أشعيا النبي
 

 

أشعيا النبي
مقدمة:
"نبي ارستقراطي نشره الملك منسى، بحسب التقليد، الى اثنين، وقسمه علماء الكتاب المقدس الى ثلاثة". هكذا عرَّف الأب اتيان شربنتيه باشعيا النبي.
ولد اشعيا في حوالي السنة 765 ق م، وبدأ رسالته في السنة 740 إثر خبرة روحية عميقة، حولت كيانه واجبرته على تكريسه نفسه للعزة الالهية (اشعيا 6).
هو شاعر سياسي ونبي، وعظ ما بين السنة 740 والسنة 700 ق م في ظروف سياسية صعبة، وكان له تأثير كبير جعل بعض تلاميذه الذين جاؤوا بعد قرنين يضيفون اعمالهم الى اعماله. فحسب العلماء المختصين، يؤلف كتاب اشعيا النبي مكتبة تجمع في جزء واحد عدداً من الكتب لمؤلِّفين عدة كتبوا في ازمنة مختلفة وفي ظروف مختلفة. وقد اصبح من المعرّف به ان الكتاب يقسم ثلاثة اقسام بدأت مع اشعيا وانتهت بعد عودة المنفيين من بابل.
1- اشعيا الاول (1- 39): كتبه اشعيا الني. يشدّد فيه على قداسة الله وخطيئة الانسان ويؤكد على أن الخلاص هو بالايمان فقط وبالتجاوب مع حب الله الذي يُظهر الخلاصَ بالايات.
2- اشعيا الثاني (40- 55): كتبه تلميذ عاش ايام الجلاء في بابل (540 ق م) يشدّد فيه على أن الله الخالق يضع صفته وقدرته كخالق في خدمة مخططه الخلاصي فيخلق الشعب الجديد من خلال خروج جديد. إنه الامين العادل الذي يدخل في صداقة حميمة مع شعبه المختار.
3- اشعيا الثالث (56- 66): كتبه تلميذ عاش بعد الجلاء، في اورشليم (520 ق م). يشجب فيه الخطيئة التي تشكل العائق الأساسي أمام الخلاص، ويؤكد من جديد على أمانة الله. يحاول نهيَ الشعب عن عبادة الاوثان فيؤكد بطلانها وسخافة طقوسها، كما يشدّد على اهمية العبادة بالروح دون التقليل من أهمية الطقوس والليتورجيا.

1- تعريف بالكتاب ومعناه :
أ- اشعيا الاول (1- 39)
انه السفر الاكثر انتشارا وشهرة بين اسفار انبياء اسرائيل. على مثال كل الانبياء، لم يكن هدف اشعيا النبي التبشير بأحداث مستقبلية، بل تفسير وقراءة احداث زمانه.
وعظ اشعيا في أوضاع سياسية معقدة جداً وفي مملكة منقسمة الى مملكتين.
- شمالية (اسرائيل). تعيش في قلق دائم خاصة بعد ان أبرم الملك مناحيم معاهدة مع دمشق، عدو اسرائيل التقليدي، ضد اشور للمحافظة على ملكه.
- جنوبية (يهوذا). عاصمتها اورشليم. تعرف ازدهاراً اقتصادياً وخوفاً سياسياً أجبر آحاز الملك سنة 736 على التحالف مع اشور وتقديم ابنه ذبيحة للالهة، معرِّضاً وعد الله لداود للخطر، وضارباً بايمانه عرض الحائط. لكي نستطيع فهم الكتاب، لا يمكننا فصل رسالة النبي عن شخصيته وعن الظروف الحياتية التي عاشها. فهو يتوجه دوما إلى أشخاص معيَّنين في وسط احداث معينة. وربما كان أهم ما يميز حياته وبالتالي سِفرَه، هو معرفته لحقيقة الانسان ومحدوديته. فأمام قداسة الله، تجلت واضحة أمام عينيه كينونة شعبه الهشة، فوعى التزامه بخطيئة هذا الشعب وتأكد أن الجميع يسعى إلى هلاكه بعيدا عن نبع المياه فكانت صرخته الاليمة: للكهنة "المملؤة ايديهم من الدماء، ولأغنياء اورشليم الذين سجدوا لاموالهم، ولأمراء الشعب الذين يضلونه، ولبنات صهيون اللواتي وضعن رجاءهن في زينتهن ونسين الرب، ولسياسيي صهيون الذين لم يتقوا عهد الرب وراحوا يقيمون المعاهدات السياسية مع الشعوب التي لا تعرف "القدوس". أمام كل هذه الامور وغيرها، لم يكن بوسع اشعيا سوى أن يتساءل حول مخطط الله الخلاصي وهو يرى أن الانسان يقف حائلاً دون تتميمه: فاسرائيل يترك ايمانه، وشعوب كثيرة تتدخل دون هوادة في تاريخ شعب الله. فهل الجميع يتصرف عكس ارادة الله؟ أم أن الله هو الذي يدير الجميع لمصلحة مشروعه؟
اقسام الكتاب:
1- 5: اقوال نبوية تتعلق بمملكتي يهوذا والسامرة. انها صرخة الالم، يطلقها اشعيا باسم الرب. اسرائيل هو الكرمة المختارة المحبوبة (5/7) التي لم يترك الرب شيئاً الا وصنعه لها. قد خيبت أمل رب الجنود... ولكن الله يخلص.
6- 12: كتاب عمانوئيل، احس اشعيا بالخطر الداهم الآتي من المعاهدات التي ابرمها اسرائيل مع الشعوب غير المؤمنة وفهم أن عدم الايمان هو سبب كل المآسي، فكان كل همه أن يحث اخوته على العودة الى ايمان الاباء واحترام الشريعة فاذا به امام شعب عنيد... لكن الله لا يتراجع عن اختياره لهذا الشعب ليكون شاهداً له بين الامم وذلك بواسطة "بقية" حافظت على ايمانها وامانتها، وما العلامة سوى عمانوئيل الطفل الذي تنقلب معه الموازين والشرائع ويسود الرجاء. لقد فهم اشعيا خوف آحاز الملك المستعد لأي شيء من أجل البقاء، فبشَّره بولادة طفل يكمل السلالة الداودية فيكون مسيحا يفسح في المجال امام مجيء "المسيح" المنتظر.
13- 33: اقوال نبوية تتعلق خاصة بالشعوب المجاورة لاسرائيل. بعد الاشادة بعظمة الله ودعوة الناس للايمان به (1- 12) يلفت اشعيا الانتباه الى دور الامم في مخطط الله. نجد في هذا القسم تهديداً بويلات كثيرة تصيب هذه الامم، لكن الاكيد هو أن لهؤلاء الأغراب دوراً في الخلاص. فالويلات يجب أن توصلهم الى الرجاء الذي يحمله اسرائيل.
24- 27 و34- 35: رؤيتان لاشعيا الكبرى والصغرى (نصوص اسكاتولوجية). هاتان الرؤيتان ها عمل تلامذة النبي. أضيفتا إلى عمله في القرن الرابع. الهدف الاساسي من هذه الفصول هو احياء الرجاء في النفوس والتأكيد على أمانة الله لعهده مع شعبه. يوم الرب آت لا محالة، ولكن يجب هدم كل ما يعيق وصوله، وما الخراب والكوارث والارض المتزعزعة سوى علامات تظهر ابادة كل ما يتعارض مع يوم الرب. لكن هذا الموت ليس سوى بداية الحياة. وحينئذ تبدأ الوليمة المسيحانية حيث يجتمع الله وشعبه حول مائدة ابدية.
28- 33: مجموعة اقوال ضد اسرائيل ويهوذا:
يحذر اشعيا السامرة قبل 3 سنوات من سقوطها بين أيدي الاشوريين، ثم يعود فيتوجَّه الى يهوذا الغارقة في خضم معاركها السياسية، ليؤكد لها عدم جدوى معاهدتها مع مصر رغم حصار اشور لها لأن الاتكال لا يكون الا على رب الجنود.
36- 39: اخبار عن عمل اشعيا ايام حصار سنحاريب لاورشليم مع قصيدة شكر وضعت على لسان حزقيا (38/9- 20).
وهكذا نرى ان هذا الكتاب مقسوم بين موضوعين مترابطين: غضب الله من خيانة شعبه، وحبه الذي يجعله ينسى غضبه فيعلن، على لسان نبيه، الفرحَ الآتي والخلاصَ الذي سيبدأ تحقيقه مع هذه "البقية" الصغيرة ليعم العالم باكمله.
ب- اشعيا الثاني (40- 55) سفر التعزية:
مع اشعيا الثاني نحن في السنة 540، أي خمسين سنة بعد الكارثة التي حلت باورشليم بدخول نبوكد نصر اليها وابعاد اهلها الى بابل (587). في هذا السفر محاولة للاجابة على اسئلة المنفيين حول مخطط الله الذي نسيهم فنسوه واكتفوا بمردوك، أو بقوا على أمانتهم لله رغم عدم شعورهم بخلاصه. في هذا السفر تأكيد على الدور المهم الذي يضطلع به اسرائيل في تاريخ الخلاص بالرغم من المظاهر المعاكسة، معتمدا على بروز كورش ملك فارس في الساحة السياسية وعلى ارادة الله بتعزية شعبه لعمل الهي سيخلصهم من حزنهم وموتهم. فمن الواضح إذاً أن مشاكل هذا السفر هي غير تلك البارزة في فصول اشعيا الاول كما يختلف اسلوبه عن اسلوب الاول.
اقسام الكتاب:
40- 48: بشرى الخلاص اكيدة ولكن يجب الابتعاد عن الشك بقدرة الله الخالق والتساؤل حول طرقه الخلاصية.
49- 55: بشرى مثلثة تخص "البقية" المختارة من شعب اسرائيل.
+ ستشهد احوالُهم تحولاً جذرياً.
+ اورشليم المهجورة ستستيقظ وتلبس عزها.
+البشرى الثالثة هي ارتداد الامم إلى الاله الحق.
من خلال هذين القسمين يظهر وجه "عبد يهوه" عبر قصائد اربع تتوزع على اربعة فصول دون ان تتوضح هوية هذا العبد الذليل الممجد، إلاّ في ملء الازمنة مع يسوع المسيح البار والمرذول، رجل الايمان الذي تحوَّل موتُه إلى حياة.
ج- اشعيا الثالث (56- 66):
سنة 538 اصدر كورش مرسوماً سمح بموجبه لليهود بالعودة من بابل الى ارضهم. وكان اشعيا الثاني قد وعد بخروج جديد أروع من الاول، فتشجع العديد من المسبيين. وعادوا يملأهم الفرح والرجاء بغد أفضل، فاذا بهم يواجهون مصاعب كبيرة كان أهمها الشقاق والبغض بين سكان البلاد. ففي حين كان هم العائدين الاساسي- واكثريتهم من الكهنة- البحث عن كيفية اعادة املاكهم وترميم بيوتهم وتهيئة طريق العودة أمام الاخرين، كان اليهود الذين بقوا في البلاد قد استثمروا املاك المسبيين ولم يعد من السهل اعادة هذه الاملاك إلى اصحابها. ثم ان اتباعهم لبعض الطقوس الوثنية جعلتهم لا يتفهّمون الحمية الدينية عند الوافدين، فاذا بشعب الله صار شعبين مختلفين فكراً وهدفاً. زد على ذلك دخول جماعة من الاجانب واستيطانها يهوذا طمعاً بالعمل والكسب فاذا بهؤلاء الاجانب يتكاثرون بسرعة مما زاد من مشاكل العائدين وجعل وضعهم في موقف حرج هدد شجاعتهم وثقتهم بالله والمستقبل. حينئذ قام عدد من تلامذة اشعيا يضرمون الايمان في النفوس والشجاعة في القلوب. هذا هو جو اشعيا الثالث وبيئته.
اقسام الكتاب:
يتألف الكتاب من فصول مختلفة. نسقّها احد الانبياء الكتبة وجمعها في كتاب واحد جاعلاً من الفصل 61 نقطة الوسط في حين تتناغم من حوله الفصول اثنان اثنان في شكل هرمي:
ف 61 دعوة النبي: ممسوح بالروح القدس ليبشر المساكين.
ف 60 و62 نشيدان لاورشليم الجديدة الممجدة بعد خرابها.
59/15- 20 و63: 1- 6 الله يتدخل على الدوام في تاريخ شعبه فلا يستطيع احد ان يسخر منه لانه سينتقم لغيرته فيجازي الخاطئ ويكافيء المنقادين لمحبته.
59/1- 15 و63/7- 64/11 يعترف الشعب بخطاياه، فينشد مزامير التوبة والتضرع طالباً من الله أن يمزق السماوات ويُنزل حنانَه.
ف 58 و65 ليست الديانة الحقيقية في الممارسات الخارجية، بل في العدالة والمشاركة وغوث المحتاج. فها ان الله يطوّب محبّيه ويلعن كل خاطئ.
56/9- 57/21 و66/1- 16 لا انماء تلقائياً لشعب الله. لكن الله يعطي صهيون القدرة على ولادة الشعب الجديد.
56/1- 8 و66/17- 24 يبتدئ الكتاب وينتهي بالتأكيد على حق الامم بالانتماء الى شعب الله. هذا هو الانفتاح الكوني.
2- اشعيا والعهد الجديد:
أ- اشعيا في الاناجيل:
لقد اخذ سفر اشعيا منذ القدم اسم الانجيل الخامس نظراً لمحتواه الذي تميز بأنه بُشرى سارة أو "إنجيل". فاشعيا الثاني هو أول من استعمل هذا التعبير، وقد أخذه عنه يسوع واستعملته الكنيسة فما بعد لتقدم للمؤمنين كل ما عندها. ولا يقتصر الترابط بين اشعيا والعهد الجديد على كلمة "البشرى"، فقد اخذ الانجيليون معظم استشهاداتهم الكتابية من اشعيا ولم يتوانوا عن الاستعانة بروحانيته وصوره ومواضيعه.
فيسوع بنظر الكنيسة هو "عمانوئيل" اشعيا، المسيح النتظر الذي حقق سلام الله دونما اللجوء الى القوة، وهو "فرع يسّى" حامل كل رجاء الشعب، "والبقية" التي يتكون منها شعب الله الجديد الخ...
ويوحنا المعمدان هو "الصوت الصارخ" الذي يقدم يسوع للجموع على انه "يحمل خطايا العالم".
ونجد يسوع يفتتح رسالته في المجمع بقراءة الفصل 61 من اشعيا وتطبيقه على نفسه. ويعرف عن ذاته بتطبيق نبوءة اشعيا: "العميان يبصرون والكسحان يمشون"؟ ويرى ان سامعيه كسامعي اشعيا هم من اصحاب القلوب الغليظة القاسية، ويأخذ من صورة الكرمة موضوعاً رائعاً لتبشيره فيصبح هو الكرمة بدلاً من تلك الخائنة، وبه يستطيع كل مؤمن، ان يكون غصناً مثمراً في كرمة الرب.
وشدّد يسوع مثل اشعيا على ديانة القلب والبعد عن المظاهر، مبلورا التطويبات واللعنات التي خص اشعيا بها مستمعيه، حتى جعل المحبة مرجعه الوحيد يوم الدينونة مبشراً بالصداقة بين الله والانسان من خلال مثَل المأدبة التي توضحها رؤيا يوحنا الذي يؤكد على مثال اشعيا ان شعب الله هو الذي يهيء الملكوت. ولكن الله هو الوحيد القادر على تحقيقه هادماً كل ما يعترض مخطّطه الخلاصي.
وفي الانجيل تتوضح صورة "عبد يهوه" من خلال صورة يسوع "الفتى المختار" المتألم المكمل للنبؤات في كل مراحل آلامه وموته وقيامته، والذي استحق ان يصبح الحجر الذي رذله البناؤون فوضه حه الله يعد القيامة "رأسا للزاوية" وصخر عثار لكل من لا يؤمن.
واننا لنفهم كل الصور المريعة التي ينبئنا بها الانجيليون مصورين لنا نهاية العالم، ان قرأنا وتأملنا اشعيا باسلوبه الرؤيوي الذي يجعل من الدينونة القاسية مع ما يرافقها من ظروف مخيفة كحلقة ضرورية للوصول إلى تحقيق الرجاء المسيحاني والعالم الجديد حيث يسكن الله فيما بين شعبه "فيصيرون له شعبا ويكون لهم لها".
هذا ما حاول يوحنا التأمل فيه وتوضيحه في كتاب الرؤيا.
ب- اشعيا في الرؤيا:
لقد جعل يوحنا من اشعيا مرجعاً اساسياً للرؤيا، فلا تكاد صفحة من هذا الكتاب تخلو من استشهاد حرفي بآيات اشعيا او من صورة معينة تقتبسها منه لتصل الى أهداف هي ذاتها اهداف اشعيا مع التأكيد أن السيد الوحيد في الرؤيا هو يسوع المسيح.
انه المخلص الذي استطاع فك "اختام الكتاب" وافتداء شعبه وغسل خطاياهم بدمه. وهو الملك ابن داود و"القدوس المثلث التقديسات" الذي يدعو شعبه الى التوبة "وترك عبادة الاوثان". النهاية قريبة مريعة تطال كل الارض"، فيجازي الله كلاً بحسب اعماله". وتسقط مدينة الاثم "بابل العظيمة" التي ظنت نفسها خالدة في خطيئتها فحرمها الله كل معادة وفرح و"انتقم منها لدم عبيده"... هكذا يكابد الخاطئون "عذاب النار"، اما الذين اعترفوا بالرب والتزموا بالامانة له فانه يحفظهم ويعطيهم اسماً جديداً، ويجعل منهم "مملكة كهنة يملأون الارض". يملكون معه "فلا جوع ولا عطش من بعد" ويرتل الجميع المجد والحمد للحمل في اورشليم الجديدة السماوية فيكون "الله معهم". يستنيرون بنوره الدائم فيصبحون بدورهم "نوراً" لكل الامم.
3- اشعيا اليوم:
لقد وَجد كتاب اشعيا مكانة مهمة في دراسات اليوم. ذلك أن هذا الكتاب يبدو معاصراً، يتخطى انسان زمانه ليبحث في مشاكل اليوم الاجتماعية والسياسية والدينية. وهو يتوجه الى انسان عصرنا الغارق في ظلام "اصنامه" وان تغيرت أشكالها وتعددت اسماؤها. يتوجه الى هذا الانسان المكتفي بذاته البعيد عن "القدوس الخالق والمخلص".
ولربما كانت استمرارية صراعات الانسان النفسية والاجتماعية، التي نتلمسها بمقارنتنا كتابات اشعيا مع مشاكل ايامنا الحاضرة، دليل اكيد على أن هوية الانسان لم ولن تتغير عبر التاريخ. إنه صراع الحياة ضد الموت بكافة اشكاله.
يحيا عالم اليوم وانسان اليوم، كما في ايام اشعيا، انتظاراً جدياً وخوفاً عارماً، انتظاراً يشوبه الشك امام عالم يسوده السلام والمحبة والعدل، وخوفاً من كارثة عالمية حقيقية تنهي عالماً تعودناه رغم بغضنا له. وكما بنات اورشليم المزدانات بالحلي والمعطرات بالطيوب، يحاول انسان مجتمعنا الاستهلاكي اقناع ذاته بالسعادة من خلال تكثير علاماتها الخارجية مع علمه الضمني بان "كل بشر كالعشب، وكل مجد له كزهر العشب" (اش 40/6- 8). ان عالم اليوم يحاول ان يقنع ذاته من خلال تمويه الحقيقة وتغطيتها بآلاف المبتكرات، لكن يبقى في داخل الانسان شعور ملحّ بسخافة ما يعيشه وبعدم جدوى ما يسعى اليه.
وكما في ايام اشعيا، يجد انسان اليوم ذاته في حيرة قاتلة وقلق دائم. فالمؤمن يتساءل في خضمّ المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، "اين الهنا"، وكيف يمكن ان تكون كل الكوارث التي نشهدها حلقة في تدبيره الخلاصي، بيما تُنكر الاكثرية وجودَ الاله وتكتفي "بعمل ايديها" وتقتنع بان لا إله إلاَّ الانسان. وكما في ايام اشعيا، يمر المؤمنون اليوم بازمة روحية حقيقية جعلتهم يفقدون الثقة بدورهم الرائد في خلاص العالم، ويجدون أن لا أمل يُرجى من دور روحي يلعبونه وسط عالم قاسي القلب ومعمي البصيرة.
وفي خضم هذه المشاكل، تظهر من هنا وهناك قلة من الناس تحلم بعالم اخوة وسلام حيث تسير الشعوب معا نحو هدف واحد "اورشليم الجديدة". إنها اصوات انبياء اليوم ترجو الجميع عدم انكار الايات التي اعطاها ويعطيها السيد الرب. وتحاول فتح الاعين والاذهان ليرى الجميع أن سبب كل المصائب هو جرائم الانسان وأنانيته وتهافته على كل جديد، ناسياً او متناسياً الاهم... ولكننا لا نجد اليوم كما في الامس الا قلوباً غليظة وآذانا ثقيلة في غالب الاحوال.
لكن فرقاً اساسياً يتجلى واضحاً بين ايام اشعيا وايامنا. فبينما يبدو الله في سفر النبي سيداً دون منازع ويعلن انه "الاول والاخر" نجده قد خسر رهبته عند انسان اليوم ولم يعد بالنسبة إليه قدرةً يخافها أو يشعر بوجودها. فالاكثرية الساحقة تتفاجأ ولا تجد معنى لكل التعابير التي تحفل بها الفصول الاولى من اشعيا، تلك التي تصنف الله شخصاً تتآكل غيرة الحب، شخصاً ما ترك شيئاً الا وصنعه من اجل كرمته. انه قريب من شعبه وقد اراد ان يساكنهم... ويلتزم بهم.
لربما كانت هذه الحقبة من التاريخ هي الاكثر ظلاماً. نسير مع الله ولا نراه، ونرافق الانسان دون أن نشعر بوجوده، نحيا ألم التفتيش عن معنى الحياة والوجود كما نحيا الخوف من المستقبل المجهول... لكن ربما كانت هذه الطريق الصعبة الحالكة هي الطريق الاضمن للوصول الى النور، ولا بد أن يرى السالكون في الظلام نوراً عظيماً يكشف لهم كل غامض خفي فيعرف الجميع بأن الله هو الحب الذى يحقق وحده الخلاص والتحرير. ويبقى رجاؤنا حيث لا رجاء: سيموت الموت ويباد الظلام، لأن اله نصرتنا وفادينا سيحقق نصره بواسطة خدامه الذين يكمّلون في جسدهم ما نقص من آلام المسيح" ويتابعون مسيرتهم عكس التيار في هذا المنفى صارخين دون ملل. "ليتك تشق السماوات وتنزل (اشد64/1) "آمين تعال ايها الرب يسوع" (رؤ 22/20).
الاخت باسمة الخوري
راهبة انطونية

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM