أرميا النبي
 

 

أرميا النبي
نبوءة ارميا في اطارها التاريخي:
1- ولد ارميا- واسمه في العبرية: "يرمي يهو" ويعني: الله يعلي ويقيم- حوالي سنة 645 ق م، في قرية عناتوت الواقعة على مسافة خمس كيلومترات من الشمال الى شرقي اورشليم. انه قروى، ولذا سيلّون أدبه النبوي بصور ريفية قروية. وبما أن عناتوت قرية من قرى سبط بنيامين الفاصل بين مملكة يهوذا ومملكة الشمال، ساهم ذلك في ترسيخ حب ارميا لاخوته ابناء الشمال وفي حنينه الملحّ الى الوحدة:
"اذهب وناد بهذه الكلمات جهة الشمال وقل:
ارجعي أيتها المرتدة، اسرائيل، يقول الرب
فلا أحوّل وجهي ضدكم
لأني رحيم، يقول الرب
لا أحقد الى الأبد...
وأنا أعرف إثمك
إنك عصيت الرب الهك
وشقيت طرقك للغرباء
تحت كل شجرة خضراء
ولم تسمعي لصوتي يقول الرب...
في تلك الايام ينطلق بيت يهوذا الى بيت اسرائيل
ويأتون معا من ارض الشمال الى الارض التي ورّثتها لابائكم". (3/12، 13، 18)

يشعر ارميا بجاذبية نحو مملكة الشمال ويبدو أنه تأثر، في العمق بالنبي هوشع اذ يلتقي واياه في رهافة الشعور والعاطفة وفي قرابة فكرية وروحية نافذة. على مثال هوشع حارب الطقوس الكنعانية المتفشية في اسرائيل، وشبَّه علاقة الله بشعبه بالعلاقة الزوجية، وهاجم الكهنة لجشعهم (قابل بين ارميا 2/2 وهوشع 2/17. ار 6/6 وهو. 5/8. ار2/5 وهو 8/10).
2- يتحدر ارميا من عائلة كهنوتية، ومن المرجَّح ان يكون ابوه كاهناً لمعبد عناتوت (ار 1/1) وهي مدينة للاويين قديمة (يشوع 21/18)، وان يكون من عائلة ابياتار، صديق داود وكاهنه، الذي نفاه سليمان (1 مل 2/26). وبالرغم من كونه من سلالة كهنوتية، ما لنا أي دليل على أن ارميا مارس وظيفته الكهنوتية.
3- دعا الله ارميا ليكون نبيَّه في السنة الثالثة عشرة من عهد يوشيا الملك (640- 609). ولا بد من المقابلة بين دعوة اشعيا (اش 6) ودعوة ارميا (ار 1): لم يتردد اشعيا في تلبية الدعوة النبوية بينما يتخذ ارميا ضعفه وعجزه عن الكلام وطراوة عمره ليتهيب الدعوة ويرفضها (1/6). ومع ذلك سيتطوع بملء كيانه لحياة تجرّد وتضحية. سيعدل عن الزواج (16/2) ويعيش في الوحدة (16/5- 8) ويقبل، لأجل الرب، ازدراء الناس له (15/15)، وسيتعرض، بدافع امانته لرسالته، لكثير من الاذلال والسخرية والتهديد: "إن هذا الرجل يستوجب الموت، لأنه تنبّأ على هذه المدينة كما سمعتم بآذانكم". (26/11). أُرغِم، امانة لدعوته، على أن يُنذر بأشد العقوبات، مما ولَّد في أعماقه نفوراً من الحياة وتمنّى لو لم يولَد:
"ملعون اليوم الذي ولدت فيه
لا يكن مباركاً اليوم الذي ولدتني فيه امي...
لماذا خرجت من الرحم
لأرى المشقة والوجع
وتَفنى ايامي في الخزي"؟ (20/14- 18)

4- سيشهد ارميا افول اشور وصعود بابل وترافقه عن كثب الهزات التي تزعزع مملكة يهوذا وتعمل على انهيارها كاملاً. ولذا يمكن توزيع مراحل رسالته على ثلاث حقب:
- الحقبة الاولى: في عهد يوشيا الملك (626- 609)
تقسم هذه الحقبة الى مرحلتين:
- المرحلة الاولى تمتد من دعوة ارميا (626) الى الاصلاح التثنوي (نسبة الى سفر تثنية الاشتراع) 621- 623. ترجىع الفصول 2- 6 من نبوءة ارميا الى هذه الحقبة، حيث يحارب النبي الشر والفساد المتفشيَّين في مملكة يهوذا في عهد الملك منسى (687- 643) والملك آمون (642- 640).
"ان شعبي صنع شرين: تركوني أنا ينبوع الماء الحية وحفروا لأنفسهم آبارا مشققة لا تمسك الماء" (ار 2/13). ويهاجم الطقوس الدخيلة: "انكِ على كل أكمة عالية وتحت كل شجرة خضراء اضجعت زانية،
وأنا غرستك افضلَ كرمة
كلها من زرع أصيل
"فكيف تحوَّلت لي إلى غرس كرم اجنبي؟" (2/23)
اتنسى العذراء حليتها والعروس زنارها
أما شعي فنسيني أياماً لا تحصى" (2/32)

ولذا سيعاقب الرب المذنبين الآثمين، ويجلب الشر من الشمال ليحطِّم كل شيء:
" ارفعوا الراية نحو صهيون
اهربوا ولا تقفوا
فاني جالب شراً من الشمال وتحطيماً شديداً،
ها أنذا أجلب عليكم أمة من بعيد
يا بيت اسرائيل يقول الرب
أمة قوية، أمة قديمة
أمة لستَ تَعرف لسانها
ولا تفهم ما تتكلم به...
فتنهب وتلتهم.... وتدمِّر... (4/6. 5/15- 18)

من سيجتاح اسرائيل من الشمال؟ هل الكلدانيون ام شعوب اخرى؟ لا نحاول معرفة هوية المجتاح، طالما الرؤية النبوية نفسها غامضة مبهمة، انما الأهم هو أن الفساد يعيث في اسرائيل ويفتك واصالة شعب لا يرتدع. ومع ذلك يبقى الأمل في توبة مملكة الشمال مشتعلاً. (3/12).
- وتبدأ المرحلة الثانية من نشاط ارميا باكتشاف تثنية الاشتراع (621 ق م) ايام يوشيا الملك. وحَّد الملك الطقوس وهدم المعابد وقام بحملة تطهير واصلاح حاسمتين. ما موقف ارميا من هذه الحملة؟ هل تحمس لها؟ هل تهاملها؟ هل اكتفى بانتظار النتائج؟ يختلف المفسرون في تحديد موقفه. إنما يظهر أن ارميا ساهم بدوره في إنجاح مشروع الاصلاح هذا، اذ طلب الله منه أن "ينادي قبل هذه الكلمات في مدن يهوذا وفي شوارع اورشليم قائلا: اسمعوا كلمات هذا العهد واعملوا بها، هذا العهد الذي اوصيت به آباءكم يوم أخرجتهم من مصر..." (11/6). فصداقته ليوشيا الملك، وعلاقاته الودية مع عائلة شافان، كاتب الملك (26/24)، وحبه لروحانية تثنية الاشتراع، كل ذلك يثبت موقفه الايجابي والمشجع تجاه حملة التطهير والاصلاح، وان كان مقتنعا بان الاصلاح الحقيقي الفعال لا يُفرَض بقوة الحديد ولا يُنفَّذ بفرض مراسيم وشرائع.
ان ارميا يتوق، في قرارة نفسه، بلهفة الى نهضة قومية ولذا شعر بغبطة وتملّكه الامل، عندما استعاد يوشيا مناطق الشمال، بتدشين مملكة تجمع، في وحدة اخوية، مملكتي يهوذا واسرائيل (راجع ار 30- 31).
"ها انها تأتي ايام، يقول الرب
ازرع فيها بيت اسرائيل وبيت يهوذا
بزرع بشر وزرع بهائم
وكما سهرت عليه لأقلع وأهدم
وأنقض وأهلك وأسيء
كذلك أسهر عليهم لأبني وأغرس، يقول الرب". (31/27- 28)

في هذه الحقبة كان يسكن ارميا في اورشليم.
- الحقبة الثانية: في عهد الملك يوياقيم (609- 597 ق م).
كما رافق ارميا النبي حركة الاصلاح أيام يوشيا، هاكه اليوم يرافق ردة الفعل ضد الاصلاح، وهو الشاهد والضحية، ولذا تتسم اقواله النبوية في هذه الحقبة بطابع اليأس والمرارة.
الملك يرتابه الشك، ورجال بلاطه واهل سياسته تتحكم بهم نزعتهم الى الظلم والعنف وسفك الدماء، والكهنة ينخرهم الفساد، والشعب تائه، ضال، والانبياء الكذبة يلاقون شعبية رحبة، وارميا يراقب كل ذلك ويتوجع. يُجابَه موقفُه بحقد وضغينة، لانه لا يتورع من تلقينهم الحقائق كما هي، ولا يراعي الملك ذاته (22/13- 19)، كما انه يُظهر خطأ مواطنيه في اتكالهم الوهمي على المؤسسات لتنقذهم كالشريعة (8/8- 10)، والهيكل وقد اصبح في حياتهم قوة سحرية لا تقاوم:
"لا تتكلوا على قول الكذب قائلين: هيكل الرب، هيكل الرب،
فسأصنع بهذا البيت الذي دعي باسمي والذي انتم متكلون عليه،
كماصنعت بشيلو" (7/4-14)،

ويهاجم ارميا العبادات الشكلية المتحجرة (11/15) والختانة في الجسد بدون ختانة القلب (9/24) والانبياء الكذبة (23/9..).
وبالحاح مدهش يتنبأ عن اجتياح قريب محتَّم، ويتوسل إلى الملك وإلى حاشيته وإلى مواطنيه بان يكفّوا عن تشجيع التيار المناهض لبابل، وعن الانقياد للتيار المصري. وجاءت هزيمة المصريين في كركميش تثبت صواب موقفه. ولكن كان كل ذلك عبثاً فلم يصغوا للنبي الملهم، لا بل ثار عليه الجميع: كهنة وانبياء واصوليون وهددوه بالموت (26/8). تآمروا عليه وألقوه في السجن وأساؤوا معاملته حتى الاضطهاد 17/18). انها الجلجلة بالنسبة اليه.
ثم غاب ارميا لزمن عن مسرح السياسة وعاش في الخفية مدة بعد ان كلف تلميذه باروخ بابلاغهم اقواله النبوية.
لم يكتف ارميا، في هذه الحقبة الصعبة بالكلام. بل على غرار سلفائه هوشع واشعيا، ابلغ مواطنيه نبوءاته من خلال تصرفات رمزية تنذر بسقوط اورشليم المحتم: الحزام الذي اكله الصدأ واتلف، هو رمز لمملكة يهوذا وقد اتلفتها بابل (13/1- 11)، والاناء غير المكتمل (ف 18) والابريق المكسور (ف 19). ولقد ارغم ارميا على التبتل ليكون علامة شؤم لشعب يهوذا:
"وكانت الي كلمة الرب قائلا: لا تتخذ لك امرأة، ولا يكن لك بنون ولا بنات في هذا الموضع، فانه هكذا يقول الرب على البنين والبنات المولودين في هذا الموضوع وعلى امهاتهم اللواتي ولدنهم وابائهم الذين ولدوهم في هذه الارض: انهم سيموتون بالامراض ولا يُندَبون ولا يدفنون، بل يكونون زبلا على وجه الارض، ويفنون بالسيف والجوع وتكون جثثهم طعاماً لطيور السماء وبهائم الارض". (16/1- 9).
- الحقبة الثالثة: في عهد صدقيا الملك (597- 586 ق م).
في هذه الحقبة يتوجه ارميا بنبوءته تارة الى الاسرائيليين المنفيين إلى بابل وتارة إلى البقية الباقية في أورشليم:
أ- اما المنفيون وهم امل المستقبل (ف 24) فيكتب النبي إليهم رسالة يدعوهم فيها إلى الولاء لبابل والاستقرار فيها:
"ابنوا بيوتا واسكنوا واغرسوا جنات
وكلوا من ثمرها،
واتخذا نساء وَلِدوا بنين وبنات
وتكاثروا هناك ولا تقلوا
واطلبوا سلام المدينة (اي بابل) التي نفيتكم اليها
وصلوا من اجلها إلى الرب، فانه بسلامها يكون لكم سلام" (29/5- 7)

وسيأتي يوم تنتهي فيه المحنة انما لن يكون ذلك قبل سبعين عاماً أي ما يوازي حياة رجل (ار 29/10).
ب- اما سكان أورشليم، فيطلب إليهم ان يؤدوا الولاء إلى بابل وان يتعهدوا، بقَسم، بالتخلي عن المواطنية المتزمتة (راجع ار 37- 38). ولكن التيار اليهودي الناشيء يعتمد المقاومة الشرسة ويعتبر ارميا النبي انهزامياً وعميلاً، ويلقونه في السجن مجدداً. انما كلمة الله لا تكبَّل بالحديد ولا تسجن. وهاك النبي، في صميم المأساة، يعاكس التيار ويتنبأ باقوال مشجعة منحثة عن اعلان ميثاق جديد بين الله وشعبه (31/31- 34). وهناك النبي ايضاً، بعد استئناف الحصار على أورشليم، يشتري حقلاً في عناتوت قريته ليرمز الى الرجوع الاكيد إلى ارض الاباء (ف 32).
بعد اغتيال جدليا- الذي ولاه ملك بابل على اورشليم- اقتاد المرالون لمصر ارميا معهم إلى مصر قسراً حيث مات النبي في ظروف غامضة. ويقول التقليد بان ارميا مات رجماً بعد ان تعب مواطنوه من تهديداته المتكررة. مات مجهولاً، مخذولاً، بعد ان عاش جلجلة محنته وآلامه حتى الثمالة.
تصميم سفر ارميا:
يتضمن سفر ارميا مواد متنوعة: اقوال نبوية ومقاطع يخبر فيها بنفسه عن حياته، ومقاطع اخرى يخبر فيها باروخ تلميذه وصديقه عن حياة معلمه. دوَّن الجامعون هذه المواد في كتاب واحد انما لم يتقيدوا بتعاقبها المنطقي ولا الزمني. ولذا يشكو سفر ارميا من اختلال واضطراب في انسياق الاقوال والاحداث. واليك ما يرتئيه اغلب المفسرين المعاصرين في تقسيم الكتاب:
القسم الاول: اقوال نبوية ضد يهوذا واورشليم (1/4- 25/13 ب).
القسم الثاني: اقوال نبوية ضد الامم المجاورة (25/13 ب- 38؛ ف 46- 51).
القسم الثالث: اقوال نبوية عن الخلاص (ف 26- 35).
القسم الرابع: آلام ارميا (ف 36- 45).
القسم الخامس: ملحق تاريخي: قصة مملكة يهوذا من سنة 587 الى سنة 561 (ار 52). كيف تم جع هذه الاقسام المبعزة لتؤلف سفر ارميا الحالي؟
أ- يعلمنما الفصل 36 ان باروخ دوّن كتابه سنة 604 وفقاً لما أملاه عليه معلمه، اي الاقوال النبوية التي تلفّظ بها ارميا منذ بدء دعوته اي منذ سنة 626، وهذه الاقوال تتنبأ على اورشليم ويهوذا وجيع الامم (36/2، 29، 32).
على ما يحتوي ملف باروخ هذا؟
يحتوي بدون شك على القنم الاكبر من المجموعة 1- 25 أي 1/4- 6/30: نبوءات في عهد يوشيا. ثم ف 7- 20: نبوءات في عهد يوياقيم.
أضف الى هذه المجموعة جموعة النبوءات ضد الامم أي ف 46- 49.
ب- هذا هو الملف- الاساس. وقد اضاف اليه باروخ نبوءات اخرى قالها ارميا بعد سنة 605. أذكر على سبيل المثل 10/17- 22؛ 12/7- 14؛ 13/12- 19 و 15/5 الخ.
ج- بعد دمار اورشليم سنة 587 ادخل باروخ الى ملفه الاساسي مخطوطتين هامتين: الأولى: أقوال ضد ملوك أورشليم (21/11- 32/8) والثانية: اقوال ضد الانبياء (ف 23- 40).
د- وبعد موت ارميا، ضم باروخ "تأملات" ارميا وهي التي نسميها اليوم: "اعترافات" أو "مزامير" ارميا، اضافة اليها نبذة عن حياة معلمه نجدها متناثرة في سفر ارميا، اهمها: 19/2- 20/6؛ ف 6؛ 26؛ 28- 29؛ 34: 18- 22 الخ.
هـ- لم يتخذ سفر ارميا صيغته النهائية كا هو بين أيدينا اليوم إلاَّ بعد المنفى، إذ كان قبل ذلك، خاصة طيلة المنفى، مجموعة كتيبات أو أوراق متفرقة إتخذها المنفيون موضوع تأمل وتفكير في منفاهم:
- كتيب إلى المنفيين (ف 27- 29)
- كتيب التعزية (ف 30- 33)
- كتيب ضد الملوك (21/11- 23/8)
- كتيب ضد الانبياء (ف 29).
هذه الوحدات الادبية تتميز في صيغة السفر الحالية بطابعها ولاهوتها الخاصين: لا نعلم اسم الذي جمع كل هذه الوحدات وصاغ منها سفرا واحدا هو سفر ارميا، انما القرابة بين لاهوت هذا السفر ولاهوت كتاب تثنية الاشتراع تُثبت وجود مدرسة لاهوتية ترسخّت بعد المنفى وساهمت في تدوين اغلب اسفار العهد القديم على ضوء روحانية الانبياء عامة وارميا خاصة.
ارميا نبي في زمن المحنة:
نبي ولا كالانبياء. سمع نداء الدعوة النبوية وهو لا يزال فتياً في عمر السابعة عشر، والتزم الرسالة النبوية في عصر طغت عليه الاحداث الدامية في اسرائيل مما أدّى إلى خراب أورشليم وهدمها. ولذا مارس نشاطه النبوي طيلة أربعين سنة في أوضاع سياسية واجماعية وامنية مضطربة. عاش خطوة تلو خطوة اجتياح القوات الاشورية ثم الكلدانية لمملكة يهوذا وحصارها الاول لاورشليم ونفي النخبة من شعبها، ثم حصار اورشليم الثاني وهدمها والتنكيل باهلها، واخيرا في البقية الباقية الى بابل سنة 587 ق م. يتميز ارميا بروحانية خاصة تختلف حتى في جذورها عن روحانية اشعيا وتقترب من روحانية النبي هوشع وان تخطّاها غالباً مُتكيفا مع عصره المضطرب والمهدَّد، ومستوحياً مآسي الاحداث المتلاحقة.
علا صراخه في السنين الاولى من رسالته النبوية منذراً بخراب اسرائيل ودمارها، لأن بني اسرائيل تخلّوا عن عبادة الله واستسلموا لعبادة باعال، ولذا يأتي المخرب والمدمر من الشمال ليحوّل الارض رماداً.
أدرك ارميا، في الصميم مسبقاً، خطورة المهمة النبوية وحتمية الكارثة. لقد اهمل اسرائيل نداءاته وانذاراته المتواترة، وهو يعدو نحو الكارثة، التي ستلتهمه وتلتهم معه ارميا. عاش الكارثة خطوة خطوة إلى أن تحوّلت مأساة مدمرة لشخصيته بالذات. اجل لم تلج الكارثة الأحداث وحسب، بل ولجت إلى اعماق ارميا ودمّرته تماما كما دمرت اورشليم ومملكة يهوذا.
ارميا رجل الخصام والفتنة:
كان ارميا نبياً ذا نفسية شفافة، مرهف الشعور، محباً، هادئاً، حنوناً يحن إلى بساطة العيش في قريته عناتوت، بعيداً عن أجواء أورشليم السياسية والحربية والدينية الصاخبة، وهاكه يُرغم على الانذار بالهدم والاقتلاع، بالتدمير والافناء.
"ثم مد الرب يده ولمس فمي وقال لي الرب:
هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك
انظر، اني اقمتك اليوم على الامم وعلى الممالك
لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" (1/9- 10)

كان يتوق إلى الدعوة إلى السلام والفرح والطمائينة، وهاكه يُنذِر بالخراب والدمار ويخاصم طيلة اربعين سنة أقرباءه والملوك والكهنة والانبياء الكذبة وكل الشعب حتى دعي: "رجل الخصام والفتنة في مملكة يهوذا". ولذا حاول التخلي مراراً عن تحمل مسؤولية هذا الرسالة الصعبة والعقوق، ولم يستطع. ففي قلبه ناراً آكلة تنساب في عظامه:
"قد استغويتني يا رب
خضّعتني فغلبت
صرت ضحكة كل النهار
فكل واحد يستهزئ بي
لأني كلما تكلمت فإنما أصيح
وانادي بالشدة والدمار
فصار لي كلامُ الرب عاراً
وسخرية طول النهار.
فقلت: لا أذكره
ولا أعود أتكلم باسمه
لكنه كان في قلي كنار محرقة" (20/7- 9)

مزقته الاحداث ومزقت شعبه، فاندمجت آلام ارميا بآلام شعبه وتعالى صراخهما معا إلى الله:
"لماذا تستمر اوجاعي
وجراحي معضلة تأبى الشفاء" (15/18)

ويجيب الله على سؤال ارميا بسؤال اشد قساوة وعنفاً:
ان كنت جاريت المشاة فأعيوك
فكيف تباري الخيل؟
وان كنت غير مطمئن في ارض سلام
فكيف تفعل في ادغال الاردن (12/5)؟

يتعجب النبي كيف انه يتعثر أمام صعوبات لا تزال طفيفة بالنسبة إلى ما ينتظره من مآس وويلات، وهو لا يزال في أول الطريق. وكلما تردد الحوار بين الله وارميا، زادت الاوضاع سوءا وادخلت الني في ظلمة كثيفة لا بل دخلت الظلمة في قلب النبي واستولى اليأس عليه في ذروته، الى ان "يلعن اليوم الذي ولد فيه" (20/14). وبالرغم من عجزه عن تحقيق رسالته، ومن اخفاق مهمته بين شعبه، وبالرغم من شعوره بان الله تركه، لم يتردد ارميا في متابعة طريقه حتى النهاية مستسلماً إلى الله -وان غاب- في طاعة مدهشة تفوق قواه الطبيعية وتحطّمه في الوقت نفسه، لاقتناعه بأن الآلام التي يعاني لا فائدة منها. إنها آلام عاقرة، ومع ذلك لم يتقاعس عن تأدية مهمته؟ كيف يمكن تفسير ذلك؟ إنه سرٌّ دفين في قلب ارميا، وكيف يمكن تفسير موقف الله الذي أدخل صفيَّه في ليل مرعب لا فجر له، وحطّم حياته حتى الموت، وهذا أيضاً سرٌّ دفين في قلب الله.
روحانية ارميا تمهد لروحانية العهد الجديد:
1- روحانية المساكين:
اخفق ارميا في رسالته النبوية. انما تجذرت شخصيته وروحانيته، بعد مماته، في الاجيال اللاحقة في العهدين القديم والجديد. لان ارميا المتألم فتح الافاق امام روحانية تعتمد، في فقر روحي وحياة باطنية مميزة، على رحمة الله ونعمته. هي روحانية "فقراء الله" او "مساكين الله". سيمتد أثر هذه الروحانية، في العهد القديم، إلى روحانية سفر تثنية الاشتراع والنبي حزقيال وفي العديدة من المزامير، وخاصة في شخصية "عبد يهوه المتألم" في سفر اشعيا (إش 53)، وفي العهد الجديد، الى زمن المسيح، اذ ولد يسوع وعاش في مناخ هذه الروحانية، وما انشودة مريم امه: "تعظم نفسي الرب" (لوقا 1/46- 55)، وما ترنيمة زكريا، والد يوحنا المعمدان: "مبارك الرب لانه افتقد شعبه" (لوقا 1/67- 79)، إلاّ صدى بليغ لهذه الروحانية. وهكذا يمهِّد الني ارميا، في شخصه ولاهوته، لروحانية طبعت شخصية المسيح وانجيله بطابعها الخاص.
2- الميثاق الجديد:
ويبرز عنصر آخر في روحانية ارميا ويُساهم في تكثيف روحانية العهد القديم غنى وعمقا، ويُمهد لروحانية العهد الجديد: انه اعلان ميثاق جديد يقيمه الله مع شعبي. بها إنها تأتي ايام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل اسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً لا كالعهد الذي تطعته مع آبائهم يوم أخذت بأيديهم لأخراجهم من أرض مصر لأنهم نقضوا عهدي فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكن هذا العهد الذي اقطعه مع بيت اسرائيل بعد تلك الايام، يقول الرب، هو أني أجعل شريعتي في ضمائرهم وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً، ولا يعلِّم بعد كلُ واحد قريبَه وكلُ واحد أخاه قائلاً: "إعرف الرب" لأن جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب". (31/31- 34).
اخفقت المعاهدة الاولى وفقدت كل فعاليتها، ولذا يعتبر ارميا اهلَ عصره شعباً يعيش غريباً عن اي معاهدة، طالما تخلّى عن الله وتوجّه إلى الآلهة الغريبة. يعيش بدون ميثاق.
وبمبادرة جديدة ينتفض الله ويعلن اقامة عهد جديد مع شعبه، عهد لا يناقض العهد الاول في جوهره، بل يناقضه تماماً في صيغته. إنه جديد بكل معنى الكلمة. إنه يُلغي منهجية الله السابقة في تطبيقه المعاهدة بينه وبين شعبه، أي لن يتكلم الله بعد مع الانسان ولن يصغي الانسان بعد لصوت الله، كما كان سابقاً، بل يتخطى الله هذه الصيغة ليضع ارادته مباشرة في قلب الانسان ويغفر له جميع خطاياه وذلك بمبادرة إلهية مميزة.
لن تأتي ارادة الله من الخارج، كما في السابق، بل تلج مباشرة قلب الانسان وتعمل فيه من الداخل، بفيض من روح الله.
لا يذكر ارميا، في هذه البشرى الجديدة، كلمة روح، ومع ذلك نرى الروح يرّف على هذا النص النبوة، كا يوضح ذلك حزقيال فما بعد (حز 36/25- 28)، واشعيا الثاني (اش 55/3؛ 59/21؛ 61/18) والمزمور الواحد والخمسون. انما ننتظر العهد الجديد، عهد المسيح، لنرى هذه المعاهدة الجديدة تتحقق، بفعل الروح، على أوجها، مع المسيح (متى 26/28)، وسيبشر الرسل بكمال تحقيقها لما تم ملء الزمن (راجع 2 كور 3/6؛ روم 11/27؛ عب 8/6- 13؛ 1 يو 5/20). لم يذكر ارميا المسيح مرة انما تتحدث كل نبوءته عنه وتدفعنا إلى انتظاره بلهفة.
وهكذا تمهد روحانية النبي ارميا، في حقيقة أخرى، لروحانية العهد الجديد وتطبعها بطابعها الخاص.
3- هل اختر ارميا النبي سر الفداء بآلامه؟
تألم ارميا حتى الموت. رجل الأوجاع هو تماما كما فهمه اشعيا المكلق لاحقاً في وصفه لشخصية "عبد يهوه المتألم".
تقبل ارميا الهزء والحقد والسجن والتعذيب، بألم مرير إنما بشجاعة وصبر، وتابع طريقه بالصمت غالباً، والصراخ الى الله مراراً، والرفض احياناً، وفي الظلمة دوماً. يسير على نور ايمان لا ضوء له، ويصطدم راسه بأسوار لا تقهر. لاسراج يضيء له ولا باب يفتح أمامه، ولذا يصرخ الى الله ويجادله، يجدد حبه له ويعاتبه، يبتهل اليه ويستصرخه، يطلب النجدة ولا من يخلص.
رجل الاوجاع هو، وقد دوَّن صراخاته وأنات اوجاعه في "مزامير" سماها البعض "اعترافات ارميا" والبعض الآخر "مذكرات ارميا". إنها بالفعل مزامير لأنها كُتبت في أساليب المزامير وهي التالية: 11/18- 12/6؛ 15/10- 21؛ 17/14- 18؛ 18/18- 23؛ 20/7- 18).
لا يمكننا، ونحن نطالع "مزامير ارميا" لا ان نفكر في الوقت نفسه بشخصية ارميا وشخصية شعب العهد القديم ككل، وبشخصية المسيح، لأن "اعترافاته" انما هي صراخ شعب كامل بقدر ما هي صراخ ارميا، وهي أيضا صراخ يسوع على الصليب: "الهي، الهي، لماذا تركتني؟" (متى 27/46). هل اكتشف ارميا، من خلال جلجلته، دور الألم في افتداء الانسان؟ هل اختبر الفداء في آلامه؟ طبعاً لا، لان يسوع وحده اعطى الآلام معنى، جعلها سرا يحقق الفداء في الانسان. مع المسيح صار الألم نعمة تفتدي ضعف الانسان وخطيئته. لم يُدرِك ارميا ذلك، إنما اتاح لآلامه وآلام شعبه أن تمهِّد الطريق لروحانية فداء، بدأت ملامحها في شخصية "عبد الله المتألم" (اش 53)، واكتملت مع ملء الزمن في آلام يسوع.
مرة اخرى، تمهد روحانية ارميا، في حقيقة ثالثة، لروحانية العهد الجديد وتطبعها بطابعها الخاص.
الاب لويس خليفة

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM