر في خطاياه، ولسنا هنا في معرض تفصيل تلك النبوءات مضموناً واسلوباً، ولكننا نلاحظ أن النبي بدأ نبوءاته وانهاها بكلام مماثل عن حصار اورشليم (ف 4) وخرابها وسبي شعبها (ف 24).
وقمة المأساة هي ما ورد في 10: 18- 22 و11: 22- 25 عندما أعلن النبي أن مجد الرب ترك مدينته وهيكلها لكثرة الخطايا والاثام التي أرتكبت فيهما.
وتتميّز هذه الفصول بأفعال وأقوال تظهر كلُها غضَب الله على شعبه الخاطئ والمتمرد الذي صار شبيها بالبغي التي تترك زوجها لاتّباع عشاقها. والموضوع الأساسي هو أن شعب اسرائيل قد ترك عبادة الاله الحق (يهوه) وراح يقدم العبادات والقرابين لآلهة الاوثان في كل بقعة من بقاع الارض المقدسة (ف 6) وحتى في الهيكل نفسه (ف 8).
فنتج عن ذلك ان الله تخلى عن ارضه وهيكله، وهذا سيجلب الخراب عليهما: فالفصل السادس الذى يصف فيه النبي فساد الارض يليه الفصل السابع الذي يؤكد على قرب النهاية والخراب في يوم الرب.
والفصل الثامن الذي يصف الرجاسات المرتكبة على يد الكهنة انفسهم في الهيكل المقدس، يليه الفصل العاشر الذي يعلن خروج الله من الهيكل ومن المدينة المقدسة. ويلي كلَّ ذلك اعلانُ السي الكامل والخراب التام لمملكة يهوذا على كرار ما حصل لمملكة اسرائيل (ف 12).
وهكذا، كلما تقدمت الفصول وتتابعت الرؤى والنبوءات، زادت حدّة نبرة الني ضدّ كلّ اولئك المسؤولين عن شعب الله، وخاصة حكامه المغرورين الذين تركوا ضمانة الله لهم واتكلوا على ضمانات وهمية. ولا يوفّر الني احدا من الانبياء الكذبة الذين بشرّوا بالسلام حيث لا مفر من الحرب (ف 13 و14)، ولا من الامراء المتعجرفين الذين جرّوا اسرائيل الى الحروب والخراب...
وفي كل هذا نقرأ مرارة النبي أمام الحقيقة المذهلة: ان شعبه الذي تبنّاه الله في ضعفه وعبوديته وحرّره ليجعله شعبا مقدسا في أرض مقدسة، لم يكن يوما وفياً لعهده مع إلهه. بل زاد دوما تكبراً وكفراً حتى نال، باستحقاق تام، عقاب الله الذي تركه يُسبي وسمح للفاتح البابلي بتهديم مدنه وقتل شبانه وشيوخه... (ف 14).
جـ- نبوءات ضد الامم (ف 25- 32).
ينتقل النبي في هذه المرحلة من تأنيب شعبه واعلان خراب مدنه الى توجيه غضبه على الامم المجاورة التي ساهمت مساهمةً مباشرة بافساد اسرائيل وخرابه. غير ان هذه النبوءات لن تفيدنا كثيرا في قراءاتنا المسيحية لسفر حزقيال، ولهذا لا نتوسع فيها.
د- من الموت الى الحياة: بشرى خلاص الى المسبيين (ف 33- 48).
تتركز نبوءات حزقيال في هذا القسم على ثلاثة امور رئيسة: عودة شعب الله من الجلاء الى ارضه (ف 33)، حيث يكون الله راعيه الاوحد (ف 34) واعادة توحيد يهوذا واسرائيل في مملكة واحدة تحت إمرة رئيس واحد (ف 37).
والعمل الاساسي هو عمل الله في تجديد شعبه قلباً وروحاً، فيعطيه عهداً جديداً مبنياً بالدرجة الأولى على عطاياه وعمله، لا على جهد اسرائيل في الحفاظ على الوصايا الالهية وغيرها. كما يعطي حزقيال صورة رائعة عن عمل الله الخلاصي هذا في 37/14، في رؤيا العظام اليابسة التي يعيد الله اليها لباسها من العصب واللحم، وينفخ فيها روحه فتعود إليها الحياة. هذه الصورة مع ما ورد في ف 34 عن رعاية الله لشعبه هي اجل ما كتبه حزقيال لانه بيّن من خلالها ان حياة شعب الله هي عطيّة مجانية منه.
كذلك الفصول من 38 الى 48، فهي أيضا رؤيا جميلة جداً، وان بدت مليئة بالتفاصيل عن قياسات الهيكل الجديد. والمهم ليس تفاصيل البناء، لكن المعنى الذي يعطيه حزقيال لهذا الهيكل الجديد في وسط المملكة الجديدة ومدينتها المقدسة اورشليم. فالله سيعطي شعبه هيكلاً جديداً مقدساً وارضاً جديدة مقدسة، فيكتمل بذلك تجديد البشر والارض والبناء، وكل هذا هو من عمل الله وحده.
وفي هذا الاطار، يبدو لنا أن أجمل ما كتبه حزقيال هو ما ورد في ف 47 عن النهر العظيم الذي ينبع في الهيكل ويجري في الصحراء القاحلة فيحوّلها الى جنائن وحين يصب في البحر الميت يحوله الى بحر مليء بالحياة.
وهكذا فالموضوع الثالث من كتاب حزقيال يتركز على التبشير بعمل الله القادر على تجديد كل شيء وتحويل الموت الى حياة.
3- خصائص ادبية:
خصائص سفر حزقيال الادبية كثيرة ومتنوعة. فهو يستعمل أساليب عديدة لايصال رسالته المكلف بها، فتراه تارة يستعمل التشابيه والامثال: ومنها مثل الكرم في ف 15، ومثل النسر في ف 17، ومثل اللبوءة واشبالها في ف 19، ومثل الاختين العاهرتين في ف 23. وطورا يلجأ الى اعمال رمزية يقصد منها إيصال رسالته بوسيلة حسيّة وليس فقط بالكلمة المجردة: راجع 4: 1- 3، 4- 8، 9- 17؛ 5: 1- 17؛ 12: 1- 16 وغيرها...
ويلجأ حزقيال حيناً إلى اسلوب المجابهة الكلامية خاصة عندما يريد نقض اقوال وامثال شائعة تبث الشك في قدرة الله وعمله الخلاصي وحضوره مع شعبه (راجع 12: 21- 28؛ 26: 2؛ 28: 2؛ 29: 3؛ 36: 13 وغيرها). وحينا آخر، يستعمل كلّ بلاغته الكهنوتية ومعرفته للشريعة والوصايا ليعلم شعبه الحق ويحثه على سلوك طريق الابرار والابتعاد عن طريق الاشرار (راجع 14؛ 18؛ 33: 1- 20) وكأنه يحقق بذلك ما طلبه الله منه في الفصل الثالث آية 16 وما يلي.
"يا ابن الانسان، اني جعلتك رقيبا لبيت اسرائيل، فاسمع الكلمة من فمي وأنذرهم عني.. فإذا قلت للشرير، انك موتا تموت ولم تنذره أنت ولم تتكلم منذراً الشرير بشر طريقه ليحيا، فذلك الشرير يموت في اثمه، لكني من يدك اطلب دمه....".
غير ان اسلوب حزقيال الادبي هو اسلوب الرؤيا الذي لم يستعمله الانبياء الكلاسيكيون الذين سبقوه، وان فعلوا فبطريقة عابرة. ثم إن ارتباط رسالته وعمله النبوي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بحلول الروح الذي اقتداه مراراً وحفظه في الرؤيا الى اماكن عديدة.
أ- الرؤى:
لا عجب ان تعتمد نبوءات حزقيال في قسم كبير منها على رؤى رآها النبي، وهذا ليس بغريب على الانبياء والمتنبئين، إن في اسرائيل او في خارجها. والمعروف ان كل نبي كان يدعى رائيا قبل ان يدعى نبيا (راجع 1 صم ف 9). ورؤى حزقيال ليست غاية في حدّ ذاتها بل اطار (للكلمة والرسالة) التي يوجهها النبي إلى بني شعبه. والرؤيا هي قبل كل شيء انفتاح السماوات واتصال النبي بعالم الالوهة. هكذا تكون كلمته التي يستخلصها من رؤياه كلمة مصدرها العالم الالهي نفسه، ولها طابع الرسالة الالهية الى الشعب. والرؤيا هي افضل تعبير عن اختبار النبي الشخصي لحضور الله وفعالية كلمته. ولنا عودة الى ذلك في تفصيلنا لرؤيا العظام اليابسة (ف 37).
ب- دور الروح في سفر حزقيال:
يتميز حزقيال عن غيره من الانبياء بكثرة استعماله لكلمة "روح" (52 مرة) ويهمنا هنا نوعان من النصوص:
فالنصوص الاولى تربط عمل حزقيال النبوي ربطاً وثيقاً بعمل الروح، والمقصود به روح الله (36: 27؛ 37: 14). فكأن هذا النبي مسيَّر في أي فكر يخطر على باله، وفي كل كلمة يقولها او حركة يقوم بها، فالروح هو الذي يدخل فيه فيأخذه هنا وهناك، ويُظهر له هذا او ذاك من الأمور التي يريد الله ان يظهرها له، تاركاً للني ان يحولها بدوره الى رسالة كلامية يوجهها الى شعبه. وللدلالة على ذلك نورد بعض الآيات مشددين على التعابير التي تميز عمل الروح في رسالة حزقيال النبوية:
3: 13= ثم رفعني الروح....
3: 14= ثم رفعني الروح وذهب بي...
3: 24= فدخل فيّ الروح وأقامني على قدمّي....
8: 3 = ورفعني الروح بين الارض والسماء....
9: 1 = ورفعني الروح واتى بي....
11: 24= ورفعني الروح وأتى بي....
37: 1= وكانت علي يد الرب واخرجني بروح الرب...
43: 5= فحملني الروح ودخل بي....
ومن ناحية ثانية يستعمل حزقيال كلمة روح ليدّل على نسمة الحياة التي ينفخها الله في الانسان فيعيد اليه الحياة. ومثل هذا الاستعمال اساسي في كتاب شدد كثيرا على وصف الموت الذي حلّ بشعب اسرائيل من جراء خطاياه، وعلى حاجة اسرائيل المائت قلباً وروحاً وجسداً الى من يفتح قبره (اي السبي) ويعيد اليه حياته (اي يعيده الى ارضه). وهنا ايضاً لا بد من ذكر رؤيا العظام اليابسة (37: 1- 14) التي يعبر فيها حزقيال افضل تعبير عن انتقال شعبه من الموت الى الحياة بواسطة الروح اي نسمة الحياة التي ينفخها الله فيه (37: 8).
4- رسالة حزقيال:
كما رأينا في حديثنا عن مضمون سفر حزقيال، فان رسالة هذا النبي الى شعبه في الجلاء تنقسم إلى قسمين رئيسين: تأنيب وتحذير بالعواقب الوخيمة لخطاياهم كأفراد وكجماعة، تليها نبوءات خلاصية ووعود بالعودة الى ارضهم.
يبدو لنا بوضوح أن حزقيال شدّد على خطايا اسرائيل وآثامه، لا كالقاضي الذي يُصدر الحكم على المتهم، بل كالذي يعبر عن ركبته الشديدة في اصلاح شعبه مستعملاً كل وسيلة ممكنة، علّهم يعوا ما هم عليه من الأثم والفساد. ولا شك في ان حديث النبي عن السبي والخراب الشامل انما هو من باب الاستنتاج المنطقي والطبيعي، يستوحيه حزقيال من خبرة عمل الله في تاريخ شعبه. وليس حزقيال بمجدِّد في مثل هذا الاستنتاج، فقد سبقه الى ذلك اشعيا وارميا في كلامهما الماثل عن خطايا اسرائيل المتراكمة وعن مسؤولية حكامه الذين نسوا العهود والمواثيق مع يهوه.
اما بعد سقوط اورشليم وتهديم هيكلها وسبي من تبقى من ابنائها، فقد صار لزاماً على النبي ان يعطي الرجاء الى اولئك الذين فقدوا كلّ رجاء. وفي هذا الاطار يمكننا استخلاص ثلاث نقاط هي التالية:
أ- حث على استعادة الرجاء المفقود:
هنا يدعو النبي ابناء شعبه الخاطئ ليتطهروا من خطاياهم افراداً وجماعات، وان كان التطهير الفردي يتحقق بعودة الخاطئ الى نبع الطهارة والقداسة والحياة أي الى الله، فالتطهير الجماعي يتحقق بعمل الله في شعبه كا يقول هو نفسه:
"وارش عليكم ماء طاهراً، فتطهرون من كل نجاستكم، واطهّركم من جيع قذاراتكم" (36: 25). والله لا يكتفي فقط بتطهير شعبه من ادناسهم بل يزيد على ذلك بتجديدهم من الداخل:
"واعطيكم قلباً جديداً واجعل في احشائكم روحاً جديداً وأنزع من لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم، وأجعل روحي في أحشائكم: وأجعلكم تسلكون في فرائضي وتحفظون أحكامي وتعملون بها" (36: 26- 27).
وهنا لا بد من الاشارة الى العلاقة الوثيقة في سفر حزقيال بين الاثم والموت، والطهارة والحياة، لذلك فدعوته الى التطهير هي دعوة الى الحياة، ووعد الله بتطهير شعبه ما هو إلاّ وعد بانتشالهم من براثن الموت وتجديد نعمة الحياة فيهم.
ب- وعد بالعودة من الجلاء:
وهنا ايضا تتركز رسالة حزقيال على وعد ثابت من الله نفسه بأن يجمع شعبه المشتت في كل بقاع الارض ويعيدهم الى ارضهم حيث يكونون له شعباً ويكون هو لهم إلهاً. فالله سمح بموت شعبه عندما سمح بتشتيته، ولكنّه يريد إعادة الحياة إليهم يوم يعيدهم إلى أرضهم. (36: 24؛ 37: 12- 21؛ 34: 11- 13).
ب- الموت والحياة:
تتلخص رسالة حزقيال اذاً في موضوع الموت والحياة، وإن تعددت وسائل النبي في الكلام عن الواقعَين: فالانسان مسؤول عن اعماله وبها يتعلق امر موته (18: 3، 18، 24؛ 33: 13) وحياته (18: 17، 19، 21، 22، 29؛ 33: 15- 16). والموت هو مكافأة عبادة الاوثان في كلام النبي عن رحيلِ مَجْدِ الله عن أرضه ومدينته وهيكله (ف 8؛ 11) كما انه الصورة التي يعبر بواسطتها النبي عن حالة شعبه في السبي، في رؤية العظام اليابسة (37: 1- 14). والحياة هي الوعد الذي يعده الله لشعبه: فإن كان سبيهم هو موت، فوعده بارجاعهم هو وعد باعادة الحياة إليهم. وكما يقول النبي:
"فالله لا يريد موت الخاطئ (او الخطأة) بل ان يعيش" (33: 11؛ 18: 23- 31). وهكذا يكننا الاستنتاج بأن رسالة حزقيال مزدوجة: فمن جهة، يشدد كثيراً على أن الموت عقاب لا مفرّ منه لمن يترك الله ويأثم، ويدعو بالتالي الخطأة ليتوبوا ويعودوا عن خطاياهم. ومن جهة ثانية، يؤكد بأن الحياة عطية مجانية يهبها الله للبقية الباقية، تلك التي كانت ضحية فساد الحكام وكذب الانبياء المزيفين (9: 4- 8؛ 34: 7- 16).
4- قراءة مسيحية لسفر حزقيال:
نتوقف عند ثلاثة مقاطع اخترناها من القسم الثاني في نبوءة حزقيال لارتباطها الوثيق برسالته الخلاصية ووعده بالحياة للمسبيين وبتجديد كامل لشعبه.
وسنتبع في حديثنا مراحل ثلاث:
1- قراءة سريعة لكل من المقاطع الثلاثة في سفر حزقيال نفسه.
2- قراءة العهد الجديد لهذه المقاطع.
3- قراءتنا المسيحية لهذه المقاطع ولسفر حزقيال بشكل عام.
وهنا لا بدّ من الاشارة إلى أننا لسنا بصدد دراسة أدبية أو تفسيرية شاملة لأي من الآيات والنصوص التي نذكرها، كا أن كلامنا عن قراءة العهد الجديد لن يتعدى المقابلة السريعة والعامة حيث ان المجال لا يسمح بمقارنة أوسع.
أ- قراءة س يعة لكل من المقاطع الثلاثة في سفر حزقيال.
- مثل الرعاة: ف 34
يتناول هذا الفصل باكمله موضوع رعاة اسرائيل أي حكامه الدينيين والمدنيين، ويمكن تقسيمه الى قسمين:- قممم يتناول الرعاة أنفسهم وعلاقتهم بالشعب وعلاقة الرب بهم، وقسم يتناول الخراف (اي الشعب) ويقسمهم الى قسمين: الكباش والتيوس.
القسم الاول:
(34: 2- 16) يتطرق فيه بالدرجة الاولى الى اساءة الرعاة لرعيتهم (36: 2- 6). يتهمهم بأكل الالبان ولبس الصوف وذبح السمين من الخراف دون ان يرعوها. فهم مقصِّرون لأنهم لم يقوّوا الخراف الضعيفة ولم يداووا تلك المريضة أو يجبروا كسورها أو يردوا الشاردة منها أو يبحثوا عن الضالة. النتيجة هي أن الخراف تشتت وتاهت وصارت مأكلا للوحوش. وهنا تلميح واضح الى الجلاء الذي فيه يتهم النبي رعاة اسرائيل بانهم سببوه. وفي الدرجة الثانية (34: 7- 16) يتكلم الرب ويعيد الاتهام الاول بطريقة مختصرة ثم يعلن (وهو الاله الحي) بأنه هو نفسه سيرعى قطيعه وينقذه من براثن الشر ويرعاه في مرعى صالح وفي حظيرة صالحة. وما لم يفعله الرعاة الفاسدون، سيفعله الرب بنفسه: يبحث عن الضالة، ويرد الشاردة، ويجبر المكسورة، ويقوي الضعيفة. ويزيد على ذلك بأنه يهلك السمينة والقوية (وهنا تلميح الى الخراف التي استقوت على غيرها واكلت مأكلها كما سيرد ذلك في القسم الثاني...).
القسم الثاني:
(34: 17- 31). في الدرجة الاولى يتناول الخراف نفسها (34: 17- 23) ويقسمها الى قسمين: الكباش والتيوس. فالكباش تمثل الخراف الضعيفة التي أجبرت على ان ترعى ما داسته ارجل التيوس وان تشرب ما عكرته اقدامهم (آ 19). اما التيوس فهي التي ترعى الرعى الصالح وتدوس بارجلها المراعي، وتشرب الماء الصافي ثم تعّكر ما تبقى (آ 18). وتزيد على ذلك بأن تدفع بجنبها وكتفها وتنطح بقرونها الخراف الضعيفة وتشتتها (آ 20) وهنا تلميح الى ما سبق للنبي ان قاله في 22: 6- 12 وخاصة في 18: 5- 9 و18: 10- 13 النتيجة هي ان الرب يخلّص خرافه فلا تُنهب، ويكون قاضياً عادلاً بين القوي والضعيف منها (آ 22).
ويتناول في الدرجة الثانية عمل الرب الخلاصي بأن يقيم على شعبه راعياً آخر (34: 23- 25) يطلق عليه اسم عبدي داود: ملك صالح مثل داود، فيكون هو رئيس شعب الرب ويكون هو الله إلههم.
وخاتمة الفصل (34: 26- 31) ان الرب يعود فيؤكد إرادته الثانية: يقطع عهد سلام مع شعبه ويخلصّه من جميع اعدائه لأن "خراف مرعى الرب هم بشر وهو الههم". (آ 31).
- رؤية العظام اليابسة: ف 37
هذه الرؤية هىِ من ابرز ما كُتب في العهد القديم من رؤى تمثل عمل الله في إحياء شعبه من الموت (راجع هوشع 6: 2؛ 13: 14؛ اشعيا 26: 19). تشبّه حالة الشعب المسبي بالعظام اليابسة التي تُلبسها اللهُ عصباً ولحماً ثم ينفخ فيها روحه فتحيا. هذه الرؤية تمثل العبور من الموت الى الحياة بعمل الرب وعمله وحده. كما تتحول هذه الرؤية الى رسالة خلاص ورجاء، واقوى مافيها ما يقوله الرب بنفسه: "أفتح قبوركم وأُصعدكم من قبوركم يا شعبي" (آ 12). والهدف الاول ان يعلموا انه هو الرب يفتح قبورهم ويصعدهم منها (آ 13) وتنتهي بتأكيد ثابت بأن الرب لا يتكلم فقط، بل يتكلم ويفعل (آ 14).
- الماء الذي ينبع من الهيكل (47: 1- 12)
في 43/1- 2 يصف النبي عودة الرب بمجده الى هيكله عبر باب المشرق (راجع رؤ 22/1- 4؛ يو 4: 1 و19: 34)، ويقابل صوت مجد الرب عند عودته بصوت المياه الغزيرة. فاقامة الله المتجدّده بين شعبه هي التي يشبهّها نبع ماء يسيل في الهيكل نفسه (آ 2) ويتجه الى العربة أي الصحراء الممتدة (آ 8- 10) من اورشليم إلى البحر الميت. فلا سبيل للحياة في الصحراء القاحلة برمالها ولا في البحر الميت بميااهه المالحة. اذاً هذا النهر المتدفق من الهيكل هو مصدر حياة لكل مافيه موت. غير أن مروره هو مصدر حياة فيحوِّل الصحراء الى جنائن مليئة بالاشجار الكثيرة (آ 7- 12) والبحر المائت إلى بحيرة مليئة بالحياة والاسماك (8- 9).
فالموضوع هنا، هو عبور من الموت الى الحياة، من القفر الى الخصب... وهو تمثيل لعمل الله الخلاصي.
2- قراءة العهد الجديد لكتاب حزقيال
- مثل الرعاة
مثل الرعاة الفاسدين ورعاية الله لشعبه قرأه العهد الجديد بطرق عديدة واهمها ما جاء في الاناجيل: ان كلا من انجيل متى 18/12- 14 ولوقا 15/3- 7 شدد على مثل الخروف الضال الذي لأجله يترك الراعي خرافه كلها حتى يجده فيفرح به. ولقد طبق الانجيليان المذكوران مثل الخروف الضال على الخطأة فلم يتبعا التطبيق نفسه الذي استعمله حزقيال: فالخراف التي تاهت (حز 37) ليست بالضرورة تلك الخاطئة بل الضعيفة. وهنا يرد انجيل القديس يوحنا الفصل 10. فيه يتحدث يسوع عن الراعي الصالح ويطبق هذا التشبيه على نفسه، كما يشبّه حكام اسرائيل بالسارقين والأجراء الذين يتركون الخراف تتشتت او تأكلها الذئاب دون ان يأبهوا بها...
لا يسمح المجال هنا لمقارنة ادبية بين النصين (يوحنا 10 وحز 34) وان كان لا بد من الاشارة الى ترابطهما خاصة في موضوع اعطاء الحياة للخراف الذي يذكوها يسوع (يو 10: 10؛ 11، 15) وحز في كلام الله عن الخلاص الذى يمنحه لخرافه بعد أن يجمعها في شتاتها. المهم في النصيّن ان هنالك اموراً ثلاثة اساسية:
- الخراف معرضة لخطر الموت والتشتت (يوحنا) او انها بالفعل قد ماتت وتشتت (حزقيال)
- سبب تشتتها وموتها هم الرعيان الفاسدون (حزقيال) او السارقون والأجراء (يوحنا).
- الله هو الراعي الصالح الذي يجمع خرافه ويعطيها الحياة (حزقيال) ويبذل نفسه لاجلها (يسوع في انجيل يوحنا).
النتيجة ان هناك حالة موت تتحول الى حالة حياة بفعل عمل الله الخلاصي.
- رؤية العظام اليابسة (في العهد الجديد)
ليس في العهد الجديد من نصوص او آيات قريبة او متصلة مباشرة بهذه الرؤية النبوية إلا رؤ 11: 11 الذي يتكلم عن نفخ روح الله في جسدي الشاهدين المائتين واعادة الحياة إليهما، وكلام مار بولس في الرسالة الى اهل رومة 7: 11 حيث يقول: "اذا كان الروح الذي أقام يسوع من بين الاموات حالا فيكم، فالذي أقام يسوع من بين الأموات يُحي أيضاً أجسادكم الفانية بروحه الحال فيكم".
وفي نصّي العهد الجديد المذكورين ملاحظة اساسية: اعادة الحياة الى اجساد مائتة بعمل روح الله كما ورد في حز 37: 9- 10. وهنا ايضا، فالامر الاساسي هو الانتقال من الموت الى الحياة. ولا بد من التذكير بأن اساس العهد الجديد هو قيامة يسوع المسيح من الاموات.
- الماء الذي ينبع من الهيكل: يو 4: 1؛ يو 19: 34؛ يو 9
نجد في رؤ 22: 1 كلاماً مماثلاً لكلام حز 47: 1- 12 عن نهر الحياة. وفي رؤيا يوحنا، ينبع النهر من عرش الله ومن الحمل في اورشليم الجديدة. واما نهر حزقيال فينبع من الهيكل الجديد للمدينة الجديدة. ويلتقي حزقيال ويوحنا في وصف منافع هذا النهر: فهو يعطي الخصب (حز 47: 7؛ رؤ 22: 2) والحياة (حز 47: 8- 9؛ رؤ 22: 2) والشفاء (حز 47: 12 رؤيا 22: 2).
اما في انجيل يوحنا فمصدر الماء الحي يسوع نفسه وهو يهبه للعطاش وللمؤمنين (يو 7: 37) ويحوله قوة ماء حيّ في ري في جوف من يشرب (يو 7: 38).
وفي نص آخر يردّد يسوع الكلام نفسه للسامرية (يو 4: 13- 14).
والواقع ان العهد الجديد قرأ حز 47 كما قرأ زك 14 وغيره من النصوص التي تتكلم عن عطية الماء الحيّ وتطبقّها على المسيح نفسه. اما الحياة التي تخرج من المسيح- الماء الحي- فهي الحياة الابدية (يو 4: 14) وهبة الروح القدس (يو 7: 38- 39؛ 19: 34؛ 4: 14؛ 3: 5).
ولعلّ النص الذي توقف عنده المفسرون اكثر من غيره هو نص يو 19: 34 الذي رأى فيه الكثيرون من الآباء ولادة الكنيسة من نجا المسيح المائت على الصليب. ويلتقي كل من العهد القديم والعهد الجديد في رؤية الحياة الجديدة التي تخرج من الله مصدر الحياة ومنبعها والقادر أن يحوّل كل عقم إلى خصوبة، وكل موت إلى حياة جديدة.
3- قراءتنا المسيحية لسفر حزقيال:
كل قراءة مسيحية للعهد القديم تنطلق من قراءة العهد الجديد له ومن حدث تجسّد المسيح وموته وقيامته. فالعهد القديم يظل ناقصاً مبتوراً إذا لم يكتمل بالمسيح، ونبوءاته تظل حبراً على ورق وصوتاً بلا صدى إن لم تتحقق حياة واعمال المسيح ابن الله، الذي هو غاية العهد القديم الاولى والاخيرة.
من هنا نقرأ سفر حزقيال على ضوء ايماننا بحدث التجسد. ويلاحظ القارئ أننا في كلامنا عن سفر حزقيال، توقفنا عند شخصية هذا النبي ودعوته، ثم عند مضمون كتابه وخصائصه الادبية ورسالته، وشددنا على قراءة ثلاثة نصوص اعتبرناها مهمة ومفيدة. ويلاحظ القارئ أيضا أن حديثنا، الذي انطلق من ملاحظات عامة وشاملة، تركَّز شيئاً فشيئاً على موضوع واحد اعتبرناه اساسياً في رسالة حزقيال، وهو موضوع الموت والحياة. وقد شددنا على ان حزقيال الذي بدأ رسالته بانذار اسرائيل الخاطئ والمنجس، بالموت والدمار، قد أنهاها بالتبشير بالخلاص والوعد بالحياة للمائتين. كما أننا لاحظنا بأن حزقيال رأى في الموت نتيجة حتمية لخطيئة الانسان الفردية والجماعية، وأكّد على أن البرارة هي ايضا مسؤولية شخصية ناتجة عن صلاح الابرار (القسم الاول). ولكنه شدد في القسم الثاني على ان الحياة هي هبة من الله ومن روحه، واستخلص بأن الحياة الجديدة والارض الجديدة والمدينة الجديدة والهيكل الجديد، كلّها من عمل الله وحده.
واننا لنرى في ذلك استباقاً واضحاً لما اتمّه المسيح في موته وقيامته. فالحقيقة هي ان العهد الجديد بأكمله يتلخّص في بشرى وحيدة وهي أن الموت قد غلب على الصليب. والحياة عطية مجانية لكل من يؤمن بقيامة المسيح من الاموات.
وإذا كانت رسالة حزقيال الأولى قد ركّزت على خطيئة شعبه وبالتالي على موته، فالمسيح لم يتجسَّد إلا لأن البشرية ترزح تحت نير عبودية الخطيئة والموت.
وإذا كان حزقيال قد تنبأ عن عطيّة الحياة التي يهبها الله مجانا لشعبه، ورأى في العودة من السبي تحقيقاً لهذا الوعد الخلاصي، فالعهد الجديد لم يتنبأ او يتوقع عطية الله هذه، بل اختبرها وشاهدها وشهد لها من خلال خبرة موت المسيح وقيامته. فما كان نبوءة صار حقيقة تاريخية، وما كان وعدا صار حدثاً له شهود عيان اخبروا به. والحياة التي وُعد بها شعب واحد نالتها البشرية بأكملها والاموات أنفسهم، من يوم خلق الله الانسان والى نهاية الكون.
وخبرة الموت نعيشها نحن المؤمنون المعمدون، بالرغم من اشتراكنا في المعمودية بموت المسيح وقيامته. فنحن ايضا كثيرا ما نبني لنا اوثاناً نعبدها فنستعبد لها. فمنّا من يعبد اله المال فيصبح عبداً له، ومنا من يعبد اله القوة والتسلط فيصبح عبدا لقوته وتسلطه، ومنا من يعلي جسده الى مرتبة اله، ولا همّ له الا تغذيته والباس فيصبح عبداً لجسده هذا... وكل تلك الآلهة المزَّيفة ليست سوى تعبير عن إله مستبد نخدمه ونخافه هو الموت. فخوفنا من الموت يدفعنا إلى تجميع الثروات بالحق والباطل، علّها تحمينا من ذلك الاله المستبد الذي يهددنا كل يوم. وخوفنا من الموت يدفعنا إلى التسلط على إخوتنا وتبرير أنانيتنا وانعزالنا... والخوف من الموت هو في أساس خلافاتنا وحروبنا، لأن الانسان الجاهل يعتقد أنه إذا ألغى الآخرين أو استغلهم يؤمِّن على حياته. لكن خبرتنا لا تكذب وهي أن الموت واقف هناك ينتظرنا في كل زاوية وعلى مفرق كل طريق! فمن يحررنا من جسد الموت هذا؟ (روم 7: 4 م) ومن يعتقنا من عبودية اوثاننا تلك؟
لا شك اننا اذا قرأنا حزقيال على ضوء العهد الجديد وآمنا بأن عطية الحياة هي من المسيح وحده، ننال تلك العطية المجانية دون تعب او جهد. فالذي غلب الموت يستطيع وحده أن يغلب موتنا، والذي قهر الجحيم يستطيع وحده ان يقهر اوهاننا ويحررنا منها.
وكما يقول المسيح نفسه:
"ان عطش احد فليقبل اليّ ومن آمن بي فليشرب.... فستجري من جوفه انهار من الماء الحيّ" (يو 7/37- 38).
لأن "الماء الذي اعطيه، يصير فيه عين ماء يتفجّر حياة ابدية" (يوحنا 4: 14).
الخوري جان عزّام
الاكليريكية البطريركية المارونية
- غزير- لبنان

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM