الله يحبّ جميع البشر.

 

الله يحبّ جميع البشر

يون 3: 1-10

حين نقرأ هذا النصّ، نكون أمام مشهد جوهريّ: توبة نينوى حين سمعت صوت نبيّ الربّ. ويونان هذا الوجه الشعبيّ في الوجدان المسيحيّ مع ما حصل له في بطن الحوت. هذه »النبوءة« هي في الواقع خدعة تعليميّة انطلقت من شخص متزمِّت جدٌّا اسمه يونان بن أمتاي (2 مل 14: 25). ولكن لا بدّ لهذا النبيّ أن يتحوّل وأن يفهم أنّ الله ليس فقط إله شعب إسرائيل، بل إله جميع الأمم. وكما دعا أورشليم إلى التوبة، هكذا »دعا« نينوى هي أيضًا إلى التوبة. ويروي الخبر أنّ نينوى »تابت«. ولكنّ أورشليم ما تابت، لذلك جاءها القصاص الرهيب حين دُمِّرت أسوارها وأحرق هيكلُها ومات ملكها ومضت نخبة السكّان إلى السبي. هذا السفر الذي دوِّن بعد العودة من المنفى، في القرن الخامس أو الرابع ق.م. أراد أن يفهم الراجعين إلى فلسطين من بابل، أنّ الانغلاق على أرضهم ومدينتهم والتنكّر لكلّ انفتاح على الوثنيّين، لا يمكن إلاّ أن يحمل الضرر لشعب دعاه الله ولشعوب تنتظر من يشهد لعبادة الإله الحيّ في العالم. ونقرأ النصّ الكتابيّ:

1 وكانت كلمة الربّ إلى يونان ثانية. قال:

2 قم اذهب إلى نينوى، المدينة العظيمة، ونادِ بما أقولُه لك«

3 فقام يونان وذهب إلى نينوى كما كلّمه الربّ. وكانت نينوى مدينة عظيمة جدٌّا، يستغرقُ اجتيازُها ثلاثة أيّام.

4 فدخل يونان إلى المدينة، وسار فيها يومًا واحدًا، وهو ينادي ويقول: »بعد أربعين يومًا تدمَّر نينوى«.

5 فآمن أهلُ نينوى بالله، ونادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا من كبيرهم إلى صغيرهم.

6 وبلغ الخبرُ ملكَ نينوى، فقام عن عرشه، وخلع عنه رداءه ولبس مسحًا وجلس على الرماد.

7 وأمر أن يُنادى ويُقال في نينوى: »يأمر الملك وعظماؤه، أن لا يذوقَ بشرٌ ولا بهيمة شيئًا، وأن لا يرعى بقرٌ ولا غنمٌ شيئًا، ولا يشرب ماء.

8 وأن يلبس البشر مع البهائم مسوحًا، ويصرخوا إلى الله بشدّة ويرجعوا عن طريقهم الشرّير، وعن العنف الذي فعلته أيديهم.

9 لعلّ الله يرجع ويندم، ويعود عن شدّة غضبه فلا نهلك«.

10 فلمّا رأى الله ما عملوه، وأنّهم رجعوا عن طريقهم الشرّير، ندم على الدمار الذي قال إنّه ينزله بهم، ولم يفعل.

1- مهمّة غريبة

»إذهب إلى نينوى«. هو أمر لم يسمعه إنسانٌ يهوديّ. فأنبياء إسرائيل لم يُرسَلوا يومًا إلى الوثنيّين، بل أمضوا حياتهم يكرزون في شعبهم، ولا سيّما في أورشليم، ولكنّ أحدًا لم يسمع لهم. إذًا، ما الفائدة من الكرازة على الوثنيّين. من الكرازة على نينوى، عاصمة الأشوريّين ونموذج الضيق والظلم والقساوة. وقد أمل أنبياء مثل ناحوم بأن يروا دمارها، وعبّروا عن فرحهم وما فيه من شراسة. نقرأ في نا 2: 2-5:

2 صعد المجتاحون عليك، يا نينوى،

فاحرسي المترسة وارقبي الطريق،

شدّدي متنيك وقوّي عزيمتك.

4 تروس جبابرة العدوّ محمرّة،

وعلى أبطاله ثياب قرمزيّةُ اللون.

مركباته الفولاذيّة تقدح شررًا،

حين تتأهّب للقتال،

ورماحُه تهتزّ كالسرو.

5 تتوالى المركبات في الأزقّة،

وتتراكض في الساحات،

منظرُها مثل المشاعل،

وهي تجري كالبروق.

ويواصل نا 3: 1ي الكلام عن هذه المدينة التي قد يكون النبيّ رأى دمارها، فجعله في مخطّط الله، الذي عاقب مثل هذه العاصمة الأشوريّة:

1 ويل لمدينة الدماء!

يملأها الغدرُ والرعب،

ولا يجول فيها طرف.

2 صوت السياط وجلجلة العجلات،

وقعُ حوافر الخيل، وخضخضة المركبات

3 وثوب الفوارس، لمعان السيوف، بريق الرماح،

كثرة القتلى وتراكم الجثث.

ويونان، ذاك الفلاّح المسكين كما يمكن أن نتخيّله، كيف يتجرّأ ويلج هذه المدينة الواسعة جدٌّا؟

إذًا، مهمّة لا تصدّق. أُجبر يونان فأضاع الأمر الإلهيّ. في المرّة الأولى (1: 3) قيل له: قم اذهب. فقام وذهب »لا إلى نينوى (في الشرق) بل إلى مدينة ترشيش في أقصى الأرض. وذلك »هربًا من وجه الربّ«. هذا يعني أنّه رفض أن يكون النبيّ الذي يريده الله. كما كان غير مستعدّ لأن ينادي بما يقوله له الربّ (3: 2). ولكنّه ما استطاع أن يُفلت من قبضة الله: تدخّلت العاصفة وخرج حوت من البحر، فأعادا يونان إلى طاعة لا يمكن أن يقاوم فيها. وحين تلقّى الأمر مرّة ثانية. قام ومضى. كان في لجّة الموت، في بطن وحش بحريّ، فخرج من هناك وصار إنسانًا آخر يجب عليه بعد الآن أن يكون كلّه للربّ. أجل، مرّ في الموت، وفي اليوم الثالث بلغ إلى الحياة الجديدة. بعد العصيان والابتعاد، جاءت الطاعة التي تجعل الإنسان قريبًا من الله. وهكذا بدأ يونان وتاب إلى الربّ، قبل أن يدعو أهل نينوى.

2- توبة مثاليّة (3: 4-9)

جاء التباين مدهشًا بين بلاغ مُوجَز وقاسٍ، وفاعليّته التي شابهت المعجزة. قال يونان: »بعد أربعين يومًا تدمَّر نينوى«. قال هذا بدون مقدّمة وكأنّه ينفّذ أمرًا لا يقتنع به. ومع ذلك كان التجاوب رائعًا وكأنّ الناس سمعوا من خلال صوت النبيّ، صوت الله. »فآمن أهل نينوى«. هذه التوبة التي انتظرها الأنبياء مرارًا من أورشليم وما نالوها، قد نالها يونان في أوّل كلام، في أوّل يوم. وما احتاج إلى ثلاثة أيّام ليعبر المدينة كلّها. وتجلّت هذه التوبة بعلامات خارجيّة من الحداد، وخصوصًا بإيمان حقيقيّ، كما بحياة جديدة تكمن في الرجوع »عن طريق الشرّ« (آ 10).

هي سمة لافتة إذا تذكّرنا المشهد الذي يشير إليه إر 36، الذي استلهمه كاتبُ سفر يونان: في أيّام يوياقيم بن يوشيّا، دُعيَ الشعب إلى الهيكل من أجل صوم. واستفاد إرميا من المناسبة ليُسمع أقواله القاسية على أورشليم ويهوذا وجميع الأمم. لهذا، أملاها على سكرتيره باروك الذي قرأها في الهيكل. والهدف: »لعلّ بيت يهوذا يسمعون بجميع الشرّ الذي نويتُ (أنا الربّ) أن أنزله بهم، فيرجعوا عن طريق السوء حتّى أعفوَ عن إثمهم وخطيئتهم« (إر 36: 3).

سمعه بعض الأصدقاء، والموظّفون لدى الملك، فارتاعوا من كلامه، وأخبروا الملك. غير أنّ يوياقيم رفض التوبة، وأحرق المخطوط الذي في يد باروك.

فلمّا قرأ يهوديّ ثلاث فقرات أو أربعًا، شقّ (الملك) الكتاب بسكّين الكاتب، وألقاه في نار الكانون (كان الوقت شتاء) حتّى احترق كلّه (36: 23) وماذا كانت النتيجة؟ هل توبة مثل نينوى وملكها؟ كلاّ. فيتابع إر 36: 24-25:

24 ولكن، لا الملك ولا أحدٌ من عبيده الذين سمعوا هذا الكلام، فزع أو مزّق ثيابه.

25 وتشفّع الناتان ودلايا وجمريا إلى الملك أن لا يُحرق الكتاب، فلم يسمع لهم.

بل طلب يوياقيم أن يقبضوا على باروخ وإرميا (آ 26). ظنّ هذا الملك التعيس أنّه يُصمت صوت الله بهذه الطريقة. فالربّ لا يتراجع عند الصعوبة الأولى. لهذا »قال لإرميا (آ 27) بعد أن أحرق الملك الكتاب«:

28 خذ صحيفة أخرى، واكتب فيها جميع الكلام الذي كان في الصحيفة الأولى التي أحرقها يوياقيم، ملك يهوذا.

إنّ تقسية القلب هذه، حرّكت إعلانًا آخر من العقاب ينتظر أورشليم وسكّانها. الفرق واسع بينها وبين نينوى! وما تاب فقط السكّان، بل الملك نفسه الذي نزل عن عرشه ولبس المسح (آ 6). وهكذا، ما إن انطلقت كلمة يونان، حتّى آمن أهلُ نينوى بالله »من كبيرهم إلى صغيرهم، ونادوا بصوم«. اختلف ملك نينوى (وقد يكون كلّ ملك وثنيّ) عن يوياقيم، فكان في مقدّمة التائبين، ودعا الناس، بل البهائم، إلى الصوم عن الطعام والشراب.

3- ندم الربّ على الدمار (3: 10)

هذه العبارة التي تختم المقطع مهمّة جدٌّا، وسوف يدلّ على أهمّيتها ف 4. ما اعتدنا أن نرى قولاً نبويٌّا لا يتحقّق. لهذا كانت الشكوك قاسية وسوف يحاول إرميا أن يعطي جوابًا للمتشكّكين. ذاك الذي كان نبيَّ الأمم، والذي أعلن أقوالاً تحمل الشرّ، أعلن أنّها مشروطة، لأنّها في الواقع نداء إلى التوبة. نقرأ في 18: 7-8:

7 كلّما تكلّمت على أمّة أو على مملكة أنّي سأقتلعها وأهدمها وأهلكها،

8 فرجعت تلك الأمّة أو المملكة عن شرّها الذي من أجله تكلّمت عليها، ندمتُ على الشرّ الذي نويتُ أن أنزله بها.

فالكتاب المقدّس يعطي الله عواطف بشريّة. فهو يندم مثلاً لأنّه أعطى خيرًا لأحد الناس. ذاك كان الوضع بالنسبة إلى شاول، أوّل ملك لدى بني إسرائيل. قال في 1 صم 15: 11، وكأنّه يُسرّ إلى صموئيل ما في قلبه:

ندمتُ على إقامتي شاول ملكًا، لأنّه مال عنّي ولم يسمع لكلامي.

غير أنّه يندم في أكثر المرّات على شرّ أرسله. كان ذلك حين ضرب الوباء الشعب بسبب خطيئة داود. ونقرأ في 2 صم 24: 16:

ومدّ الملاك يده على أورشليم ليدمّرها، فندم الربّ على هذه الضربة، وقال للملاك الذي كان يميتُ الشعب: »كفى كفَّ الآنَ يدك«.

وأكثر ما يندم، حين يعلن شرٌّا ويتراجع عنه. هذا ما نقرأه مثلاً عند إرميا (ف 26):

1 قال الربّ لإرميا:

2 »قف في دار هيكل الربّ، وخاطب الذين يحضرون للسجود هناك في مدن يهوذا بجميع ما آمرك به، ولا تُنقص كلمة،

3 لعلّهم يسمعون ويرجعون كلُّ واحد عن طريق الشرّ، فأندم على الشرّ الذي نويتُ أن أنزله بهم جزاء شرّ أعمالهم«.

13 »فالآن (قال إرميا) أصلحوا طرقكم وأعمالكم، واسمعوا لصوت الربّ إلهكم، فيندم على الشرّ الذي تكلّم به عليكم«.

19 »أما خاف الربَّ (الملكُ حزقيّا) واستعطفه، فندم الربّ على الشرّ الذي تكلّم به عليكم«.

مثل هذا الكلام يعود عند النبيّ يوئيل (2: 13-14):

13 مزّقوا قلوبكم، لا ثيابكم،

وعودوا إلى الربّ إلهكم.

فهو حنون، رحيم،

بطيء عن الغضب، كثير الرحمة،

نادم على السوء.

14 لعلّه يرجع ويندم،

ويُبقي وراءه بركة.

فتقرّبون تقدمة

وسكيب خمر إلى الربّ إلهكم.

كلّ هذا يحيلنا إلى صلاة موسى بعد خطيئة العجل الذهبيّ. نقرأ خر 32: 12، 14:

12 فلا يقول المصريّون إنّ إلههم أخرجهم من هنا بسوء نيّة (أو لشقائهم)، ليقتلهم في الجبال ويُفنيهم عن وجه الأرض؟ إرجعْ عن شدّة غضبك، وعُدْ عن الإساءة إلى شعبك.

14 فعاد الربّ عن السوء الذي قال إنّه سيُنزله بشعبه.

تخلّى الربّ عن الغضب، عن العقاب. هذا ما حرّك الغيظ والغضب عند يونان. سبق النبيّ وأحسّ بالأمر، لهذا أراد أن يهرب. فاعترض (4: 2):

أيّها الرب، قلتُ وأنا بعدُ في بلادي إنّك تفعل مثل هذا، ولذلك أسرعت إلى الهرب إلى ترشيش. كنتُ أعلم أنّك إله حنون، رحوم، بطيء عن الغضب، كثير اللطف ونادم على فعل الشرّ.

هذه العبارة نقرأها عند موسى في خر 34: 7:

الربّ، الربّ، إله رحيم، حنون،

بطيء عن الغضب،

وكثير اللطف والأمانة.

وفي الخطّ عينه نقرأ مز 103:

8 الربّ رحوم حنون،

طويل الروح وكثير اللطف

9 لا يخاصم على الدوام،

ولا إلى الأبد يحقد.

10 لا يعاملنا بحسب خطايانا،

ولا حسب ذنوبنا يجازينا.

هكذا تُصوَّر علاقةُ الربّ بشعبه (رج يوء 2: 13؛ نح 9: 17). ولكنّ هذه العلاقة لم تعد محصورة في شعب من الشعوب، بل تنطبق على كلّ أمم الأرض. هذا ما يظهر في مز 145: 8-9:

8 الربّ حنون رحوم،

بطيء الغضب وعظيم اللطف.

9 الربّ صالح للجميع،

ومراحمه على كلّ خلائقه.

وأضاف الكاتب: »نادم عن الشرّ«، وهي عبارة أخذها من إرميا. ما نلاحظ هنا هو أنّ اسم الربّ (يهوه)، الذي ارتبط حتّى الآن بالعلاقة بين الله وشعبه، جاء يعبِّر هنا على حبّ الله من أجل أمّة كرهها الشعب وحكم عليها الأنبياء الحكم القاسي.

وتبدو السخرية قاسية، حين يضع الكاتب على شفتي »بطله« كلمات إيليّا الهارب إلى البرّيّة، بعد أن يئس حين رأى نفسه وحده.

والآن يا ربّ، خذ حياتي. خيرٌ لي أن أموت من أن أحيا (4: 3؛ 1 مل 19: 4). أي تعارض بين موسى وإيليّا من جهة، وهذا النبيّ البليد الذي يثير الاشمئزاز. إنّه يغضب حتّى الموت لأنّ إله الحنان قلبه رأسًا على عقب ليخرجه من عالمه الضيّق.

الخاتمة

ماذا حمل سفر يونان لشعبه؟ وماذا يحمل لنا؟

على مستوى الأسلوب أوّلاً. سفر يونان هو الكتاب البيبليّ الوحيد الذي فيه تظهر البسمة والنكتة، التي ليست ببعيدة عن السخرية. هي مسافة الإنسان مع نفسه ومعتقداته الجدّيّة. وضع الكاتب أمامنا من يحمل كلام الإيمان في شعب إسرائيل، وضع أمامنا نبيٌّا: ما يخاف أن يرينا إيّاه عاصيًا الله، عنيدًا، ضيّق النظرة، وعرضة للضحك. أمّا الأشخاص الآخرون، وكلّهم وثنيّون، فهم قريبون إلى القلب، منفتحون على نداء الله، مستعدّون للتوبة حين يرون أوّل علامة، من الملاّحين في السفينة حتّى ملك نينوى. ومع ذلك، فالوضع خطيرٌ جدٌّا في القرن الخامس ق.م. وجب على إسرائيل، وسط الوثنيّين المعادين، أن يحافظ على هويّته كشعب فرزه الله له، وأن يأخذ الوسائل من أجل ذلك! فالقضيّة بالنسبة إليه قضيّة حياة أو موت. وقد ذكّر نحميا وعزرا الضرورة المطلقة بالبقاء بعيدًا عن كلّ الغرباء، ورفض الزواجات المختلطة، أي بين يهوديّ وغير يهوديّ (نح 13: 3؛ عز 10: 10-12). فما هذه السخرية على »بلاهة« المؤمنين؟ والتكلّم عن الوثنيّين بمثل هذا التجرّد؟

لا شكّ في أنّ الكاتب لا ينكر إيمان آبائه. فإسرائيل هو ويبقى الشعب الذي اختاره الربّ وسط الفخاخ والعوائق. ولكن يجب على المؤمن أن لا يتحجّر ويسجن نفسه في خاصّيّاته، فإله إسرائيل هو الإله الواحد. ولكنّ الملاّحين الوثنيّين هم الذين سمعوا له، أطاعوه، صلّوا، قدّموا ذبائح. وأهل نينوى وملكها هم الذين تابوا وما تردّدوا، ساعة كان بنو إسرائيل وملكهم عاصين لكلام الأنبياء. يجب على إسرائيل أن يتذكّر ماضيه، وجحودات تتوزّع هذا الماضي منذ العجل الذهبيّ في البرّيّة، وصولاً إلى تحدّي إيليّا النبيّ على الكرمل. عندئذ لن يأخذ نفسه بجدّ ويطالب بامتيازات له. كما لا يستطيع أن يغتاظ ويطلب الموت لأنّه رأى ما لم يكن يتوقّعه: رأى رحمة ذاك الذي غفر له وغفر. وهكذا لا يستطيع أن يحصر نفسه في جدالات عقيمة. ويستطيع شعبه أن يستقبل سرّ الله.

والمؤمنون اليوم، أما يحتاجون إلى بعض الكهنة، وهم من يأخذون أمورهم بجدّيّة تجعل »النبيّ« يبتسم: لهم مخطّطاتهم، ويعرفون ماذا سيفعل الله، ومن هم الأشخاص الذين يرضى عنهم، والقادرون على سماع كلامه. ويعرفون أيضًا في أيّ مجال يتدخّل الله. ولكنّ الخطر الكبير هو نسيان الجوهر، الذي هو حنان الله من أجل جميع البشر. أجل، الله يحبّ المحبّة عينها شعبه ونينوى، الشعبَ الذي دُمِّر واستُعبد وكان موضوع محبّة منذ القديم، ونينوى المدينة التي انتصرت ودمَّرت. ولكن إذا أراد الإنسان أن يتعرّف إلى هذا الإله ويستقبله، يجب عليه أن يتوب حقٌّا في أفكاره وفي كيانه كلّه. تلك هي القمّة التي يوصلنا إليها سفر يونان. وسوف ننتظر بضعة قرون من الزمن قبل أن يصل هذا التعليم إلى ملئه وبكلّ متطلّباته.

وذلك حين قال يسوع، بعد أن دعا الجميع إلى التوبة: »هذا الجيل جيل شرّير، يطلب آية ولا يُعطى له سوى آية يونان، فكما كان يونان آية لأهل نينوى، كذلك يكون ابن الإنسان لهذا الجيل... رجال نينوى يقفون في الدينونة مع هذا الجيل ويحكمون عليه، لأنّهم تابوا بإنذار يونان وها هنا أعظم من يونان« (لو 11: 29-32). يا ليت يونان وأهل نينوى يكونون لجميع المؤمنين دعوة ليخرجوا من نظراتهم الضيّقة، ويبدّلوا أفكارهم وقلوبهم، ويتقبّلون حبّ الله الشامل ويحيون منه.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM