حضارة يرفضها النبيّ.

حضارة يرفضها النبيّ

عا 6: 1-7

عرفت السامرة عهدًا من الازدهار الكبير في أيّام يربعام الثاني وما بعده، فهلّل الناس، واعتبروا هذا الغنى بركة على مملكة إسرائيل (الشمال)، لم تنل مثلها مملكة يهوذا (الجنوب، بعاصمتها أورشليم). هناك البيت الشتويّ والبيت الصيفيّ كما في بورجوازيّات كلّ زمان. أمّا البيوت فكبيرة ويزيّنها العاج (3: 5)، والموائد عامرة، لا يأكلون من اللحم إلاّ العجول الطريئة. ويشربون الخمر بل يسقون النذير (2: 12) لئلاّ يوبّخهم على موقفهم. والنساء سمينات. غير أنّ النبيّ شبّههنّ »ببقرات باشان« (4: 1). يظلمن الفقراء، ويسحقن البؤس، ويقلن لأزواجهنّ: هاتوا لنشرب. والكبار في المملكة »يبيعون الصدّيق بالفضّة، والبائس بنعلين، ويمرّغون رؤوس الوضعاء في التراب، ويزيحون المساكين عن طريقهم (2: 6-7). حضارة مزدهرة في نظر البشر. ولكن محكوم عليها من قبل الربّ »حكمًا لا رجوع عنه« (2: 6). فماذا في هذا الحكم ؟ ونقرأ عا 6: 1-7:

1 ويل لكم، أيّها المترَفون في صهيون،

ويا أيّها الأمناء في جبل السامرة،

أنتم يا نخبة عظماء الأمم،

وملاذ بيت إسرائيل.

2 أعبروا إلى كلنه وانظروا،

ثمّ اهبطوا من هناك إلى حماة العظيمة،

أتلك الممالك خيرٌ ممّا تملكون،

أم تخومُهم أوسع من تخومكم؟

3 أنتم تستبعدون يوم النكبة،

وتقرّبون زمن العنف.

4 تضطجعون على أسرّة من عاج،

وعلى فراشكم تتمرّغون.

تأكلون الخراف من الغنم،

والمعلوف من العجول.

5 تبعبعون على صوت العود،

وتنسبون إلى نفوسكم آلات الطرب

مثل داود.

6 تشربون الخمر بالطاسات،

وتمسحون شعور رؤوسكم بالزيوت،

ولا تذوبون حزنًا على هلاك بيت يوسف.

7 لذلك تكونون أوّل من أسبيهم،

فتزول عربدةُ المتمرّغين.

1- سياق النصّ

عاموس نبيّ يتمتّع بالأصالة. ولكنّه في خطّ الذين سبقوه وإن اغتذى من ينابيع أخرى مثل عالم الحكمة أو ليتورجيّة العهد. واحتفظ من التقليد النبويّ بالنظرة الأساسيّة التي نجدها في بلاغه، وفيه يتكلّم عن اسم الله الذي يدين شعبه. أمّا مهمّته إلى سامعيه فنقل الدينونة التي تنتظرهم، وعرض الاتّهامات، وإعلان الحكم الذي يصل إليهم.

ولكن أُرسل بقوة في أكثر المرّات، إلى الأفراد ولا سيّما إلى الملوك فتكلّموا من هذا القبيل وبقدرٍ ما، باسم الشعب (الخطيئة التي يندّد بها النبيّ كانت، عادة، تجاوزًا للنظام الاجتماعيّ). أمّا عاموس فوجّه أقواله على مملكة إسرائيل، التي تمثّل القسم الأكبر من شعب العهد. لهذا فطبيعة السامع (أو القارئ) الذي هو جماعة، حوّلت البلاغ بشكل ملموس. فالاتّهامات لا تشير فقط إلى ذنب واحد، بل إلى مجمل مواقف. والحكم لا يمكن أن يكون بعد عقابًا مباشرًا. فهو يفترض تحريك مسيرة تاريخيّة تترك للشعب، بشكل نظريّ، الوقت لكي يتوب فيلغي العقاب المهيَّأ له.

وتشارك عاموس أيضًا مع سابقيه (مثلاً، حين اتّهم ناتان داود، 2 صم 12: 1ي)، فتوجّه إلى أشخاص لم يعوا خطاياهم وعيًا. لهذا فكرازته الأولى في بيت إيل فعلت فعل »القنبلة« بحيث فاجأت الجميع. ويمكننا أن نستشفّ بسهولة ردّة الفعل لدى السامعين: دهشة، تشكّك، تساؤل. فأجبر عاموس على الدخول في التفاصيل، واللجوء إلى كلّ غنى شخصيّته ليقدّم تحليلاً نقديٌّا لوضْعٍ لم يزعج أحدًا من الناس.

2- حضارة متألّقة

في نظر المؤرّخين، بدا حكم يربعام الثاني (788-753) الأكثر إشراقًا في مملكة إسرائيل ونعمت البلاد بسلام تامّ، وباستقلال لا غبار عليه. ساعة دفع يوآش، سنة 803 الجزية لملك نينوى، هدّد نيراري الثالث (كما يقول نُصب وُجد قرب الموصل، في تل الرماح)، كانت أشورية تمرّ في حقبة انحطاط، شأنها شأن مصر. وهكذا بعد مضيّ خمسين سنة، لم يعُد باستطاعة الممالك الكبيرة أن تتدخّل في سورية ولبنان وفلسطين.

وبعد عقود من الحروب التعيسة على الأراميّين في دمشق وسائر المدن الأراميّة، استعادت المملكة المبادرة، بل انتصرت انتصارات في شرقيّ الأردنّ. هي في الواقع غزوات لا قيمة كبيرة لها، فيهزأ بها عاموس في 6: 13:

أنتم تفرحون بانتصاركم على لودبار (= لا شيء)،

وتقولون: »أما بقوّتنا أخذنا قرنايم؟ (القرنين).

تحرّرت مملكة إسرائيل من التسلط الأجنبيّ ومن الاجتياحات الآتية من هنا وهناك، فعرفت حقبة ازدهار اقتصاديّ، ما سبق ورأت مثله. فامتلأت السامرة بالقصور الفاخرة (3: 15؛ 5: 11: تبنون بيوتًا من حجر) التي دلّت بما فيه الكفاية، على الغنى في البلاد.

ولكن وراء هذه الواجهة اللمّاعة، كان هناك أمر آخر. كشف لنا عاموس مجتمعًا يتفكّك »تفكّكًا«. كان إسرائيل، الشعب الذي حرّره الله، قد جعل من المساواة بين جميع المواطنين، شرعة المجتمع التي وافق عليها العهد. وإذ أرادوا أن يكفلوا هذه المساواة، أمّنوا لكلّ عيلة قطعة أرض تكون ملكًا مقدّسًا، لا يتعدّى عليه أحد، ولا ينتقل إلى أحد. ولكن كبيرًا كان السلب والنهب، في القرن الثامن بيد الملك (1 مل 21: 1ي، نابوت اليزرعيليّ) وموظّفيه والملاّكين الكبار. فرأينا أن مجموعة من الملاّكين الصغار خسروا أرضهم وصاروا عبيدًا. وتوسّعت طبقة التجّار والصناعيّين بسرعة كبيرة، وهكذا بتنا أمام أربع أو خمس طبقات اجتماعيّة، في شعب أراد نفسه بدون طبقات. فالتشريع لم يتكيّف مع الوضع الجديد. والعلاقات الاجتماعيّة التي تحكّم بها التحرّر الفوضويّ، صارت مجرّد استغلال منظّم للفقراء بيد الأغنياء.

وحده عاموس لاحظ هذا الأمر، جاء من منطقة (الجنوب) تحافظ على أسلوب حياة عرفه شعب إسرائيل في بدايته، فنظر إلى حضارة المدينة بعينين جديدتين، وما تعاطف مع هذه الحضارة التي بهرت الكثيرين. فكانت رسالته بأن يندّد بخطايا إسرائيل. وكفاه بأن يقابل ما يرى مع متطلّبات العهد، كما انتقلت في التقليد الليتورجيّ (والعائليّ أيضًا)، ليلاحظ أنّ إسرائيل ترك التزاماته كلّها. لهذا اتّهم هذا النبيّ عظماء السامرة.

3- ويل لكم

استعرض عاموس، في اتّهاماته، المجتمع الإسرائيليّ كلّه. ومع ف 6، وصل إلى الذين يدعون نفوسهم »رؤساء أولى الأمم« (آ 1). هم الضبّاط الكبار ومستشارو الملك، الذين يقودون الحملات العسكريّة البسيطة مع الجيش العامل (غير الاحتياط)، ويقومون بمهمّات دبلوماسيّة. ولم يمضِ وقتٌ حتّى صاروا طبقة حقيقيّة تشبه النبلاء الذين اغتنوا سريعًا. لم يكن لهذه الطبقة جذور في البنية التقليديّة داخل المجتمع الإسرائيليّ. صنعهم الملك، لهذا سمّوا »عبيد« الملك، فلبثوا جسمًا غريبًا في هذا المجتمع.

أ- »الويل للآمنين«

هذه العبارة التي ترتبط بأسلوب الحكماء، لا بألفاظ قانونيّة انتظرناها في هذا السياق، لا نفهمها على أنّها لعنة، أي كلمة تحرّك الشرّ على من تصيبهم. هي مجرّد ملاحظة تستبق نتيجة الحكم الذي يصل إلى هؤلاء الناس. يُستعمل »ويل« عادة للإشفاق على شخص من الأشخاص. ولكنّ عاموس يذهب أبعد من ذلك.

أوّل اتّهام على هؤلاء الرؤساء، هو التكبّر. افتخروا بنجاحاتهم الحربيّة والدبلوماسيّة، والقوّة التي وعوا بأنّهم أمّنوها للمملكة بفضل مهارتهم وعزمهم. ولكنّهم نسوا أنّ شعب الله لا يمكن أن يكون له سوى مُدافع واحد، هو الربّ إلهه. حينئذ يُحكم على كلّ العهود، كما على جيش مرتَّب ترتيبًا. فمن استعمل هذه الوسائل، وسائل الأمان والنفوذ، دلّ على أنّه يريد أن يستغني عن الله ويجعل ثقته في وسائله الخاصّة.

وإذ ندّد عاموس بما يبعث على الإحساس بالطمأنينة، مع ما في هذا الإحساس من شكّ، أشار إلى تلك العاطفة نفسها التي تكشف لاوعيًا خطيرًا. فوجب على الرؤساء، أكثر من غيرهم، أن يعرفوا كيف يحكمون على الوضع الدوليّ، ويترقّبوا يقظة قريبة لأشورية، التي لا تقف في وجهها كلّ قوى إسرائيل سوى ثلاثة أشهر. كما وجب عليهم أن يدركوا أنّهم حين تركوا الوضع الدينيّ والاجتماعيّ في المملكة يتدهور، وحين عاشوا خارجَ العهد، كانوا السبب في حكم الله على شعبه. على هذا وبّخهم عاموس: رفضوا أن يواجهوا الوضع الحاضر ويعرفوا مسؤوليّتهم. »هلاك بيت يوسف لا يعنيهم« (آ 6).

ب- الحكم على ترف العظماء

ما قرأناه في آ 7 يعطي جوهر المقطع الذي نتأمّل فيه: الحكم على ترف العظماء، في السامرة (آ 4-6). ففي عبارات قليلة، رسم عاموس لوحة لا شفقة فيها لولائم تُقام في قصور السامرة: أسرّة من عاج. يتمرّغون (كالخنزير)، يأكلون (آ 4). لم تكن العادة في إسرائيل أن يأكلوا وهم نيام. وفي خارج فلسطين، حُفظت هذه الطريقة في ولائم تدلّ على الأبّهة والعظمة. حين أخذ كبار السامرة بهذا العمل، دلّوا على تفاخر فارغ.

والتفاصيل التي يعطيها عاموس حول مأكولات هذه الولائم، لها أهمّيتها. نستخلص منها لائحة بعدّة ألفاظ ليتورجيّة. في آ 6، تُذكر الطاسات التي تُستعمل للسكيب. الخراف من الغنم والزيوت الخاصّة، كانت تخصَّص عادة من شعائر العبادة. ولفظ »م ز ر ق ي« الذي يشير به عاموس إلى القصوف، انطبق أساسًا على الوليمة المقدّسة (إر 15: 5. وسائر اللغات الساميّة). ما أراد النبيّ أن يصوّر سوى ولائم عاديّة، غير أنّ التلميحات إلى أعمال ليتورجيّة، جعلت من هذه الولائم انتهاكًا للأقداس. وقد يتطلّع النبيّ إلى الولائم المكرّسة التي كانت عنصرًا جوهريٌّا في الحياة الليتورجيّة لدى شعوب الشرق القديم. وإذ صوّر عاموس ما صوّر، أعطانا مسخَ أعمال ليتورجيّة. فهي لا تمكن إلاّ أن تعود بالشرّ على ممارسيها.

إنّ حكمًا جذريٌّا على الولائم المقدّسة لا يمكن أن يدهشنا عند عاموس: فقد عرفنا عنه أنّه ندّد بالعبادة الرسميّة في إسرائيل فقال في 5: 21-24:

21 أبغضتُ أعيادكم ورفضتُها،

ولا أرتاح لاحتفالاتكم.

22 إذ أصعدتم لي محرقاتكم

وتقدماتكم، لا أرضى بها.

ولا أنظر إلى الذبائح المسمّنة.

23 أبعدوا عنّي هزيج أغانيكم،

فأنا لا أسمع نغَم عيدانكم.

24 بل ليجرِ العدلُ كالمياه،

والصدق كنهر لا ينقطع.

كثيرة هي البواعث لهذه الدينونة السلبيّة. ونستطيع أقلّه أن نشير إلى اثنين ذات بُعد عامٍّ جدٌّا.

* رأى النبيّ في الطقوس طريقة ضمنيّة لشراء الله، لتأمين حمايته لنا، وفي الوقت عينه نعفي نفوسنا من ممارسة متطلّبات العهد، ولا سيّما العدالة.

* هذه الشعائر الغنيّة والظاهرة جدٌّا، تعبِّر عن كبرياء الشعب، لا عن الإيمان بإله العهد. في الخارج، هي أعمال دينيّة. ولكنّها في الواقع شعائر عبادة الأمّة، وهي تتوخّى أن تقوّي ثقتها بنفسها وتشعر بعاطفة الاطمئنان، وهل من اطمئنان على مستوى البشر وحدهم؟

إذًا، ما توقّف اعتراف عاموس على التفاصيل، بل وصل إلى أقدس الأمور، التي تشكّل أساس الحضارة في مملكة إسرائيل، في القرن الثامن ق.م. على هذا الأساس نجعل انتقاد أشرف العظماء في السامرة. لا يكفي أن نرى هنا ردّة فعل طوعيّة من راعي تقوع (في الجنوب) على حضارة متشعّبة ومصطنعة. ولا أن نرى صراخًا ثورويٌّا لدى مدافع عن الفقراء، وهو العارف على أيّ جور شُيِّدت ثروات مثل هذه الطريقة في الحياة.

ولو لم يكن ترف هؤلاء الأغنياء الجدد ثمرة استغلال الصغار، فعاموس يندّد به كما يندّد بمسؤولي الأمّة وادّعاءاتهم. والسبب هو أنّ حضارة السامرة المتألّقة تعارض مثالَ شعب الله كما عاشه المؤمنون قبل فترة الملكيّة، ووزّعه العهد في قوانين وفرائض. فالإطار الاجتماعيّ التقليديّ وحده، يتيح لكلّ واحد بأن تتفتّح شخصيّته بفضل حرّيّة كبيرة مُنحت له. وحده هذا الإطار يكفل أمانة الشعب لإلهه. فهو حين يحتفظ بهذا الأسلوب من الحياة البسيطة والخفيّة، يكون بمأمن من تجربتين كبيرتين تهدّدانه: أو يطلب أن يبني مصيره بقواه الخاصّة فيتخلّص من قيادة الله، أو يطلب سندًا آخر غير الله ليحقّق طموحاته.

الخاتمة

في هذه النظرة اللاهوتيّة، نجد جذورَ معارضة عاموس، وغيره من الأنبياء. وهذا ما يجعل من تأوين بلاغه عمليّة حسّاسة. من جهة، هو معاصر لنا حين يحكم على مجتمع معقَّد يولّد غناه الاستغلال. ويقدّم مثال مجتمع لا طبقات فيه. ومن جهة ثانية، بروزُ مجتمع مبنيٍّ مركّب، وازدهار اقتصاديّ كبير، وتوسّع الفنون. مثل هذه الحضارة تدلّ على النموّ والترقّي. ولكنّ عاموس رذل حضارة السامرة، فبدا شخصًا متخلّفًا، عدوّ التقدّم. فيحسبه البعض رجعيٌّا يريد أن يبقى شعبُ الله خارج التطوّر العاديّ للحضارات فيكون في خطّ يعاكس التاريخ.

في الواقع، يصعب علينا أن نعرف إن كان عاموس يرذل حقٌّا الوجهات الإيجابيّة في الحضارة التي ينتقد. فنحن لا نعرف سوى الوجهة السلبيّة لتعليمه. فإن أردنا حقٌّا أن نحكم على موقفه، يجب أن نعرف كيف تطلّع إلى مملكة إسرائيل في المستقبل. هي ستكون حاضرة بعد الكارثة (9: 11-15): »في ذلك اليوم، أقيم مسكن داود المهدّم، فأسدّ شقوق جدرانه وأرحمه وأعيد بناءه كما في الأيّام القديمة«. هي كلمة الرجاء بالرغم من كلّ شيء، كلمة النبيّ التي لا تتوقّف عند علوم عصره، بل تطلب الموقف الدينيّ الذي يحلّ محلّ الأخطاء الحاضرة: »أطلبوا الرب فتحيوا. لا تطلبوا بيت إيل (وما فيها من عبادات كاذبة). أبغضوا الشرّ. أحبّوا الخير، أقيموا الحقّ في المحاكم« (5: 3-15).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM