سفر باروك
 

 

سفر باروك
مقدمة:
يُنسب هذا السفر الى باروك بن نيريا (1: 1) والتلميذ الذي دوَّن كلمات ارميا (32: 12- 16؛ 36: 4- 32؛ 45: 1- 5). كتبه باروك في بابل (1: 1) وقرأ كلماته على مسمعي يكنيا بن يوياقيم، ملك يهوذا (1: 3). بعد هذا أرسله إلى الكهنة وإلى شعب أورشليم (1: 6، 14).
في الواقع، لا يمكن أن يكون باروك، سكرتير ارميا النبي، هو الذي دوَّن هذا الكتاب الذي يحمل اسمه. والأسباب عديدة على ذلك. أولها: لم يذهب باروك إلى بابل، بل إلى مصر وبالأخص الى تحفنحيس في منطقة الدلتا برفقة ارميا النبي (رج ار 43: 6- 7). ثانيها: لم يقدر باروك ان يتلو كلام هذا الكتاب على مسمعي يكنيا الذي ظل في سجنه سبعاً وثلاثين سنة. ثالثها: لم تُرَدَّ آنية بيت الرب المسلوبة من الهيكل على يد باروك. سيردها كورش فيما بعد على يد ششبصر (عز 1: 7- 11). رابعها: لم يكن بلطشصر إبن نبوكد نصر (1: 11) بل إبن نابونيد ولم يكن يوما ملكا.
اذاً، نحن أمام إسم مستعار. أما الكاتب فهو يهودي دوَّن كتابه في جوار انطاكية في القرن الثاني ق م لنقرأ في الاحتفالات الليتورجية وبالاخص في أيام الصوم والتوبة. يبدأ الكتاب بانفصال بين الله وشعبه، وينتهي بمصالحة الله مع شعبه. ولكن بين البداية والنهاية، يتأملّ الكاتب في الخطيئة وما جرّت وراءها من عقاب على الشعب، وفي الحكمة الخاصة بشعب اسرائيل والمتمثلة في الشريعة.
أقسام الكتاب:
يقسم الكتاب اربعة اقسام:
1- مقدمة تاريخية (1: 1- 14) تصوّر لنا الظروف التي فيها دوِّن الكتاب والأسباب التي دعت إلى تدوينه. هذه المقدمة تُدخلنا، بطريقة خاصة، في صلاة التوبة فتحدد ظرفها واطارها الليتورجي: صلّوا من اجل حياة نبوكد نصر... فيؤتينا الرب قوةً وينير عيوننا... وصلّوا من أجلنا إلى الرب إلهنا، فإنَّا قد خطئنا إلى الرب إلهنا ولم يرتدَّ سخطُه وغضبه عنا إلى هذا اليوم". أما الاطار الليتورجي فهو عيد المظال.
2- صلاة التائبين (1: 15- 3: 8) وفيها اعتراف بالخطايا (1: 15- 2: 10) وتوسّل وتضرعّ (2: 11- 3: 8). يتذكَّر المؤمنون الخطايا الماضية ويعترفون بها مرارا مقرِّين أنهم مُذنبون. ويصوِّرون الشقاء الذي كان عقاب هذه الخطايا، ويتضرعون إلى الله ليعود إلى مواعيده: "فاسمع يا رب وارحم، فانك إله رحيم. إرحم فإنا خطئنا إليك. أنت تدوم إلى الابد، وأما نحن فإلى الهلاك إلى الابد... لا تذكر آثام آبائنا، بل اذكر في هذا اليوم قدرتك وكرامتك. فأنت هو الرب إلهنا، ونحن ننشد تسابيحك. جعلت مخافتك في قلوبنا وعلَّمتنا أن ندعو باسمك. ننشد تسبيحك في منفانا، لأننا نبذنا عن قلوبنا كلَّ إثم آبائنا الذين خطئوا امامك". مثل هذه الصلاة نقرأها عند عزرا (9: 6- 15) ونحميا (9: 6- 37) وابن سيراخ (36: 1- 19) ودانيال (9: 4- 19) وغيرهم. متى قيلت هذه الصلاة التي رافقها الصوم والبكاء والذبائح والتي هدفت إلى مصالحة الشعب مع ربّه؟ يبدو أنها قيلت بعد سلب الهيكل على يد أنطيوخس الرابع سنة 169 واعادة تدشينه على يد يهوذا المكابي سنة 164. شدّد سفر المكابيين الاول على أهمية المقاومة المسلحة لطرد الغازي الوثني، أما صاحب سفر باروك فرفض هذا الموقف وهو العائش بعيداً عن اليهودية وفي منطقة قريبة من انطاكية ان لم تكن انطاكية نفسها.
سكان يهوذا هم الذين نقضوا العهد مع الرب فاصابتهم النكبة، فاعادوا يقدرون أن يتوسَّلوا إلى الله من شدة الضيق والكرب. لهذا سيصلّي المنفيون ويفهمون أن المنفى يهدف إلى جعل الشعب يعود إلى نفسه ويتذكر اسم الله ويحيد عن الخطيئة. هذه هي استعدادات قلب المنفيين، ولهذا فهم ينتظرون بثقة أن يحقق الله مواعيده.
فمن منا نحن المسيحيين لا يقدر ان يتلو هذه الصلاة التائبة فيكيِّف كلماتها على ظروفه الخاصة.
3- تأمل في الحكمة (3: 9- 4: 4) وفيه يتوجه الكاتب إلى بني اسرائيل المشتتين وسط الامم. لماذا ذهب بنو اسرائيل إلى المنفى؟ لانّهم تخلّوا عن ينبوع الحكمة. ويبدأ التأمل في الحكمة التي هي سّرية وخفية ومجهولة لدى كل الشعوب وفي كل الأجيال. الله وحده يعرفها وقد أوحى بها إلى شعبه حين أعطاه الشريعة. فكتاب أوامر الله هو أفضل تعبير عن الحكمة وبالتالي عن الشريعة (رج 4: 1). يبقى على الشعب أن يميل بقلبه إلى الحكمة. من تمسَّك بها فله الحياة، والذين يهملونها آخرتهم الموت. عودوا يا بني يعقوب واتخذوها، وسيروا في الضياء للقاء نورها. لا تعطِ مجدك (اي الحكمة) لآخر، ولا ما يميزك يأمة غريبة.
هذا التأمل في الحكمة نجده على مفترق في تاريخ التعاليم الحكمية عند اليهود. قال سفر الامثال (8: 17- 31) ان الحكمة اعطيت لجميع البشر، وحددّها على انها مخافة الله. قال: "مخافة الرب رأس العلم، والحكمة والتأديب يستهين بهما الحكماء" (أم 1: 7؛ رج 9: 10؛ 15: 33). وقال ايوب (28: 28): "خشية الرب هي الحكمة واجتناب الشر هو الفطنة".
الحكمة هي الشريعة وقد أقامت في ارض يعقوب وفي المدينة المحبوبة التي هي أورشليم (سي 24: 8- 12). إنها تشارك الله في عمل الخلق ولكنَّها تسكن ايضا في وسط البشر. هنا تصبح الحكمة صورة عن يسوع المسيح وتشير الى دوره الوحيد في تاريخ البشرية الديني. يسوع هو الحكمة التي بها يخلص البشر، هو الحكمة الخلاقة في دوره كوسيط في الكون. وتلتقي هذه المفاهيم عن الحكمة مع اقوال القديس بولس. "فالمسيح قدرة الله وحكمة الله" (1 كور 1: 24). وقال القديس بولس ايضا (1 كور 2: 7- 8): "نتكلم على حكمة الله السرية الخفية التي اعدها الله لنا قبل الدهور في سبيل مجدنا. انها حكمة لم يعرفها أحد من رؤساء هذه الدنيا، ولو عرفوها لما صلبوا ربَّ المجد".
هنا، نتوقف على 3: 38: وبعد ذلك تراءت على الارض وعاشت وسط البشر. نفهم هذا القول كتلميح إلى ظهور الرب في سيناء ليوحي بشريعته إلى موسى. ولكننا نقدر أن نقرأ ايضا صيغة المذكر فنقول: وبعد ذلك تراءى على الارض وعاش وسط البشر. قرأ آباء الكنيسة هذه الآية وطبقوها على المسيح في سر التجسد: والكلمة صار بشراً وسكن بيننا (يو 1: 14).
4- كلام تشجيع وتعزية لاورشليم (4: 5- 5: 9) وفيه يتوجه الكاتب أولا الى المنفيين ليحضَّهم ويشجّعهم: ثِقوا يا شعي (4: 5)، ثقوا يا بَني، واستغيثوا بالله (4: 21، 27). ثقي يا اورشليم، فالذي سمَّاك باسمك سيعزّيك (4: 30). وبعد هذا يذكِّرهم بسبب سبيهم. ثم تبدوا اورشليم كشخص يشكو حاله الى جيرانه. وتتوجه الى ابنائها المنفيين فتعزيهم: "ودَّعتكم ببكاء ونوح، لكنَّ الله سيردكم إلي بفرح ومسرة الى الابد. فكما ترى الآن جارات صهيون سبيكم، هكذا عما قليل سيرين خلاصاً يجيئكم من عند الله. يأتيكم بمجد عظيم وببهاء الازلي... الذي جلب عليكم هذه الشرور يجلب لكم المسرة الابدية مع خلاصكم".
اجل سيخلّص الله شعبه ويبدِّل آلامهم فرحاً. هنا يعود "النبي" فيحدِّث اورشليم ويدعوها إاى الثقة بالرب بمواضيع وعبارات قريبة مما نقرأه في سفر اشعيا. يعلن أولاً عقاب الاعداء، ثم يدعو اورشليم الى الفرح فيصوّر لها تجمّع ابنائها وعودتهم مكرمين منتصرين: "إخلعي يا اورشليم حلة النوح، والمذلة، والبَسي بهاء مجد الله إلى الابد. تسربلي ثوب البر الذي من الله واجعلي على رأسك تاج مجد الازلي. فان الله يُظهر سناك لكل ما تحت السماء... إنهضي يا اورشليم، وقفي في الأعالي، وتطلعي من حولك نحو المشرق، وانظري بنيك مجتمعين من مغرب الشمس إلى مشرقها بكلمة القدوس. إنهم يبتهجون لأن الله يتذكرهم.
هذه الاقوال في اورشليم تصحّ لان نطبقها على شعب الله المشتت في كل مكان. لا شك أننا لن نتوقف عند نظرة ضيقة تعتبر أن بني اسرائيل هم وحدهم شعب الله. هم باكورة شعب الله اليَ وجدت كمالها في يسوع المسيح. فبعد المسيح صارت كل الشعوب شعب الله، ودخل كل ذوي الارادة الصالحة في كنيسة الله وقد جاؤوا من كل امة وقبيلة وشعب ولسان (رؤ 7: 9). اجل، سيأتي جيع الامم فيسجدون لك يا رب لان احكامك قد اتضحت (رؤ 15: 4).
الخوري بولس الفغالي

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM