أفيض روحي.

 

أفيض روحي

يوء 3: 1-5

حين نقرأ خطبة بطرس في صباح العنصرة، لا بدّ أن تلفت نظرنا المكانةُ التي يحتلّها الإيراد الطويل من نبوءة يوئيل (3: 1-5). فإن كان صاحب سفر الأعمال أخذ النصّ كلّه في خطبة غير طويلة، فلأنّه رأى فيه أحد مقاطع العهد القديم الذي يلقي أفضل ضوء على حدث العنصرة. ولكن ما كان يقينًا مباشرًا إلى القرّاء الأوّلين، صار لنا مثل لغز. فهذا النصّ »الغامض« يبدو عائقًا لا مساعدًا. لهذا نحتاج إلى دراسة معمّقة لنكتشف غناه بحيث نفهم حدث العنصرة فهمًا أفضل. ونقرأ النصّ:

1 ويكون بعد هذا،

أفيض روحي على كلّ بشر،

فيتنبّأ بنوكم وبناتكم

شيوخكم يحلمون أحلامًا

ويرى شبّانُكم رؤى.

2 وعلى عبيدي أيضًا وجواريّ

أفيض روحي في تلك الأيّام

3 وأجعل عجائب في السماء وعلى الأرض

دمًا ونارًا وأعمدة دخان.

4 فتنقلب الشمس ظلامًا

والقمرُ دمًا

قبل أن يأتي يوم الربّ

العظيم الهائل.

5 ويكون أن كلّ من يدعو باسم الربّ يخلص.

ففي جبل صهيون وفي أورشليم،

تكون نجاة كما قال الربّ،

وفي أورشليم الذين دعا الربّ.

1- سياق النصّ

جاء سفر يوئيل حول موضوعين ارتبطا ارتباطًا حميمًا: تعرّي الإنسان الكامل هو شرط خلاصه. والموضوع الثاني: يوم الربّ. وذكرُ يوم الربّ يأتي في الفصول الأربعة من هذا السفر. إنّه أكثر من »يوم«. هو كبير في الزمان وفي المكان. بل يبدو كائنًا حيٌّا. بل وحشًا هائلاً يكثّف قوّة لا تُقاس، وعزمًا لا يقابله عزم. أمّا الصورة فتؤخذ من الكوارث الطبيعيّة أو الحرب الشرسة. هذه القوّة هي ظلمة بالنسبة إلى النور الذي على الأرض. أمّا هجمتها فتفني كلّ حياة وتنهي الكواكب. وهكذا نقرأ ما يتضمّن الحكم على ما كلّ ما يعتبر نفسه مقاومًا لسيّد الأكوان.

وهذا اليوم هو بالنسبة إلى الإنسان، مرادفًا لعري تام وتجرّد. وإذ يريد النبيّ أن يصوّر هذه الحالة، يلجأ إلى الصور: هجمة حشرات لا يقدر شيء أن يقف في وجهها (1: 4). كلّ ما هو عذب، حلو، ضروريّ للحياة، يُلغى، يدمَّر، ينفد، يصبح برّيّة قاحلة، يذبل، ييبس. سيطر على الناس الخجلُ والحزن، وابتعد الفرح. كلّ هذا يتمّ بفعل جيش سرّيّ حاضر في كلّ مكان. تحيط به نار مدمِّرة تملأ المدن والبيوت. ويكون انقلاب تامّ، داخليّ وخارجيّ. حينئذٍ يُلغي روح الربّ الحواسّ العاديّة، فيتصرّف البشر مثل مجانين، ويصبح الكون مسرحًا لسلسلة عجائب تعيده إلى الشواش. وفي النهاية، يتّخذ تجرّد البشر شكل دينونة شاملة.

جاء هذا السفر في قسمين كبيرين. في الأوّل (ف 1-2) اجتياح الجراد. فتبدأ ليتورجيّة الحداد، فتبكي بنت صهيون وييأس الفلاّحون وقاطفو الكرم. وينتهي كلّ شيء بنداء إلى التوبة وإلى الصلاة العامّة مع كهنة يلبسون الحداد. وفي النهاية، يتجاوب الله مع الصلاة، ويعد ببركات الأرض.

ويتضمّن القسم الثاني (ف 3-4) كلامًا عن مواعيد آتية في يوم الربّ: فيض الروح، دينونة الشعوب، زمن الفردوس الجديد من أجل شعب الله.

هذا التجرّد التامّ الذي يعلنه النبيّ، هو شرط »العودة«، شرط توبة لا تقوم فقط في الطقوس (التي هي أشكال خارجيّة لمسيرة داخليّة) بل في توجّه الإنسان في اتّجاه جديد. والتوبة تعني أيضًا أن ندعو باسم الربّ، وهذا يعني الاختيار الإلهيّ. ولا يبقى من حيّ إلاّ الذي دعاهم الربّ. حينئذ تأتي البركات التي يمنحها حضور الله الخلاّق، وهي ترتبط بالنهاية بمعرفة الربّ. نقرأ 2: 27:

تعلمون أنّي أنا في وسط إسرائيل،

وأنّي الربّ إلهكم ولا أحد غيري،

وشعبي لا يعرف الخزي أبدًا.

ونقرأ في 4: 17 في إطار القتال والدينونة:

فتعرفون أنّي أنا الربّ إلهكم،

الساكن في صهيون، جبلي المقدّس

وتكون أورشليم مكانًا مقدّسًا

ولا يعبر فيها الأجنبيُّ من بعد.

2- يوم الربّ: دينونة وخلاص

إذا إردنا أن نفهم ما كتبه لوقا في سفر الأعمال، نقرأه في إطار يوء 3-4. ولكن لا حاجة إلى قراءة ف 1-2، لأنّ ف 3 يشكّل مقطعًا جديدًا، وهذا ما جعل بعضهم يعتبر أنّنا أمام كاتبين مستقلّين، واحد كتب ف 1-2، وآخر كتب ف 3-4. في ف 1-2، فسَّر نبيٌّ حادثًا حصل في أيّامه: اجتياح الجراد، فاستخرج منه نداء إلى التوبة، اعتادت الكنيسة أن تقرأه في زمن الصوم. مع ف 3، النظرة بعيدة جدٌّا وتدعو إلى القلق. فالكارثة التي يتلقّاها اليوم شعب الله، تمّحى أمام أمر مهمّ جدٌّا، لم يحدَّد تاريخه: »بعد ذلك«.

تدلّ هذه العبارة دومًا على تدخّل الله الخارق في التاريخ. ولكنّ هناك طرقًا عديدة لفهم هذا التدخّل، رأى معظم الناس في إسرائيل أنّهم أمام انتصار على أعداء شعب الله. فاليوم اليوم يكون ذاك الذي فيه يُسحَق الوثنيّون سحقًا تامٌّا. أمّا بالنسبة إلى الأنبياء، منذ عاموس النبيّ، فيوم الربّ يكون دينونة يصيب إسرائيل الخائن للربّ. قال عا 5: 18:

ويل للمتمنّين يوم الربّ،

ماذا ينفعكم يوم الربّ،

وهو لكم ظلام لا نور؟

جاءت النظرتان معًا عند يوئيل. في الأولى، تحدّث عن دينونة الوثنيّين فقال في ف 4:

2 أحشد جميع الأمم،

وأنزلهم إلى وادي يوشافاط،

وأحاكمهم هناك،

من أجل شعبي وميراثي إسرائيل.

لأنّهم فرّقوهم بين الأمم،

واقتسموا أرضي.

3 ألقوا القرعة على شعبي،

وقايضوا الصبيَّ بالزانية

وباعوا الصبيّة بالخمر ليشربوا.

19 وتكون مصر خرابًا،

وأدوم برّيّة مقفرة

لأنّ سكّانها عنّفوا بني يهوذا

وسفكوا الدم الزكيَّ في أرضهم.

وفي الوقت عينه، ما نسيَ دينونة إسرائيل. فلن يبقى من الشعب المختار سوى حفنة قصيرة: ف ل ي ط ه (3: 15ب). قسم قليل يفلتون فقط. أولئك الذين يدعوهم الربّ. الذين آمنوا به. وكذلك يستطيع أن يدعوهم لأنه عرف فيهم أخصّاءه. فالخلاص لا يكون إلاّ لهذه البقيّة التي يحدّدها موقف النبيّ، لا انتماء إلى أمّة من الأمم. وهكذا جاء يوئيل في امتداد أشعيا الذي تطلّع إلى بقيّة إسرائيل في إطار دينونة أخيرة. قال أشعيا في 4: 2-4:

2 وفي ذلك اليوم،

يجعل الربّ كلّ نبتة في الأرض جميلة، زاهية،

وكلَّ ثمرة فيها بهجًا وفخرًا

للناجين من بني إسرائيل.

3 ومن بقي في صهيون،

وتُرك في أورشليم،

يُقال له قدّيس،

فتُكتَب له الحياة.

4 وحين يغسل الربّ

قذارة بني صهيون،

يمحو الدماء من أورشليم،

بزيح العقاب وريح الحريق.

هكذا يحفظ الربّ بقيّة من الناجين في أورشليم. ويتابع أشعيا في 28: 5-6:

5 في ذلك اليوم،

يكون الربّ القدير إكليلَ مجد

وتاج بهاء لبقيّة شعبه.

6 ويكون روحَ عدلٍ

للجالسين في كرسيّ القضاء،

وروحَ شجاعة

للذين يصدّون المهاجمين عن الأبواب.

والخلاص الموعود به يكون إعادة بناء الشعب، ورجوع إلى السلام والازدهار كما في يوء 4: 18:

وفي ذلك اليوم،

تطفو الخمرُ على الجبال،

ويجري اللبن في التلال

وجميع سواقي يهوذا تسيل مياهًا

ويخرج معين من بيت الربّ،

ويسقي وادي شطّيم (يصبّ في البحر الميت).

أمّا الهزيمة التي حصلت بسبب تحالف أدوم مع مصر فتزول وتترتّب الأمور: تتحرّر الأرض، ويرجع الأسرى، ويؤكّد الشعب سيادتَه على أعدائه. نحن لا نعرف الأحداث التي يتحدّث عنها يوئيل. وهو، في موضع آخر، يصوِّر عودة البناء في عبارات عامّة تذكّرنا بنبوءات أخرى. مثلاً عا 9: 13:

ها أيّام تأتي يقول الربّ:

يلحق فيها الفالح بالحاصد،

ودائس العنب ببادر الزرع،

وتقطر الجبال خمرًا،

وتسيل جميع التلال.

وحين بدأ يوئيل هذه المجموعة من الأقوال استعمل مشهدًا معروفًا، هو مشهد يوم الربّ. فنحن نراه دومًا، في التقليد النبويّ، مع علامات مرعبة: الحرب (النار والدم)، هيجان بركان (عواميد ودخان). كسوف الشمس وخسوف القمر (الشمس تظلم، القمر يتحوّل إلى دم). الزلزال والهزّات الأرضيّة. قال يوء 4: 15-16:

15 تسودّ الشمس والقمر،

وتمنع الكواكب ضياءها.

16 يزأر الربّ من صهيون،

ومن أورشليم يطلق صوته،

فترتعش السماوات والأرض.

وفي الخطّ عينه، قال عا 8: 9:

ويكون في ذلك اليوم،

أنّي أغيِّب الشمس عند الظهيرة

وأجلب الظلمة على الأرض

في النهار الضاحي.

وقال أش 13: 9-10:

9 ها يوم الربّ يجيء قاسيًا...

10 كواكب السماء ونجومها

لا تعود ترسلُ نورها،

والشمسُ تظلم عند طلوعها،

والقمر لا يضيء بنوره.

هذه الانقلابات في الكون وفي البشريّة، ترافق كلَّ ظهور إلهيّ. حين يأتي الربّ ليحدّث شعبه (خر 19: 18؛ 20: 18)، وحين يتدخّل على معاديه (خر 7: 19؛ 9: 24)، فمجيئه يكون وسط هذه الظواهر التي يحرّكها نفَس الله الحيّ. في هذا المجال، قال أش 31: 3:

فما المصريّون سوى بشر، لا آلهة،

وخيلهم جسدٌ لا روح.

فإذا رفع الربّ يده

عثر النصير وسقط المنصور،

وهلكوا كلّهم معًا.

في زمن يوئيل (ربّما القرن الرابع ق.م.)، كانت هذه العلامات السابقة التي حدّدها التقليد، إعلانًا للدينونة الأخيرة والنهائيّة التي تضع حدٌّا للتاريخ. وبهذا المدلول الدقيق دخلت إلى العهد الجديد (مت 24: 6، 29؛ 27: 45، 54؛ مر 13: 7؛ رؤ 6: 11-13). وهكذا يكون معنى يوء 3-4 مع إعلان عطيّة روح الله للشعب كلّه: دينونة نهائيّة تفني الوثنيّين من العالم، والخطأة من إسرائيل، وتُدخل شعب الله في عهد من السلام النهائيّ والسعادة.

3- روح الله على الشعوب

تكلّم العهد القديم مرارًا عن مجيء روح الله في البشر. وهكذا لا يكون يوء 3: 1-2 نصًا منعزلاً. فنستطيع أن نضيء عليه بنصوص أخرى. ولكنّه يختلف لأنّه يجمع وجهات نجدها عادة منفصلة. فلعطيّة الله نتائج كثيرة ممكنة.

في أكثر الحالات، يُعطى الروح لمن نالوا مهمّة خاصّة في قلب شعب الله. تأتي نسمة الربّ فتحرّكهم ليكونوا على مستوى العمل، سواء كان الحرب، أو حكم شعب، أو تنفيذ شغل (خر 31: 3؛ 35: 31). وتجلّى حضور روح الله أكثر من مرّة في الانخطاف النبويّ. ونذكر مثلاً واحدًا رافق تكريس شاول ملكًا، فنقرأ كلام صموئيل في 1 صم 10: 5-6:

5 ثمّ تجيء إلى جبعة الله، حيث معسكر الفلسطيّين، فتصادف عند دخولك المدينة، جماعة من الأنبياء نازلين من التلّة، وقدّامهم رباب ودفوف ومزامير وكنّارات وهم يتنبّأون.

6 فيحلّ عليك روحُ الربّ، وتتنبّأ معهم، وتصير رجلاً آخر.

صارت النبوءة نوعًا من انخطاف. في هذه النظرة، نستطيع أن نقول إنّ الشعب الذي ينال روح الله، يناله من أجل رسالة. ولكنّ أيّة رسالة؟ دلّ يوء 4: 8، 19 على واحدة: معاقبة المعادين وتنفيذ حكم الله فيهم. تلك تكون مهمّة الشعب بشكل عامّ (أش 41: 15؛ تث 25: 17-19). وهكذا نجد من جديد إطار الدينونة كما سبق وتحدّثنا عنها.

هي وجهة. وهناك وجهة أخرى. فروح الله يُعطى للناس، كما يُعطى للشعب كلّه، من أجل هدف آخر. حينئذ يكون الروح »ينبوع حياة«. خصوصًا، في إعادة بناء الشعب وقيامته بعد المنفى، كما في أش 44: 3-4:

3 أسكب روحي على ذرّيّتك.

وبركتي على نسلك.

4 فينبتون كالبان بين المياه

وكالصفصاف على ضفاف الجداول.

ونتذكّر أيضًا رؤية حزقيال للعظام اليابسة (خر 37: 1-14). فهي تنتهي بهذا الوعد: »أجعل فيهم روحي فيحيون«. في جميع هذه الحالات، الروح هو فقط ينبوع حياة مادّيّة. والجمع بين عطيّة الروح وإصلاح الشعب على المستوى الأرضيّ، قد تجذّر عميقًا في وجدان إسرائيل. ففي أع 1: 5-6، سأل الرسل يسوع، حين سمعوه يتحدّث عن مجيء الروح القدس: »يا ربّ، أفي هذا الزمن تعيد المُلك إلى إسرائيل؟«

ومع ذلك، سبق حزقيال فأعطى لقيامة الشعب، بفعل نسمة روح الله، معنى عميقًا، عميقًا. ففي 36: 26-28، أدخل فيض الروح في العهد الجديد، وهذا العهد يتميّز بتجديد القلوب لدى كلّ أعضاء شعب الله ليكونوا أمناء للشريعة ويعرفون الربّ معرفة شخصيّة، باطنيّة (إر 31: 34). وقد رأى حزقيال في هذا التحوّل عمل روح الربّ الذي فاض على الشعب كلّه.

والآن صار بالإمكان أن نحدّد ما تعني العبارة: »بنوكم يتنبّأون، شيوخكم يرون أحلامًا وشبّانكم رؤى«. عدّد يوئيل هنا مختلف الطرق المعروفة في عصره، لنوال الوحي الإلهيّ. ذاك هو مرمى فيض الروح: أن يجعل الشعب كلّه قادرًا على معرفة الله. ومع أنّ يوئيل ما استعمل عبارة العهد القديم، إلاّ أنّه أعلنها بطريقته الخاصّة.

وتستضيء نبوءتُه بشكل أفضل إذا قاربناها مع أحد النصوص الأساسيّة القديمة حول النبوءة. هو سفر العدد في 11: 25-29:

25 فنزل الربّ في السحابة وخاطبه. وأخذ من الروح الذي عليه، وأحلّ على السبعين شيخًا. فلمّا استقرّ عليهم الروح، تنبّأوا إلاّ أنّهم ما استمرّوا.

26 وكان بقي رجلان من السبعين في المحلّة، ولم يخرجا إلى الخيمة، اسم أحدهما ألداد واسم الثاني ميداد. فحلّ عليهما الروح فتنبأا هناك.

27 فأسرع شابّ وأخبر موسى بأنّ ألداد وميداد يتنبّآن في المحلّة.

28 فقال يشوع بن نون، وهو خادم موسى منذ حداثته: »يا سيّدي، يا موسى، إردعهما«.

29 فقال له موسى: »أفتغارُ لأجلي أنت؟ يا ليت جميع أمّة الربّ أنبياء، يُحلّ الربّ روحَه عليهم«!

وأعطى سفر العدد (12: 6) فيما بعد مدلول لفظ »نبيّ«:

لو كان فيكم نبيّ لي أنا الربّ،

لظهرتُ له في الرؤيا

وخاطبته في حلم.

حين تمنّى موسى أن لا يكون في شعبه إلاّ أنبياء، ما تمنّى في الواقع إلاّ أن يراهم كلّهم يعرفون الربّ مباشرة. وهذا التمنّي صار وعدًا لدى إرميا (31: 34): »سيعرفونني كلّهم من صغيرهم إلى كبيرهم«. ولدى يوئيل الذي تفوّق على سابقيه فشدّد على شموليّة عطيّة الروح، ينبوع كلّ معرفة مباشرة. يفيض الروح حتّى على العبيد والجواري، على كلّ بشر. ولكنّ هذه العبارة الأخيرة لا تتجاوز حدود الشعب المختار.

حين نقابل يوئيل مع إرميا وحزقيال، لا نستطيع أن نجعله بين أنبياء العهد القديم. فهو ينفصل عنهم بوضوح، لأنّه لا يتحدّث عن بناء إسرائيل بعد محنة المنفى التاريخيّة، بل عن إسرائيل الجديد الذي سيظهر في نهاية آخر حدث من أحداث التاريخ، وهو الدينونة الأخيرة.

4- يوئيل والعنصرة

تستضيء نبوءة يوئيل بنصوص أخرى من العهد القديم، فتبدو نصٌّا يوحي الكثير. فهو يضمّ مواضيع كانت فيما مضى متفرّقة. ولكنّنا لا نستطيع القول بأنّه جعل منها شميلة، بل بدأ برسم تلك الشميلة. هو نصّ ما زال مشدودًا، ومنفتحًا على شميلة أسمى. هذا ما اكتشفه القدّيس لوقا حين أدخل هذا القول النبويّ في خبر العنصرة (أع 2: 14-21).

* شموليّة عطيّة الروح. قرأ لوقا في »أفيض روحي على كلّ بشر« إعلان تفجّر حدود شعب الله. وفي أع 10: 24-28، حلّ الروح على كورنيليوس فعزمت الكنيسة الفتيّة على الانفتاح على الوثنيّين.

* أهميّة المواهب. ما ترك لوقا مناسبة إلاّ وأشار إلى تجلّيات خارقة رافقت مجيء الروح القدس: ألسن، نبوءات، نار (أع 2: 3) أو زلزال (أع 4: 31). كانت المواهب في خدمة مهّمة الكنيسة الرسوليّة، كما حملت إلى داخلها مناخ الفرح والاندفاع. ويوئيل يستطيع أن يذكّر الكنيسة دومًا، أن هذه التجلّيات التي تقلب الأطر والعوائد، هي علامة أكيدة على حضور ناشط لروح الربّ.

* النظرة الإسكاتولوجيّة. وما يلفت النظر بشكل خاصّ في نبوءة يوئيل، هو إعلان نهاية التاريخ والأزمنة الأخيرة. ذاك كان هدف لوقا حين جعل يوئيل في إطار العنصرة، فالتقى بالإنجيل الذي يضمّ موت المسيح وقيامته إلى الدينونة الأخيرة. »أركون هذا العالم نال منذ الآن دينونته« (يو 16: 11). ولكنّ سفر الأعمال يبقى أمينًا لتسلسل الأحداث كما يصوّره يوئيل: فيضُ روح الله يسبق مسافةً، العلامات التي تسبق يوم الربّ. ولكن مهما تكن المسافة، فحدث الفصح جزء من الدينونة الأخيرة. في هذا المنظار، تبدو كرازة الرسل على أنّها آخر نداء خلاص يتوجّه إلى البشر. ولا نداء بعده، بحيث إنّ الكنيسة لا تستطيع إلاّ أن تكرّره وتؤوّنه على مرّ العصور.

الخاتمة

كلام يوئيل الذي دوِّن في وقت لا نعرفه، سمعه شعب العهد القديم في امتداد أقوال عديدة عن الروح القدس. وهو يتوجّه إلينا الآن بعدُ. فالكنيسة تحتاج كلَّ يوم إلى من يذكّرها بيوم الربّ الذي تنشدّ إليها حياتُها وإلى من يقول لها يومًا بعد يوم، إنّ الروح الذي يحييها لا يُعطى لها لتتمتّع به وحدها في أنانيّة لا تقوم بنشاط. فهذا الروح أعطيَ لها لتهيّئ العالم كلّه للقاء الله الديّان الآن وكلّ آن وفي النهاية.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM