مسيح من أجل المساكين.

مسيح من أجل المساكين

زك 9: 9-10

انتظر الكثيرون في العالم اليهوديّ، مسيحًا حربيٌّا يفرض مملكته بالقوّة، بحيث يستند إلى الأقوياء في شعبه. وهذا أمر طبيعيّ: يستند إلى الحكماء الذين يحافظون على الشريعة ولا يهابون أحدًا. هم يقودون الشعب الجاهل وينيرون له الطريق. ولكن أعلن نبيٌّ مثل زكريّا عن مسيح فقير، لا وسائل له ولا نفوذ. ومع ذلك، له فاعليّة هائلة لكي يحقّق عمل السلام الذي وعد به الله. والطابع المميَّز لمثل هذا القول النبويّ، أبقاه خفيٌّا فما لفت نظر أحد إليه. ومع ذلك، فهذه النبوءة هي التي حقّقها يسوع. ولكي نتعرّف إليه، لا نستند بعدُ إلى »حكمة البشر«، بل نترك الكتاب المقدّس يقودنا. ما استطاع »الحكماء« و»الفهماء«، أمّا الصغار، فأصابوا الهدف وما أخطأوا. جعلوا نفوسهم تلاميذ ذاك الذي هو الحكمة، فبلغوا إلى الوحي الذي وحده يستطيع أن يعطيه، يسوع المسيح.

ونقرأ نصّ زك 9: 9-10:

9 ابتهجي يا بنت صهيون،

واهتفي يا بنت أورشليم،

ها ملكك يأتيك،

عادلاً، مخلّصًا، وديعًا،

راكبًا على حمار،

على جحش ابن أتان.

10 أقطع مركبات الحرب من أفرائيم،

والخيل من أورشليم.

يُقطع قوس القتال،

فيكلّم الأمم بالسلام.

سلطانه من البحر إلى البحر،

ومن النهر إلى أقاصي الأرض.

1- سياق النصّ ودراسته

أ- دراسة النصّ

»واهتفي« (آ 9). في العبريّة: هـ ر ي ع ي. فعل يرتبط بالروع في العربيّة، أي الفزع والحرب. إنّه هتاف من أجل الحرب المقدّسة كما في عد 10: 9:

فإذا خرجتم إلى حرب في أرضكم

على عدوٍّ يضايقكم،

فاهتفوا بالأبواق،

فأذكُركم أنا الربّ إلهكم

وأخلّصكم من أعدائكم.

وفي يش 10: 6 قال يشوع للشعب:

لا تهتفوا، ولا تُسمعوا أصواتكم،

ولا يخرج من فمكم كلمة،

إلى أن أقول لكم: اهتفوا.

فتهتفون.

والهتاف بالبوق يكون لإعلان ملك الربّ في شعبه. كما في مز 47: 2-3:

2 صفّقوا بالأكف، يا كلّ الشعوب.

إهتفوا لله بصوت الترنيم

3 لأنّ الربّ عليٌّ رهيب،

ملك عظيمٌ على كلّ الأرض.

وأنشد المؤمنون في مز 95: 1-2:

1 تعالوا نرنِّم للربّ،

ونهتف لله مخلّصنا.

2 نتقدّم أمامه بالحمد،

ونهتف له بالتراتيل.

الربّ هو »المخلّص« (آ 9، ن و ش ع. في اليونانيّة: سوزون. وفي السريانيّة: ف ر و ق ا). هو يُعين صهيون، وينجّيها من جميع خصومها. وفي آ 10 كتبنا »أقطع« (أنا المسيح). كذا في العبريّة. واقترح بعضهم في خطّ السبعينيّة: يقطع. وكذلك في السريانيّة: (ن ت ب ر). ذاك هو عمل المسيح الذي أُعلن مجيئه. بعد »و هـ ك ر ت ي« أقطع. ها نحن نقرأ صيغة المجهول »و ن ك ر ت ه«: وتُقطع. هو المجهول الإلهيّ. الله يقطع القوس.

ب- سياق النصّ

نجد هذا المقطع القصير بالنسبة إلى الملك المسيح، في بداية القسم الثاني من نبوءة زكريّا (ما يُسمّى زكريّا الثاني). دوِّنت ف 9-14 في بداية الحقبة اليونانيّة، ولا سيّما مع الحملة الحربيّة الصاعقة التي قام بها الإسكندر الكبير عبر سورية وفينيقية وفلسطين، سنة 332 ق.م. والكتيّب الذي يحمل مقاطع من أكثر من كاتب، يستعيد بقوّة الانتظار المسيحانيّ في إطار هذه الأحداث المثيرة. كان ذلك كما في ظروف عديدة أخرى في تاريخ بني إسرائيل، مثل الحرب الآراميّة الإفرائيميّة (هجوم دمشق والسامرة على أورشليم، سنة 734 ق.م.)، وإعلان الأقوال المتعلّقة بعمانوئيل (إلهنا معنا، أش 7-11)، وانتصار كورش وما قاله أشعيا الثاني في هذا الشأن. وانتصارات المكابيّين ونبوءات سفر دانيال. فحين وصل الإسكندر، حرّك أملاً بانطلاقة جديدة لمخطّط الله الذي بدا شبه منطفئ منذ نبوءات زكريّا الأوّل (ف 1-8، في الربع الأخير من القرن السادس) وإعادة بناء الهيكل سنة 515 ق.م. على خلفيّة هذا الوضع السياسيّ والحربيّ، برز القولُ المسيحانيّ في 9: 9-10.

عملُ الله يشبه عمل هذا المحتلّ الذي لا تقف في وجهه مقاومة. وقد بدأ بتطهير الشعوب الصغيرة القريبة من مملكة يهوذا (سورية، فينيقية، فلسطية)، والتي يمكن أن تدخل في شعب العهد. كما في 9: 3-7:

3 بنَتْ صورُ حصنًا لها،

وكنزت الفضّة كالتراب،

والذهب كوحل الشوارع.

4 ها السيّد (الربّ) يمتلكها،

ويضرب في البحر قدرتها،

فتؤكل هي بالنار.

5 ترى ذلك أشقلون فتخاف،

وغزّة فتنحلّ عزيمتها،

وعقرون فتخزى من ضعفها.

ويبيدُ المُلك من غزّة،

وأشقلون لا تُسكَن.

6 ويسكن الغرباء في أشدود،

وأقضي على كبرياء الفلسطيّين،

يقول الربّ.

7 وأزيل دم الذبائح من أفواههم،

ولحمها النجس من بين أسنانهم،

فتبقى منهم بقيّةٌ لإلهنا،

ويألفون السكن في يهوذا،

ويكون أهل عقرون هؤلاء،

كما كان اليبوسيّون (سكّان أورشليم).

إلى هذا الشعب الذي يضمّ صور ومدن الفلسطيّين كما احتلّها الإسكندر، يُقدَّم المسيح مع مخطّطه. وهو لا يسير في خطّ مستقيم، لأنّ الراعي سيُرذَل (11: 4-17) بل يُقتل المطعون الكبير (12: 10: ينظرون إلى الذي طعنوه). غير أنّ هذا المخطّط يتمّ في إطارْ ملك الله الشامل، الذي ينعم بالانتصار، كما في زك 14: 16:

16 ويجيء كلُّ الباقين من الشعوب،

الذين هاجموا أورشليم،

ويصعدون سنة بعد سنة،

ليسجدوا للملك الربِّ القدير،

وليعيّدوا عيد المظال.

17 والذين لا يصعدون من عشائر الأرض،

إلى أورشليم، ليسجدوا للملك الربّ القدير،

لا يكون لهم مطر.

2- الهتاف الملكيّ

»اهتفي بكلّ قواك«. هي دعوة للقفز، للرقص رقصة الفرح. وجذر اللفظ »ج ي ل« يوجّهنا نحو الليتورجيّا، إمّا للهتاف للربّ نفسه الذي هو الملك في شعبه. وإمّا، بشكل أدقّ، تحيّة لمجيء الملك المسيح، وإمّا لإنشاد خلاص قويّ منحه الله. ونقرأ بعض النصوص في هذا المجال:

الربّ إلهك معك،

وهو المخلّص الجبّار،

يُسرّ بك ويفرح،

وبمحبّته يحرسك،

يرنّم لك ابتهاجًا،

كما في يوم عيد (صف 3: 17).

تفرح السماوات وتبتهج الأرض،

ويهدرُ البحر وكلُّ ما يملأه (مز 96: 11).

ونقرأ مز 97 الذي يتحدّث عن انتصار الله على الآلهة الكاذبة:

1 الربّ يملك فلتبتهج الأرض،

ولتفرح البحارُ الكثيرة.

8 سمعت صهيون ففرحت،

ومن أجل أحكامك، يا ربّ،

ابتهجت مدنُ يهوذا.

ونقرأ عن الملك المسيح في أش 9: 2:

منحتم ابتهاجًا على ابتهاج،

وزدْتَهم فرحًا يا ربّ.

كالفرح في الحصاد فرحهم أمامك،

وكابتهاج من يتقاسمون الغنيمة.

ويتحدّث يوء 2: 21، 23 عن فرح الخلاص فيقول:

21 لا تخافي أيّتها التربة،

ابتهجي وافرحي،

لأنّ الربّ عمل العظائم.

23 وأنتم يا بني صهيون،

ابتهجوا وافرحوا بالربّ إلهكم.

والجماعة حين تلتئم للاحتفال بشعائر العبادة، تسمع النداء بأن تنفتح في الفرح، على استقبال الملك المسيح. والدعوة »اهتفي«، أطلقي الهتاف، أطلقي صرخات الفرح، تعبّر عن هذا الفرح وهذا الاستقبال. كان الناس يصفّقون ويقولون: يعيش، يعيش. في إسرائيل القديم، دلّت اللفظة على الهتاف في انطلاق إلى الحرب المقدّسة، وعلى استقبال الله الملك، خصوصًا في ليتورجيّة عيد المظالّ التي تُنشد مُلك الله. هذا الهتاف أطلق أوّل صرخة: ليحيَ الملك كما في 1 صم 10: 24:

فقال لهم صموئيل: »أرأيتم أنّ الذي اختاره (= شاول) الربّ لا مثيل له فيكم جميعًا«؟ فهتفوا كلّهم وقالوا: »يحيَ الملك«!

وها نحن نُدعى لاستقبال شخص تخفيه الكلمات المستعملة هنا في سرّ مسيحانيّ، ملكي، بل إلهيّ.

3- المسيح الفقير

إنّ الصفتين الأوّليين اللتين نالهما المسيح »عادلاً، مخلّصًا« (أو: منتصرًا) تبدوان أغنى ممّا اعتقدنا للوهلة الأولى. لا شكّ في أنّ المسيح المنتظر يحقّق عدالة تامّة، تتفوّق تفوّقًا كبيرًا على عدالة سليمان الذي حكم بين البغيّين فقال الناس فيه (1 مل 3: 28):

فسمع جميعُ بني إسرائيل بالحكم الذي حكم به الملك،

فهابوه، لأنّهم عرفوا أنّ الله منحه الحكمة ليحكم بالعدل.

وهذه العدالة توافق المثال الذي حدّده الملوكُ الصالحون، كما في 2 صم 23: 3-4:

3 تكلّم إله إسرائيل،

خالقُ إسرائيل قال لي:

من يحكم البشر بالعدل،

من يخاف بمخافة الله،

4 يضيء عليهم كنور الصباح،

كشمس صباحٍ لا غيم فيه،

ويجعلهم مثل عشب الأرض،

بعد نزول المطر.

وتحدّث أشعيا عن الملك العادل، فقال في 32: 1، 5:

1 سيأتي ملك يملك بالحقّ،

وحكّامٌ يحكمون بالعدل.

5 اللئيم لا يُدعى كريمًا بعد،

ولا الماكر يُقال له: نبيل.

وإرميا هدّد ملك يهوذا، وأسمعه كلمة الربّ (22: 3):

أحكموا بالعدل والصدق،

وأنقذوا المظلوم من يد الظالم،

ولا تضطهدوا الغريب واليتيم والأرملة،

وعليهم لا تجوروا.

والدَم النقيّ لا تسفكوا في هذا المكان.

مثل هذه العدالة انتظرها المؤمنون من الملك المسيح كما قال أش 11: 3-6:

3 لا يقضي بحسب ما ترى عيناه،

4 ولا يحكم بحسب سماع أذنيه،

بل يقضي للفقراء بالعدل،

ويضرب الظالمين بكلام العصا،

ويُميت الأشرار بنفخة من شفتيه.

5 يكون العدلُ حزامًا لوسطه،

والحقّ مئزرًا حول خصره،

6 فيسكن الذئبُ مع الحمل،

ويبيت النمرُ بجانب الدبّ.

وأنشد مز 72: 1-4 الربّ ملك السلام، الذي يعلّم الملك الداوديّ العدالة:

1 علّم المَلك أحكامك، يا الله،

وابنَ الملك عدالتك،

2 ليدين شعبك بالعدل،

وعبادك المساكين بالإنصاف.

3 فتحمل الجبال سلامًا،

والروابي عدلاً لشعبك.

4 ليحكمْ لمساكين الشعب،

ويخلّص البائسين ويسحق ظالميهم.

نجد أنّ »العدالة« تنال هنا معنى أعمق: هذا الملك هو »عادل« لأنّه موضوع »عدالة« الله الذي يخلّص. في إر 23: 6 نقرأ »ي هـ و ه. ص د ق ن و«: يهوه صدقنا، وعدالتنا. هو يصنع خلاصًا لنا. فالخلاص والعدالة يتقابلان كما في إر 23: 6:

في أيّامه، يخلَّص شعب يهوذا،

ويسكن بنو إسرائيل في أمان،

ويكون اسمه: الربّ »ص د ق ن و«.

وكذلك في أش 45: 8:

هلّلي أيّتها السماوات من فوق،

ولتُمطر الغيوم عدلاً،

لتنفتح الأرض،

فينبت الخلاص وينمو الحقّ،

أنا الربّ خلقتُ هذا كلّه.

في هذا المعنى، »عابد الله« (أش 53: 11) هو بارّ، عادل، لأنّه نعم برضى الله الذي منحه النصر والخلاص (أش 53: 12). والمدلول التامّ لصفة »عادل« تتثبّت في اللفظ التالي (ن و ش ع) الذي يعني النصر، فنقول: عادل ومنتصر. في الواقع، يبدو النصّ العبريّ في صيغة المجهول، وهو يتناسق مع عدد من المقاطع البيبليّة:

دعوتُ إلى الربّ له الحمد،

فخلّصني من أعدائي (مز 18: 2).

أو: نصرني على أعدائي.

وإذ حوّل الكاتب الينبوع الذي استلهم (صف 3: 14-18 حيث الله جبّار منتصر ومخلّص)، وضحت صورةُ الملك المسيح. فقد أعاد 9: 9-10 الشخص المسيحانيّ إلى موقع ارتباط، لأنّ صدقه يأتي من فوق، وخلاصه. وخفّف زكريّا الثاني من فرح الانتصار الذي نجده في نصّ صفنيا؟ فانتصار المسيح يمرّ منذ الآن في التواضع، في التبعيّة، بل في الألم، بقدر ما ماهى الكاتب هذا الملك مع الراعي المرذول (17: 4-17) ومع المطعون في 12: 10. وفي نهاية الكتاب، بدت هذه المماهاة وكأنّها تحقّقت. ليس بأكيد في هذا المقطع القصير، أن تكون صورة الملك المسيح قد تضمّنت هذا الرفض منذ البداية. ولكن إن أردنا أن نحتفظ بترجمة: المنتصر، الظافر، فيجب أن نفهمها انتصارًا بالنعمة وبقدرة من العلاء. أما هكذا حدّد الربّ يسوع موقعه أمام الله: »وماذا أقول؟ يا أبتاه، نجّني من هذه الساعة« (يو 12: 27).

ولفظ »متواضع« يقابل »ع ن ي« في صف 3: 12 (شعبًا وديعًا متواضعًا)، وفي أش 66: 2 (أنظر إلى المتواضع ومنسحق الروح) ومز 72: 2 (ووضعاءك بالإنصاف) وأم 16: 19 (تواضع الروح مع المتواضعين). ويؤكّد هذا الكلامَ عن المسيح. وهذا التواضع الذي يقابل صورة المسكين والفقير، يعبّر في كلّ هذه النصوص، عن استعداد دينيّ عميق، وضع الصغير الذي »يرتجف« أمام كلمة الله. هكذا نكون في قلب روحانيّة »مساكين الربّ«.

لسنا هنا فقط أمام طبقة الفقراء والبائسين والضعفاء الذين دافع عنهم الأنبياء دومًا، بل أيضًا أمام الجماعة البعد منفاويّة، جماعة الأتقياء والورعين الذين انغلقوا على نفوسهم. ففي تواضع حالتهم الاجتماعيّة، وحرارة إيمانهم، حافظوا على رجاء ثابت استند إلى الله وحده. لا أحلام كبيرة بعد. ولا نظرة إلى قوّة سياسيّة: ينبغي أن ينضج الخلاص في قلب هذا الصبر المتواضع والانتظار. فبعد أن فشلت القوّة، كما فشلت الدبلوماسيّة، على مدّ التاريخ السابق، نجد نفوسنا أمام تعبير لانتظار هذا المخلِّص الذي هو أوّل من خُلِّص، لانتظار هذا المسكين الذي استسلم بكلّيّته لله وحده، كما فعلت »البقيّة الباقية«.

فالمسيح الذي أُعلن عنه، هو لهم. هو الآتي من وسطهم. لهذا رفض ركوب الجواد، الذي صار منذ حكم سليمان (1 مل 10: 28) أداة الحرب أو الاستعراض بالنسبة إلى الملوك والرؤساء (2 مل 15: 1؛ 1 مل 1: 5). صار هذا الجواد للركوب، أو هو ربط بالمركبة (2 مل 9: 18). ندّد الأنبياء دومًا بهذا الاستعمال على أنّه يعارض البساطة والتواضع والسلام. قال أش 2: 7-9:

7 وامتلأت أرضُهم فضّة وذهبًا،

وكنوزًا لا حدّ لها.

وامتلأت أرضُهم خيلاً،

ومركبات لا تُحصى.

8 وامتلأت أرضهم أوثانًا،

فسجدوا لمصنوعات أيديهم،

لما صنعته أصابعهم.

9 هكذا انحطّ مقام البشر،

وسقطوا فلا تغفر لهم.

وقال النبيّ ميخا مهدّدًا في 5: 10-11:

10 في ذلك اليوم، يقول الربّ،

أقطع خيلكم من بينكم،

وأبيد جميع مركباتكم.

11 وأقطع المدن من أرضكم،

وأهدم حصونكم جميعًا.

وردّ زكريّا الثاني بدوره على هذا الموقف، فأعاد الشعبَ إلى جذوره، إلى أقدم الأقوال المسيحانيّة، في بداية الملكيّة. ونقرأ في تك 49: 11:

يربط بالكرمة جحشه،

وبالدالية ابن أتانه.

هذا القول يقدّم البساطة والسلام: الجحش الذي يركبه هذا الرئيس السرّيّ المتحدِّر من يهوذا، والذي يبقى خفيٌّا، يُربَط بالكرمة التي ترمز إلى الازدهار في السلام. والتشديد على أنّ ما يُركَب عليه هو الجحش والحمار الصغير، يبيّن الطابع المتواضع والمسالم.

4- كلمة السلام

الملك المسيح هو فقير، مسكين، لا شيء في يده، لا نفوذ. ومع ذلك فهو يفعل كما لم يفعل أحد، ضدّ الحرب وأدوات القتال. وصدرت إعلانات أخرى عن السلام فتطلّعت إلى نزع أسلحة الأمم، كما في أش 9: 3-4:

3 لأنّ النير الذي أثقلهم،

والخشبة التي بين أكتافهم،

كسّرتَها مع قضيب مسخّريهم،

كما في يوم مديان.

4 نعالُ العدوّ في المعركة،

مع كلّ ثوب ملطّخ بالدماء،

أحرقتَها مأكلاً للنار.

ونقرأ في سفر المزامير (46: 9-10):

9 تعالوا انظروا أعمال الربّ،

أعماله العجيبة في الأرض.

10 يزيل الحروب إلى أقاصي الأرض،

ويكسر القوس ويقطع الرمح،

ويحرق الدروع (أو: المركبات في العبريّة) بالنار.

هنا على الشعب نفسه أن يتخلّى عن كلّ قوّة عسكريّة. وفي شكل أدقّ، فعمل التطهير يلامس أفرائيم وأورشليم، المملكتين المنقسمتين، ويُصلح بينهما. والأمل العنيد في توحيد جزئيْ الشعب اللذين فصلهما الانشقاق، قد عبَّر عنه الكتاب مرارًا. نقرأ في 2: 2-3:

2 ويجتمع بيت يهوذا وبنو إسرائيل،

ويختارون جميعًا لهم رئيسًا واحدًا،

وينمون في أرضهم،

فيكون اليوم الذي يرزعهم فيه الله،

يومًا عظيمًا.

3 فقولوا لإخوتكم وأخواتكم بني إسرائيل:

»أنتم شعبي، وأنا أرحمكم«

ونقرأ بشكل خاصّ حز 37: 15-17:

15 وقال لي الربّ:

16 »وأنت يا ابن البشر، خذْ لك عصا أولى واكتب عليها: ليهوذا ولبني إسرائيل الموالين له. وخذ عصا أخرى واكتب عليها: ليوسف، أي أفرائيم، ولكلّ بني إسرائيل الموالين له.

17 واقرنهما الواحدة بالأخرى حتّى تصيرا لك عصا واحدة في يدك.

هذا الرجاء بوحدة الشعب سيُصبح واقعًا، وتحقيق المخطّط كلّه يرتبط بذلك. هي نظرة جديدة وآنيّة: انطلاقًا من الوحدة المستعادة داخل شعب الله، يستطيع السلام أخيرًا أن يشعّ على العالم كلّه. هنا نتذكّر كثافة لفظ »ش ل و م« الذي يدلّ على ملء الخيرات كلّها، على الاستقرار والتوازن والسعادة. »ليكن السلام معكم«. إنّ تحيّة الربّ بعد القيامة تقدّم هذا الملء، ملء الخلاص الذي يحمل. هذا ما يعلنه الملك المسيح في نبوءة زكريّا، ويعلنه بقوّة.

سلامٌ معدٌّ للأمم. إذًا، للعالم كلّه، بحيث يتجاوز بلا حدّ التخوم المثاليّة لمملكة سليمان. كما في تك 15: 18:

لنسلك أهب هذه الأرض،

من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات

وتحدّث سفر الملوك الأوّل (ف 5) عن سليمان:

1 ومدّ سليمان سلطانه على جميع الممالك، من الفرات إلى أرض الفلسطيّين وحدود مصر...

4 لأنّه مدّ سلطانه على جميع الممالك، غربيّ الفرات، من تفسح (على الفرات) إلى غزّة.

وإذ أراد الكاتب أن يُعبِّر عن هذا الأمر، استعمل تعابير أخذها من بلاط بابل، وفيها يعلن الملك البابليّ سلطانه على المسكونة. فنقرأ مثلاً عن كورش، في »أسطوانة كورش«: »أنا كورش، ملك الكون العظيم، ملك أربعة أقطار العالم. كلّ مناطق العالم، من البحر الأسفل إلى البحر الأعلى تدفع لي الجزية«. هذا التعبير الذي نجده بحرفيّته في نصّين بعد منفاويّين، يجعلنا نتجاوز الإطار الجغرافيّ للمملكة القديمة، ولو في أحلى أيّامها، لنشاهد مُلك المسيح على الكون. والنصّان اللذان ذكرنا وهما أوّلاً مز 72: 8-11:

8 يملك من البحر إلى البحر،

ومن النهر إلى أقاصي الأرض.

9 أمامه يسجد أهل الصحراء،

وأعداؤه يلحسون التراب.

10 ملوك ترشيش والجزر النائية،

يحملون إليه الهدايا.

ملوك سبأ وشبأ،

يقدّمون له العطايا.

11 جميع الملوك يسجدون له،

وتتعبّد له جميعُ الأمم.

والثاني الذي جاء في بداية القرن الثاني، نقرأه في سي 44: 21:

فحلف له الربّ،

بأنّ نسله سيكون بركة للأمم،

ويتكاثر كتراب الأرض،

ويرتفع حتّى النجوم،

ويرث من البحر إلى البحر،

ومن النهر إلى أقاصي الأرض.

بعد عظمة المملكة (وشقائها) التي استندت إلى الدبلوماسيّة والاقتصاد والسلاح، ورفضَت الاستناد إلى الإيمان والثقة المتواضعة بالله، استطاع الشعب أن يسمع أش 22: 8ب-11:

وفي ذلك اليوم،

تتفقّدون السلاح في بيت الغابة.

9 وتنظرون كم تكاثرت الشقوق،

في سور مدينةِ داود.

10 وتعدّون بيوت أورشليم،

وتهدمون بعضها لتحصين السور.

11 وتصنعون خزّانًا بين السورين،

لمياه البركة العتيقة.

ولكنّكم لا تلتفتون إلى الذي فعل ذلك،

ولا تعتبرون الذي أعدّه من قديم الزمان.

الخاتمة

بعد النجاح الجزئيّ الذي ناله زربّابل، الأمير الداوديّ، كانت تجربة الوسائل البشريّة، مع مشهد الإسكندر الكبير بتعاليمه وشراسته. لهذا أدخل النبيّ الملك المسيح الذي هو فقير من أجل الفقراء. اجتذب العالم إليه دون أن يقتله، وانتزع الأسلحة من الذين يخصّونه (مت 26: 52). كان وديعًا ومتواضع القلب، فأعلن السلام للجميع، وعلَّم هذا السلام بحياته حين هدم جدار العداوة. ودخوله المسيحانيّ إلى أورشليم، في يوم الشعانين، وضعَ الختمَ الصادق على رسالته كفقير من الفقراء. أتى من أجل المساكين، فعرفه المساكين وهتفوا له. لهذا استطاع بعد أيّام معدودة، في وسط ذلّ المحاكمة أن يقول أمام بيلاطس: »نعم، أنا ملك«.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM