آباء الكنيسة: يوحنا الذهبي الفم،العظة السابعة عشرة.

 

آباء الكنيسة:

يوحنّا الذهبيّ الفم

العظة السابعة عشرة

 

إنَّه لخير كبير أن نتحدَّث بجرأة وبحرّيَّة تامَّة، وأن نحتقر كلَّ شيء حين يكون الموضوع الاعتراف بيسوع المسيح! وهذا الخير هو كبير جدٌّا وعجيب، بحيث إنَّ ابن الله الوحيد نفسه يمتدح ذاك الذي يعترف به أمام البشر. ولا شكَّ، لا نسبة في الجزاء. أنتم تعترفون به وتعرفونه على الأرض فيعرفكم هو في السماء (مت 10: 32): تعرفونه أمام البشر، فيعرفكم أمام أبيه وأمام ملائكته. هكذا كان يوحنّا المعمدان: ما نظر إلى الجموع ولا إلى المجد، بل داس كلَّ هذه الأشياء بقدميه، وبهذه الحرّيَّة التي تليق بخدمته، كرز بيسوع المسيح أمام الجميع. فإنَّه إنَّ دلَّ الإنجيليُّ على الموضع الذي كان يوحنّا يعظ فيه، فلكي يبيِّن الحريَّة التي بها كان هذا المنادي يرعد صوته فيزعق. لا في بيته، ولا في زاوية منعزلة، ولا في عمق البرّيَّة، بل على شواطئ الأردنّ، وسط مجموعة من البشر، وأمام جميع الذين يعمِّد. فاليهود كانوا هناك: هناك، كما قلت، اعترف هذا الاعتراف الرائع، بعد أن امتلأ بتعليم كبير جدٌّا وعميق ورفيع ساعة أعلن أنَّه لا يستحقُّ أن يحلَّ سيور نعلَيْ يسوع المسيح.

ولكن كيف دلَّ الإنجيليّ على المكان؟ بهذه الكلمات: »جرى هذا في بيت عنيا«. هنا نلاحظ أنَّ أفضل النصوص تقول: بيت عبارة. لأنَّ بيت عنيا ليست في الجهة المقابلة للأردنّ، ولا في البرّيَّة، بل قرب نهر الأردنّ.

ودلَّ القدّيس يوحنّا أيضًا على الموضع لأسباب أخرى. وإذ وجب عليه أن يروي أمورًا حديثة حصلت في الماضي القريب، طلب شهادة الذين كانوا حاضرين والذين رأوها. هذا مع العلم أنَّه لا يضيف شيئًا على الحقّ، بل يورد الأمور بالحقيقة وبالبساطة كما حصلت. واستخلص برهانَه من الموضع الذي لا يمكن أن يكون (كما قلت) برهانًا ضعيفًا على الحقّ.

»في الغد، رأى يوحنّا يسوع مقبلاً إليه فقال: ''ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم«. تقاسم الإنجيليّون الأزمنة. مرَّ القدّيس متّى بسرعة على الزمن الذي سبق سَجن يوحنّا المعمدان، وعجَّل ليأتي إلى ما حصل بعد ذلك. يوحنّا الإنجيليّ لم يتوقَّف فقط قليلاً من الوقت قائلاً بضع كلمات في هذه الأمور. غير أنَّه شدَّد عليها بشكل خاصّ. والقدّيس متّى، بعد أن خرج يسوع من البرّيَّة، ترك ما حصل في تلك الفترة مثلاً: تساؤلات مرسلي اليهود، أجوبة يوحنّا المعمدان، وسائر الأمور. فوصل فجأة، إلى سجنه. قال: »سمع يسوع أنَّ يوحنّا جُعل في السجن فرجع من هناك«. أمّا يوحنّا فلم يفعل مثله، وما تكلَّم عن انطلاق يسوع إلى البرّيَّة، كما قال متّى. ولكنَّه روى ما حصل بعد أن نزل يسوع من الجبل، وأغفل عددًا من الظروف، وأضاف: »ما كان يوحنّا وُضع في السجن«.

وتقولون: لماذا أتى يسوع إلى يوحنّا، لا مرَّة واحدة، بل مرَّتين. جعله متّى يأتي لكي يتقبَّل العماد. وهذا ما أعلنه يسوع حين قال: »هكذا يجب أن نُتمَّ كلَّ برّ« (مت 3: 15). أمّا يوحنّا فقال إنَّه أتى مرَّة ثانية، بعد أن نال العماد. وهذا ما يعرِّفنا إيّاه بوضوح حين يقول: »رأيتُ الروح ينزل من السماء مثل حمامة ويحلُّ عليه« يو 1: 32). إذًا، لماذا جاء إلى يوحنّا؟ هو ما جاء إليه فقط، بل مشى بعض الشيء ليأتي ويجده. قال: »رأى يوحنّا يسوع مقبلاً إليه«. إذًا، لماذا أتى؟ لماذا يوحنّا عمَّده مع كثيرين آخرين، فظنّوا أنَّه جاء إليه كما جاؤوا هم إليه، أي ليعترف بخطاياه ويتوب عنها مغتسلاً في النهر. فجعله يأتي مرَّة ثانية لكي يمحو هكذا مثل هذا الظنّ. لأنَّه حين قال يوحنّا: »ها هو حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم«، أبْعَد هذا الظنَّ الكاذب وبدَّده كلّيٌّا. فمن الواضح أن الذي هو نقيٌّ بحيث يغسل خطايا الآخرين، لا يأتي ليقرَّ بخطاياه، بل ليعطي مناسبة لهذا الواعظ العجيب أن يطبع في عمق أفكار السامعين، ما سبق وقاله: كرَّره أيضًا وأضاف أيضًا بعض الشيء.

قال يوحنّا: »ها هو«، لأنَّ كثيرين طلبوه من زمان بسبب ما سمعوا عنه. بيَّن أنَّه حاضر، فقال: »ها هو« ليعرِّفهم أنَّ الذي طلبوه من زمان هو هنا. »ها هو الحمل«، دعاه الحمل، فأعاد إلى فكر اليهود نبوءة أشعيا (16: 1؛ 53: 7). وأيضًا الحمل الصوريّ الذي يذبحونه في أيّام موسى، ليقودهم بطريقة أفضل إلى الحقيقة عبر الصورة. وفي الحقيقة، هذا الحمل لم يأخذ خطيئة أحد ولا رفعها. أمّا هذا فأخذ خطايا العالم كلِّه ومحاها: هذا العالم الذي استعدَّ للهلاك، نجّاه فجأة من غضب الله (1تس 1: 10). »هذا الذي قلت عنه: يأتي بعدي رجل هو قبلي«. أما ترون هنا يا إخوتي، الشرح الذي أعطاه يوحنّا لما قاله من قبل؟ فبعد أن دعا يسوع الحمل، وقال عنه إنَّه يرفع خطيئة العالم، قال الآن: »هو قبلي«. هنا يفهمنا أنَّ الأداة »قبل« تُشرَح هنا. هو من يَرفع خطيئة العالم. هو من يعمِّد في الروح القدس. مجيئي لم يصنع شيئًا من ذلك، سوى أنّي أعلنتُ أنَّه المحسن للكون كلِّه، ودبَّرتُ لكم معموديَّة الماء. أمّا مجيء هذا فيطهِّر جميع البشر ويعطي فضيلة الروح الناجعة. هذا هو قبلي، أي أكبر منّي وأكثر شهرة »لأنَّه أقدم منّي«. فعلى الذين أُخذوا بضلالات بولس الشميشاطيّ الجاهلة (قال: لا أقنوم في الابن قبل أن يولد من مريم. هذا يعني أنَّه ليس أزليٌّا) أن يحمرُّوا خجلاً حين يحاربون مثل هذه الحقيقة الشفّافة، الواضحة!

»أمّا أنا فما كنتُ أعرفه«. أنظروا كيف يُبعد كلَّ ظنّ بهذه الشهادة، فيبيِّن هكذا أنَّه لا يتكلَّم من عنده طلبًا لحظوة أو صداقة، بل بوحيٍ أرسله الله إليه قال: »ما كنت أعرفه«. إذًا، فكيف تكون شاهدًا تصدَّق؟ كيف تعرِّف الآخرين به، إن كنتَ أنت لا تعرفه؟ ما قال يوحنّا المعمدان: لا أعرفه الآن. بل لم أكن أعرفه في الماضي، وهكذا يدلُّ على أنَّه صادق. فكيف يكون مسرورًا بذلك الذي لا يعرفه؟ »ولكن جئتُ لأعمِّد بالماء، لكي يُعرَف في إسرائيل«. إذًا ما احتاج يسوع إلى عماد يوحنّا. وهذا الاغتسال تأسَّس ليقود جميع البشر إلى الإيمان بيسوع المسيح. فيوحنّا المعمدان ما قال: »جئت لأعمِّد فأطهِّر أولئك الذين أعمِّدهم وأنجيهم من خطاياهم« بل قال: »لكي يُعرَف في إسرائيل«.

ولكن أما كان يستطيع الكرازة بدون عماد يوحنّا، أما كان يقدر أن يجتذب الشعب؟ أجيب أنَّ ذلك لم يكن بالأمر السهل. فلو لم يرافق العمادُ الكرازة، لما كانوا ركضوا كلُّهم، ولا كانوا عرفوا سموَّ عماد على عماد آخر، دون مقابلة. إذا كان الشعب خرج من المدن، فلكي يسمع كرازة يوحنّا المعمدان. ولماذا إذًا؟ لكي يعترفوا بخطاياهم ويتعمَّدوا. ولكن حين وصلوا، عرفوا يسوع المسيح والفرقَ بين العمادين: كان عماد يوحنّا أسمى من عماد اليهود، ولهذا كانوا يسرعون كلُّهم، ولكن هذا العماد لم يكن في ذاته كاملاً.

إذًا، كيف عرفتَه؟ أجاب: بحلول الروح القدس. ولكن مخافة أن يفكِّر أحدٌ أنَّه احتاج إلى الروح القدس، كما نحتاج نحن، اسمعوا كيف رفع هذا الظنَّ أيضًا، فأراهم أنَّ الروح القدس نزل فقط لكي يكشف له أنَّ عليه أن يكرز بيسوع المسيح. فحين قال: »أمّا أنا فما كنتُ أعرفُه«، أضاف: »ولكنَّ الذي أرسلني لأعمِّد بالماء قال لي: ذاك الذي ترى الروح القدس ينزل ويحلُّ عليه، هو ذاك الذي يعمِّد في الروح القدس«. أما ترينا هذه الأقوال، يا إخوتي، أنَّ الروح القدس نزل فقط لكي يعرِّف بيسوع المسيح؟ فشهادة يوحنّا المعمدان كانت بلا شكّ بمنأى عن كلِّ ظنّ. غير أنَّ القديس السابق أراد أن يعطي وزنًا وصدقيَّة لشهادته، فأرجعها إلى الله وإلى الروح القدس. فبما أنَّ الحقيقة التي أعلنها، بأنَّ يسوع المسيح وحده يرفع كلَّ خطايا العالم، وبأنَّه كبير جدٌّا وقدير بحيث يكفي وحده ليتمَّ هذا الفداء العظيم، فبما أنَّها كانت سامية ومدهشة بحيث تجعل السامعين كلَّهم يتعجَّبون، قوّاها وثبَّتها، ثبَّتها فأرانا أنَّ يسوع هو ابن الله، وهو ما كان يحتاج إطلاقًا إلى العماد، وأنَّ الروح القدس لم ينزل إلاّ ليعرِّف به، فلم يكن في سلطان يوحنّا أن يهب الروح القدس، وهذا ما أعلنه أولئك الذين تقبَّلوا منه العماد. لأنَّهم قالوا: »ما سمعنا بأنَّ هناك روحًا قدسًا« (أع 19: 2). إذًا ما احتاج يسوع إلى عماد يوحنّا ولا إلى عمادٍ آخر، بل العماد احتاج إلى قدرة يسوع المسيح، لأنَّ ما نقصه بعدُ كان الخير السامي، أي عطيَّة الروح القدس للمعمَّد. فيسوع المسيح حمل إلى العالم بمجيئه، عطيَّة الروح القدس.

»وشهد يوحنّا قال: رأيت الروح القدس ينزل مثل حمامة من السماء ويحلُّ عليه. وأنا ما كنت أعرفه. ولكنَّ ذاك الذي أرسلني لأعمِّد بالماء قال لي: الذي ترى الروح القدس ينزل ويحلُّ عليه هو الذي يعمِّد في الروح القدس. رأيته وشهدتُ أنَّه ابن الله« (يو 1: 32-34). كرَّر يوحنّا مرارًا: »ما كنتُ أعرفه«. والسبب هو أنَّه كان قرابته على مستوى اللحم والدم. قال الكتاب: »اعرفي أنَّ إليصابات نسيبتك حبلت هي أيضًا بابن« (لو 1: 36). مخافة أن يبدو وكأنَّه يشهد له ليفيده بسبب قرابته، قال مرارًا: »ما كنتُ أعرفه«. وفي الحقيقة، ما كان يعرفه لأنَّه ابتعد عن بيت والده وأمضى حياته في البرّيَّة.

ولكن، لماذا إن لم يكن يعرفه قبل نزول الروح القدس، وإن كان عرفه عند ذاك للمرَّة الأولى »دافع عن نفسه« قبل العماد فقال: »أنا من يجب أن أعتمد على يدك؟« (مت 3: 14). تلك كانت علامة أكيدة أنَّه عرفه. ولكن منذ وقت قصير ولا يمكن أن يكون غير ذلك، لأنَّ هذه المعجزات التي جرت في طفولة يسوع، كما مع المجوس، وما يشبهها، حصلت منذ زمان طويل. ويوحنّا كان بعدُ ولدًا، وخلال كلِّ الوقت اللاحق، لبث يسوع غير معروف لدى الجميع. فلو عُرف لما كان يوحنّا قال: »جئت لأعمِّد ليُعرَف في إسرائيل«.

إذًا، من الواضح أنَّ المعجزات التي تُنسب إلى يسوع المسيح في طفولته (كما نقرأها في الأسفار المنحولة) هي كاذبة: استنبطوها وتخيَّلوها. فلو أجرى يسوع عجائب حين كان ولدًا، لعرف بها يوحنّا، ولما احتاج الشعب إلى معلِّم لكي يعرِّفه بها. وها هو يوحنّا يقول عن نفسه أنَّه إن أتى فلكي يكون يسوع معروفًا في إسرائيل. ولهذا قال أيضًا: »أنا المحتاج أن أعتمد بيدك«. ثمَّ، حين عرفه معرفة أفضل أعلنه للشعب فقال: هذا الذي قلتُ عنه: يأتي بعدي رجلٌ كان قبلي فأرسلني لأعمِّد بالماء. لقد أرسل يوحنّا ليُعرَف هو في إسرائيل، وهو كشف نفسه ليوحنّا قبل نزول الروح القدس. لهذا قال قبل أن يأتي يسوع إليه: »ذاك الذي هو قبلي جاء بعدي«. إذًا، لم يعرفه يوحنّا قبل أن يأتي إلى الأردنّ، فعمَّد كلَّ الشعب. ولكنَّه عرفه حين جاء ليعتمد. فالآبُ نفسه كشفه للنبيّ، والروح القدس عرَّف به اليهود حين كان يعتمد. فمن أجلهم نزل الروح القدس.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM