القراءة اللاهوتية والرعائية:وتعرَّف المعمدان على يسوع.

 

القراءة اللاهوتية والرعائية:

وتعرَّف المعمدان على يسوع

في الغد، مضى المحقِّقون الذين أتوا البارحة. في ذلك الوقت، تعرَّف المعمدان على ذاك الذي انتظره إسرائيل. وها هو يدلُّ عليه، كما بإصبعه. لمن يدلّ؟ لا يقول النصّ، وكأنَّه يريد أن يقول إنَّ سامعي السابق كثيرون جدٌّا فوصلوا إلى أقاصي الأرض. سبق المطلع فقال إنَّ يوحنّا شهد للنور »ليؤمن الجميع على يده« (1: 7). ويدلُّ الآن على يسوع: حمل الله الذي يرفع خطيئة »العالم«. هذه التسمية (1: 29) والشهادة بأنَّ يسوع هو »ابن الله« يحيطان بالمقطع. والتعرُّف حصل ساعة عماد يسوع الذي رُويَ لا بشكل مباشر، بل عبر الاستنارة التي قال المعمدان إنَّه نالها حين رأى الروح ينزل ويستقرُّ على هذا الإنسان (1: 32-33).

1- رأى يسوع

قبل أن يقدِّم المعمدان شهادته، رأى يسوع آتيًا إليه، فدلَّ عليه وأعلن ما فهم من سرِّه. ثمَّ أضاف أنَّه حين عرف يسوع أدرك معنى حياته هو، بل دوره في مخطَّط الله.

وفي الغد، رأى يسوع مقبلاً إليه (1: 29أ)

مع أنَّ هذه الجملة بسيطة في الظاهر، فقد تحمل سوءَ فهم. نتخيَّل طوعًا أنَّ يسوع أتى إلى يوحنّا المعمدان ليعتمد، كما يقول التقليد الإزائيّ (مت 3: 13-15؛ مر 1: 9؛ لو 3: 21)، ساعة الوقت الذي يُروى هو في زمن الخبر، وتابعٌ للحدث التقليديّ. هذا الحدث يعود إليه المعمدان في نظرة إلى الوراء، حين يُعلن بعد ذلك ما يعلن. إذًا، الحدث في بداية آ29 هو مجيء إلى يوحنّا من قبل يسوع الذي امتلأ من الروح القدس. وحين يظهر يسوع للمرَّة الأولى، يظهر في فعل مجيء.(1) هو يأتي إلينا. هكذا يتمُّ إعلان أشعيا: »الربُّ يأتي« (أش 40: 10)، لا »بالقدرة«، بل بعزم: إن أتى يسوع إلى يوحنّا (لا يُقال من أين)، فليس لكي يُعمَّد بل ليقول نعم من قبل إله الوعد. أتى إلى يوحنّا الذي فيه تتلخَّص خبرة إسرائيل وانتظاره، فتكون ردَّة فعل يوحنّا عميقة.

قال: هذا هو حمل الله الرافع خطيئة العالم (آ29ب)

الصوت الصارخ في البرّيَّة دلَّ على ذاك الذي أنبأ به. »ها هو«! هذا يعني نداء لكي ننظر.(2) أعلن أشعيا لشعبه أنَّ »خطيئته غُفرت« (أش 40: 2) ويوحنّا يُعلن الآن أنَّ خطيئة العالم »تُرفَع«. في خلفيَّة هذا التعبير، الخاصّ بيوحنّا، نجد التقليد اليهوديّ حول زوال الخطيئة في نهاية الأزمنة: الشعبُ كلُّه يكون مقدَّسًا، وأمانته لله شاملة (حز 36: 25-28؛ 37: 23-28؛ رج زك 31: 2)(3) ونورد مثلاً، نبوءة أخرى من أشعيا، مع مقطع يذكر الرجاء الحارّ الذي يشمل جماعة قمران:

لا يسيء أحد ولا يُفسد

أينما كان في جبلي المقدَّس

لأنَّ الأرض تمتلئ من معرفة الربّ

كما المياه تملأ البحر (أش 11: 9).

»والله بحقيقته، ينظِّف أعمال كلِّ واحد وينقّي له عمارة (جسد) كلِّ إنسان ليزيل كلَّ روح شرٍّ من أعضائه اللحميّين، وينقّيه بروح القداسة من كلِّ أعمال الكفر، ويفيض عليه روح الحقيقة مثل مياه طاهرة« (نظام الجماعة 4: 20-21).

انتظر اليهود من المسيح تدخُّلاً يطهِّر الشعب من خطاياه. هذا ما تقوله رؤيا باروك في السريانيَّة: »حين يُذلُّ المسيح العالم كلَّه، ويجلس بسلام، إلى الأبد، على عرش ملكه... أحكام، اتِّهامات، صراعات، انتقامات، جرائم، أهواء، حسد، بغض وكلُّ ما يشبهها، تمضي ليُحكم عليها بعد أن تُقتلَع« (73: 1-4).

وجاءت رسالة يوحنّا الأولى صدى لهذا التقليد فنسبت إلى المسيح دور الظافر على خطايا البشر. »ظهر يسوع ليرفع الخطايا ولا خطيئة فيه« (1يو 3: 5). ويبقى فرقٌ يميِّز قول السابق: ما تكلَّم عن خطايا البشر، بل عن خطيئة العالم. وبيَّنت الرسالةُ عينها هذا الانتقال حين قالت: »من يقترف الخطيئة amartia يقترف أيضًا الشرّ anomia، لأنَّ الخطيئة شرّ« (1يو 3: 4). فوظيفة المسيح لا تقوم فقط في إلغاء الخطايا الفرديَّة، بل في وضع حدٍّ لسلطة الخطيئة. إنَّ amartia تجد عمقها الإسكاتولوجيّ في anomia، وanomia تدلُّ على حالة العالم المنفصل عن الله.(4) وإعلان خلاص شامل كما في آ29، ينسبه الإنجيليّ إلى شخص المعمدان التاريخيّ، لأنَّ نبوءة أشعيا التي استعادها يوحنّا، مدَّت منذ الآن نظرها إلى كلِّ بشر.

إذًا أعلن المعمدان أنَّ خطيئة العالم »تُرفَع«. وفعل airein يقابل في السبعينيَّة ajihnai (غفر)(5) حين يرتبط بمدلول الخطيئة. والغفران هو حصرًا عملُ الله، ويدلُّ عليه إسرائيل في طقس من الطقوس. مثلاً، في يوم كيبور (التكفير) عبّرَ العمل العباديّ الذي يقوم به عظيم الكهنة: الربُّ وحده يعمل ويغفر الخطايا. وفي كلام المعمدان، نشير إلى التباس: من هو الذي »يرفع الخطيئة؟« نضمُّ طوعًا الموصول (الذي) إلى »حمل«، ولكنَّنا نخطئ حين نكسف العامل الحقيقيّ في الغفران، أي الله بالذات. ويُسند هذه القراءة ملاحظةٌ غراماطيقيَّة: ففي عبارة »حمل الله« مضاف »الله« génitif لا يكون بالضرورة مضافًا ذاتيٌّا subjectif (الحمل الإلهيّ)، بل يعني أيضًا في المضاف الوضعيّ objectif »الحملَ الذي وهبه الله«، أو: »الآتي من عند الله«. في هذا الحال، نستطيع أن نترجم: »ها هو الحمل الذي به يرفع الله خطيئة العالم«. وهكذا تعود إلى الحمل وظيفتُه الرفيعة، »الأداتيَّة« بين يدي الله.

ماذا عنى الإنجيليّ بعبارة »حمل الله«؟ يجب أن يأخذ الجوابُ بعين الاعتبار السياقَ المباشر، بحيث يحتفظ بالمعنى المسيحانيّ ولا يتردَّد. فبعد تسمية يسوع كحمل الله، أعلن أندراوس لأخيه سمعان بعد حوار معه: »وجدنا المسيح« (1: 41). ونحن لا نعرف في التقليد اليهوديّ »لقبًا« مسيحانيٌّا مشابهًا. لهذا ينبغي أن نكتفي بهذه الموازاة، أو بالأحرى، بمناخ فكريّ ذكرناه مع المسيح الذي أرسله الله ليزيل الخطيئة. ولكن كيف نبرِّر اختيار لفظ »حمل«(6)؟ هنا نقدِّم الأجوبة المعروفة.

بحسب تفسير انتشر انتشارًا (بوامار، ص 43-60)، يتماهى حمل الله مع عبد يهوه المذكور في أش 53. في الواقع، وفي أوَّل درسٍ للكنيسة الفتيَّة، درسِ فيلبُّس لوزير ملكة الحبشة (أع 8: 26-35)، جاء النصُّ المشروح كما يلي:

كحمل سيق إلى الذبح،

وكشاة صامتة أمام الذين يجزّونها

لا يفتح فاه... (أش 53: 7).

ولكن وإن يكن الإنجيليّ وجد في هذه العبارة صدى ليقين البدايات، فالمقاربة لا تفرض نفسها. ففي النبوءة، هناك فقط تشبيه. فحمل أشعيا يكفِّر أو »يحمل« خطيئة إسرائيل. ولا يرفعها. واعتبر بعضهم أنَّ هناك خطأ في الترجمة(7). فالاسم الآراميّ يعني: فتى، عبد أو خادم. أو: حمل. فقد يكون المعمدان قال: »ها هو خادم الله«. ولكنَّ الإنجيليّ ترجم: »ها هو حمل الله«. إن افترضنا أنَّ الأساس أكيد(8)، فلا شيء يسمح لنا بأن نجعل من »عبد« لقبًا مسيحانيٌّا(9). ومع ذلك هذا الشارح أو ذاك افترض أنَّ العبارة لا تعود إلى أش 53، بل إلى أش 42: »هـا هو عبـدي الذي أســانده«(10)، وهنا أيضًا يبقى الأساس ضعيفًا.

أمام هذه الحالة، عرض Dodd في Interpretation, p. 236-308 فرضيَّة هامَّة: حملُ الله يقابل حمل سفر الرؤيا الذي غضبُه رهيب (رؤ 6: 16) والذي يظفر بسبعة ملوك الوحش:

وهم يحاربون الحمل

والحمل يغلبهم

لأنَّه ربُّ الأرباب وملك الملوك (رؤ 17: 14)

ويقودهم إلى ينابيع الحياة (رؤ 7: 17).

ذاك هو المسيح القويّ والمنتصر الذي حلم به المعمدان بحسب النصّ الإزائيّ. ويتجذَّر عميقًا تقليدُ هذا الحمل المنتصر في سفر أخنوخ الذي دُوِّن بين سنة 150 ق.م. والقرن الثالث ب.م.: يقابل تاريخ إسرائيل بتقلُّبات قتال يقوده الحمل (يطلع له قرنٌ) ليحمي الخراف من الذئاب بفضل المهمَّة التي كلَّفه بها ربُّ الخراف ويتدخَّل على التوالي رؤساء إسرائيل: موسى، صموئيل، الملوك يهوذا المكابيّ، فيدلُّون على سمات المسيح الآتي. ويقود هذه الحرب المقدَّسة الحملُ الذي يجمع القطيع. ونحن نكتشف خلفَ تقليد الحمل الذي يهرِّب الذئاب، تقليدًا بيبليٌّا للضعف الذي ينتصر مع الله على قوَّة الشرّ. غير أنَّ هذه الفرضيَّة تصطدم بصعوبة: كيف نبرِّر وجود مثل هذا التقليد منذ القرن الأوَّل المسيحيّ؟

وقراءة ثالثة، منتشرة، ترى في حمل الله حمل الفصح الحقيقيّ(11). هذا التماهي يستند إلى نظرة البدايات المسيحيَّة إلى المسيح »فصحنا الذي ذُبح« (1كو 5: 5). وقالت 1بط 1: 19:

حُرِّرتم بدم ثمين، كما بحمل لا عيب فيه ولا خطأ، المسيح.

إذا فهم القارئ هذه الرنَّة في »اللقب« الذي أعطاه المعمِّد ليسوع، يصعب عليه أن ينسب إلى المعمِّد فهمًا مسبقًا للسرِّ الفصحيّ، خصوصًا أنَّه يعارض اليقينات التاريخيَّة التي يقدِّمها التقليد الإزائيّ: ففي نظر المعمدان، المسيح يدشِّن نهاية الأزمنة وهذا لا يترك موضعًا لفترة تفرض مسيرة تتضمَّن الاضطهاد والموت.

ويبقى مخرجٌ ممكن: إذ أشار المعمدان إلى الحمل، أعلن، لا سرَّ الصليب، بل النجاة التي يجريها الله بواسطة هذا الإنسان. وهي نجاة يكون الخروج من مصر النموذج الأوَّل لها، دون أيِّ إشارة إلى الذبيحة. وهكذا نجد المعنى العميق للفصح، الذي هو عيد يعلن كلَّ تحرُّر، آنيّ أو اسكاتولوجيّ.

ويمكن أن نتساءل: كيف وبأيَّة وسيلة ينال هذا الحملُ الفصحيّ تحرير الشعب؟ قال بعضهم: بطهارته وبراءته. وآخرون: بذبيحته. أمّا نحن فنأخذ طريقًا أخرى لنفهم دور حمل الله.

إنَّ لفظ »حمل« يدلُّ في ذاته على ذبائح إسرائيل، حيث هذا الحيوان الصغير يُستعمل في طقوس المشاركة، كما في طقوس المصالحة بعد الخطيئة. وكان الحمل يُذبَح أيضًا كلَّ يوم في الهيكل(12). يسوع هو حقٌّا »حمل« الله، ولكن لا في معنى الحملان عند اليهود. فمجيئه وحده يُلغي من قِبَل الله ضرورة الطقوس التي بها وجب على إسرائيل أن يُعيد الرباط الوجوديّ مع يهوه، في زمن الانتظار. وإذ لاحظ المعمدان حضور المسيح، صار الوعدُ بالخلاص حقيقة وواقعًا. وغُفرت خطيئة أورشليم (أش 40: 2). وهكذا نجد في صورة أخّاذة أنَّ الله يمنح، مع يسوع، ملء الغفران لإسرائيل وللعالم. ليس يسوع هنا الذبيحة العباديَّة الجديدة، بل ذاك الذي به يتدخَّل الله فيقدِّم للبشر المصالحة التامَّة مع ذاته.

هذا التفسير يليق بمنظار المعمدان الإسكاتولوجيّ: مع المسيح وصل الانتظار المتعب إلى غايته، وصار الشعب المختار مقابل الإله المخلِّص. ويوحنّا نفسه يمارس خدمته »في عبر الأردنّ«، خارج نظمُ الهيكل. وتفصيل يوحنّاويّ في خبر الباعة المطرودين من الهيكل (2: 15) قد يُثبت قراءتنا. هي قراءة تغتني من وجهات أخرى في التقليد المسيحيّ، وهي ترنُّ في تسمية المسيح »حمل الله«: الحمل الذي يهب حياته أمانة لله وللبشر. الحمل المنتصر في سفر الرؤيا. الحمل الفصحيّ المحرِّر. ولكن من الضرورة في وقت أوَّل من القراءة أن نرى مع السابق، أنَّ يسوع يدشِّن بمجرّد حضوره مرحلةً جديدة في علاقة توحِّد الله بالبشر، أو بحسب عبارة لاهوتيَّة، تدبيرَ الخلاص جديدًا.

وأخيرًا، يجب أن نردَّ لله ما يحقُّ له: هو الذي يخلِّصنا بواسطة الحمل الذي يعطينا. وبعد هذا الإعلان الساميّ، أضاف المعمدان قولاً يمكن أن يبدو للوهلة الأولى رجوعًا إلى الوراء، ولكنه هامٌّ جدٌّا.

هذا الذي قلت فيه: »يأتي بعدي إنسان... يعمِّد في الماء والروح« (آ30-31)

وأشرك المعمدان الآخرين في ما اكتشف. بالأمس أعلن بقوَّة أنَّ واحدًا يأتي »بعده« (1: 27). وهو يحسب نفسه غير مستحقّ بأن يكون عبدًا له. وها هو الآن يرى في يسوع حمل الله. وهكذا يدلُّ على تسامي المسيح الذي هو فوقه. والسبب: »كان قبلي« وهي كرامة تحدِّد موقع يسوع فوق كلِّ موقع نفكِّر فيه.

وإذ وصل المعمدان إلى هذا الفهم لسرِّ يسوع، تفقَّهَ أكثر رسالته الخاصَّة التي هي عماد في الماء (1: 31). هذا التفكير حول الماضي على ضوء معرفة مرتبطة بالروح هي في خطِّ الإنجيل الرابع. وهكذا عاد السابق إلى خبرته فأدرك حقيقتها العميقة: أجل أراد الله أن »يكشف« المسيح في يسوع الناصريّ.

2- وشهد يوحنّا

بعد أن أطلق المعمدان ردَّة فعله تجاه يسوع، المسيح، ها هي الشهادة الخاصَّة التي أُعلنت منذ آ19، يحيط بها »رأيتُ« مرَّتين، الذي يوافق النبوءة »يُرى مجد الربّ... كلّ بشر يرى الخلاص« (أش 40: 5).

وشهد يوحنّا قائلاً... هذا هو ابن الله (1: 32-34).

قدَّم يوحنّا نفسه على أنَّه شاهد عيان. قال: »رأيتُ«. ما رأى يذكِّرنا بحدث عماد يسوع. لا شكَّ في أنَّ الإنجيليّ يفترض في توافق مع الإزائيّين، أن يسوع عُمِّد بيد يوحنّا، ولكنَّه يقف في نهاية تطوُّر تقليديّ حول هذا الحدث. أورد مر 1: 9 فقط أنَّ يسوع اعتمد بيد السابق. وزاح لو 3: 21 الانتباه فذكر الحدث في نظرة إلى الوراء: »عُمِّد يسوع وكان يصلّي« في مت 3: 14، كان حوار فدلَّ أنَّ يسوع لا يأتي كخاطئ يخضع لطقس التطهير: هتف المعمِّد: »أنت تأتي إليّ!« أمّا الإنجيل الرابع فلا يحتفظ بشيء من الطقس الذي مُورس في يسوع. والحدث نكتشفه في النصّ. وهكذا تحوَّلت معطيات التقليد تحوُّلاً عميقًا:

- الإشارة إلى الحمامة الآتية من السماء تكفي لتبيِّن أنَّ النصَّ يلمِّح إلى العماد. ولكن لا يبقى من الحدث سوى الجوهر، نزول الروح.

- بالنسبة إلى الروح القدس، يقول يوحنّا: »نزل الروح على يسوع واستقرَّ عليه« وكرَّر الكلام مرَّتين (1: 32، 33). وهكذا بيَّن المعمدان أنَّ نبوءة ثانية تمَّت في يسوع: »وعليه يستقرُّ روح الربّ« (أش 11: 2). فيسوع هو حقٌّا المسيح الموعود.

- حسب التقليد الإزائيّ، جاء من السماء الإعلان الذي سُمع في عماد يسوع: »هذا هو ابني الحبيب، عنه رضيت« (مت 3: 17). عند يوحنّا، جاءت الكلمة حول البنوَّة الإلهيَّة بفم إنسان، هو المعمدان، الذي سبق وتماهى مع الصوت النبويّ.

إن استقرَّ الروح على يسوع، فلكي يمنحه يسوعُ، كما يُنتظَر من المسيح، بحسب نصوص قديمة:

حينئذٍ يقيم الربُّ كاهنًا جديدًا، تُكشَف له كلُّ أفكار الربّ.... فتنفتح السماوات... ومجدُ العليِّ يُعلَن عليه، وروح الفهم والتقديس يستقرُّ عليه في الماء... وخلال كهنوته، تزول الخطيئة، ولن يستطيع الأشرار أن يُسيئوا بعد، ويرتاح الأبرار فيه... ويكون روح القداسة عليهم (وص لاوي، 18: 2-11).

هذا النصُّ يطابق ما رآه يوحنّا ويتجلَّى في تقليد حول المسيح الذي يزيل »خطيئة العالم«. هذا اليقين عبَّر عنه الشاهد في خبرة العماد. إن هو عمَّد في الماء، فيسوع يعمِّد في الروح القدس. في الماضي، حفظ المعمِّد في طقس الماء سمات توبة من أجل ولادة جديدة عبر مياه الأردنّ. والآن فهم أنَّ نشاطه العماديّ يصوِّر مسبقًا العماد الحقيقيّ الذي يحوِّل الإنسان في أعماقه. استبق المعمدان كلام الإنجيل: يجب أن نُولَد من الماء والروح للدخول إلى الملكوت (3: 5). بل، يسوع هو في شخصه ينبوع الروح من أجل المؤمن (7: 37-39؛ 19: 30؛ 20: 22-23).

تعلَّم المعمدان من الله أنَّ يسوع يعمِّد في الروح، وشاهد الروح يقيم في يسوع، فقدَّم ذروة شهاته:

وأنا رأيتُ وشهدت أنَّ هذا هو ابن الله.

هذه الشهادة توافق الإعلان الإلهيّ ساعة عماد يسوع كما في الأناجيل الإزائيَّة: »هذا هو ابني الحبيب«. ولكن هنا، هو إنسان، هو السابق يتفوَّه بهذا الإعلان، لاصوتٌ من السماء. فحدثُ الوحي يُقدَّم في درجة ثانية، أي كما استبطنه الشاهد. وهذا التحوُّل يرتبط بتوجيه النصِّ الإجماليّ، المركَّز على شهادة يوحنّا. كما نستطيع أن نكتشف فيه يقينًا يوحنّاويٌّا: إن تقبُّل الإيمان يحوِّل الزمن في حميميَّة كيانه. وفي العلاقة التي تُقام مع الموحي، يصبح الإنسان جزءاً لا يتجزَّأ بحيث يعيد ويعلن كلام الله، بعد أن أُسلِم إلى عدم المعرفة. لم يكن يعرف. والآن هو يعرف.

في لقب »ابن الله« يرى القارئ المسيحيّ معنىً يتجاوز الاعتراف المسيحانيّ، ويلتقي مع لقب »الابن الوحيد« الذي أبرزه المطلع اللاهوتيّ. وذاك هو المعنى في هذا النصِّ بحسب اتِّجاه الإنجيل الذي دوِّن »لكي تؤمنوا أنَّ يسوع المسيح هو ابن الله« (20: 31). ولكن، هل نستطيع القول إنَّ الإنجيليّ نسبَ إلى المعمدان فهمًا تامٌّا لا يستطيع أن يستشفَّ عمقه؟ إنَّ ترتيب آ32-34 الأدبيّ مع فعل »رأى« يدعونا أن نقرأ هذه الآيات معًا: أمام يوحنّا حلَّ الروح على يسوع. إذًا، هو الذي يعمِّد بالروح بحسب القول الذي سُمع. واستنتج الشاهد: إنَّه ابن الله. بما أنَّه المسيح هو ملك إسرائيل، وممثِّل يهوه وموفده، تنطبق عليه البنويَّة كما قال المزمور (2: 7):

أنت ابني،

وأنا اليوم ولدتُك.

وإذ أراد الشاهد أن يُبرز الانتقال من الوعد إلى التحقيق، واصل لغةَ العهد الأوَّل. وحمل هذه اللغة التي هي صدى الكتاب، فرفعها إلى الذروة: رأى فتفوَّه بما ارتبط بالصوت السماويّ في التيوفانيا: يسوع الناصريّ هو ابن الله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM