شـهـادة يوحنّـــا.

 

شـهـادة يوحنّـــا

جاءت اللوحة الأولى في إطار شهادة، يؤدّيها ليسوع »إنسانٌ أرسله الله« (1: 6). لا حاجة لوصف ثيابه، ولا وظيفته كمعمِّد. هو الشاهد (1: 6-8، 15)، ويعلن شهادته بوضوح. وهكذا يبدو وجهُ يوحنّا في رفعته. سوف يعود الإنجيل إليه في ف 3، ولكنَّه هنا يفرض نفسه أمام حاضرنا. ففي شخصه، يتكثَّف انتظارُ إسرائيل المشدود نحو تحقيق وعدٍ تحدَّث عنه الأنبياء، ويبدأ الجواب بنعَم بعد خيانات كثيرة. كلُّ هذا يجعلنا أمام حدثين اثنين: يسوع الآتي إلى شعبه. يسوع الذي يعرفه إسرائيل بحسب الروح، لا بحسب اللحم والدم. وهكذا يبرز تواصلُ العهد في سموَّه.

آ19. هذه شهادة يوحنّا

عرف الإنجيل الرابع أكثر من شاهد ليسوع(1): المعمدان (5: 35). الكتب المقدَّسة (5: 39). الله الآب (5: 37؛ 8: 18). أعمال يسوع (5: 36؛ 10: 25). الروح القدس والتلاميذ (15: 26-27؛ 19: 35). ولكن على المستوى البشريّ المحض، يوحنّا هو الشاهد الشاهد الذي يُعلن لشعبه سرّ يسوع. قدَّم شهادته أوَّلاً مع لجنة »تحقيق«، وهكذا بدأت محاكمة يسوع الذي سيحاول معاصروه القبضَ عليه طوال رسالته.

والشهادة التي أدّاها يوحنّا ليسوع جاءت في تجوُّف (مع نفي) ثمَّ صارت بارزة، وتوزَّعت على يومين مع فاصل (وفي الغد، 1: 29). هذا ما يقابل إشارتين إلى يوحنّا في المقطع الشعريّ: شاهدُ اللوغس (1: 6-8) يعلن حضورَ ذاك الذي لم يُعرَف بعد. شاهدُ يسوع (1: 15) يرى فيه ذاك الموجود من الأزل.

بدأ الكلام مع حرف العطف kai: وهذه هي. فكان بشكل عنوان لما في 1: 19-34. هكذا أُعلنت بشكل احتفاليّ، وبواسطة فعل في صيغة الحاضر estin يدلّ على استمراريَّة الشهادة، الشهادةُ بشكل خاصّ (آ32-34). ما يريد الإنجيليّ أن يبيِّنه، هو مسيرة يوحنّا لاكتشاف يسوع. قال: واحد هو هنا. أنتم لا تعرفونه كلُّكم (1: 19-27). وفي الغد، دعا يسوع ذاك الذي به تُرفَع الخطايا. ثمَّ قال إنَّه عرف المسيح، ففهمَ عند ذلك رسالته (1: 29-31). وفي النهاية، شهد: يسوع الذي حلَّ عليه الروح، هو ابن الله (1: 32-34).

1- في اليوم الأوَّل

خلال اليوم الأوَّل، أجاب يوحنّا على سائليه نافيًا أن يكون شخصًا مسيحانيٌّا، وحدَّد نفسه صوتًا يردِّد إعلان الشعب حول مجيء الله المخلِّص. ثمَّ أعلن ذاك الذي لا يعرفونه، والذي هو أعظم منه، إذًا، الإطار إطار تحقيق من أجل المحكمة.

حين أرسل إليه اليهود من أورشليم كهنة ولاويّين لكي يسألوه: »أنت من تكون؟«

اليهود. أي السلطات الدينيَّة. هو عمل رسميّ، ولهذا حُدِّدت طبيعة السائلين وأضافت آ24: من شيعة الفرّيسيّين. وهكذا حُدِّد موقع السابق بالنسبة إلى السلطة الدينيَّة التي سيواجهها يسوع خلال حياته العلنيَّة.

هو حدث خاص بالإنجيل الرابع، الذي حوَّل معطيات تقليديَّة حول المعمدان، بالنظر إلى مشروعه الأدبيّ. إذا كانت معموديَّة يوحنّا أمرًا ارتابت فيه السلطاتُ اليهوديَّة، على المستوى التاريخيّ، لأنَّها تمارَس في شكل مستقلّ عن النظم الدينيَّة في أيّامه، فالأسئلة التي طرحها أعضاء الوفد، أتاحت للإنجيليّ أن يحدِّد دور يوحنا ويسوع، الواحد تجاه الآخر.

شخص يوحنّا تحدَّث عنه المؤرِّخ اليهوديّ فلافيوس يوسيفس. فصوَّره: »رجلَ خير يحثُّ اليهود على ممارسة الفضيلة والتعامل بالعدالة في العلاقات مع القريب، والورع تجاه الله، للانضمام إلى معموديَّته«(2). امتدّ نشاطه من خريف 27 إلى ربيع 29، خلال حقبة قمران الثانية مع سيطرة حركة أسيانيَّة ارتبطت مع الغيورين(3). نشاط أصيل كان له صداه، كما قال يوسيفس أيضًا. وكان تيّار عماديّ في أفسس، امتدَّ بعد موت المعمدان بزمن كبير، كما يقول سفر الأعمال(4). بل لبث حيٌّا حتّى سنة 300. هذا من جهةِ. ومن جهة ثانية بيَّن التقليد الإزائيّ أنَّ اليهود في فلسطين كانوا منقسمين في شأن المعمدان: انجذبت الجموع بكرازته وبمعموديَّته فتساءلت: أما يكون المسيح؟ (لو 3: 15). أمّا السلطات فما آمنت به، بل اعتبرته ممسوسًا يسكنه شيطان (مت 11: 18وز). ولمّا سأل يسوع: »هل عماد يوحنّا من الله أم من الناس؟«، ما تجرّأ الكهنة اليهود أن يُجيبوا (مر 11: 30 وز). وأوجز لوقا هذا الوضع فقال: »فجميع الذين سمعوا يوحنّا، حتّى جباة الضرائب أنفسهم، أقرُّوا بصدق الله، فقبلوا معموديَّة يوحنّا. وأمّا الفرّيسيّون وعلماء الشريعة، فرفضوا ما أراده الله لهم، فما تعمَّدوا على يده« (لو 7: 29-0). أمّا النصّ اليوحنّاويّ، فجعل أمامنا مواجهةً مباشرة.

آ20. فاعترف وما أنكر.

واعترف: أنا لا أكون المسيح.

آ21. وسألوه: »إذًا ماذا؟ أأنت إيليّا!«.

وهو يقول: »ما أنا«!

»أأنت هو النبيّ؟« فأجاب: »كلاّ«.

الجواب الأوَّل من الشاهد أضاء على كلِّ ما يمكن أن يقوله عن »أجداده« وعن نفسه، وهو أمر نعرفه من مصدر آخر. بحسب لوقا، يوحنّا هو من أُسرة كهنوتيَّة. غير أنَّه لم يمارس خدمته على مثال أبيه زكريَّا، داخل الهيكل (لو 1: 5-11). بل في برّيَّة يهوذا (مت 3: 1). هناك أدركه النداء النبويّ، فأعدَّ الشعب لساعة الدينونة، معطيًا »معموديَّة التوبة لغفران الخطايا«(5).

حين قال: »لست المسيح« بدا كأنَّه يتهرَّب من الجواب على سؤال الآتين إليه. لكنَّ جوابه جاء في محلِّه، لأنَّه كشف بشكل واضح الموضوع الحقيقيّ للتحقيق، الذي سوف يتواصل بالنسبة إلى يسوع، في فم اليهود (7: 26-27، 31، 41-42؛ 10: 24؛ 12: 34). حرَّك يوحنّا في الحال اهتمامهم نحو هويَّة المسيح. ووجَّهه بشكل غير مباشر نحو ذلك الآتي والذي ينتظره هو.

وحين سأله الوافدون حول علاقته مع أيليّا أو »النبيّ«، بيَّنوا أنَّهم يريدون أن يعرفوا إذا كان هذا المعمِّد نسبَ إلى نفسه دورًا مسيحانيٌّا. بحسب المعتقد المعاصر، يسبق تجلّي المسيح المنتظر بحرارة، أو بالأحرى يتحقَّق هذا التجلّي في عودة النبيّ إيليّا أو بمجيء النبيّ الذي تحدَّث عنه سفر التثنية. وبالنسبة إلى جماعة قمران التي انتظرت مسيحين اثنين، كان إيليّا واحدًا منهما. والثاني هو »مسيح هارون«(6). أمّا النبيّ فيحلُّ محلَّ المسيح ويفسِّر الشريعة تفسيرًا صحيحًا (تث 18: 15-18؛ 1مك 14: 41؛ ق مر 8: 27-28 حيث يعلن الرسل أنَّ يسوع هو إيليّا أو أحد الأنبياء).

في صدد إيليّا، برزت اختلافة بين نصِّ يوحنّا والتقليد الإزائيّ. فهذا رأى إيليّا في شخص المعمِّد، كما في كلام يسوع وفي الموقف المنسوب إلى السابق.

سأله التلاميذ: »لماذا يقول معلِّمو الشريعة: يجب أن يجيء إيليّا أوَّلاً؟«

فأجابهم: »نعم، يجيء إيليّا ويصلح كلَّ شيء. ولكنّي أقول لكم: جاء إيليّا فما عرفوه، بل فعلوا به على هواهم« (مت 17: 10-12).

هذا التماثل بين إيليّا ويوحنّا لدى المعاصرين، فرض نفسه على المؤرِّخ. خسر المعمدان في يو أهمَّ ما في نشاطه: ليس هو إيليّا العائد حيٌّا، كما كانوا يظنُّون. هناك لهجة هجوميَّة، توخَّت الاحتفاظ بتحقيق الوعد الإلهيّ، بيسوع حصرًا.

2- يوحنّا صوت النبيّ

آ22. فقالوا له: »من أنتَ كي نعطي جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول بشأن نفسك؟«

آ23. قال: »أنا صوتُ صارخ في البرِّيَّة: قوِّموا طريق الربّ، كما قال أشعيا النبيّ.

واجه يوحنّا السائلين، فواصل النفي. وما أضاف شيئًا عن نفسه. أمّا الآن وقد أُجبر أن يفسِّر موقفه، فامَّحى كفاعل، وتماهى مع »الصوت« الذي يردِّد كالصدى نبوءةَ الخلاص.

وإذ تكلَّم يوحنّا هكذا، حدَّد موقفه في اتِّصال مباشر مع ماضي إسرائيل وانتظاره. فلفظ »أنا هو« egw eimi محفوظ ليسوع في الإنجيل الرابع، في الحالات العاديَّة. بعد هذا، بدا الأمر وكأنَّ الشاهد الذي أجبر على الكلام، اختبأ وراء النبوءة أو بالأحرى تماهى معها.

حين نتطلَّع إلى وجه المعمِّد في الأناجيل الإزائيَّة، نرى الاختلاف مع ما يقدِّمه الإنجيل الرابع. لا ذاك الواعظ الناري. لا سابق المهدّد. لا هو معمِّد يجتذب الجموع، ولا بطل يقول الحقيقة للملك ويموت. هو فقط صوتٌ آتٍ من بعيد. يؤوِّن الوعد ويرسل النداء. وبحسب المطلع اللاهوتيّ (1: 1-18)، ما كان يوحنّا النور. ولا هو الكلمة. هنا، هو »الصوت« تجاه »كلمة« الله الذي هو يسوع. ومع ذلك دورُ هذا الصوت مهمّ جدٌّا. قال أوريجان (الينابيع المسيحيَّة، 120، ص 339): »بالصوت تصبح الكلمة حاضرة«.

تكثَّفت نبوءة العهد القديم في آية من أشعيا، أُخذت من كتاب التعزية. عند الإزائيّين جاءت هذه الإحالة في شرح الراوي (مت 3: 3= مر 1: 3= لو 3: 4-6). في يو، تلفَّظ المعمِّد بكلام أشعيا محدِّدًا المصدر. آية واحدة كفت الواعظ ليذكِّر السامعين بسياق النصّ. اعتادوا على سماعه، وها نحن نقدِّمه كما في الترجمة السبعينيَّة (أش 40: 1-10).

1 عزّوا، عزّوا شعبي، يقول الله

2 أيّها الكهنة، تكلَّموا إلى قلب أورشليم، عزّوها!

انحدارُها وصل إلى العمق، خطيئتُها غُفرت...

3 صوت صارخ في البرّيَّة:

أعدُّوا طريق الربّ،

قوِّموا طرق إلهنا!...

5 مجدُ الربِّ يُرى

وكلُّ بشر (لحم ودم) يرى خلاص الله.

10 ها الربُّ يأتي بقوَّة

وذراعُه بقدرة.

ها جزاؤه معه وعمله أمامه.

في هذه النبوءة التي تُعلن اقتراب الخلاص النهائيّ، تبرز أمور نقرأها في الإنجيل اليوحنّاويّ. مجيء الربِّ (يسوع يجيء إلى يوحنّا، 1: 27، 29، 30). الخطيئة التي تُغفَر (بفضل حمل الله، 1: 29). الخلاص الذي يصل إلى كلِّ إنسان (»كلُّ بشر« في أش. وفي يو »العالم«). تكرار فعل »رأى« (1: 29، 32، 33، 34، 36، 39، 42، 46، 50، 51؛ أش 35: 2؛ 40: 5؛ 62: 2؛ 66: 18-19). وفي نهاية المقطع »المجد« (أظهر مجده، 2: 11). فمبادرةُ الله السامية تشرف على نصِّ أش ونصّ يو. وهو يظهر أيضًا في 1: 19-34 على أنَّه العامل الأوَّل: هو في أصل النبوءة التي هي طريقه إلى الإنسان الذي يجب أن يكون مستقيمًا. كما أنَّه هو الذي أرسل يوحنّا ليعمِّد في الماء (1: 33)، وكشف للسابق كيف يعرف المسيح. وهو أيضًا من يعلن يسوع، لإسرائيل، وهذا ما تدلُّ عليه صيغة المجهول« لكي يُظهَر« (1: 31). وأخيرًا يُوصَف أنَّه »حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم« (1: 29). وإن ظهر يسوع، فلأنَّ فيه تظهر قدرةُ الخلاص بحسب وعد الله (أش 43: 18-19).

حين قدَّم يوحنّا نفسه على أنَّه الصوت (ذاك الذي كان في الماضي يكلِّم »قلب أورشليم«)، أخذ في قلبه كرامة الكتاب المقدَّس. وإن لم يكن له وجود في ذاته، فهو يحمل الوعدَ في شخصه. والإنجيليّ الذي امتنع بأن يرسم السمات الخاصَّة بالمعمِّد، جعل منه »وجهًا« من وجوه العهد القديم، كما قال أوغسطين في العظة العشرين حول القدّيسين: »كان يوحنّا صورة العهد القديم، فحمل في نفسه شكل الشريعة«. فعبر »الشاهد«، هو الكتاب المقدَّس (ومعه الشعب) يتعرَّف إلى يسوع ويدلّ عليه. هذا المنظار الحاضر منذ بداية يو، هو أمر رئيسيّ في الإنجيل كلِّه.

وما قيل عن يوحنّا يمكن أن يُقال بالمقابل عن الكتاب المقدَّس، الذي يشهد مثل يوحنّا، أنَّ الخلاص قريب. كما يدلُّ على الطريق التي تشير إلى المسيح، بحيث لا يتكلَّم إلاّ عن المسيح (5: 39، 46). ولكن كما أنَّ يوحنّا ليس المسيح، كذلك الكتاب المقدَّس، الذي لا يُعطي الروح بدون قياس (3: 34)، كما لا يُشبع انتظار إسرائيل. ونحن نتذكَّر ما قاله المطلع اللاهوتيّ: »أعطيت الشريعة بموسى. والنعمة والحقّ كانا بيسوع المسيح. الله ما عرفّه أحدٌ قطّ. الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو أخبر عنه« (1: 17-18). غير أنَّ مضمون الكتب المقدَّسة يمضي إلى أبعد من الشريعة عينها، ويفتح بواسطة عالم الجليان، على مستقبل لا حدود له، يَذكُره يسوع حين يتحدَّث عن »اليوم الأخير«.

3- عماد يوحنّا

آ25. وسألوه، وقالوا له:

»فلماذا تعمَّد إن أنتَ لا تكون المسيح، ولا إيليّا، ولا النبيّ؟«

هذا السؤال الجديد من قبل الوفد، يُعطي فكرة عمّا سبق: النشاط العماديّ ليوحنّا يفرض أن يكون المعمِّد مرتبطًا بنهاية الأزمنة، لكي يكون مقبولاً. لا شكَّ في أنَّ المعمِّد قُدِّم، بحسب التقليد، على أنَّه يدعو الشعب إلى التوبة، تجاه دينونة الله القريبة. ولكن يصعب، على المستوى التاريخيّ، أن نربط عماد الماء بفعلة تُعتبَر مسيحانيَّة. إذًا، نلاحظ هنا ترتيبًا يوحنّاويٌّا يُبرز التعارض بين السابق ويسوع. وقبل سماع جواب يوحنّا، ينبغي قدر الإمكان، تحديد موقع خدمته العماديَّة في سياق ما كان يُعمَل في أيّامه.

تسجَّل عماد يوحنّا، في ذاته، في رمزيَّة عرفها اليهود، هي رمزيَّة الماء المطهِّر. فالشريعة فرضت اغتسالات طقسيَّة قبل بعض الأعمال وبعدها. وفي بعض المجموعات الدينيَّة، ولاسيّما عند الأسيانيّين، اتَّخذت الاغتسالات حيِّزًا كبيرًا: هي يوميَّة. ومحفوظة للمتدرِّجين. وارتبطت، في شكل من الأشكال، بالرغبة في التوبة والتطهير الداخليّ(7). يبدو أنَّهما حملا في نظر المتشيِّعين، قيمة عباديَّة شبيهة بقيمة الذبائح في الهيكل، الذي امتنع عنه الأسيانيّون واعتبروا أنَّه لم يعد مطابقًا لمتطلِّبات الشريعة. افترض الشرّاح تقاربًا معقولاً على مستوى الفكر، إن لم يكن على مستوى التربية، بين المعمدان وجماعة قمران: هجروا إلى البرّيَّة. اغتذوا بنبوءة أش 40. اهتمُّوا بالطهارة الطقسيَّة والخُلقيّة. وكانوا مشدودين إلى انتصار الله، وتائقين إلى الطهارة الحاسمة التي ستتمّ حين يفيض روحُ القداسة على الشخص المسيحانيّ.

يبدو عماد يوحنّا فريدًا، على هذه الخلفيَّة. ساعة كان الأسيانيّون يغتسلون الاغتسال الطقسيّ، كان يوحنّا يعمِّد، بسلطان، أولئك الآتين إليه. ويتمّ الطقس مرَّة واحدة فيتضمَّن الاعتراف بالخطايا، ويشير إلى توبة حقيقيَّة من قبل الخاطئ تجاه الله، الذي سيأتي قريبًا ويعمِّد بالروح القدس والنار (مت 3: 11). وأخيرًا، لا يكون الطقس في أيِّ مياه، بل في الأردنِّ فقط.

تساءل بعضهم حول عماد السابق هذا بما فيه من فرادة: هل اعتُبر ولادة جديدة؟ لا نعود هنا إلى عماد المهتدين الجدد، الذي به يرغب اللايهوديّ بأن ينضمَّ إلى ديانة إسرائيل، فيتطهَّر أمام الشهود من نجاسة شرعيَّة ملتصقة بوضعه كوثنيّ، وهكذا يبلغ إلى كائن جديد. فمثلُ هذه الممارسة لم تُعرَف قبل نهاية القرن الأوَّل المسيحيّ. ولكن يمكن أن نجد في عماد يوحنّا »ولادة جديدة«.

آ28. هذه حدثت في بيت عنيا، في عبر الأردنّ،

حيث كان يوحنّا معمِّدًا.

سبق وتحدَّثنا عن موقف أوريجان الذي تبع بعض المخطوطات. فأورد بيت عبّارة بدل بيت عنيا. نشير هنا إلى أنَّ »عبر الأردنّ« في يو، ترتبط دومًا بالمعمِّد (3: 26؛ 10: 40). فالأردنّ علامة الحدود التي اجتازها العبرانيّون من أجل الدخول في أرض الميعاد (يش 4:23). وحسب تقليد ثابت، قابلت مياهُ الأردنّ بحر القصب، الذي به خرج العبرانيّون من مصر (يش 4: 23). من هذا القبيل، هي مياه تعطي الحياة عبر الموت، لا مياه تحمل الطهارة. ثمَّ إنَّ الدخول في ملكوت الله، يجد نموذجًا أوَّل له في الخروج من مصر. وإذ وقف يوحنّا »في عبر الأردنّ« دلَّ على أنَّ عماده موت عن حياة ماضية وحياة للملكوت الآتي. والمعمدان احتفظ من أشعيا بواجبه: »أن يقوِّم طريق الربّ«.

يوحنّا يعمِّد. من أجل هذا جاءه موفدو اليهود. وكان كلامه لهم.

آ26. أجابهم يوحنّا قائلاً:

»أنا أعمِّد بماء. في وسطكم حضر الذي لا تعرفون

آ27. بعدي آتٍ (هو). الذي لا أكون أنا

مستحقٌّا أن أحلَّ رباط حذائه«.

جاء القسم الأوَّل من الجواب وكأنَّه تهرُّب من الجواب: »أنا أعمِّد بماء«. بدون أل التعريف. وبعد ذلك يُقال عن يسوع »يعمِّد« بنار. لا، ليس يوحنّا شخصًا مسيحانيٌّا. والعماد الحقيقيّ، كما يقول الإزائيّون، سيكون في الروح القدس. ولكن حين نقول هذا الكلام نستبق الأحداث: فعماد الماء يتوخّى الإعداد لمجيء الربّ. وهنا يمكننا، على ضوء قراءات للمطلع اللاهوتيّ، أن نرى في بعض معموديّات لامسيحيّة (مثل عماد يوحنّا) إعدادات لظهور الله الكامل.

وبعد ذلك، وجَّه يوحنّا حالاً الانتباه إلى المسيح، فأعلن حضوره الخفيّ: بينكم واحد لا تعرفونه. لا نجد هنا توبيخًا لليهود. فيوحنّا نفسه ما كان يعرفه (1: 31، 33). ما يقول هذا الشاهد؟ إعرفوا أنَّ شخصًا كبيرًا بينكم. هو هنا منذ الآن. ولكن لا يمكن أن نكتشفه دون وحي من العلاء. على مثال ما حصل للمعمِّد.

وإذ قدَّم يوحنّا نفسه صوتًا في البرّيَّة يهيّئ استقبال ذاك الآتي، حدَّد موقعَه في نهاية انتظار إسرائيل، ولكنَّه لبث هو في العتمة: ما اكتشف المسيح الذي به جاء الله إلى شعبه. ويقينه الباطنيّ، هو يقين في الليل. وفي هذا، جاء وضعُ يوحنّا شبيهًا بوضع أهل الجليان، الذين حاولوا أن يحدِّدوا، بعلامات سابقة، مجيءَ المسيح في اليوم الأخير، فلبثوا يجهلون سماته واكتفوا بنظرات إلى وجهَي إيليّا والنبيّ. غير أنَّ يوحنّا يتميَّز عن أهل الجليان، لأنَّه أكيد من الحضور الحاليّ لذاك المنتظر. يوجِّه الناس إليه، دون أن يقدر على الأحاطة به عن قرب.

وها نحن نقيم مقابلة بين النصوص، فنفهم موقف يوحنّا في هذا المقطع من الإنجيل الرابع: كيف يحدِّد يسوع موقعه بالنسبة إلى معاصريه؟

سأله الفرّيسيّون: »متى يجيء ملكوت الله؟« فأجابهم: »لا يجيء ملكوت الله بمشهد من أحد. ولا يُقال: ها هو هنا، أو ها هو هناك. لأنَّ ملكوت الله هو فيكم« (لو 17: 20-21).

وبالنسبة إلى مجيء ابن الإنسان الثاني parousia، كانت لغة يسوع مماثلة للغة يوحنّا:

فإن قالوا لكم: ها هو في البرّيَّة! فلا تخرجوا إلى هناك. أو ها هو في داخل البيوت! فلا تصدِّقوا، لأنَّ مجيء ابن الإنسان يكون مثل البرق الذي يلمع من المشرق ويُضيء في المغرب (مت 24: 26-27).

إنَّ تجلّي المسيح لا يرتبط بتنظيرات بشريَّة، بل بمبادرة الله وحدها. فنحن على مستوى الوحي (1: 33-34). قلبَ يوحنّا كلَّ أولويَّة تفرضها العادات، فأعلن أنَّه لا يستحقّ أن يحلَّ رباط حذاء ذاك الآتي بعده. وهكذا قيل كلُّ شيء عن العهد القديم الذي يتحقَّق في الوقت المناسب. فمجيء المسيح يُتمّ ماضي إسرائيل. يبقى التعرُّف إلى هذا الآتي. ذاك يكون معنى اليوم الثاني.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM