الربّ يدعو عاموس.

 

الربّ يدعو عاموس

7: 15-12

خبر الدعوة التي نالها عاموس، غير ما نقرأ بالنسبة إلى أشعيا أو إرميا أو حزقيال. هو جزء من »سيرة« النبيّ؛ ففي ظرف دراماتيكيّ، دُفع النبيّ ليتذكّر الخبرة الروحيّة التي كانت منعطفًا حاسمًا في حياته. هذا الخبر دوّنه شاهدٌ للحدث وأدخله الناشر وسط رؤى قد لا تكون على علاقة مع الحدث الذي يُروى. في هذا الإطار، نشهد طرد نبيّ يحرّك الضمائر. اسمه عاموس. وهو أوّل نبيّ حفظ لنا العهد القديم تعليمه. ونقرأ النصّ في عا 7: 12-15:

12 وقال أمصيا لعاموس: »أيّها الذي يرى رؤى، إذهب، اهرب إلى يهوذا، وهناك تنبّأ وكُلْ خبزك.

13 وأمّا بيت إيل فلا تعُدْ تتنبّأ فيها، لأنّها معبد الملك وبيت ملكه«.

14 فقال عاموس لأمصيا: »ما أنا نبيّ ولا ابن نبيّ، إنّما أنا راعي غنم وقاطف جمَّيز.

15 أخذني الربُّ من وراء الغنم، وقال لي: اذهب، تنبّأ لشعبي إسرائيل.

نحن هنا في بيت إيل، المعبد الملكيّ. أحسَّ الكاهن الأعظم في المملكة، أمصيا، أنّ هذا النبيّ يشكّل خطرًا على المملكة، فأرسل يخبر يربعام الثاني. ونحن نقسم النصّ قسمين: الأمر بطرد عاموس (7: 12-13). جواب النبيّ (7: 14-15).

1- الأمر بطرد النبيّ (7: 12-13)

أ- إذهب من هنا

يقع المشهد في بيت إيل، ذاك الموقع البيبليّ المعروف. هو يبعد قرابة عشرين كلم إلى الشمال من أورشليم. وقد احتفظ بتقاليد الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب. تتذكّر بيت إيل مرور إبراهيم فيها في تك 12: 8:

ثمّ انتقل من هناك إلى الجبل الشرقيّ بيت إيل ونصب خيمته. وبنى أبرام هناك مذبحًا للربّ، ودعا باسم الربّ.

وترتبط بيت إيل، في شكل خاصّ، بشخص يعقوب. »وصل إليها عند غياب الشمس... فحلم أنّه رأى سلّمًا منصوبة على الأرض، رأسها إلى السماء، وملائكة الله تصعد وتنزل عليها« (تك 28: 11-12). ويتابع النصّ في آ 19 فيقول عن يعقوب إنّه »سمّى ذلك الموضع بيت إيل (بيت الله)، وكانت المدينة من قبل تُدعى لوز«.

بعد الانقسام الدينيّ والسياسيّ الذي حصل سنة 931 حين انفصل الشمال بقيادة يربعام عن الجنوب بقيادة رحبعام، صارت بيت إيل العاصمة الدينيّة في مملكة إسرائيل. وفي معبدها الذي حاول أن يزاحم هيكل أورشليم، في بيت إيل، وضع يربعام الأوّل (931-910) عجلاً ذهبيٌّا يرمز إلى اللاهوت (1 مل 12: 29). وأمّن من أجل خدمة هذا المركز الدينيّ الهامّ كهنة (1 مل 12: 32). وحين حصل الخلاف الذي دُعيَ »حدث بيت إيل«، كان يربعام الثاني ملكًا في السامرة، عاصمة المملكة. وفي العاصمة الدينيّة، قام أمصيا برئاسة الكهنوت المحلّي.

»امضِ من هنا«. هذا الانفجار من الاستياء لم يتمّ في لحظة قصيرة. فالكاهن سبق له وأنضج قراره، وبرّره باستفزازات عاموس. فهذا الواعظ يتكلّم في بيت إيل، عن بيت إيل، ضدّ بيت إيل. قال في 4: 4-5:

4 تعالوا إلى بيت إيل وارتكبوا المعاصي،

وفي الجلجال أكثروا من ارتكابها.

عند الصباح قرّبوا ذبائحكم،

وفي اليوم الثالث عشوركم.

5 أحرقوا عشوركم ذبيحة حمد،

ونادوا بتقدمات وأذيعوها.

فطالما أحببتم ذلك،

يا بني إسرائيل، يقول الربّ.

نتخيّل بسهولة عاموس، الواقف وسط الحجّاج الآتين إلى المعبد ليحتفلوا بعيد من أعيادهم. فيتوجّه إلى المؤمنين، ويدعوهم بلهجة ساخرة، ويندّد بغيرة إسرائيل الذي يظنّ أنّه يكرم الربّ وهو لا يتخلّى عن آثامه. ويفصّل الواعظ ببسمة واضحة مختلف الأعمال العباديّة، المسموح بها أو المحظورة، التي تتمّ بشكل منتظم في هذا الموضع.

ثلاثة اتّهامات رئيسيّة تعود مرارًا في هجومات عاموس على »ممارسين أشرار«: انعدام الأخلاق، الجور الاجتماعيّ، طلب الذات أو الأنانيّة التي ترضى بنفسها. كما في 2: 7-8:

7 يمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب،

ويزيحون المساكين عن طريقهم.

ويدخل الرجل وأبوه على صبيّة واحدة

فيدنّسان اسمي القدّوس.

8 يستلقون على ثياب مرهونة لهم،

بجانب كلِّ مذبح.

ويشربون خمر المدينين لهم،

في بيت إلههم.

في ما يخصّ انعدام الأخلاق، لا يشير عاموس إلى الفلتان الجنسيّ والفجور، بقدر ما يشير إلى البغاء المكرّس الذي يتمّ في ظلّ المعابد. انتشر هذا في بني إسرائيل، الذين اقتدوا بالكنعانيّين الآتين إلى خادمات المعبد، ليكرّموا بعل وعشتار ويطلبوا منهما الخصب والمطر. لقد حوّل هذا الفسادُ الفجور إلى عمل عباديّ وقد تجرّأ بعض بني إسرائيل »فقدّسوا« بهذا الشكل اسم الربّ، ساعة كانوا ينجّسون قداسته.

ثمّ إنّ شعائر العبادة أخذت تغطّي الجور الاجتماعيّ، فبعد أن يقدّم المشاركون ذبائحهم، يحتفلون بالوليمة المقدّسة:

ثياب مرهونة لدى مدينين لا يستطيعون أن يفوا دينهم. وهكذا يتجاوزون بشكل خطير الشريعة التي تفرض على المدين أن يردّ للفقير ثوبًا ارتهنه، قبل حلول الليل (خر 22: 25-26؛ تث 24: 12-13).

وفي النهاية، انتقد عاموس شعائر عبادة يطلب فيها الإنسان نفسه ولا يطلب الله. »أبغضتُ أعيادكم ورفضتها« (آ 21). والمطلوب: »ليجرِ العدل كالمياه« (آ 14).

فالركض إلى الأماكن المقدّسة، إلى بيت إيل والجلجال وبئر سبع، لا يكفل وحده الحياة: لا تحفظ الشعب ولا تسمح بتفتّحه من أجل الخير والازدهار والسلام. فالديانة الصادقة لا تقوم بأن نؤمّ المعابد، بل بأن نلتقي الله، ونعرفه، ونتمّ مشيئته، وصولاً إلى الخير والحقّ والعدالة.

لا يشجب عاموس أعياد الحجّ، والتجمّعات الليتورجيّة، والذبائح والتقادم، والأناشيد والموسيقى (5: 21-23)، بل هو يكدِّس الألفاظ التي تتّهم أعيادكم (أنتم)، اجتماعاتكم (أنتم)، ذبائحكم (أنتم)، أناشيدكم أنتم، أي كلّ هذه المظاهر العباديّة التي نجّسها انعدام الأخلاق والجور والاكتفاء والأنانيّ بالذات. ورافقت تهديدات محدّدة على بيت إيل، هذه الانتقادات كما في 3: 4:

يوم أعاقب بني إسرائيل على معاصيهم،

أعاقب أيضًا أهل بيت إيل على مذابح آلهتم،

فأقطع قرون المذابح وألقيها على الأرض.

وقال عاموس في 5: 5:

فأهل الجلجال مصيرهم إلى السبي،

وبيت إيل إلى العدم.

ونقرأ في 9: 1 كلام الربّ:

اضربْ تيجان الأعمدة،

فتنزل الأعتاب.

فمن تهجّم على بيت إيل وهدّد هيكلها ومعابدها، اعتبره الخطأة المتحجّرون الذين يأتون إليه، شخصًا غير مرغوب فيه. لهذا، فالكاهن المسؤول عن المعبد أصدر أمرًا بطرده: »إذهب من هنا إلى رؤاك«.

ب- اهرب إلى أرض يهوذا

طُرد عاموس من بيت إيل، فوجب عليه أن يترك مملكة إسرائيل. ولماذا مُنع من الإقامة؟ وجاء الجواب في كلام أمصيا الذي وصل إلى يربعام: إنه يموت بالسيف ويُسبى شعبُه. تصرّف هذا الواشي مثل موظّف أمين وغيور. فصوّر عاموس على أنّه محرّض سياسيّ يحرّك الجماهير على الملك. غير أنّ تقريره شوّه الحقيقة. فعاموس ما تحدّث عن موت الملك نفسه قتلاً، بل عن نهاية السلالة، بعد أن حكم الله عليها حكمًا شخصيٌّا ودانها. قال في 7: 9:

أخرِّب كلّ موضع مقدّس في إسرائيل،

وأقوم على بيت يربعام بالسيف.

قام عاموس بمهمّته كحامل رسالة. وما أعدّ مؤامرة على الملك. ولكنّ ردّة فعل الأرض التي لا تحتمل كلام النبيّ، تُفهَم بسهولة. فهو يقسو على عدد من الناس ويوبّخهم بعنف ويهدّدهم.

هاجم النبيّ الأغنياء وأهل الرفاه، فقال فيهم (3: 10):

لا يعرفون العمل باستقامة،

بل يملأون خزائن قصورهم

بالعنف والجور.

وهاجم سيّدات السامرة وقابلهنّ »ببقرات باشان، السمينات« (4: 1). يطلبن الطعام، يطلبن الشراب، ولكنّ نهايتهنّ تعيسة: »رفعهنّ العدوّ بالكلاليب« (آ 2). وكان الكلام قاسيًا ضدّ التجّار الذين لا يشبعون، الذي لا يفكّرون إلاّ بالغنى والسرقة والغشّ: فأمور التجارة، في نظرهم، قبل أمور الديانة والعدالة واحترام الآخرين. يقول لهم عاموس في 8: 4-6:

4 إسمعوا هذا أيّها الذين يبغضون البائسين،

ويبيدون المساكين من الأرض

5 القائلين:

متى يمضي رأسُ الشهر فنبيع ما يُباع

وينقضي السبتُ فنفتح سوق الحنطة،

فنصغِّر القفّة ونكبّر المثقال،

ونستعين بموازين الغشّ.

6 وبذلك نقتني الفقراء بالفضّة،

والبائس بنعلين اثنين،

ونبيع نفاية الحنطة.

واتّهم عاموس أيضًا القضاة لأنّهم يشوّهون المحاكمات، ويدوسون العدالة، ويحوّلون الحقّ إلى الظلم. نقرأ في 5: 7:

ويلٌ لكم! تحوّلون العدل إلى علقم،

وتلقون الحقّ إلى الأرض.

والويل للقاضي العادل. فهو متَّهم كما في 5: 10:

يبغضون القاضي بالعدل في المحاكم،

ويمقتون المتكلّم بالصدق.

أمّا أهل السياسة فهم مهرّجون، مجرمون: هم عظماء أمَّة يعتبرونها الأولى في العالم. نقرأ 6: 2:

أُعبروا إلى كلنة وانظروا

سيروا من هناك إلى حماة العظيمة...

أتلك الممالك خيرٌ ممّا تملكون،

أم تخومهم أوسع من تخومكم؟

وبدلاً من أن يتطلّعوا إلى الشقاء الذي ينصبّ على مملكة إسرائيل، راحوا يغرقون في حياة من الترف والملذّات، فكوّنوا جماعة »المتمرّغين«. مثلُ هذا الرجل الذي يحكم على جميع الطبقات الاجتماعيّة، ولا يوفّر حتّى الملك، هذا المتطفّل الآتي من الجنوب إلى الشمال، الذي يستعمل أرض الملك وهيكله ليدبّر الثورة. مثل هذا الرجل لا مكان له في بيت إيل ولا في مملكة إسرائيل. فاهتمّ أمصيا بأن ينصحه ويقنعه: إن هو مضى إلى مملكة يهوذا، موطنه وأرضه، فيتجنّب المضايقات، ويجد الاطمئنان ولقمة العيش. »أهرب إلى أرض يهوذا«.

2- جواب النبيّ

ما خاف النبيّ من هذا الكاهن الذي يبدو ضعيفًا فيقول كلامًا ملتبسًا. فردّ عليه وقلبه يفتخر برسالته. بدأ فأزال كلَّ سوء تفاهم، وحدّد ما كان في الماضي وما صار اليوم.

أ- كنت راعي غنم

يحاول الشرّاح من قديم ليكتشفوا مهنة عاموس: راعي غنم أو معز أو بقر؟ هل كان مالك قطيعه وبالتالي ابن الريف المرتاح في حياته والمستقلّ، أو مجرّد أجير وبالتالي صاحب حياة بسيطة، أو مراقب قطيع الملك؟

هناك حاشية في بداية سفر عاموس تقول لنا إنّه ينتمي إلى »ن ق و د ي م« قرية تقوع، التي تبعد قرابة عشرين كلم عن أورشليم، في الطريق التي تمتدّ من بيت لحم إلى البحر الميت. هذه الحاشية قد تساعدنا على القول إنّه راعي غنم. ففي اللغة العربيّة »النقد« هو جنس من الغنم قصير الأرجل. أمّا خلاف الشرّاح فيعود إلى اليونانيّة التي لم تفهم معنى هذه الكلمة النادرة. وفي التوراة نعرف أنّ ميشع، ملك موآب، كان »ن ق د« (2 مل 3: 4). هذا يعني مالك قطعان كثيرة.

وقام عاموس الراعي بأعمال زراعيّة: الجمّيز الذي هو شجرة قريبة من التين. وعمله يقوم في نخز الثمرة لكي تُسرع في النضوج. ويُطرح سؤال في الخطّ عينه: هل كان عاملاً بين العمّال، أم مراقبًا على أراضي الملك؟ هذا ما لا نعرفه. كلّ ما نعرف هو أنّ أمصيا اعتقد (أو هو تظاهر) أنّ عاموس قام بعمل يدرّ عليه المال: إنّه يشبه الأنبياء الذين يجدون في مهمّتهم وظيفة، فيأتون إلى بلاط الملك أو إلى معبده. هم يشبهون من ندّد بهم النبيّ ميخا في أقواله النبويّة (مي 3: 6-7):

6 يكون ليلكم بلا رؤيا،

وظلامكم من دون عرافة.

فتغرب الشمسُ على الأنبياء،

وعليهم يُظلم النهار.

7 ويخزى الراؤون ويخجل العرّافون،

ويعضّون جميعًا على شفاههم.

فلا جواب لهم من الله.

هكذا ظنّ أمصيا: عاموس يعيش من أقواله »النبويّة«. بل هو يكسب قوتَه من رعاية المواشي وزراعة الجمّيز. هو ابن الريف الجنوبيّ الذي لا ماء فيه، مثل الشمال. ولا يؤمّن سوى شظف العيش. وجاء إلى الشمال الغنيّ، الثريّ، حيث الأثرياء يأكلون الفقراء، والأقوياء الضعفاء.

ب- أخذني الربّ

لا شيء هيّأ عاموس للمهمّة التي يقوم بها اليوم. لا عائلته، ولا مهنته، ولا علاقاته. فأبوه ليس بنبيّ، فينتمي إلى السلالة النبويّة. كما ينتمي الكهنة إلى السلالة الكهنوتيّة. ولا وظيفته أن يكون نبيٌّا مثل هؤلاء الذين كانوا حول الملك أخاب. يروي سفر الملوك الأوّل أنّ هذا الملك قال: »دعنا نستشير الربّ«. فجمع نحو أربع مئة رجل من الأنبياء« (1 مل 22: 5-6). إنّهم كثيرون وجميعهم يقولون القول الواحد. وقال الرسول الذي بعث به الملك إلى ميخا بن يملة الذي هو غير ميخا المورشتي: »بصوتٍ واحد تنبّأ الأنبياء للملك بالنصر. فليكن كلامك مثل كلامهم« (آ 13). أترى عاموس واحدًا من هؤلاء، يعتاش من وظيفته في كلام للملك يروق الملك؟ أم هو مثل ميخا الذي قال: »حيّ هو الربّ. ما يقوله لي الربّ أقوله أنا« (آ 14).

لم يكن راعي تقوع من هؤلاء الأنبياء العائشين على مائدة الملك. ولا كان من جماعة الأنبياء، الذن شابهوا »الرهبان« فأقاموا معًا في موضع واحد. وكانوا في يوم من الأيّام حول النبيّ أليشع (2 مل 4: 38). إنّهم بنو الأنبياء الذين لعبوا دورًا سياسيٌّا هامٌّا في الحرب على البعل، خلال القرن التاسع ق.م. وتحوّلت هذه »الأخويّات« فخسرت الطابع المواهبيّ وحماسها القريب من التعصّب، حين قتلت أنبياء البعل بعد محرقة الكرمل (1 مل 18: 40).

كان كلام عاموس واضحًا، جليٌّا: لا نبيّ ولا ابن نبيّ. ولكنّ حدثًا خارقًا اجتاح حياته. الربّ أخذني. أمسكني فما عدتُ أقدر أن أفلت. أخذني من وراء الغنم. ها هو النبيّ يُسرُّ لنا بما في قلبه. الله هو الذي دعاه. اقتلعه كما اقتلع إبراهيم قبله. أخذه من جنوب البلاد إلى شمالها، حيث لا أقارب له ولا أصحاب. كلامه يشبه كلام إرميا (20: 7):

خدعتني، يا ربّ فانخدعت،

وغالبتني بقوّتك فغلبتَ.

ومثله قال بولس الرسول إلى أهل فيلبّي (3: 12):

ولا أدّعي أنّي فزتُ أو بلغتُ الكمال،

بل أسعى لأمسكه لأنّ يسوع المسيح أمسكني.

سمع بولس النداء. صار أسيرًا. عبدًا ليسوع المسيح، منذ الخبرة الروحيّة على طريق دمشق. هكذا كان الوضع بالنسبة إلى عاموس. فجأة تدخّل الله في حياته، فما استطاع أن يقاوم. زأر الأسد، فمن يُفلت من الخوف؟ الربّ تكلّم، من يستطيع أن يرفض أن يكون نبيّه (3: 8)؟ بادر الله واختار، والدعوة بالنسبة إلى المختار، تعني انفصالاً، اقتلاعًا من محيطه، ونداء إلى رسالة ما كان يتوقّعها. فلبّى عاموس هذا النداء، ومضى وهو لا يعرف إلى أين، مثل إبراهيم كما تقول عنه الرسالة إلى العبرانيّين (11: 8):

بالإيمان لبّى إبراهيم دعوة الله،

فخرج إلى بلد وعدَه الله به ميراثًا.

خرج وهو لا يعرف إلى أين هو ذاهب.

ج- إذهب

»ل ك«. إذهب. انطلقْ: تلك هي الكلمة التي قالها الربّ لإبراهيم. وردّدها إذهب. إذهب (ل ك. ل ك). أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك (تك 12: 1). ومثله فعل عاموس. قطع في الحال كلّ ما يربطه بقريته تقوع، بقطيع غنمه، والجمّيزات التي تؤمّن له عيشه. قال له الله: إذهب. حينئذ خلقه إنسانًا جديدًا. صار من مصاف الذين ينطلقون جوابًا على نداء الله. هذا ما حصل لإيليّا الذي لجأ إلى جبل حوريب بعد أن تمنّى الموت لنفسه أمام الصعوبات (1 مل 19: 4-15). وأشعيا سمع الكلام: »إذهب وقل لهذا الشعب« (6: 8). وقال الربّ لإرميا: »أينما أرسلك تذهب، وكلّ ما آمرك به تقوله، لا تخف من مواجهة أحد، فأنا معك لأنقذك« (إر 1: 7-8). وكذا نقول عن الرسل الذين دعاهم يسوع. تعال واتبعني. فتركوا كلّ شيء وتبعوه (لو 5: 11).

جاء الأمر بالمهمّة إلى عاموس، لينطلق إلى مملكة الشمال. فلا حدود لكلمة الله، ولا هي تُحصَر في بلدي، في مملكتي، في جماعتي. يجب أن يكون الشمالُ بعباداته الكاذبة شعب الله. بل نينوى عادت إلى الله. والربّ يقول في أش 19: 25: »مبارك شعبي مصر«. ما عاند عاموس كما فعل يونان: لماذا لا أكون نبيٌّا في بلدي، بين أقاربي فيكون لي سندٌ بشريّ؟ سيحسبونني غريبًا! وماذا أستطيع أن أقول لهذا الملك القدير ولعاصمة تفوّقت على مدن فلسطين غنًى وازدهارًا؟ كان يمكن أن يتصرّف عاموس مثل موسى: »من أنا حتّى أذهب إلى فرعون«؟ (خر 3: 11). أنا أكون معك. ما عبّر راعي تقوع عمّا في قلبه. ولكن نفهم أنّه استند إلى كلام الربّ ومضى. هو يشبه ما فعله يوسف خطّيب مريم حين دعاه الربّ لكي يأخذ مريم إلى بيته. ما أجاب بكلمة. فقال عنه إنجيل متّى: »فلمّا قام يوسف من نومه، عمل بما أمره الربّ« (مت 1: 24).

وعمل عاموس بما أمره الربّ. أرسله الله إلى معبد بيت إيل الملكيّ. فمن يجسر أن يقول له: أنت غريب هنا؟ عارض الكاهن أمصيا ذاك الذي أرسله الله، فكان ذاك الذي يعارض الله. فالنبيّ هو في جوهر رسالته حامل كلام الله، كما قال عاموس في 3: 7:

السيّد الربّ لا يفعل شيئًا

إلاّ إذا كشف سرّه لعبيده الأنبياء.

الربّ يكلّم النبيّ، بل يجعله يرى كلامَه كما في رؤيا (1: 1). ولهذا سيقول أكثر من مرّة: »هذا ما أراني السيّد الربّ« (7: 1، 4-7؛ 8: 1). فعاموس، في أقواله، يستنير بضوء الله ليحكم على الأحداث، وعلى إسرائيل ويهوذا وكلّ إنسان (1: 3-2: 16). ها هنا قوّته. وها هنا عذابه أيضًا. رأى الجراد، رأى الجيش آتيًا (7: 2). وهو يحرق كلّ شي بالنار (آ 4). فيصرخ: عندك (آ 3). توقّف (آ 5). فرض عليه أن يكشف الشرَّ الآتي. ولكنّه لا يستطيع أن يحتمل: »كيف تقوم لبني يعقوب قائمة؟ فهم شعب صغير«. ردّد كلامه مرّتين (آ 2، 5). فالنبيّ يتشفّع مثل موسى.

اختلف عاموس عن أنبياء زعموا أنّهم أنبياء، فحرّكوا غرائز الشعب، ووعدوا بالرخاء والحرّيّة. إنّه المدافع عن العدالة. فيجب عليه أن يُبرز الخطيئة وبالتالي يعلن الشرّ لكي يجتذب سامعيه إلى التوبة. وبلاغه يتضمّن عددًا كبيرًا من التهديدات، وقليلاً من الوعود. ومع ذلك، فهناك ومضات نور في قلب ذاك الظلام الواقع، كما في 5: 15:

أبغضوا الشرّ وأحبّوا الخير،

وأقيموا العدل في المحاكم،

فلعلّ الربّ الإله القدير

يتحنّن على من تبقّى من بيت يوسف.

لمملكة الشمال أكثر من اسم: بيت يعقوب. بيت يوسف. إسرائيل. أفرائيم. وهي تمتاز عن مملكة الجنوب التي اسمها يهوذا وعاصمتها أورشليم. جاء ابن الجنوب فما عرف ترف الشمال. وحدّثهم بلغته »القرويّة«. أترى يعرفون من خلال »كلمات عاموس« (1: 3) أن يكتشفوا أنّ »الربّ هو الذي يتكلّم« (آ 3)؟

الخاتمة

ما أراد عاموس أن يتحدّث عن دعوته، حياته، أعماله. أقواله تدلّ على أنّ الله ناداه وأرسله. وإلاّ فماذا يفعل هنا في عاصمة الشمال، ذاك الراعي الذي كان شبه منقطع عن العالم مع خرافه وجمّيزاته؟ ولماذا يقول فيتدخّل »فيما لا يعنيه« كما يفكّر أمصيا؟ بل لماذا يتحدّى الملك والمعبد الملكيّ؟ ألا يخاف الموت؟ ولكنّه نال عقابًا بسيطًا: طُرد من المملكة. ونتساءل: أين هو الملك؟ لم يفعل شيئًا. فقد يكون خاف منه كما خاف أخاب من إيليّا، وهيرودس من يوحنّا المعمدان. أمّا الكاهن ففعل إرضاء لمعلّمه، وربّما أحسّ في أعماقه أنّ هذا الرجل الذي يبدو »لامتمدّنًا« يحمل قوّة في كلامه لم يرَ مثلها من قبل. حينئذ أعلن عاموس: »أخذني الرب وقال لي: إذهب«. أترى النبيّ توقّف عن الكلام خوفًا من هذا الكاهن المتملّق؟ كلاّ. بل تابع: »فالآن اسمع كلام الربّ« (آ 12).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM